عين اليقين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

في تجرّد نفس الحيوان الكامل

(ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١)

فصل

قد ذكرنا فيما سبق أن النفس الحيوانية إن كانت متعلقة (٢) في نشأة الملكوت ، أي لها أن تبقى بعد بوار البدن ، فهو الحيوان الكامل ، وإلّا فالناقص ، فكان من الواجب علينا أن نبيّن أن نفوس بعض الحيوانات ممّا يجوز لها الاستقلال والبقاء من دون أبدانها العنصرية ، حتّى يثبت التقسيم المذكور ، وما بنينا عليه ، وإن كنا قد نبّهنا على ذلك في مواضع ممّا ذكر، إلّا أنه يحتاج بعد إلى بيان ، وبرهان ، فنحن الآن بصدد ذلك ، وإن لم يمكننا أن نعيّن لذلك نوعا خاصا من الحيوان ، أو أفرادا خاصة ، فيمنع استقلال النفس فيما سوى ذلك ، بل نحيل العلم فيه إلى الله سبحانه ، والراسخين في العلم ، فإنّ البراهين الّتي قادتنا إلى ذلك منها ما يشمل غير الإنسان ، ومنها ما يختصّ به ، بل ببعض أفراده ، والشرع دلّ على أن أفراده قاطبة كذلك ، حتّى السقط ، ولم يدلّ على الباقي دلالة يصحّ الاعتماد عليها.

__________________

(١) ـ سورة المؤمنون ، الآية ١٤.

(٢) ـ مستقلّة (خ ل).

٢٤١

وعندنا براهين تدلّ على أن من أفراده من له مع ذلك نفس جبروتية ، كلية ، من العالم العقلي ، لها ملكة إدراكات الكليات إدراكا قويا نورانيا ، وهو الّذي سمّيناه الإنسان بما هو إنسان ، أخذا من كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كما يأتي.

فلنذكر البراهين والشواهد على تجرّد النفس الحيوانية على الجملة ، ثمّ نذكر ما يختصّ بالإنسان ، بما هو إنسان ، من الأحكام ، ومن الله التأييد.

فصل

قد دريت أن القوى النفسانية متّحدة مع النفس ، وإنما هي جهاتها واعتباراتها ، وإن الخيال يشتمل عليها كلّها على وجه أعلى ، وأشرف ، سوى الوهم الّذي هو جهة رجوع النفس إلى العالم العقلي ، ولا ذات له سوى الإضافة ، وكذا الحافظة الّتي هي ترجع في الحقيقة إلى الحقيقة العقلية ؛ إذ المعاني إنّما هي مخزونة في ذلك العالم ، وكذا المتصرفة الّتي هي كالوهم في كونها إضافة إلى محسوسات ومعقولات.

فأما سائر القوى ذوات الحقائق فهي منطوية في الخيال ، فتحدس من هذا أن النفس الحيوانية المخدومة لهذه القوى ، أعني سلطان هذه البنية المحسوسة ، مع مشاعرها وقواها ، هي بعينها النشأة الخيالية للحيوان ، ولكنها من حيث تعلّقها بالآلة المخصوصة من البدن قوّة خيالية ، ومن حيث إنها ذات رجوع ما إلى عالم القدس وإن كان رجوعا ضعيفا ، حيث إنها إنّما تدرك المعقولات مضافة إلى الحس ، ومتعلّقة به ، ولا تستطيع أن تدركها مجرّدة عن الموادّ ، نفس حيوانية ، فهي كأنها خيال خارج من حدّ القوّة والضعف إلى حدّ الفعلية والكمال.

٢٤٢

ومن هذا يظهر ويتبيّن وينكشف ويتحقّق أن في إهاب هذا الحيوان الطبيعي حيوانا آخر من عالم الغيب ، هو في الحقيقة يسمع ، ويرى ، ويشمّ ، ويذوق ، ويلمس ، ويبطش ، ويمشي ، ولهذا يفعل هذه الأفاعيل ، وإن ركدت هذه القوى والحواس البدنية كما في النوم ، والإغماء ، والسكر ، فله في ذاته هذه المشاعر والقوى والآلات من غير عوز ، إلّا أنها ليست ثابتة في عالم الحسّ والشهادة ، وهذه المشاعر الظاهرة بمنزلة ظلال لتلك ، وكذلك هذا البدن الظاهر بمنزلة قشر وغلاف وقالب لذلك البدن ، وإنما حياة هذه كلّها بذاك ، وهو الحيوان بالذات ، وهو المحشور في الآخرة ، الّتي هي دار الحياة ، قال الله سبحانه : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) (١) ، كذا أفاد أستاذنا ، سلمه الله (٢).

قال : وممّا يدلّ على ذلك أن النفس الحيوانية تشاهد في قوّة خيالها ووهمها ، أو بهما ، صورا ومعاني مجرّدة عن المادّة وعوارضها ، ممّا ليس بقابل للإشارة الحسية ، فلا يخلو إما أن تكون النفس قابلة لها ، أو فاعلة ، فإن كانت قابلة لها فعدم قبول الحال للإشارة الحسية ، يستلزم عدم قبول المحلّ لها لا محالة ، وإن كانت فاعلة لها فالفاعل فيما لا وضع له لا يجوز أن يكون من ذوات الاوضاع ؛ لما ثبت من أن الجسم وقواه لا يفعل إلّا فيما له وضع بالقياس إلى مادّته ، وكما أن فاعل الأجسام الطبيعية ومقوّماتها لا يمكن أن يكون متعلق الوجود بهذه الأجسام ، كما ثبت ، كذلك مبدأ صورها ، يجب أن لا يكون مادّيا (٣).

__________________

(١) ـ سورة العنكبوت ، الآية ٦٤.

(٢) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٩ : ٧٠.

(٣) ـ أنظر : الشواهد : ١٩٧.

٢٤٣

وأيضا إمّا أن يكون تجرّد هذه الصور عن موادّ هذا العالم وعوارضها لذاتها ، أو لما أخذت هي منه ، أو من جهة الأخذ ، والأوّل يوجب الاتفاق ، فما كان شيء منها تقترنه هذه اللواحق في العين ؛ لأنّ ما بالذات لا يتخلف ، والثاني يكون تناقضا ، فبقي الأخير ، فلم يكن هذا الوجود له وجود أمر في جسم ، أو جسماني (١).

فالقوّة الخيالية ـ إذن ـ مجردة عن المواد ، وإن كان لها نوع تعلّق ببعض مواضع البدن ، بواسطة تعلّقها بالروح النفساني ، الّذي يتكوّن منه الدماغ أولا ، ثمّ يسري بواسطة الأعصاب والأوردة في جميع مواضع البدن ، عاليها وسافلها ، على حسب تفاوتها في القبول.

وصل

وإلى هذا التجرد للنفس أشار مولانا الصادق عليه‌السلام ، فيما روي عنه في الكافي : «إنّ أرواح المؤمنين في الجنة على هيئة أجسادهم» (٢).

وفي رواية : «إنهم على صور أبدانهم ، لو رأيته لقلت : فلان» (٣).

وروى الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج ، عنه عليه‌السلام أيضا ، أنه قال : «الروح لا توصف بثقل ، ولا خفّة ، وهي جسم رقيق قد ألبس قالبا كثيفا ، فهي

__________________

(١) ـ أنظر : الشواهد : ٢١٠.

(٢) ـ لم أعثر عليه بهذا النص في الكافي ، وإنما الموجود في الكافي : ٣ : ٢٤٤ ، ح ١ : عن أبي ولّاد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ... فقال : لا ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، ولكن في أبدان كأبدانهم. ونحوه في الكافي : ٣ : ٢٤٥ ، ح ٦.

(٣) ـ التهذيب : ١ : ٤٦٦ ، ح ١٧٢ ، مع اختلاف يسير.

٢٤٤

بمنزلة الريح في الزق ، فإذا نفخت فيه امتلأ الزق منها ، فلا يزيد في وزن الزق ولوجها فيه ، ولا ينقصه خروجها منه ، وكذلك الروح ليس لها وزن ، ولا ثقل ، قيل : أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه ، أم هو باق؟ قال : بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور ، فعند ذلك تبطل الأشياء ، وتفنى ، ولا حسّ ، ولا محسوس ، ثمّ أعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها ، وذلك أربعمائة سنة ، نسيت فيها الخلق ، وذلك بين النفختين» (١).

وقال أيضا : «إنّ الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء وفسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا». الحديث (٢).

وروي أنه قال : «وبها يؤمر البدن وينهى ، ويثاب ، ويعاقب ، وقد تفارقه ، ويلبسها الله سبحانه غيره ، كما تقتضيه حكمته» (٣).

قوله عليه‌السلام : «وقد تفارقه ويلبسها الله غيره» صريح في أنها مجردة عن البدن ، مستقلّة ، وأن ليس المراد بها الروح البخارية ، وأمّا إطلاق الجسم عليه ؛ فلأن نشأة الملكوت أيضا جسمانية ، من حيث الصورة ، وإن لم تكن مادية ، كما دريت.

وروى محمّد بن الحسن الصفّار ، في كتاب بصائر الدرجات ، بإسناده عن المفضل بن عمر ، عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، أنه قال : «مثل المؤمن وبدنه كجوهرة في صندوق ، إذا أخرجت الجوهرة منه طرح الصندوق ، ولم يعبأ به. قال : إن

__________________

(١) ـ الاحتجاج : ٢ : ٣٣٧ ـ ٣٥٢ ، ضمن المسائل الّتي وجّهها الزنديق إلى الإمام الصادق عليه‌السلام.

(٢) ـ المصدر نفسه.

(٣) ـ ورد بمضمونه في كتاب المحتضر : ١١.

٢٤٥

الأرواح لا تمازج البدن ، ولا تداخلها ، إنّما هي كالكلّ للبدن ، محيطة به» (١).

وفي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية شواهد كثيرة ، وتنبيهات غير يسيرة على ذلك ، وكذلك في كلمات الحكماء والعلماء من الأولين والآخرين ، وعسى أن نقف على بعض الآيات والأخبار في ذلك عن قريب.

وصل

وممّا يدلّ على ذلك دلالة واضحة أن بدن الحيوان وأعضاءه دائم الذوبان والسيلان ؛ لعكوف الحرارة الغريزية على التحليل والتنقيص ، كما دريت ، وكذا غيرها من الأسباب ، كالأمراض الحارة ، والمسهلات ، وذاته منذ أوّل الصبا (٢) باقية ، فهو هو ، لا ببدنه.

ومن هذا يظهر أن هذية البدن من حيث هو بدن لهذه النفس إنّما هي بهذه النفس ، وإن تبدل تركيبه ، وكذا هذية الأعضاء كهذه اليد ، وهذا الإصبع ؛ إذ كلّها منحفظة الهوية تبعا لهوية النفس.

ويدلّ على هذا أيضا ما أفاده أستاذنا ـ دام ظله ـ وأشرنا إليه في الأصول : أن تقوّم كلّ شيء بصورته الكمالية ، ومبدأ فصله الأخير ، لا بأجناسه وفصوله العالية والمتوسطة ، إن كانت ، وكذا تشخّصه بنحو وجوده الخاص ، لا الأعراض المتبدّلة من صنف إلى صنف ، ومن نوع إلى نوع ، والشخص هو هو بعينه ، بل ذلك كله من اللوازم ، لا المقوّمات ، ويعتبر فيه على سبيل الإبهام ، دون الخصوص ؛

__________________

(١) ـ بصائر الدرجات : ٤٦٣ ، ح ١٢.

(٢) ـ الصبى (خ ل).

٢٤٦

لأنها تجري مجرى المادّة الّتي إنما يحتاج إليها الشيء لأجل قصور وجوده عن التفرّد بذاته دون قوّة تحمل حقيقته ، وإذا استكمل وصار بالفعل استغنى عنها.

فتشخّص كلّ حيوان وتقوّمه إنّما هو ببقاء نفسه الّتي هي صورته الكمالية ، ونحو وجوده الخاص مع بدن ما ، وإن تبدلت خصوصيّاته من المقدار والوضع وغيرهما ، حتّى إنك إذا رأيت إنسانا في وقت ، ثمّ تراه بعد ذلك بمدّة كثيرة ، وقد تبدّلت أحوال جسمه جميعا بخصوصيّاتها ، أمكنك أن تحكم عليه بأنه ذاك الإنسان ، فلا عبرة بتبدل المادّة البدنية بعد انحفاظ الصورة النفسانية ، بل الحال كذلك في تشخّص كلّ عضو منه ، ولو كان إصبعا واحدا ، فإنّ له اعتبارين : اعتبار كونه آلة مخصوصة لزيد مثلا ، واعتبار كونه في ذاته جسما متعيّنا من الأجسام ، واسم الإصبع واقع عليه بذلك الاعتبار ، لا بهذا ، فتعيّنه بالاعتبار الأوّل باق ما دامت النفس تتصرّف فيه ، وتستعمله وتحفظ مزاجه ، وتقلّبه كيف تشاء ، وبالاعتبار الثاني زائل لأجل الاستحالات الواقعة فيه.

فالشخص الخيالي إذا استقلّ بذاته وتجرّد عن هذا القشر اللحمي يصح أن يقال : هو بعينه هذا الشخص الحسي ؛ لأنّ النفس واحدة ، والبدن بما هو بدن إنّما يتعيّن ويمتاز بالنفس.

ويصح أيضا أن يقال : ليس هو هو ؛ لأنّ أحدهما من الذهب ، والآخر من النحاس(١).

وإلى مثل هذا أشير فيما روي عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، في قوله سبحانه : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (٢) ، حيث سئل : ما ذنب الغير؟

__________________

(١) ـ أنظر : الشواهد : ٢٦١ و ٢٦٢ و ٢٦٧.

(٢) ـ سورة النساء ، الآية ٥٦.

٢٤٧

قال : ويحك ، هي هي ، وهي غيرها (١) ، فافهم ، واغتنم ، فإنّ هذا من الأسرار الكثيرة المنافع والفوائد ، اختصّ بتحقيقه أستاذنا ـ سلمه الله ـ وينفعك في كثير من الأمور الدينية ، إن شاء الله.

وصل

ومن البراهين على تجرّد النفس عن البدن ، واستقلالها : أنا نغيب أحيانا عن أعضائنا ، كلا ، أو كلّ واحد في وقت ، ولا نغيب عن ذاتنا ، فنحن وراء الجميع.

وأيضا إن إدراك الشيء لما كان عبارة عن حصول صورته للمدرك ، فكلّ من أدرك ذاته يجب أن يكون مفارقا عن المحل ؛ إذ لو كان في محل لكانت صورة ذاته غير حاصلة لذاته ، بل لمحلّه ، كما مرّ بيانه مفصّلا في الأصول.

وأيضا إنا ندرك ذاتنا بذاتنا ؛ لأنّا لا تعزب عنّا ذاتنا ، وأمّا شعورنا بشعور ذاتنا فقد وقد ؛ إذ ليس هو نفس وجودنا ، فهو كإدراكنا سائر الأشياء المدركة من خارج ، وأمّا سبب الشك في جوهرية النفس وسائر أحوالها مع حضور ذاتها ، فذلك لأنّ الجوهرية ونحوها ليست بجزء لوجود النفس وإنّيتها ، بل لماهيتها الكلية ، والحاضر عندنا من أنفسنا إنّما هي وجوداتنا المشار إليها بأنا ، لا ماهياتنا الكلية المذهولة عنها أحيانا.

وأيضا لو فرضنا ذاتنا في أوّل الخلقة كامل العقل صحيح البدن في هواء طلق منفرج الأعضاء ، غير متلامسها ، ولم نكن مستعملي الحسّ في شيء أصلا ، وجدنا ذاتنا فاقدة لكلّ شيء إلّا نفسها فوجدناها لا من دليل ووسط ، فذاتنا غير ما لم يدرك بعد من جسم ، أو عرض.

__________________

(١) ـ الاحتجاج : ٢ : ٣٥٤.

٢٤٨

وصل

ومن البراهين : أن كلّ صورة أو صفة حصلت في الجسم بسبب ، فإذا زالت عنه وبقي فارغا عنها يحتاج في استحصالها إلى استئناف سبب ، أو سببية ، من غير أن يكون مكتفيا بذاته ؛ إذ ليس هذا من شأن الجسم ، ومن شأن النفس في الصور العلمية أن قد تصير بعد استحصالها من معلّم ، أو فكر ، مكتفية بذاتها في استرجاعها ، فتعالت عن أن تكون جرمية ، فهي روحانية.

وأيضا إن كلّ جوهر مادي لا يمكن أن تجتمع فيه صور كثيرة فوق واحدة ، وأمّا النفس فتجتمع فيها علوم شتى ، وصنائع تترى ، وأخلاق مختلفة ، وأغراض متفاوتة ، فهي ـ إذن ـ دفتر روحاني ، ولوح ملكوتي.

وأيضا إنها تدرك أشياء يمتنع وجودها في الجسم ، كالضدّين معا ، والعدم والملكة معا ، ولوجود مثل هذه الأمور في النفس يمكننا أن نحكم بأن لا وجود لشيء منها في الأجسام ، ولنا أن ندرك أيضا الوحدة المطلقة ، والمعنى البسيط العقلي ، ومعلوم أن كلّ ما في الجسم فهو منقسم ، وكذلك ندرك الحركة والزمان ، واللانهاية ، ممّا استحال أن تكون له صورة في الموادّ.

وصل

ومن الشواهد : أنك مع شواغلك إذا فكّرت في آلاء الله ، أو سمعت آية تشير إلى الأمور الإلهية ، وأحوال المآب ، أنظر كيف يقشعّر جلدك ، ويقف شعرك ، ويهون عليك ـ حينئذ ـ رفض البدن ، وقواه ، وهوسه ، وهواه ؛ وذلك لأجل نور

٢٤٩

قذف في قلبك من الجنبة العالية ، وانعكس أثره إلى ظاهر جلدك من جهة الباطن ، على عكس ما ينفعل الداخل من الخارج ، فباطنك غير ظاهرك.

وأيضا إذا أردت أن تتوجّه إلى تكميل جوهرك ، وتفعل فعلك الخاص من تعقّل النظريات ، أو إخلاص نيّة في التقرّب إلى الله سبحانه ، أو امتناع عن مخالطة الشهوات ، والوساوس المفسدة ، لم يتيسّر لك ذلك إلّا بمجاهدة تامة ، ومغالبة عظيمة ، فالجوهر النطقي منك من عالم آخر ، وقع غريبا في دار الجسد ، بيد الظلمة ، والفسقة ، والكفرة ، من القوى الشهوية ، والغضبية ، والوهمية.

وأيضا النفس والبدن ـ كما ترى ـ يتعاكسان في القوّة والضعف ، فبعد الأربعين تكمل النفس ، وتكلّ الآلة ، فكلال البدن ليس منشؤه إلّا فعلية النفس ، وتفرّدها بذاتها.

وأمّا انحرافه عند الهرم بسبب قلة الحرارة ؛ فذلك لأنّ حاجة النفس إلى مزيد التدبير تمنعها عن جودة التعقّل.

بل نقول : لو كان التعقّل بآلة بدنية لكان كلما عرضت لها آفة وكلال عرض فيه فتور، وإذ ليس هذا كلّيا ، فليس التعقّل بآلة.

وأيضا كلّ من له أدنى رتبة في التحدس والتفطّن ورجع إلى ذاته وشاهد ما فعلته المتخيّلة الّتي هي إحدى قواه في إنشاء ماهيات الأبعاد والأجرام ، والتصرّف في الجبال الشاهقة ، والصحاري الواسعة ، والأفلاك المتحركة والساكنة ، والكواكب تارة بالتركيب والتفصيل ، وتارة بالتسكين والتحويل ، لتحدس يقينا أن نفسه العلّامة الفعّالة في عظائم الأجرام ، ودقائق المعاني وكلّياتها ، ليست جسما ، ولا جسمانيا ، وليس الأمر كما ظن أن الصور الّتي تدركها النفس إنّما هي في عالم خارج عنها ، منفصل ، ثابت بتأثير مؤثر غيرها.

٢٥٠

كيف ومن جملة ما يحضره الإنسان في باطنه صور مستهجنة من قبيل الدعابات الشيطانية ، وأضغاث الأحلام المخالفة لفعل الحكيم الّتي ليس منشؤها إلّا اعوجاج شيطان المتخيّلة ، والعوالي منزّهة عن إنشاء تلك الهذيانات.

وأيضا إنها إنّما تبقى بإبقاء النفس إيّاها واستخدامها المتخيّلة في تصويرها وثبتها ، فإذا أعرضت عنها انعدمت وزالت ، لا أنها مستمرة الوجود ، وهذا ظاهر بحمد الله.

وصل

ومن الآيات القرآنية قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ) (١).

وقوله سبحانه في حق آدم : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (٢) ، وفي حق عيسى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) (٣) ، وهذه الإضافة تؤذن على شرف النفس ، وكونها عرية عن عالم الأجرام.

وقوله سبحانه : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (٤) ، وقوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) (٥) ، والرجوع يدلّ على السابقة ، إلى غير ذلك.

__________________

(١) ـ سورة آل عمران ، الآية ١٦٩ و ١٧٠.

(٢) ـ سورة الحجر ، الآية ٢٩ ؛ وسورة ص ، الآية ٧٢.

(٣) ـ سورة النساء ، الآية ١٧١.

(٤) ـ سورة المؤمنون ، الآية ١٤.

(٥) ـ سورة الفجر ، الآية ٢٧ و ٢٨.

٢٥١

ومن الأحاديث النبوية ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» (١) ، وقوله: «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه» (٢) ، وقوله : «أنا النذير العريان» (٣) ، وقوله : «أبيت عند ربّي يطعمي ويسقيني» (٤) ، إلى غير ذلك ، وهي كثيرة.

فصل

إنك بعد ما سمعت هذه الدلائل والكلمات ، والتي أسلفناها من قبل ، لا أظنك إلّا متحدّسا ، ومتحقّقا بأن النفس ليست مفارقة عن البدن كلّ المفارقة ، بحيث لا تكون لها جهة اتحاد معه أصلا ، بل هذا التجرّد الّذي أثبتناه لها إنّما هو لمرتبة من مراتبها المسماة بالقوّة المتخيّلة ، أو العاقلة ، إن كانت لها عاقلة ، وكلتاهما مرتبة غيبتها عن البدن ، وقواه فإنّها ذات مراتب ودرجات ، ولها انتقالات ، وتنزّلات إلى درجة القوى والآلات من غير نقص يلحقها ، فإنّ البدن كظل لنورها ، لا استقلال له في الوجود ، كما لا استقلال له في الحركة الإرادية.

وأمّا ما يتحرك بالحركة الطبيعية عند السقوط من السطح فهو بالحقيقة خارج عن البدن ، من حيث هو بدن ، فإنّ للبدن الحقيقي لطيفة جسمانية حارّة ، هي تتصرّف فيه أولا وبالذات ، وهذا الكثيف كأنه قشر لذلك ، كما مرّ بيانه مفصلا.

فمن جسّم النفس الإنسانية ـ كأتباع جالينوس (٥) ـ فما عرفها ، ومن

__________________

(١) ـ عوالي اللئالي : ٤ : ١٠٢ ، ح ١٤٩.

(٢) ـ روضة الواعظين : ١ : ٢٠.

(٣) ـ كنز العمال : ١ : ١٨٠ رقم ٩١٤.

(٤) ـ عوالي اللئالي : ٢ : ٢٣٣.

(٥) ـ تقدّمت ترجمته في هذا الكتاب ص؟؟؟؟.

٢٥٢

جرّدها بالكلية من غير تجسيم أصلا ، فنظر إليها بالعين العوراء ـ كالرهابين المعطّلين لها عن عالم التحريك والتدبير ـ فما رعوها حق رعايتها ، والكامل المحقّق من له عين صحيحة هي مجمع النورين ، فلا يعطل بصيرته عن إدراك النشأتين ، فيعرف سرّ العالمين ، ويعلم أنها مع كونها من الملكوت ، متحدة بالبدن اتحادا حقيقيا ، وأن لها وحدة جمعية هي ظل الوحدة الإلهية ، فهي بذاتها قوّة حيوانية حساسة ، ومتخيّلة ، وذات رجوع ما إلى القدس ، وهي بعينها ذات حركة إرادية ، وذات اغتذاء ، ونموّ ، وحافظة لصورته النوعية ، وهي بعينها طبيعة سارية في الجسم ، وبنفسها تنزل إلى درجة الحواسّ عند إدراكها المحسوسات واستعمالها آلة الحواس ، فتصير عند الإبصار عينا باصرة ، وعند السماع أذنا واعية ، وكذلك في البواقي حتّى اللمس والقوى الّتي تباشر التحريك ، فلها تقدّس عن المواد ، بحسب وجودها الخيالي ، الّذي هو مرتبة غيب غيوبها ، ولها اتحاد بقواها وآلاتها ، فتصير تارة غائبة عن ذاتها ، وتارة راجعة إليها وإلى بارئها ، وتارة مصروفة عن جهة القدس إلى جانب البدن ، وذلك كله للطافتها وقبولها لآثار الجوانب ، كما قيل :

لقد صار قلبي قابلا كلّ صورة

فمرعى لغزلان وديرا لرهبان

كذا أفاد أستاذنا (١) ـ مدّ ظلّه ـ.

__________________

(١) ـ أنظر : المبدأ والمعاد : ٣٠٤ ، ظلمات وهمية وإشراقات عقلية.

٢٥٣

فصل

روي عن كميل بن زياد ، أنه قال : سألت مولانا أمير المؤمنين عليا عليه الصلاة والسلام ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أريد أن تعرّفني نفسي ، قال : يا كميل ، وأي الأنفس تريد أن أعرفك؟ قلت : يا مولاي ، هل هي إلّا نفس واحدة ، قال : يا كميل ، إنّما هي أربعة : النامية النباتية ، والحسّية الحيوانية ، والناطقة القدسية ، والكلية الإلهية ، ولكلّ واحدة من هذه خمس قوى ، وخاصيتان.

فالنامية النباتية لها خمس قوى : ماسكة ، وجاذبة ، وهاضمة ، ودافعة ، ومربّية ، ولها خاصيّتان : الزيادة ، والنقصان ، وانبعاثها من الكبد.

والحسّية الحيوانية لها خمس قوى : سمع ، وبصر ، وشم ، وذوق ، ولمس ، ولها خاصّيتان : الرضا ، والغضب ، وانبعاثها من القلب.

والناطقة القدسية لها خمس قوى : فكر ، وذكر ، وعلم ، وحلم ، ونباهة ، وليس لها انبعاث ، وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكيّة ، ولها خاصّيتان : النزاهة ، والحكمة.

والكلية الإلهية لها خمس قوى : بقاء في فناء ، ونعيم في شقاء ، وعزّ في ذل ، وفقر في غناء ، وصبر في بلاء ، ولها خاصّيتان : الرضا ، والتسليم ، وهذه الّتي مبدؤها من الله ، وإليه تعود ، قال الله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (١) ، وقال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) (٢) ،

__________________

(١) ـ سورة الحجر ، الآية ٢٩ ؛ وسورة ص ، الآية ٧٢.

(٢) ـ سورة الفجر ، الآية ٢٧ و ٢٨.

٢٥٤

والعقل وسط الكل (١).

وصل

النفسان الأوليان ـ في كلامه عليه‌السلام ـ مختصتان بالجهة الحيوانية ، الّتي في محل اللذّة والألم ، في الدنيا والآخرة ، والأخيرتان بالجهة الإنسانية ، الّتي سنذكرها ، وهما سعيدتان في النشأة الأخروية ، وسيّما الأخيرة ، فإنّها لا حظّ لها من الشقاء الأخروي ؛ لأنها ليست من عالم الشقاء ، بل هي منفوخة من روح الله ، فلا يتطرّق إليها ألم هناك من وجه ، وليست هي موجودة في أكثر الناس ، بل ربما لم يبلغ من ألوف كثيرة واحد إليها ، وكذلك الأعضاء والجوارح بمعزل عن اللذة والألم.

ألا ترى إلى المريض إذا نام وهو حيّ ، والحسّ عنده موجود ، والجرح الذي يتألّم به في يقظته موجود في العضو ، ومع هذا لا يجد ألما ؛ لأنّ الواجد للألم قد صرف وجهه عن عالم الشهادة إلى البرزخ ، فما عنده خبر ، فإذا استيقظ المريض ، أي رجع إلى عالم الشهادة ، ونزل منزل الحواس ، قامت به الأوجاع والآلام ، فإن كان في البرزخ في ألم ، كما في رؤيا مفزعة مؤلمة ، أو في لذّة ، كما في رؤيا حسنة ملذّة ، انتقل معه الألم واللذّة حيث انتقل ، وكذلك حاله في الآخرة.

__________________

(١) ـ ذكر هذا الخبر في البحار ، وعبّر عنه بقوله : «وقد روى بعض الصوفية في كتبهم عن كميل بن زياد ...» ، وفي آخره قال العلّامة المجلسي : «أقول : هذه الاصطلاحات لم تكد توجد في الأخبار المعتبرة المتداولة ، وهي شبيهة بأضغاث أحلام الصوفية». أنظر : بحار الأنوار : ٥٨ : ٨٤.

٢٥٥

فصل

قد ظهر من تضاعيف ما ذكر أن النفس ـ بما هي نفس ـ لها وجود في نفسها لنفسها ، وقد تمّ وجودها ذلك ، ثمّ عرض لها أن تتصرف في جسم من الأجسام ، تدبّره ، وتحرّكه ، وتغذّيه ، كمن تصرف في بناء ، أو غرس شجرة ، فيكمله ويستكمل به ، إكمالا واستكمالا عرضيين ، خارجين عن هوية ذاته ، كما ظن ، بل إنها ما دامت هي نفس لها وجود ذاتي ، مفتقرة إلى إضافته إلى البدن ، متقوّمة بحسب قواها الحسّية والطبيعية به.

وتصرفها فيه هو بعينه نحو موجوديّتها من هذه الحيثية ، كما أن حلول العرض كالبياض في محله هو نحو وجوده ، فزوال تصرّفها فيه هو بعينه زوال وجودها في نفسها ، من حيث هي نفس ، وإن كانت باقية من حيث إنها جوهر آخر أرفع وأقوى ببقاء بارئها ، ومفيض وجودها ، كما أنها قبل بلوغها إلى درجة النفسية كانت شيئا أضعف ، وأخسّ وجودا من النفس ، فللنفوس نشآت سابقة ولاحقة ، واستكمالات جوهرية ، وتقلبات ، ولها جهة استمرار وجهة تجدد ؛ لتعلّقها بالطرفين ـ العقل والمادّة العنصرية ـ وكلّ من رجع إلى وجدانه وجد أنّ هذه الهوية الحالية منه غير هويّته الماضية ، لا بمجرد اختلاف العوارض ، بل باختلاف أطوار لذات واحدة.

وإلى هذه التقلّبات والأطوار أشير في القرآن المجيد بقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (١).

__________________

(١) ـ سورة الانشقاق ، الآية ٦.

٢٥٦

وقد شبّهوا مراتب آثار العقل في النبات والحيوان والإنسان ، بنار تأثر عنه فحم بالحرارة وآخر بالتحمّر ، وآخر بالإضاءة والإحراق ، فيفعل فعل النار ، وفعل الأولين ، وكلما وقع له الاشتداد صدر عنه ما كان يصدر ممّا تقدّم عليه.

فصل

وممّا ذكر ظهر بطلان التناسخ ، بمعنى انتقال نفس من بدن إلى بدن مباين له ، منفصل عنه في هذه النشأة ، بأن يموت حيوان وتنتقل نفسه إلى حيوان آخر ، أو غير الحيوان ، سواء كان من الأخسّ إلى الأشرف ، ويسمى بالنقل الصعودي ، أو بالعكس ، ويسمى بالنقل النزولي ؛ وذلك لأنّ النفس متى ترقّت شيئا فشيئا حسب استكمالات المادّة حتّى تجاوزت درجة الطبيعة والنبات والحيوان ، وحصلت لها بإزاء كلّ استعداد فعلية خاصة ، فيستحيل أن ترجع تارة أخرى إلى القوّة المحضة ، والاستعداد الأنزل ، فإنه من المحال أن تتعلق نفس جاوزت درجة النبات والحيوان إلى مادّة المني ، أو الجنين ، وقد علمت أن المني لم تتجاوز صورته حد الطبيعة الجرمية ، وأن الجنين ما دام في الرحم لم تتجاوز صورته درجة النفس النباتية ، والتمنّي الّذي حكى الله سبحانه عن الأشقياء ، بقوله : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (١) ، تمنّي أمر مستحيل الوقوع ، وكذا قوله : (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) (٢) ، فقد حرّم الله الرجوع إلى الدنيا ، كما قال سبحانه :

__________________

(١) ـ سورة النبأ ، الآية ٤٠.

(٢) ـ سورة الأعراف ، الآية ٥٣.

٢٥٧

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١) ، على أن يكون «أنهم» استئنافا قائما مقام الرجوع ، كما دل عليه كلام لأمير المؤمنين عليه‌السلام (٢).

ثم هذه الاستكمالات والترقّيات للنفس الّتي يبطل بها التناسخ ، هي بعينها ضرب من التناسخ حقّ ، وعليها يحمل النقل الصعودي المنقول عن الأقدمين ، كما يحمل النقل النزولي على انتقال النفس من هذا البدن إلى بدن أخروي ، مناسب لصفاتها ، وأخلاقها المكتسبة في الدنيا ، كما مرّت الإشارة إليه من أن النفس في الآخرة تظهر بصورة ما ، غلبت عليها صفاته من الحيوانات ، والشياطين ، وعليه أيضا تحمل الآيات والأخبار الّتي تشبّث بها أصحاب هذا الرأي السخيف.

قال في الفتوحات ـ بعد ما ذكر أحوال الصور وشكل القرآن ـ : ومن هنا زلّ القائلون بالتناسخ ، لما رأوا وسمعوا أن الأنبياء قد نبّهوا على انتقال الروح إلى هذه الصور البرزخية ، وتكون فيها على صور أخلاقها ، ورأوا تلك الأرواح في الحيوانات ، تخيّلوا في قول الأنبياء والرسل عليهم‌السلام ، والعلماء ، أن ذلك راجع إلى هذه الحيوانات الّتي في دار الدنيا ، وأنها ترجع إلى التخليص ، وذكروا ما علمت من مذهبهم فأخطأوا في النظر والتأويل جميعا. انتهى (٣).

وهذا الانتقال يكون للنفس وهي في الدنيا بعد ، ويسمى مسخا ، وهو على قسمين:

أحدهما : مسخ الباطن من غير أن تظهر صورته في الظاهر ، فترى الصور

__________________

(١) ـ سورة الأنبياء ، الآية ٩٥.

(٢) ـ أنظر : من لا يحضره الفقيه : ١ : ٤٢٧ ، ح ١٢٦٣.

(٣) ـ الفتوحات المكية : ٣ : ٦٦.

٢٥٨

أناسي ، وفي الباطن غير تلك الصور ، بل صور أخرى على حسب نيّاتهم وأعمالهم المتكررة الموجبة لحصول ملكات نفسانية ، تصدر عنهم بسببها الأفعال المناسبة لها بسهولة ، من صورة ملك ، أو شيطان ، أو كلب ، أو خنزير ، أو غير ذلك من حيوان مناسب لما يكون الباطن عليه.

وإليه أشار نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال في صفة قوم من أمته : «إخوان العلانية ، أعداء السريرة ، ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم قلوب الذئاب ، يلبسون للناس جلود الضأن ، من اللين». الحديث (١).

وأصحاب البصائر يرون تلك الصور في الدنيا أيضا ، يعرفون كلا بسيماهم ، ولقد كثر هذا في زماننا ، فجلّهم ـ إذا فكّرت فيهم ـ حمير ، أو كلاب ، أو ذئاب.

وفي تفسير الإمام أبي محمّد العسكري عليه‌السلام : قال علي بن الحسين عليهما‌السلام وهو واقف بعرفات للزهري : كم تقدر هاهنا من الناس؟ قال : قدر أربعة ألف ألف وخمسمائة ألف ، كلهم حجّاج ، قصدوا الله بآمالهم ، ويدعونه بضجيج أصواتهم ، فقال له : يا زهري ، أدن لي وجهك ، فأدناه إليه ، فمسح بيده وجهه ، ثمّ قال : أنظر ، فنظر إلى الناس ، قال الزهري : رأيت أولئك الخلق كلّهم قردة ، لا أرى فيهم إنسانا إلّا في كلّ عشرة آلاف واحدا من الناس ، ثمّ قال : أدن يا زهري ، فدنوت منه ، فمسح بيده وجهي ، ثمّ قال : أنظر ، فنظرت إلى الناس ، قال الزهري : فرأيت أولئك الخلق كلهم ذئبة ، إلّا تلك الخصائص من الناس نفرا يسيرا ، فقلت : بأبي أنت وأمي يابن رسول الله ، قد دهشتني آياتك ، وحيّرتني عجائبك ، قال : يا زهري ، وما الحجيج من هؤلاء إلّا النفر اليسير الّذين رأيتهم من هذا الخلق الجمّ الغفير ،

__________________

(١) ـ ورد قريب منه في قرب الاسناد : ١٥.

٢٥٩

ثمّ قال لي : امسح يدك على وجهك ، ففعلت ، فعاد أولئك الخلق في عيني ناسا ، كما كانوا أولا ، ثمّ قال : من حجّ ووالى موالينا ، وهجر معادينا ، ووطن نفسه على طاعتنا ، ثمّ حضر هذا الموقف مسلما إلى الحجر الأسود ، وما قلّده الله من آياتنا (١) ، ووافيا بما ألزمه من عهودنا ، فذلك هو الحاج ، والباقون من رأيتهم ، يا زهري (٢).

والقسم الثاني : مسخ الباطن ، وانقلاب الظاهر من صورته الّتي كانت إلى صورة ما ينقلب إليه الباطن ؛ لغلبة القوّة النفسانية ، حتّى صار تغير المزاج والهيئة على شكل ما هو على صفته ، من حيوان آخر ، وهذا إنما يقع في قوم غلبت نفوسهم ، وضعفت عقولهم.

وقد وقع في بني إسرائيل ، كما قال سبحانه : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) (٣) ، وقال : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٤).

فقد ظهر أن التناسخ باطل ، إلّا إذا أريد به أحد ثلاث معان : إمّا الاستكمالات الّتي للنفس في هذه النشأة على مادّة واحدة ، وإما انتقالها من هذا البدن العنصري إلى بدن آخر أخروي من غير مسخ لصورتها الظاهرة ، وإما انتقالها هذا مع مسخ صورتها الظاهرة أيضا.

ومن هنا قيل : ما من مذهب إلّا وللتناسخ فيه قدم راسخ.

وقد تبين ممّا ذكر أن النفوس الإنسانية بحسب أوّل حدوثها صورة نوع

__________________

(١) ـ في المصدر «أماناتنا» بدل «آياتنا».

(٢) ـ تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٠٦ ، ح ٣٥٩.

(٣) ـ سورة المائدة ، الآية ٦٠.

(٤) ـ سورة البقرة ، الآية ٦٥ ؛ وسورة الأعراف ، الآية ١٦٦.

٢٦٠