غاية المرام في علم الكلام

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

غاية المرام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4311-5
الصفحات: ٣٣٤

وإلا لما جاز تعلق العلم باستحالة اجتماع الضدين. وبانتفاء كون الجسم الواحد في آن واحد ، في مكانين. ولا بانتفاء الشريك الواجب الوجود ، على ما لا يخفى. ثم إن ذلك مما يلزم الخصوم من المعتزلة في اعتقادهم قدم العالمية كما سلف.

والله ولي التوفيق.

٨١

الطرف الثالث

في إثبات صفة القدرة (١)

ويجب أن يكون الباري ـ تعالى ـ قادرا بقدرة ، لضرورة ما أسلفناه من البيان ، وأوضحناه من البرهان ، في مسألة العلم والإرادة ، ويجب أن تكون

__________________

(١) عبارة عن صفة وجودية ، من شأنها تأتي الإيجاد ، والإحداث بها على وجود يتصور ممن قامت به الفعل ، بدلا عن الترك ، والترك بدلا عن الفعل. وهي منقسمة : إلى قديم ، وحادث. أما القدرة الحادثة : فسيأتي الكلام فيها وفيما يتعلق بها فيما بعد. وأما القدرة القديمة : فقد احتج الأصحاب على ثبوتها لله ـ تعالى ـ بالنص ، والمعقول. أما النص : فقوله ـ تعالى ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [فصلت : ١٥] ، وقوله ـ تعالى ـ واصفا لنفسه (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات : ٥٨] قوله ـ تعالى ـ : (الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [هود : ٦٦]. فإن قيل : الاستدلال بالنصوص على وصفه بالقدرة ؛ فرع إثبات صفة الكلام ، وهو غير ثابت بعد ؛ فلا يصح الاحتجاج بها. وإن صح الاحتجاج بها ؛ إلا أنها متروكة الظاهر ؛ فإن القوة في الحقيقة : عبارة عن الصلابة المناقضة للخور ، والله ـ تعالى ـ يتقدس عن الاتصاف بذلك. وإذا آل الأمر إلى التجوز ؛ فليس حمل القوة على القدرة ، بأولى من حملها على كونه بحال يصدر عنه جميع الموجودات. والجواب : أما السؤال الأول : فمندفع ؛ وذلك أنه لا يخلو : إما أن تكون صفة الكلام ثابتة ، أو غير ثابتة. فإن كان الأول : فقد صح الاستدلال. وإن كان الثاني : فليس من شرط الدليل أن يكون مسلما ؛ بل شرطه أن يكون بحال يمكن تسليمه بالدلالة عليه وتقريره ، وإثبات صفة الكلام بهذه الحالة ؛ فإنا سنبين كونها ثابتة فيما بعد. وما ذكروه من مخالفة الظاهر ؛ ممنوع ؛ فإن القوة وإن كانت في أصل الموضوع عبارة عن الصلابة كما ذكروه ؛ إلا أن استعمالها بإزاء القدرة مجاز مشهور. ولهذا إذا قيل فلان قوي على كذا ، تبادر إلى الفهم منه عند الإطلاق ؛ أن له عليه قدرة ، ولا كذلك ما ذكروه من التأويل والذي يدل على امتناع الحمل على ما ذكروه من المجاز قوله ـ تعالى ـ : (هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) فقد أثبت لهم أصل القوة ، وهي غير مفسرة في حقهم بالإيجاد ، فإنا سنبين أنه لا موجد غير الله ـ تعالى ـ فتعين تفسير القوة بما ذكرناه. وبالجملة فطريق الاستدلال في هذا الباب بالنصوص المذكورة لا يخرج عن الظن ، والتخمين ؛ وهو غير مكتفى به في اليقينيات. أبكار الأفكار (١ / ١٩٩).

٨٢

صفة وجودية قديمة أزلية قائمة بذات الرب تعالى ، متحدة لا كثرة فيها ، متعلقة بجميع المقدورات ، غير متناهية بالنسبة إلى ذاتها ، ولا بالنظر إلى متعلقاتها. لما حققناه.

وليست القدرة عبارة عما يلازمه الإيجاد بل ما يتأتى به الإيجاد ، على تقدير تهيئه ، من غير استحالة ذلك ، على نحو ما في التمييز والتخصيص بالإرادة. وبه يتبين فساد قول من ألزم الإيجاد بالقدرة القديمة على من نفي الإيجاد بالذات ، حيث ظن أن القدرة القديمة يلازمها الإيجاد لا ما يتأتى بها الإيجاد وإن لم يلازمها.

فإن قيل : كيف تدعون أن كل ممكن مقدور لله ـ تعالى ـ وأكثر أفعال الحيوانات بأسرها مقدورة لها ـ كما سيأتي ـ وإذ ذاك فلو كانت مقدورة لله ـ تعالى ـ للزم أن يكون مقدور بين قادرين وذلك ممتنع ـ كما يأتي أيضا. وأيضا فإن أكثر الموجودات متولدة بعضها عن بعض ، وهكذا ما نشاهده من تولد حركة الخاتم ضد حركة اليد ، وكذا في حركة كل متحرك بحركة ما هو قائم به وملازم له ؛ فإنه لا يمكن أن يقال : إن حركة الخاتم مخلوقة له ـ تعالى ـ وإنها غير تابعة لحركة اليد ؛ وإلا لجاز أن يخلق حركة أحدهما مع سكون الأخرى وهو لا محالة ممتنع.

والجواب : أما ما ذكروه من الشبهة الأولى : فسيأتي الجواب عنها في مسألة «خلق الأفعال» إن شاء الله ـ تعالى ـ.

وأما ما ذكروه من الشبهة الثانية : فإنهم إن أرادوا بالتولد هاهنا أن الحركة التي للخاتم كامنة في حركة اليد ، وهي تظهر عند حركة اليد منها ، كما يظهر الجنين في بطن أمه ، وكما في كل ما يتوالد. فهو المفهوم من لفظ التوالد ؛ لكنه هاهنا غير مشاهد كما ادّعوه ولا متصور أيضا. بل المشاهد المتصور ليس إلا لزوم حركة الخاتم لحركة اليد. فإن أريد بالتولد هذا فلا مشاحة في التسمية ، وإن كانت بالنسبة إلى الاصطلاح الوضعي خطأ. لكنه

٨٣

مع ذلك مما لا يلزم أن يكون وجوده عن وجود حركة اليد ، بل من الجائز أن يكون موجودان أحدهما يلازم الآخر ، إما عادة كملازمة التسخين للنار ، والتبريد للماء والأفيون. وإما اشتراطا كملازمة العلم للإرادة ، والحياة للعلم ، وليس ولا أحدهما مستفادا من الآخر بل كلاهما مخلوقان لله ـ تعالى ـ. وبهذا يندفع ما ذكروه من أنه لو كان اللازم مخلوقا لله ـ تعالى ـ لجاز خلق أحدهما مع سكون الآخر ، كيف وأنه كما تتوقف حركة الخاتم على حركة اليد تتوقف حركة اليد على حركة الخاتم ، حتى إنه لو فرض عدم انتقال الخاتم من مكانه كان القول بحركة اليد مستحيلا ، فعلى هذا ليس جعل حركة اليد علة لحركة الخاتم لتوقفها عليها بأولى من العكس ، بل الواجب أنهما معلولان لعلة واحدة ، وإن قدر تلازمهما في الوجود.

وعند هذا ، فلا بد من الإشارة إلى دقيقة وهى : أن ما علمه الله ـ تعالى ـ أنه لا يكون ، منه ما هو ممتنع الكون لنفسه ، وذلك كاجتماع الضدين ، وكون الشيء الواحد في آن واحد في مكانين ونحوه. ومنه ما هو ممتنع الكون لا باعتبار ذاته ، بل باعتبار أمر خارج ، وذلك مثل وجود عالم آخر وراء هذا العالم أو قبله. فما كان من القسم الأول ، فهو لا محالة غير مقدور ، من غير خلاف. وما كان من القسم الثاني ، وهو أن يكون ممتنعا لا باعتبار ذاته بل باعتبار تعلق العلم بأنه لا يوجد ، أو غير ذلك ، فهو لا محالة ممكن باعتبار ذاته ، كما سلف. والممكن ـ من حيث هو ممكن ـ لا ينبو عن تعلق القدرة به. والقدرة ـ من حيث هي قدرة ـ لا يستحيل تعلقها بما هو ـ في ذاته ـ ممكن ، إذا قطع النظر عن غيره ، إذ الممكن من حيث هو ممكن لا ينبو عن تعلق القدرة به والقدرة من حيث هي قدرة لا تتقاصر عن التعلق به لقصور فيها ولا ضعف.

فعلي هذا الممكن صالح أن تتعلق به القدرة ، من حيث هو كذلك ، ولا معنى لكونه مقدورا غير هذا. وإطلاق اسم المقدور عليه بالنظر إلى العرف ،

٨٤

وإلى الوضع ـ باعتبار هذا المعنى ـ غير مستبعد. وإن كان وجوده ممتنعا باعتبار غيره. وأما إن أريد به أنه غير مقدور ؛ بمعنى أنه يلزم منه المحال باعتبار أمر خارج. أو أنه لم تتعلق به القدرة ، بمعنى أنها لم تخصصه بالوجود بالفعل ، فهو وإن كان مخالفا للإطلاق فلا مشاحة فيه. إذ المنازعة فيه لا تكون إلا في إطلاق اللفظ ، لا في نفس المعنى.

والله ولي التوفيق.

٨٥

الطرف الرابع

في إثبات صفة الكلام (١)

__________________

(١) وقد أجمع المسلمون قاطبة على اتصاف الرب ـ تعالى ـ بكونه متكلما ـ وأنه تكلم ، ويتكلم ، غير الإسكافي من المعتزلة ؛ فإنه نازع في كونه يتكلم. متحكما في الفرق بين تكلم ، ويتكلم. لكن معنى كونه متكلما عند أصحابنا : أنه قام بذاته كلام ، قديم ، أزلي نفساني ، أحدي الذات ، ليس بحروف ، ولا أصوات ، وهو مع ذلك متعلق بجميع متعلقات الكلام. لكن اختلفوا في وصف كلام الله ـ تعالى ـ في الأزل بكونه أمرا ونهيا ، مخاطبة تكلما ، فأثبت ذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري ، ونفاه عبد الله بن سعيد ، وطائفة كثيرة من المتقدمين : مع اتفاقهم على وصفه ـ تعالى ـ بذلك فيما لا يزال. وأما المعتزلة : فقد اتفقوا كافة على معنى أن كونه متكلما. أنه خالق للكلام على وجه لا يعود إليه منه صفة حقيقية كما لا يعود إليه من خلق الأجسام وغيرها صفة حقيقية ، واتفقوا أيضا على أن كلام الرب ـ تعالى ـ مركب من الحروف ، والأصوات ، وأنه محدث مخلوق. ثم اختلفوا : فذهب الجبائي ، وابنه أبو هاشم : إلى أنه حادث في محل. ثم زعم الجبائي أن الله ـ تعالى ـ يحدث عند قراءة كل قارئ كلاما لنفسه في محل القراءة ، وخالفه الباقون. وذهب أبو الهذيل بن العلاف ، وأصحابه : إلى أن بعضه في محل ؛ وهو قوله (كُنْ) وبعضه لا في محل ؛ كالأمر ، والنهي ، والخبر ، والاستخبار. وذهب الحسين بن محمد النجار : إلى أن كلام الباري ـ تعالى ـ إذا قرئ ؛ فهو عرض ، وإذا كتب ، فهو جسم. وذهب الإمامية والخوارج ، والحشوية أيضا : إلى أن كلام الرب ـ تعالى ـ مركب من الحروف ، والأصوات. ثم اختلف هؤلاء : فذهبت الحشوية : إلى أنه قديم أزلي ، قائم بذات الرب ـ تعالى ـ لكن منهم : من زعم أنه من جنس كلام البشر. ومنهم من قال : ليس من جنس كلام البشر ؛ بل الحرف حرفان ، والصوت صوتان قديم ، وحادث ، والقديم منهما ليس من جنس الحادث. وأما الكرامية : فقالوا : إن الكلام قد يطلق على القدرة على التكلم ، وقد يطلق على الأقوال ، والعبارات. وعلى كلا الاعتبارين ؛ فهو قائم بذات الرب ـ تعالى ـ لكن إن كان بالاعتبار الأول : فهو قديم متحد ، لا كثرة فيه. وإن كان بالاعتبار الثاني ؛ فهو حادث متكثر. وأما الواقفية : فقد أجمعوا على أن كلام الله ـ تعالى ـ كائن بعد ما لم يكن ؛ لكن منهم من توقف في إطلاق اسم المخلوق ، وأطلق اسم الحادث عليه. ومن القائلين بالحدوث : من قال : ليس هو جوهرا ، ولا عرضا. وذهب بعض المعترفين

٨٦

ذهب أهل الحق من الإسلاميين إلى كون الباري ـ تعالى ـ متكلما بكلام قديم أزلي نفساني ، أحدي الذات ، ليس بحروف ولا أصوات ، وهو ـ مع ذلك ـ ينقسم بانقسام المتعلقات ، مغاير للعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات.

وأما أهل الأهواء المختلفون : فمنهم نافون للصفة الكلامية ، ومنهم مثبتون ... ثم المثبتون : منهم من زعم أن كلام الرب ـ تعالى عن قول الزائغين ـ مركب من الحروف والأصوات ، مجانس للأقوال الدالة والعبارات ، كالمعتزلة والخوارج والإمامية ، وغيرهم من طوائف الحشوية.

ثم اختلف هؤلاء : فذهب الحشوية إلى أنه قديم أزلي قائم بذات الرب تعالى. وذهب النافون إلى أنه حادث موجود بعد العدم ، قائم لا في محل ، لكن منهم من لم يجوز إطلاق اسم الحدث عليه مع كونه يقطع بحدثه ، ومنهم من لم يتحاش عن ذلك.

ومن المثبتين من زعم أن الكلام قد يطلق على القدرة على التكلم ، وقد يطلق على الأقوال والعبارات. وعلى كلا الاعتبارين فهو قائم بذات الرب ـ تعالى ـ ، لكن إن كان بالاعتبار الأول. فهو قديم متحد لا كثرة فيه ، وإن كان بالاعتبار الثاني كان حادثا متكثرا. وهؤلاء هم الكرامية ، ومن تابعهم

__________________

ـ بالصانع ـ تعالى ـ : إلى أنه لا يوصف بكونه متكلما ، لا بكلام ولا بغير كلام. وإذا أتينا على ما هو المنقول عن أرباب هذه المذاهب في هذه المسألة ؛ فلا بد من الإشارة إلى طرق عول عليها بعض الأصحاب في المسألة ، والتنبيه على ضعفها ، ثم نبين بعد ذلك ما هو المعتمد إن شاء الله ـ تعالى. فمنها : التمسك بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] ، ووجه الاحتجاج به أنه أخبر بأن مصدر جميع المخلوقات أمره ، وهو قوله : (كُنْ) ، ويلزم من ذلك أن يكون أمره قديما ، وإلا لاستدعى أمرا آخر ، والكلام في ذلك الأمر كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

٨٧

من أهل الضلال.

ونحن الآن نبتدئ بذكر طرق عول عليها العامة من المتكلمين في إثبات الكلام وننبه على مواضع الزلل فيها ، ثم نوضح بعد ذلك الأجود من الجانبين ، ونكشف عن مستند الطائفتين إن شاء الله.

فمن جملة ما اعتمد عليه أن قالوا : العقل الصريح يقضي بتجويز تردد الخلق بين الأمر والنهي ووقوعهم تحت التكليف ، فما وقع فيه التردد إما قديم أو حادث ، فإن كان قديما فهو المطلوب ، وإن كان حادثا فكل صفة حادثة لا بد أن تكون مستندة إلى صفة قديمة للرب تعالى قطعا للتسلسل ، وإذا كان ذلك وجب أن يستند تكليفهم إلى أمر ونهي هو صفة قديمة للرب ـ تعالى ـ.

وهذا ما لا يصح التعويل عليه ؛ وذلك أنه إما أن يدّعي أن الخلق جائز تكليفهم وترددهم بين الأمر والنهي من الخالق أو من المخلوق ، فإن كان الأول فهو عين المصادرة على المطلوب. وإن كان الثاني فغير مفيد ولا محد للمقصود ، ولا يلزم من كون ما وقع به التكليف من الأوامر والنواهي جائزا أن يستند إلى صفة قديمة ، أن تكون أمرا ونهيا ، حتى لا يكون أمر حادث إلا عن أمر ، ولا نهي إلا عن نهي. فإن افتقار الجائز في الوجود لا يدل إلا على ما يجب الانتهاء إليه والوقوف عليه ، ولا دلالة له على كونه أمرا أو نهيا ، ومن رام إثبات ذلك فقد كلف نفسه شططا.

ثم لو وجب ذلك لكان الباري تعالى متصفا بمثل كل ما وجد في عالم الكون والفساد من الكائنات وذلك محال.

ولهذا انتهج بعض الأصحاب في الإثبات طريقا آخر فقال : قد ثبت كون الباري ـ تعالى ـ عالما ومن علم شيئا يستحيل أن لا يخبر عنه ، بل العلم والخبر متلازمان ، فلا علم إلا بخبر ولا خبر إلا بعلم. وهو من النمط الأول في الفساد ، فإنه إن ادعى ذلك بطريق العموم والشمول في حق الخالق والمخلوق فهو نفسه مصادرة على المطلوب. ولا يخفى ما فيه من الركاكة والفهاهة ،

٨٨

وإن ادعى ذلك في حق المخلوق فقط فإنه ، وإن سلّم ، مع إمكان النزاع فيه ، فليس بحجة في حق الغائب ، على ما سلف.

ولربما وقع الاعتماد هاهنا أيضا على الطريق المشهور وهو أن الباري تعالى حي فلو لم يكن متصفا بالكلام لكان متصفا بضده وهو الخرس ، وذلك في الباري ـ تعالى ـ نقص. وقد نبهنا على ما فيه من الخلل ، وأشرنا إلى ما يتضمنه من الزلل ، فيما سلف فلا حاجة إلى إعادته.

ولما تخيل بعض الأصحاب ما في طي هذه المسالك من الزيف ، واستبان ما في ضمنها من الحيف ، جعل مستنده في ذلك جملا من الأحاديث الواردة من السنة ، وأقاويل الأمة ، وهي مع تقاصرها عن ذروة اليقين ، وانحطاطها إلى درجة الظن والتخمين ، من جهة المتن والسند ، فالاحتجاج بها إنما هو فرع إثبات الكلام ، إذ مستند قول الأمة ليس إلا قول الرسول ، والرسول لا معنى له إلا المبلغ لكلام المرسل ، فإذا لم يكن للمرسل كلام لم يكن من ورد الأمر والنهي على لسانه رسولا بل هو الآمر والناهي. سواء كان ذلك مخلوقا له أو لغيره على اختلاف المذاهب ، ولا يكون ذلك حجة. وصار كما في الواحد إذا أمر غيره أو نهاه. فإذا حاصل الاستدلال على ثبوت الكلام يرجع إلى ما الاحتجاج به فرع ثبوت الكلام. وهو دور ممتنع ، ولا حاصل له عند منكري النبوات وجاحدي الرسالات.

فإذا ما هو أقرب إلى الصواب في هذا الباب ، إنما هو الاعتماد على ما وقع عليه الاعتماد أولا ، من إثبات الصفات السابقة. ثم كيف لا يكون له كلام ، وبه يتحقق معنى الطاعة والعبودية لله ـ تعالى ـ ؛ فإن من لا أمر له ولا نهي له لا يوصف بكونه مطاعا ولا حاكما. وبه أيضا يتحقق معنى التبليغ والرسالة ؛ فإنه لا معنى للرسول إلا المبلغ لكلام الغير ، فلو لم يكن لله تعالى كلام وراء كلام الرسول المخلوق فيه ـ إما له عندهم ، أو لله تعالى على أصلنا ـ لما صح أن يقال إنه مبلغ ولا رسول ، ولكان كاذبا في دعواه : إني

٨٩

رسول الله رب العالمين فيما أمرت به ونهيت. وذلك كالواحد منا ، إذا أمر غيره أو نهاه ، ولم يكن مبلغا عن الغير ، فإنه لا يسمى رسولا. وذلك لازم في حق المعترف بالنبوات ، المصدق بالرسالات ، لا محالة. وإذا تحقق ما ذكرناه ، فلا بد من الإشارة إلى الكشف عما يختص بهذا الطرف من شبه الجاحدين ومعتمد المعطلين.

أما الفلاسفة ، فإنهم قالوا : ما ذكرتموه من الطريقة في إثبات الكلام ، فإنه متوقف على التصديق بكبراها. وبم الرد على منكرها ، والجاحد لصدقها في نفسها والذي يدل على كذبها في نفسها أنه لو كان لله كلام لم يخل إما أن يكون من جنس كلام البشر أو ليس : فإن كان من جنس كلام البشر فهو محال ، وإلا لزم أن يكون مشاركا لكلام البشر في جهة الإمكان والعرضية ، ويلزم أن يكون الباري تعالى محلا للأعراض وهو متعذر. ثم إن كان من جنس كلام البشر ، فإما أن يكون من جنس كلام اللسان ، أو مما في النفس ، فإن كان من جنس كلام اللسان فإما أن يكون بحروف وأصوات ، أو لا بحروف ولا أصوات ، أو صوت بلا حرف ، أو حرف بلا صوت.

لا جائز أن يقال بالأول ، إذ الصوت لا يكون إلا عن اصطكاكات أجرام ، والحروف هي عبارة عن تقطيع الأصوات ، وذلك يستدعي أن يكون الباري جرما ، وهو ممتنع. ولا جائز أن يقال بالثاني ، وإلا فهو خارج عن جنس اللسان ، فإن كلام اللسان عبارة عن الأصوات مقطعة ، دالة بالوضع على غرض مطلوب. وعلى هذا يمتنع تفسيره بالثالث والرابع أيضا. ثم كيف يكون الكلام حروفا بلا أصوات ، وليست الحروف إلا عبارة عن تقطيع الأصوات؟ أو كيف يكون الصوت كلاما من غير حرف ، وكيف يقع الافتراق بينه وبين هبوب الرياح ، ودوي الرعود ، ونقرات الطبول ، ونحوه؟

هذا إن قيل : إنه من جنس كلام اللسان ، وإن قيل : إنه من جنس ما في النفس ، فذلك لا يسمى كلاما ، ولو سمي كلاما ، فالمعقول من كلام النفس

٩٠

ليس خارجا عن القدرة والإرادة والتمييز الحاصل للنفس الحيوانية ، والحواس الباطنية ، وذلك كما تتصوره القوة الخيالية من شكل الفرس عن شكل الحمار ونحوه. وما تتصوره القوة الوهمية للشاة من المعنى الذي يوجب نفرتها عن الذئب ونحوه ، أو التمييز الحاصل للنفس الناطقة الإنسانية بالقوة النظرية التي بها إدراك الأمور الكلية بالفكرة والروية ، وذلك كتصورنا معنى الإنسان ، من حيث هو إنسان ، وكحكمنا عليه بأنه حيوان ، ونحوه.

فإن أريد به القدرة أو الإرادة فذلك غير مباين لما أثبتموه أولا. وإن أريد التمييز والتصور الحاصل للنفس الحيوانية أو النفس الإنسانية. فذلك أيضا غير خارج عن قبيل العلوم ، كيف وأنه متعذر أن يراد به التمييز الحاصل بالحواس الباطنية ، فإن إدراكها لذلك لا يكون صادقا ، إلا بأن تنطبع أولا الصورة المحسوسة الخارجية في إحدى الحواس الظاهرة الخمسة ، ثم بتوسطها تنطبع في الحس المشترك ، وهي القوة المرتبة في مقدم التجويف الأول من الدماغ ، على نحو انطباع الصور في الأجرام الصقيلة المقابلة ، ثم بتوسطها في المصورة ثم في المفكرة ثم في الوهمية ثم في الحافظة. وبعض هذه القوى وإن لم يفتقر في الانطباع إلى حضور المادة ، كما في المصورة والمفكرة والوهمية والحافظة ، فهي بأسرها لا تنفك عن الانطباع عن علائق المادة ، وأن إدراكها لا يكون إلا بانطباع الأشكال ، والصور الجزئية القابلة للتجزؤ. وانطباع ما يقبل التجزؤ لا يكون إلا فيما هو قابل للتجزؤ ، والبارئ يستحيل أن يكون متجزئا. وأما إن أريد به غير هذا فهو تفسير له بما ليس بمعقول. وإن قيل إنه ليس من جنس كلام البشر فهو أيضا غير معقول ، وما ليس بمعقول كيف نسلم كونه كمالا للرب تعالى وأن عدمه نقصان.

وقولكم : إنه لو لم يكن له أمر ولا نهي لما تحقق معنى الطاعة لله ـ تعالى ـ ولما صحت الرسالة فليس كذلك ، بل صحة ذلك تستند إلى التسخير على وجه الطواعية ، والإذعان على وفق الإرادة والاختيار ، فإن تسخيره

٩١

للمخلوقات ، وإبداعه للكائنات بلا آلات ولا أدوات ، ولا أدوات ، وتقليب الخلائق بين أطوار المرغبات والمنفرات على وجه الطواعية ، حالة تنزل منزلة القول بالأمر والنهي. حتى لو عبر عن تلك الحالة بالقول كان ذلك أمرا ونهيا. وإليه الإشارة بقوله تعالى ، (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] وليس ذلك عبارة إلا عن الانقياد والاستسخار ، إذ يتعذر أن يكون ذلك خطابا في حق السماء أو قولا لها. ولذلك قد يشتد صفاء بعض الناس بحيث يقرب اتصالها بالعقول الكروبية والنفوس الروحانية ، بحيث يطلع على الأشياء الغيبية من غير واسطة ولا تعلم ، يسمع من الأصوات ويرى من الصور ما لا يراه من ليس من أهل منزلته من البشر على ما يراه النائم في منامه ، فتكون حالته إذ ذاك نازلة منزلة ما لو أوحي إليه بأن الأمر الفلاني كذا وكذا. ولا مشاحة في الإطلاقات بعد انكشاف غور المعنى.

وأما المعتزلة : فإنهم لم يخالفوا في كون الباري تعالى متكلما ، وفى أن له كلاما ، ولكنهم قالوا : معنى كونه متكلما وأن له كلاما أنه فاعل للكلام ، وذلك صفة فعلية لا صفة نفسية. ثم كيف يكون متكلما ، بمعنى قيام الكلام به؟ ولو كان كذلك فالكلام لا محالة مشتمل على أمر ونهي ، وخبر واستخبار ونحوه ، وهو إما أن يكون قديما أو حادثا : فإن كان قديما أفضى إلى إثبات قديمين وهو ممتنع كما سلف ، ثم إنه يفضي إلى الكذب في الخبر من قوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [نوح : ١] وقوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) [البقرة : ٥٤] وقوله : (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ) [الصف : ١٤] ، ونحو ذلك ؛ من حيث إن الخبر قديم والمخبر عنه محدث. ويلزم منه أن يكون أمر ونهي وخبر واستخبار ولا مأمور ولا منهي ولا مستخبرا عنه ، وذلك كله ممتنع وإن كان حادثا لزم أن يكون الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث وهو محال.

وأيضا فإن الأمة من السلف والخلف مجمعة على كون القرآن معجزة

٩٢

الرسول ، والبرهان القاطع على صدقه ، وذلك يجب أن يكون من الأفعال الخارقة للعادات ، المقارنة لتحدي الأنبياء بالرسالات ، فإنه إن كان قديما أزليا لم يكن ذلك مختصا ببعض المخلوقين دون البعض ؛ إذ القديم لا اختصاص له. ولو جاز أن يجعل بعض الصفات القديمة معجزا لجاز ذلك على باقي الصفات كالعلم والقدرة والإرادة ؛ إذ الفرق تحكم لا حاصل له.

ومما يدل على أنه فعل الله تعالى ما ورد به التنزيل من قوله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء : ٢] وقوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [الأحزاب : ٣٧] وقوله : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزخرف : ٣] إلى غير ذلك من الآيات.

وأيضا فإن الأمة من السلف مجمعة على أن القرآن كلام الله ، وهو منتظم من الحروف والأصوات ، ومؤلف ومجموع من سور وآيات. ومن ذلك سمي قرآنا ، أخذا من قول العرب : «قرأت الناقة لبنها في ضرعها» أي جمعته ، ومنه قوله : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة : ١٧] ولو لا ذلك لما تصور أن يسمعه موسى ، وهو لا محالة قد سمعه. وهو مع ذلك مقروء بألسنتنا ، محفوظ في صدورنا ، مسطور في مصاحفنا ، ملموس بأيدينا ، مسموع بآذاننا ، منظور بأعيننا. ولذلك وجب احترام المصحف وتبجيله ، حتى لا يجوز للمحدث لمسه ، ولا القربان إليه. ولا يجوز للجنب تلاوته. وقد وردت الظواهر من الكتاب والسنة تدل على كونه مسموعا وملموسا وأنه بحرف وصوت ، فمن ذلك قوله سبحانه : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] وقوله : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة : ٧٩] وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو فتتناوله أيديهم» وقوله : «إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته كجر السلسلة على الصفا» ، وقوله عليه‌السلام «من قرأ القرآن وأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات» إلى غير ذلك من السمعيات.

٩٣

والجواب : أما إنكار صدق المقدمة الكبرى فقد أوضحنا بطلانه. وأما قولهم : إنه يستحيل أن يكون من جنس كلام البشر وإلا كان مشاركا له في العرضية والإمكان فقد سبق الجواب عنه بما فيه كفاية ، تغنى عن إعادته. وليس مرادنا من إطلاق لفظ الكلام غير المعنى القائم بالنفس ، وهو ما يجده الإنسان من نفسه عند قوله لعبده : ايتني بطعام أو اسقني بماء. وكذا في سائر أقسام الكلام. وهذه المعاني هي التي يدل عليها بالعبارات وينبه عليها بالإشارات ، وإنكار تسميته أو كونه كلاما مما لا يستقيم نظرا إلى الإطلاق الوضعي ، فإنه يصح أن يقال : في نفسي كلام ، وفي نفس فلان كلام ، ومنه قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) [المجادلة : ٨] ومنه قول الشاعر :

إن الكلام لفي الفؤاد ، وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وهذا الإطلاق والاشتهار دليل صحة إطلاق الكلام على ما في النفس. ولا نظر إلى كونه أصليا فيه أو فيما يدل عليه من العبارات أو فيهما ، كيف وإن حاصل هذا النزاع ليس إلا في قضية ، لغوية وإطلاقات لفظية ، ولا حرج منها بعد فهم المعنى.

ثم لا سبيل إلى تفسير ذلك المعنى بالإرادة ، ولنفرض الكلام في الأمر فإنها إما أن تكون الإرادة للامتثال ، أو لإحداث الصيغة ، أو لجعلها دالة على الأمر على ما هو مذهبهم : لا سبيل إلى القول بالأول. فإنه قد يؤمر بما ليس بمراد أن يمتثل وذلك كما في تكليف أبي جهل بالإيمان مع عدم إرادة وقوعه منه ، بل كما في حالة السيد المتوعد من جهة السلطان على ضرب عبده ، إذا اعتذر إليه بأنه يخالف أمره ، وأمره بين يدي السلطان طالبا بسط عدوه. وهربا من عذاب السلطان له ، فإنا نعلم أنه لا يريد الامتثال من العبد لما يلزمه من المحذور المتوقع من السلطان ، ومع ذلك فإنه ـ في نظر أهل العرف والوضع ـ آمر ، ويعد العبد بالامتثال مطيعا ، وبالإعراض عاصيا ، وبهذا يندفع قول القائل إنه متوهم بالأمر وليس بأمر.

٩٤

ثم إن من الأحكام التكليفية ما هو مأمور به ، بالإجماع من المعترفين بالتكاليف ، وذلك كالصلاة والحج ونحوهما من العبادات ، وقد لا يكون مرادا لكونه غير واقع. ولو كان مرادا فالإرادة عبارة عن : معنى يوجب تخصيص الحادث بزمان حدوثه ، فلو كان المعنى الذي يوجب تخصيصه بزمان ما متحققا لما تصور أن لا يوجد مطلقا ، ولا يمكن أن يقال بكونه غير مأمور ، لعدم تعلق الإرادة به ، إذ الأمة مجمعة على وجوب نية الفرضية في أول الصلاة مع جواز الاخترام في وسطها ، ولو لم يكن مأمورا بها وإلا لكان القصد الجازم إلى الفرضية من العالم بنفيها ، والمتشكك في وقوعها ، محالا. بل ومن عزم في أول الوقت على فعل الصلاة أو غيرها مما فرض من العبادات فالأمة أيضا مجمعة على أنه متقرب إلى الله تعالى ولو لم يكن مأمورا. وإلا لكان التقرب به إلى الله تعالى محالا.

ومما يدل عليه ما اشتهر من قصة إبراهيم ، من أمره بذبح ولده ، مع عدم تعلق الإرادة بوقوعه. وما قيل من أن ذلك كان مناما لا أمرا ، وأن تعلق الأمر لم يكن إلا بالعزم على الذبح ، أو الاتكاء وإمرار السكين ، أو أن الذبح مما وقع واندمل الجرح ، فمندفع ، إذ أكثر الوحي إلى الأنبياء إنما كان مناما. ولو لم يكن ذلك بطريق الوحي ، وإلا كان إقدام النبي على فعل محرم مما لا أصل له ، وذلك محال. وحمل الأمر على غير الذبح ، من العزم أو الاتكاء وإمرار السكين ، باطل. وإلا لما صح تسميته بلاء ، إذ لا بلاء فيه ، وتسمية الذبح بلاء لضرورة وقوع المأمور به. وبه يندفع القول بتحقيق وقوع الذبح أيضا.

كيف وأن تفسير الأمر بالإرادة ، مع التسليم بكون الباري آمرا بأفعالنا ، مما يستحيل على أصل المعتزلي ؛ لضرورة كونها مخلوقة لنا عنده ، وتعلق الإرادة بفعل الغير تمن وشهوة ، لا أنها إرادة حقيقية. وذلك على الله ممتنع. فقد بان أن مدلول صيغة الأمر ليس هو نفس إرادة الامتثال ، وكذا يمكن إيضاح سائر أقسام الكلام.

٩٥

ولا جائز أن تكون الإرادة لإحداث الصيغة ، فإنه ليس مدلولها ، ثم إن مدلولات أقسام الكلام مختلفة ، ولا اختلاف في إرادة إحداث الصيغة ، من حيث هو كذلك.

ولا جائز أن تكون الإرادة لجعل الصيغة دالة على الأمر فأنه تصريح بأن الإرادة وراء الأمر الذي هو مدلول قوله : أمرتك ، وأنت مأمور. ثم إن الألفاظ إنما هي دلائل وتراجم عن أشياء ، وكل ذي عقل سليم يقضي بأن قول القائل : أمرتك ونهيتك ليس ترجمة عن إرادة جعلها دالة على شيء مخصص.

وعند هذا فلا بد من العود إلى نفس مدلولها ، فإن كان نفس الإرادة فقد أبطلناه وإن كان غيرها فهو المقصود. كيف وأن الإنسان يجد من نفسه بقاء ما دلت عليه لفظة «أمرتك» من الطلب والاقتضاء ، وإن عدمت اللفظة ، وإرادة جعلها دالة على شيء ما؟ فقد امتنع بهذا تفسيره بالإرادة.

ولا سبيل إلى تفسيره بالقدرة ، إذ القدرة عبارة عن معنى يتأتى به الإيجاد بالنسبة إلى كل ممكن. والأمر والنهي لا يتعلق بكل ممكن ، فإذا القدرة أعم من الأمر والنهي من وجه. والأمر ـ عند القائلين بجواز التكليف بما لا يطاق ـ أعم من القدرة من جهة أخرى ، وهو تعلقه بالممكن وغير الممكن.

ولا سبيل إلى تفسيره بالعلم ؛ إذ العلم أعم من الأمر ، من حيث إنه قد يتعلق بما لم يتعلق به الأمر ، وبما يتعلق به الأمر. وكيف تكون حقيقة الأعم هي حقيقة الأخص؟ كيف وإن كل إنسان منصف يجد من نفسه لما يتلفظ به من العبارات الدالة مدلولات وراء كل ما يقدر من العلوم. فإذا قد لاح الحق ، واستبان ، وظهر أنه لا بدّ من معنى زائد على ما ذكروه ، هو مدلول العبارات والإشارات الحادثة ، وإن كان في نفسه قديما ، وذلك المعنى هو الذي يجده الإنسان من نفسه ، عند الإخبار عن أمور رآها أو سمع بها ، وعند قوله لغيره : افعل أو لا تفعل ، وتواعده له ووعده إياه ، إلى غير ذلك. وهو الذي

٩٦

يعنى بالكلام القائم بالنفس ، ولولاه لقد كان يعد المتكلم بهذه العبارات مجنونا ومعتوها.

وليس ذلك أيضا هو ما سموه أحاديث النفس التي هي تقديرات العبارات اللسانية وهو تحدث النفس باللغات المختلفة ، كالعربية والعجمية ونحوها ، فإن هذه الأمور لا يتصور وجودها مع عدم العبارات اللسانية ، كما في حق الأبكم ، وتلك المعاني التي عبرنا عنها بالكلام النفساني ، تكون لديه حاضرة عتيدة ، وذلك كما في الطلب والاقتضاء ونحوه ، وإن كان في نفسه أبكم لا تسوغ له عبارة ما ، حتى لو قررنا وجود العبارات في حقه لقد كانت مطابقة لما في نفسه ، كما كانت مطابقة لما في نفس غير الأبكم. ثم إن هذه العبارات والتقديرات غير حقيقة أي ليست أمورا عقلية ، بل اصطلاحية مختلفة باختلاف الأعصار والأمم ، ولهذا لو وقع التواضع من أهل الاصطلاح على أن يكون التفاهم بنقرات وزمرات لقد كان ذلك جائزا. ومدلولات هذه العبارات والتقديرات حقيقي ، لا يختلف باختلاف الأمصار ، ولا باختلاف الاصطلاحات ، بل المدلول واحد وإن تغيرت تلك الدلالات ، وتلك المدلولات هي التي يعبر عنها بالنطق النفساني والكلام الحقيقي ، وما سواه فليس بحقيقي.

هذا كله إن قلنا إنه من جنس كلام البشر ، وإن نزلنا الكلام على أنه غير مجانس له فقد سبق في تحقيقه ما يغني عن إعادته.

وأما ما أشاروا إليه من معنى الطاعة وتحقيق الرسالة فتمويه لا حاصل له ، وإلا للزم أن يكون كل تسخير بفعل شيء ما أمرا وتركه نهيا ، وأن يكون الانقياد إلى ذلك التسخير طاعة ، كان ذلك في نفسه عبادة أو معصية ، ولا يخفى ما في طي ذلك من المحال ، فإنه ليس كل ما يسخر به مأمورا ، ولا كل ما انقاد العبد إلى فعله يكون طاعة ، على ما لا يخفى وإذا كان الأمر على هذه المثابة لم يصح معنى التبليغ والرسالة عن الله ، اللهم إلا أن يكون له أمر

٩٧

ونهي على ما حققناه ، والمنهاج الذي أوضحناه.

وأما الانفصال عن قول المعتزلة : إن المتكلم من فعل الكلام. فهو أن الواحد منا لو تكلم بكلام مفيد ، فهو كلامه لا محالة. ولذلك يقال : تكلم ، وهو متكلم. وإذ ذاك فما جائز أن تكون جهة نسبته إليه هو كونه فاعلا ، وإلا لما كان متكلما من خلق الكلام فيه اضطرارا وذلك كما في حق المبرسم ، وكما في تسبيح الحصى ، وكلام الذراع المسموم ، ونحوه بل ويلزم على سياقه لمن اعترف منهم بأن أفعال العباد مخلوقة لله ـ تعالى ـ كالنجارية أن يكون الباري ـ تعالى ـ هو المتكلم بكلامنا لا نحن ، وذلك جحد للضرورة ومباهتة المعقول ، وهو غير مقبول.

ثم لو كان كذلك لوجب أن يكون الباري ـ تعالى ـ مصونا لكونه فاعلا للصوت ، إذ الكلام ـ على ما هو معتمد الخصم ـ مركب من الحروف والأصوات ، والصوت أعم من الكلام ، ولهذا صح عنده أن يقال : إن كل كلام صوت وليس كل صوت كلاما ، ومن ضرورة فعل الأخص فعل ما يندرج في معناه من الأعم. ويلزم أيضا أن يكون متحركا بما يفعله من الحركات ، ويسمى بكل ما ينسب إليه من التكوينات ، والقائل بذلك منسلخ عن ربقة العقول ، وليس له فيما يعتمده محصول. كيف وأن الصفة الحادثة لها نسبة إلى الفاعل ونسبة إلى المحل ، فنسبتها إلى الفاعل بأنه محدثها ونسبتها إلى المحل بأنها فيه ، وهما ـ لا محالة ـ معنيان مختلفان. وما نسب إلى الشيء بأنه فيه يقال بأنه موصوف به لا محالة ، حتى أن من قامت به حركة يقال : إنه متحرك ، وإن لم يخطر بالذهن كونه فاعلا أم لا. بل ونحكم عليه بذلك مع القطع بكونه غير فاعل لما قام به. وذلك مؤكد كما في حالة المرتعش ونحوه. وعند ذلك فكيف يصح أن يقال : إن ما نسبة الفعل إليه بالإحداث يكون موصوفا به؟ وكيف يؤثر الشيئان المختلفان في حكم واحد من كل جهة؟

ثم إن ما ذكرناه من أن قيام الصفة بالمحل يوجب اتصاف محله به يظهر

٩٨

فساد ما ذكروه في رسم المتكلم بأنه من فعل الكلام ، حيث إنه لم يكن شاملا لجميع مجاري المحدود ، والحد ـ والرسم ـ يجب أن يكون شاملا مطردا ، وإلا كان المحدود أعم من الحد وهو محال وأيضا فإنه لو كان المتكلم من فعل الكلام لوجب أن يكون المريد والقادر والعالم من فعل الإرادة والقدرة والعلم ، وليس كذلك بالإجماع ، ولو طالبهم مطالب بجهة الفرق لم يجدوا إلى ذلك سبيلا.

ثم إنه وإن تسومح في أن حقيقة مدلول اسم المتكلم ـ بالنظر إلى الوضع ـ من فعل الكلام فغير مفيد ، بعد التسليم لما أوضحناه ، والموافقة لما قررناه ، من أن المعنيّ بكونه متكلما قيام صفة نفسية به ، هي غير العلم والقدرة والإرادة ، وهي مدلول العبارات والمعني بالإشارات ، كيف وإن ذلك مما يجب تسليمه على موجب أصولهم؟ فإنهم قالوا : إن الكلام مركب من حروف منتظمة وأصوات مقطعة تتعاقب وتتجدد ، منها تكون الكلمة ، ومن تركب الكلمات الكلام ، ومحلها الذي تقوم به إنما هو اللسان ، والمعاني المفهومة منها محلها إنما هو القلب والجنان ، وإن من وجدت منه الأصوات والحروف بدون أن يكون لها عنده معنى في فهمه ، كانت معتوها مجنونا. وإن سمى ما يجري على لسانه كلاما فليس إلا بطريق التجوز والاستعارة. وعند ذلك فلو خلق الله تعالى كلاما مرتبا من حروف منظومة وأصوات مقطعة ، لم يخل إما أن يكون لها مدلول عنده أو ليس لها مدلول عنده : لا جائز أن يقال بأنه لا مدلول لها ، وإلا كان ذلك جنونا وسفها ، وإن كان لها مدلولا فيجب أن يكون غير العلم والقدرة والإرادة لما أوضحناه. وذلك هو المعني بكلام النفس.

ثم نقول : إذا قلتم إن الكلام فعل من أفعاله ، وإن معنى كونه متكلما أنه فاعل الكلام فما طريقكم في إثبات هذه الصفة الفعلية؟ وما دليلكم فيها؟ فإن قالوا : دليل وقوعها كونها مقدورة له تعالى. فيلزم أن يكون كل مقدور

٩٩

واقعا ، وأن لا يتأخر مقدور ما عن وجود القدرة ، ولا يخفى ما في طي ذلك من المحالات.

وإن قالوا : طريقنا في ذلك ليس إلا قول الأنبياء الذين دلت المعجزات على صدقهم ، وقد قالوا : إن الله تعالى متكلم بأمر ونهي وغيره.

قلنا : فلو لم يبعث الله رسولا ، فعندكم أنه يجب على العاقل معرفة الله تعالى معرفة تتعلق بالذات والصفات ، فكيف يعرف كونه متكلما ، وذلك لا يعرف إلا بالرسول ولا رسول؟ وهذا مما يلزمكم فيه المناقضة في أحد أمرين : إما في القول بإيجاب المعرفة بالعقل ، وإما في القول بأن المعرفة مناطة بالرسول ، كيف وأن الرسول على الحقيقة ليس إلا المبلغ لكلام الغير ، كما حققناه سالفا ، فلو لم يكن للباري تعالى كلام غير كلام الرسول وهو مدلول كلام الرسول ، وكلام الرسول عبارة عنه ، لم يكن بذلك رسولا كما تقرر.

وهذه المحالات كلها إنما لزمت من القول بأن المتكلم من فعل الكلام لا من قام به الكلام ، فقد بطل ما تخيلوه ، وانقطع دابر ما توهموه ، وظهر كون الباري متكلما بكلام قائم بذاته مختصا به كاختصاصه بباقي صفاته.

ويلزم من ذلك أن يكون قديما أزليا وإلا كان الباري ـ تعالى ـ محلا للحوادث ، وقد أبطلناه.

وما قيل من أنه يلزم منه الكذب فيما يتضمنه من الأخبار فحاصله يرجع إلى محض التشنيع ومجرد التهويل. وعند التحقيق تظهر مجانبته للذوق والتحصيل. ولئن سلكنا ما ذكره بعض الأصحاب من أن الكلام قضية واحدة. ولا يتصف بكونه أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا إلا عند وجود المخاطب واستكماله شرائط الخطاب ـ زال الشغب واندفع الإشكال. ولئن توسعنا إلى ما سلكه الإمام أبو الحسن الأشعري ـ رحمه‌الله ـ من أنه متصف فيما لم يزل بكونه أمرا ونهيا وخبرا إلى غير ذلك فغير بعيد أن يكون في نفسه معنى واحدا ، والاختلاف فيه إنما يرجع إلى التعبيرات عنه بسبب تعلقه

١٠٠