غاية المرام في علم الكلام

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

غاية المرام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4311-5
الصفحات: ٣٣٤

فإن كان ممكنا فليس خارجا على ما وقع به الفرض ، فبقى أن يكون واجبا بذاته لا محالة.

فهو لا محالة واجب بذاته ، وإلا لا فتقر إلى غيره ، وذلك الغير إن كان خارجا عن الجملة المفروضة ففيه إبطال الفرض ، وإن كان داخلا فيها ففيه توقف كل واحد على صاحبه وتقدمه بالذات ، وكل واحد من القسمين متعذر ، فقد تنخل من الجملة أنه لا بدّ من القول بوجوب وجود موجود ، وجوده لذاته لا لغيره.

فإنه قيل ما ذكرتموه فرع إفضاء النظر إلى العلم وجعله مدركا ، وبم الرد على من أنكر ذلك ولم يسوغ غير الحواس الظاهرة مدركا؟ كيف وهو متعذر من جهة المطلوب ، ومن جهة المبدأ ، أما من جهة المطلوب فهو أنه إما أن يكون معلوما أو مجهولا ، فإن كان معلوما فلا حاجة إلى طلبه ، وإن كان مجهولا فتمتنع معرفته عند الظفر به.

وأما من جهة المبدأ فهو أن كل مطلوب فلا بد له عند التعريف من مبادئ معلومة سابقة مناسبة ، وتلك المبادئ إما أن تكون بديهية أو مستندة إلى ما هو في نفسه بديهي ، قطعا للتسلسل الممتنع ، والبديهي لا معنى له إلا ما يصدق العقل به من غير توقف على أمر خارج عنه ، وهو ما لا حاصل له ، فإنه إما أن يكون حاصلا لنا في مبدأ النشوء أو بعده : لا جائز أن يقال بالأول ، فإنا كنا لا نشعر بها في مبدأ نشوئنا ، لو كانت حالة لما وقع عنها ، إذ هو متناقض. وإن قيل بالثاني : فإما أن يقال حصلت بالدليل أو بغير دليل ، فإن كانت بالدليل فليست بديهية ، وإن كانت من غير دليل فاختصاص حصولها بزمان دون زمان هو مما لا حاصل له.

وأما قولكم إن ما وجد بعد العدم لا بد وأن يكون وجوده لغيره وإلا لما كان معدوما قبل. فلو كان وجوده لغيره لم يخل : إما أن يكون ذلك الغير دائما علة ، أو حدث كونه علة ، فإن كان دائما علة وجب ألا يتأخر وجود

٢١

معلوله عن وجوده وأن لا يكون مسبوقا بالعدم. وإن حدث كونه علة فالكلام في تلك العلة كالكلام في معلولها وهلم جرا ، وهذا يؤدي إلى أن لا يكون معدوما ولا مسبوقا بالعدم وهو محال ، أو إلى علل ومعلولات لا تتناهى ولم تقولوا به.

وإنه لو افتقر الحادث في حال حدوثه إلى محدث لافتقر المعدوم في حال عدمه إلى معدم ، وهو ممتنع لأن ما اقتضى العدم : إما نفس ما اقتضى الوجود أو غيره ، لا جائز أن يكون نفسه ، فإن ما اقتضى وجود شيء لا يقتضي عدمه ، وإن كان غيره فذلك الغير إما واجب بذاته أو لغيره ، فإن كان واجبا بذاته أدى إلى اجتماع واجبين وهو محال كما سيأتي. كيف ويلزم أن يكون الشيء الواحد موجودا ومعدوما معا لتحقق ما يقتضي كل واحد منهما؟ وهو ممتنع. وإن كان واجبا لغيره فذلك الغير إما أن يكون هو نفس ما أوجب الحدوث أو غيره ، فإن كان نفسه فيستحيل أن يوجب بذاته ما يقتضي عدم ما يقتضيه وجوده بذاته ، وإن كان غيره فيفضي إلى اجتماع واجبين وهو متعذر.

وأيضا ، فإنه لو افتقر إلى موجد لم يخل إما أن يكون موجدا له في حال وجوده أو في حال عدمه ، فإن كان موجدا له في حال وجوده فهو محال ؛ إذ الموجود لا يوجد. وإن كان موجدا له في حال عدمه فهو محال أيضا ظاهر الإحالة. ولو سلمنا أن ما وجد بعد العدم لا بدّ وأن يكون وجوده بغيره لكن لا إفضاء له إلى إثبات واجب الوجود مع كون الخصم قائلا بعلل ومعلولات إلى غير النهاية.

وقولكم : إنه لو كانت العلل والمعلولات غير متناهية فكل واحد منها ممكن باعتبار ذاته. فبم الرد على من اشترط في ممكن الوجود أن لا يكون موجودا ، وأن الشيء مهما اتصف بالوجود فهو ضروري الوجود ، وضروري الوجود لا يكون ممكنا. فإن قيل له ممكن فبالاشتراك ، وليس هذا تسليم

٢٢

المطلوب ، فإن كون الشيء ضروري الوجود أهم من الضرورة الثابتة لذاته ، ومع التسليم بكونها ممكنة فما ذكرتموه ، في أن لا نهاية ، غير مستقيم : أما ما ذكرتموه في طرف التعاقب ، فغير مطرد ، وذلك أنا لو فرضنا حادثا بعد العدم فإما أن يقال : إن له قبلا كان فيه معدوما أو ليس : لا جائز أن يقال أنه لم يكن له قبل كان فيه معدوما ، وإلا لما كان له أول وهو خلاف الفرض. وإن كان له قبل هو فيه معدوم فذلك القبل إما موجود أو معدوم : لا جائز أن يكون معدوما وإلا لما كان له قبل ، إذ لا فرق بين قولنا : إنه لا قبل له ، وبين قولنا : إن قبله معدوم ، فبقي أن يكون موجودا ، ثم ما قبل يفرض إلا وهو مسبوق بقبل آخر إلى ما لا نهاية له على هذا النحو ، فإذا قد ثبت وجودات لا نهاية لأعدادها وإن كانت متعاقبة ، وكل واحد مسبوق بعدمه. وبه تبين كذب ما ذكرتموه من القياس. وأما معتمد القائلين بالإيجاد بالعلية فطريق الرد عليهم ما هو طريق لكم في الرد عليهم كما يأتي فيما بعد.

وأما ما ذكرتموه في طرف المعية ووجوب الانتهاء فيه إلى موجود وجوده لذاته. فذلك الموجود لا يخلو : إما أن يكون ممكنا أو ليس بممكن ، فإن كان ممكنا فهو من الجملة وليس بواجب ، وإن لم يكن ممكنا فما ليس بممكن ليس بواجب. وبهذا يندفع ما ذكرتموه في جانب الانتهاء إلى موجود هو مبدأ الموجودات أيضا.

والجواب : أما طريق إفحام المنكر لكون النظر مدركا أن يقال : نفي إفضاء النظر إلى العلم إما معلوم أو غير معلوم : فإن كان معلوما فإما أن يكون حصوله متوقفا على مدرك بعلم به أو ليس : فإن كان متوقفا فالمدرك إذا إما الحواس أو النظر : لا جائز أن يكون مدركه الحواس ؛ إذ هو غير محسوس ، فتعين أن يكون مدركه النظر. وإن لم يكن متوقفا على مدرك فهو بديهي ، لو كان بديهيا لما وقع الاختصاص به لطائفة دون طائفة ، كيف وأنه لو خل الإنسان ودواعي نفسه في مبدأ نشوئه ، مع قطع النظر عن النظر ، لم يجد في

٢٣

نفسه الجزم بذلك أصلا ، وكل ما ليس على هذه القضية من العلوم فليس ببديهي. وإن اكتفي في ذلك بمجرد الدعوى فقد لا تؤمن المعارضة بمثله في طرف النقيض ، وليس عنه محيص (١).

__________________

(١) أما على رأي الفلسفي : فلأنهم قالوا : لو فرضنا عللا ، ومعلولات لا نهاية لها ، فلنا أن نفرض الوقوف على الواحد منها ؛ فلو كان ما قبله فلا نهاية له ، فلو فرضنا زيادة متناهية على الجملة المفروضة ، ولتكن الزيادة عشرة مثلا. فالجملة الأولى : إما أن تكون مساوية لنفسها ـ مع فرض الزيادة المتناهية عليها ـ أو أزيد ، أو أنقص. القول بالمساواة ، والزيادة محال ؛ إذ الشيء لا يكون مع غيره ، كهو لا مع غيره ، ولا أزيد : فإن كانت الجملة الأولى ناقصة بالنظر إلى الجملة الثانية : فمن المعلوم أن التفاوت بينهما ؛ إنما هو بأمر متناه. وعند ذلك : فالزيادة لا بدّ وأن تكون لها نسبة إلى الباقي بجهة من جهات النسب على نحو زيادة المتناهي ، على المتناهي ، ومحال أن يحصل بين ما ليسا بمتناهيين النسبة الواقعة بين المتناهيين. وأيضا : فإنه إذا كانت إحدى الجملتين أزيد من الأخرى بأمر متناه ؛ فلنطبق بين الطرفين الأخيرين بأن نأخذ من الطرف الأخير من إحدى الجملتين عددا مفروضا ، ومن الأخرى مثله ، وهلم جرا. فإما أن يتسلسل الأمر إلى غير النهاية ؛ فيلزم منه مساواة الأنقص للأزيد في كلا طرفيه ؛ وهو محال. وإن قصرت الجملة الناقصة في الطرف الذي لا نهاية له ؛ فقد تناهت. والزائدة إنما زادت على الناقصة بأمر متناه ، وكل ما زاد على المتناهي بأمر متناه ؛ فهو متناه. إلا أن هذا مما لا يستقيم على موجب عقائدهم ، وتحقيق قواعدهم. حيث أنهم قضوا بأن كل ما له الترتيب الوضعي : كالأبعاد ، والامتدادات ، أو الترتيب الطبيعي ، وآحاده موجودة معا : كالعلل ، والمعلولات ؛ فالقول بعدم النهاية فيه ؛ مستحيل. وأما ما سوى ذلك ؛ فالقول بعدم النهاية فيه ؛ غير مستحيل. وسواء كانت آحاده موجودة معا : كالنفوس بعد مفارقة الأبدان ، أو هي على التعاقب والتجدد : كالأزمنة ، والحركات الدورية ؛ فإن ما ذكروه وإن استمر لهم فيما قضوا عليه بالنهاية ؛ فهو لازم لهم فيما قضوا عليه بعدم النهاية. وعند ذلك : فلا بد من بطلان أحد الأمرين : إما الدليل : إن كان اعتقاد عدم النهاية حقا. وإما اعتقاد عدم النهاية : إن كان الدليل حقا ؛ لاستحالة الجمع. وليس لما ذكره الفيلسوف المتأخر من جهة الفرق بين العلل والمعلولات ، والأزمنة والحركات ، قدح في الجمع. وهو قوله : إن ما لا ترتب له وضعا ، ولا آحاده موجودة معا ـ وإن كان ترتبه طبيعيا ـ فلا يمكن فرض جواز قبوله للانطباق ،

٢٤

وأما إن كان مجهولا غير معلوم فالجزم بنفيه متعذر ، لعدم الدليل المفضي إليه. وليس هذا مما ينقاس في طرف النقيض ، فإن من حصلت عنده المواد الصادقة المقترنة بالصور الحقة التي يتولى بيانها المنطق لم يجد في نفسه جحد ما يلزم عنها ، وذلك كعلمنا بأن الأربعة زوج لعلمنا بأنها منقسمة بمتساويين ، وكل منقسم بمتساويين فهو زوج كيف وأنا نجد من أنفسنا العلم بأمور كلية حصلت لنا بعد ما لم تكن ، ولو خلينا على أصل الفطرة من غير طلب لها لم نعلمها ، فلا بد لهما من مدرك موصل على الصفات التي كانت معلومة بالقوة ، عرف أنه مطلوبه لا محالة. أما أن يكون الطلب لما علم أو جهل مطلقا فلا.

وأما القضايا البديهية فهي كل قضية يصدق العقل بها عند التعقل لمفرداتها من غير توقف على مبدأ غيرها ، فعلى هذا حصولها لنا في مبدأ النشوء إنما هو بالقوة لا بالفعل ، وعدم حصولها بالفعل إنما كان لعدم حصول مفرداتها التي لا تحصل إلا بكمال آلة الإدراك ، فإذا حصلت المفردات عند كمال آلة الإدراك بادر العقل. إذ ذلك بالنسبة الواجبة لها من غير توقف أصلا. فعلى هذا لو يلزم من عدم حصولها لنا في مبدأ النشوء بالفعل أن تكون

__________________

ـ وفرض الزيادة والنقصان فيه بخلاف مقابله ؛ لأن المحصل يعلم : أن الاعتماد على هذا الخيال في تناهي ذوات الأوضاع ، وفيما له الترتيب الطبيعي ، وآحاده موجودة معا ليس إلا من جهة إفضائه إلى وقوع الزيادة والنقصان ، بين ما ليسا بمتناهيين ؛ وذلك إنما يمكن بفرض زيادة على ما فرض الوقوف عنده من نقطة ما من البعد المفروض ، أو وحدة ما من العدد المفروض. وعند ذلك : فلا يخفى إمكان فرض الوقوف على جملة من أعداد الحركات ، والنفوس الإنسانية المفارقة لأبدانها ، وجواز فرض الزيادة عليها بالتوهم مما هو من نوعها. وإذ ذاك فالحدود المستعملة في القياس المذكور في محل الاستدلال بعينها ، مستعملة في صورة الإلزام ، مع اتحاد الصورة القياسية من غير فرق ، انظر : الأبكار : (١ / ١٤٩).

٢٥

غير بديهية ، ولا من تأخرها أن تكون نظرية فبطل ما تخيلوه.

وأما ما ذكروه في امتناع افتقار الحادث إلى المحدث فإنما يلزم أن لو لم يكن مستنده القصد والإرادة بل الطبع والعلة ، وليس كذلك :

أما على الرأي الفلسفي القائل بالإيجاد بالعلية : فهو أن الأفلاك متحركة على الدوام لتحصيل ما لها من الأوضاع الممكنة لها على وجه التعاقب والتجدد ، طلبا للتشبه بمعشوقها والالتحاق بمطلوبها ، مقتضية للحركات الدورية بإرادات قديمة لأنفس الأحرام الفلكية ، وبتوسط الحركات وجدت التأثيرات كالامتزاجات والاعتدالات وغير ذلك من الأمور السفليات ، وقبول القابليات للصور الجوهرية والأنفس الإنسانية ، فإن ما لم يوجد منها إنما هو لعدم القابلية لانعدام الفاعلية ، إذ الفاعل إنما هو العقل الفعال الموجود مع جرم فلك القمر.

وأما الرأي الإسلامي :

فمصدر الحوادث بأسرها ومستندها إنما هو صانع مريد مختار اقتضى بإرادة قديمة وأنشأ بمشيئة أزلية كل واحد منها في الوقت الذي اقتضى وجوده فيه ، كما يأتي تحقيقه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فليس الموجد للحوادث محدثا حتى يفتقر إلى محدث ولا هو موجد لها إيجادا بالعلية أو الطبع حتى يلزم قدم ما صدر عنه بقدمه.

وقولهم : لو افتقر الحادث في حال وجوده إلى محدث لافتقر في حال عدمه إلى معدم.

قلنا : مهما كان الشيء في نفسه ممكنا فلا بد له من مرجح لأحد طرفيه أعني الوجود والعدم ، وإلا فهو واجب أو ممتنع ، فكما أنه في حال وجوده يفتقر إلى مرجح فكذا في جانب عدمه ، والمرجح للعدم هو المرجح للوجود ، لكن إن كان مرجحا بالذات عند القائلين به فعدمه هو المرجح للعدم لأنفس وجوده. وأما عند القائلين بالإرادة فيصح أن يقال : عدم المعدوم في حال

٢٦

عدمه مستند إلى عدم تعلق القدرة بإيجاده والإرادة بتخصيصه في ذلك الوقت ، ولا يلزم من ضرورة وجود القدرة والإرادة في القدم قدم ما يتخصص بها ، كما سنبينه فيما بعد.

ويحتمل أن يقال بإسناده إلى قدرة قديمة اقتضت عدمه ، وإرادة أزلية اقتضت تخصيص عدمه بذلك الوقت كما اقتضت تخصيص وجوده بوقت آخر والمرجح للطرفين واحد لا تعدد فيه وإن وقع التعدد في متعلقه كما سيأتي بعد.

وأما ما ذكروه من امتناع إحداث المحدث في حالي الوجود والعدم فلا يستقيم ، وذلك أن ما وجد بعد العدم ، إما أن يكون وجوده لذاته أو لغيره : لا جائز أن يكون وجوده لذاته ، وإلا ما كان معدوما ، فبقي أن يكون وجوده لغيره كما قررنا. والاقتضاء لوجوده ليس هو له في حال عدمه ، وإلا لما كان معدوما ، فليس الاقتضاء لوجوده إلا في حال وجوده ، لا بمعني أنه أوجده بعد وجوده ، بل بمعني أنه لو لا المرجح لما كان موجودا في الحالة التي فرض كونه موجودا فيها. وعند ذلك فلا التفات إلى من اعتاص هذا القدر على فهمه ، واعترضت عقله مرامي وهمه.

وأما اشتراط انتفاء الوجود عن ممكن الوجود فيتعذر جدا ، وذلك أن ممكن الوجود هو بعينه ممكن العدم ، فإن اشترط في ممكن الوجود أن لا يكون موجودا فليشترط في ممكن العدم أن لا يكون معدوما ، فإنه كما أن الخروج إلى الوجود يخرجه إلى ضرورة الوجود فالخروج إلى العدم يخرجه إلى ضرورة العدم. وذلك يفضي إلى أن لا يكون الممكن موجودا ولا معدوما وهو محال.

فإن قيل : إن العدم لا يخرجه إلى ضرورة الوجود بالمعنى المشروط دون المطلق فهو صحيح ، لكن لا منافاة بينه وبين الممكن.

وأما ما ذكروه من القبليات الغير المتناهية فمندفع ، وذلك أنهم إن فسروا القبلية بأمر زائد على عدمه كان عدمه فيها فغير مسلم ، بل لا معني

٢٧

لقبلية الشيء إلا أنه لم يكن فكان ، ومع هذا التفسير للقبلية فلا يتمهد ما ذكروه. كيف وأنه يستحيل القول بما ذكروه نظرا إلى ما أشرنا إليه من البرهان ، وأوضحناه من البيان ، في عدم حوادث لا تتناهى؟

وأما ما ذكروه في بيان استحالة القول بوجوب واجب الوجود نظرا إلى ثبوت الإمكان له ونفيه عنه فمنشأ الغلط فيه إنما هو من اشتراط لفظ الممكن ؛ إذ قد يطلق على ما ليس بممتنع وعلى ما لا ضرورة في وجوده ولا في عدمه ، فالاعتبار الأول أعم من الواجب بذاته ، والثاني مباين له. فعلى هذا إن قضي عليه بكونه ممكنا فليس إلا بالاعتبار الأول ولا يلزم نفي الوجوب لكونه أعم منه ، وإن سلب عنه الإمكان فليس إلا بالاعتبار الثاني ، ولا يلزم منه نفي الوجوب أيضا ، بل ربما كان الوجوب هو المعتبر أو الامتناع لا محالة ، نعم لو سلب عنه الإمكان بالاعتبار الأول أو أثبت له بالاعتبار الثاني لزم ألا يكون واجبا ، فقد تقرر كما أشرنا إليه أنه لا بد من القول بوجوب وجود موجود وجوده لذاته لا لغيره.

وهو حسبنا ونعم الوكيل.

٢٨

القانون الثاني

في إثبات الصفات وإبطال تعطيل من ذهب

إلى نفيها من أهل المقالات

ويشتمل على قاعدتين :

القاعدة الأولى

في مسألة إثبات الأحوال

وهو أنه لما كان النظر في الصفات النفسية قد تعلق نوعا من التعلق بالنظر في الصفات الحالية ، ولربما توصل بعض المتكلمين من الأصحاب والمعتزلة منها إلى إثبات الصفات النفسية ، فلا جرم وجب أن يقدم النظر في بيان الأحوال أولا ، فنقول :

ذهب أبو هاشم إلى القول بإثبات الأحوال ، ووافقه على ذلك جماعة من المعتزلة والكرامية ، وجماعة من أصحابنا كالقاضي أبي بكر ، والإمام أبي المعالي. ونفاها من عدا هؤلاء من المتكلمين.

وقبل النظر في تحقيق مذهب كل فريق ، يجب أن نعرف الحال ومعناها ، ليكون التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد ، من جهة واحدة ، ثم التعريف بما ذا (١)؟

__________________

(١) والحق عندي في ذلك متوقف على تلخيص محل النزاع ؛ ليكون التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد. فنقول : العلم بالنسبة الواقعة بين مفردات القضية ـ بعد تصور مفرداتها ـ قد يقال له ضروري ، بمعنى أن العلم بها غير مكتسب ولا مقدور ، وإن كان نظريا كما أسلفناه في القسم الثاني. وقد يقال : العلم بالنسبة ضروري ، أنه لا يتوقف بعد العلم بالمفردات على النظر والاستدلال. فإن كان الأول : فالقضية نظرية ، ولا منافاة بين كونها نظرية ، وبين كون العلم بها غير مقدور. وعلى هذا فلا يمتنع استناد مثل هذا الضروري الذي هو نظري إلى العلم النظري ، وإن كان الثاني : فالقول باستناد مثل هذا الضروري إلى العلم النظري : إما بمعنى أنه يستند إلى علم نظري خارج العلم بالمفردات ، أو نظري متعلق بالمفردات ، انظر الأبكار : (١ / ٢٩).

٢٩

قال بعض المتكلمين : ليس إلا بذكر أقسامها ومراتبها ، لا بالحد والرسم ، إذ الحد والرسم لا بد وأن يكون متناولا لجميع مجاري الأحوال ، وإلا فهو أخص منها ، والحد والرسم يجب أن يكونا مساويين للمحدود لا أخص منه ولا أعم ، وإلا يفضي إلى ثبوت الحال للحال ، من جهة أن الحد لا يتناولها إلا وقد اشتركت كلها في معني واحد ، وكل ما وقع به الاشتراك والافتراق من الذوات والمعاني فهو حال زائد عليها. لكن هذا القائل إما أن يفرق بين ما به تتفق الذوات وتفترق ، وبين ما به تتفق الأحوال وتفترق ، على ما يقوله القائل بالأحوال ، فإن عنده الذوات هي التي تتفق وتفترق بالأحوال. أما اتفاق الأحوال وافتراقها ليس إلا بذواتها كما يأتي ، أو أنه لا يعترف بالفرق : فإن اعترف فلا اتجاه لما ذكره. وإن لم يعترف بالفرق فليس ما أبطله بأولى مما عينه. فإنه كما يتعذر التعريف بالحد ، لما فيه من إثبات الحال للحال. كذا يمتنع التعريف بما ذكره ، إذ في ضرورة الاعتراف بالانقسام وقوع ما به الانقسام. وإن ما أشار إليه أشعر بجهل صناعة الحدود والرسوم.

وذلك أن ما ذكروه ، وإن اتجه في الحدود التي لا يستعمل فيها غير الذاتيات ، فهو غير متجه في الرسوم ، من جهة أن المقصود من الرسم ليس إلا تمييز الشيء عما سواه ، تمييزا غير ذاتي. والتمييز كما يحصل بالخواص الوجودية الثابتة للشيء المرسوم دون غيره ، كذلك قد يحصل بالسلوب المختصة به دون غيره. وإذ ذاك فلا يلزم ثبوت الحال إذا ما عرفت بها ؛ إذ الحال صفة إضافية ، والسلب المحض ليس بثبوتي. فعلى هذا إن عرفت الحال بأمر سلبي ، وخاص عدمي ، كان التعريف صحيحا ، ولم يكن ما ذكروه متجها. وذلك ممكن لا محالة ؛ فإنه لا مانع من أن يقال : الحال عبارة عن صفة إثباتية لموجود غير متصفة بالوجود ولا بالعدم ؛ فإن ما تخيل كونه صفة زائدة على المرسوم ليس إلا أمرا سلبيا ، ومعنى عدميا ، وهو سلب الوجود والعدم.

وأما ما سوى ذلك فليس بزائد على نفس المرسوم ، ولا هو كالصفة له

٣٠

أصلا. وهو على نحو قولنا في واجب الوجود : إنه الوجود الذي لا يفتقر إلى غيره ، في وجوده ، فإن ما به التمييز في واجب الوجود : إنه الوجود الذي لا يفتقر إلى غيره ، في وجوده ، فإن ما به التمييز ليس إلا سلب الافتقار إلى الغير لا غير. وأما مدلول اسم الوجود فإنه لا يستدعي ـ من جهة أخذه في الرسم ـ أن يكون صفة داخلة في المرسوم ، ولا زائدة عليه خارجة عن معناه. بل لو كان هو نفس الذات المرسومة كان الرسم ـ بالنظر إلى الصناعة الرسمية ـ صحيحا.

وعند هذا فلا بد من الإشارة إلى أقسامها. وهى تنقسم إلى معللة وإلى غير معللة :

فأما المعللة منها فهي كل حكم يثبت للذات بسبب معنى قام بالذات ، ككون العالم عالما والقادر قادرا ونحوه. وقد زاد أبو هاشم ، ومن تابعه من المعتزلة في ذلك ، اشتراط الحياة. فعلى مذهبه إيجاب الأحوال المعللة ليس إلا للصفات التي من شرطها الحياة ، كالعلم والقدرة ونحوه. وأما ما لا تشترط فيه الحياة من الصفات فلا ، وذلك كالسواد والبياض ونحوه. والمستند له في الفرق أن ما من شرط الحياة ، كالعلم ونحوه ، إنما يتوصل إلى معرفته من معرفة كون ما قام به عالما ، ولا كذلك السواد والبياض ، فإنه مشاهد مرئي ، فلا يفتقر إلى الاستدلال عليه ، وبكون ما قام به أسود وأبيض ، فلهذا جعل علة ثم ، ولم يجعل علة هاهنا.

والمحقّق يعلم أن التوصل إلى معرفة وجود الشيء من حكمه ، أو ما يلزمه من الآثار إنما هو فرع كونه مؤثرا له وملزوما ، فإذا يجب جعله علة من ضرورة معنى لا يتم إلا بالنظر إلى عليته. ثم إن الحركة قد تكون طبيعية وليس من شرطها الحياة ، وقد تكون إرادية من شرطها الحياة ، ولا محالة أن نسبة الحركة الطبيعية إلى كون المحل متحركا كنسبة الحركة الإرادية إلى كون المحل متحركا ، فيما يرجع إلى المعرفة والخفاء ، ومع هذا فقد جعلوا الحركة الإرادية

٣١

علة كون المحل متحركا ، ولا كذلك الحركة الطبيعية ، فهل الفرق إلا تحكم؟.

فإذا قد بان أنه لا وجه للفرق ، وهو الرأي الحق ، وإليه ذهب القائلون بالأحوال من أصحابنا. هذا تمام الكلام في القسم الأول.

وأما الحال الغير المعللة :

فهي كل صفة تثبت للذات غير معللة بصفة زائدة عليها ، كالوجود واللونية ونحوها. فهذه أقسام الأحوال.

وهل هي عند من أثبتها معلومة بانفرادها ، أو مع غيرها.

قال أبو هاشم ومن تابعه من المعتزلة : إنها لا تعلم إلا مع الذوات ، من حيث إن العلم إنما يتعلق بطريق الاستقلال ـ عندهم ـ بما هو في نفسه ذات ، والدوات ثابتة في العدم ، والأحوال متجددة.

وأما من قال بها من أصحابنا ، فإنه لم يمنع من تعلق العلم بها على انفرادها. ولعل مستند الاختلاف ، في الاشتراك وعدمه ، إنما هو بالنظر إلى الحقيقة والثبوت. فرب من وقف تعلق العلم بها على الذوات نظر إلى جهة الثبوت ، والآخر إلى جهة الحقيقة ، إذ هي غير إضافية. وكل منهما إذ ذاك مصيب فيما يقول. أما إن كان توارد النفي والإثبات على جهة واحدة من هاتين الجهتين فلا محالة أن المثبت لهذا الاشتراط يكون مصيبا بالنظر إلى الثبوت مخطئا بالنظر إلى الحقيقة ، والثاني بعكسه.

وإذا عرف معنى الحال وأقسامها ، فيجب أن نعود إلى المقصود ، وهو الكشف عن مأخذ الفريقين ، والتنبيه على معتمد الطائفتين. وقد اعتمد مثبتوا الأحوال على الدلالة والإلزام :

أما الدلالة فهو أنهم قالوا : الذوات المختلفة كالسواد والبياض مثلا لا محالة أنهما متفقان في شيء وهو اللونية ، ومختلفان في شيء وهو السوادية والبياضية ، وليس ما به وقع الاتفاق ، هو ما به وقع الاختلاف ، وإلا كانا شيئا واحدا ؛ فإذا هما غيران هو المقصود.

٣٢

وأما ما اعتمدوه إلزاما ، فهو أنهم قالوا : القول بإنكار الأحوال يفضي إلى إنكار القول بالحدود والبراهين ، وأن لا يتوصل أحد من معلوم إلى مجهول. ولا سيما صفات الرب تعالى ؛ إذ منشأ القول بهما ليس إلا قياس الغائب على الشاهد. وهذا كله محال.

ومما اعتمدوا عليه ـ وهو محض الأحوال المعللة ـ أن قالوا : نحن نعقل الذات ثم نعقل كونها متحركة بعد ذلك ، وليس ذلك إلا حالا زائدا عليها ، وليس ذلك هو نفس الحركة ، فإنا نعقل المتحرك ونجهل قيام الحركة به ، ولو كان المتحرك وقيام الحركة بالمحل شيئا واحدا لاستحال أن تكون معلومة مجهولة معا.

والجواب ، أما ما ذكروه من الشبهة الأولى. فالكلام فيها على ما به الاشتراك والاختلاف يستدعي تفصيلا ، فنقول : قولهم إن السواد والبياض يشتركان في اللونية. فإما أن يراد به الاشتراك في التسمية ، أي أنه يطلق على كل واحد منهما أنه لون ، أو الاشتراك في مسمى اللونية. فإن أريد به الأول فهو خلاف أصلهم. ومع ذلك فإن الأسماء لا تكون صفات للذوات. ثم إن أريد به الثاني ، فمسمّى اللونية ، لا محالة ، ينقسم إلى كلي ، أي صالح أن يشترك فيه كثيرون. وإلى مشخص ، أي ليس له صلاحية أن يشترك فيه كثيرون. فالأول مثل اللونية الموجودة في الأذهان ، وتلك لا تحقق لها في الأعيان ، والثاني كهذا اللون ، وكذا كل ما يصح أن يشار إليه ، بسبب الإشارة إلى موضوعه. فعلي هذا إن أريد به اللونية المشخصة ، فإما أن يقال : إن ما ثبت للسواد من اللونية بعينها ثابت للبياض ، أو إن ما تخصص بكل واحد منهما غير الآخر : لا جائز أن يقال بالأول ، كما ذهب إليه مثبتو الأحوال ؛ إذ يلزم منه أن يتعدد المتحد أو يتحد المتعدد ، وكلا الأمرين محال. وإن قيل بالثاني فليس ذلك بحال ، ولا صفة زائدة على ذات السواد ، من حيث هو سواد ، بل هو داخل في الذات والحقيقة. ولهذا إن من أراد تعقل

٣٣

السواد ، لم يمكنه أن يتعلقه ، ما لم يكن قد عقل اللونية أولا ، وما لا تتم الذات إلا به ، وهو مقوم لها ، كيف يكون زائدا عليها؟

ثم كيف يكون لا موجودا ولا معدوما ، وهو مقوم للموجود ، والموجود لا يتقوم إلا بموجود؟ ثم ولو قدر كونه زائدا فالذوات إما أن تكون متماثلة دونه ، أو متمايزة ، فإن كانت متماثلة فتماثلها إن لم يكن بأنفسنا فبزائد ، وذلك يفضي إلى التسلسل ، من جهة أن الكلام فيما وقع به التماثل ثانيا كما في الأول وهو ممتنع. وإن كانت متمايزة ، فذلك أيضا إما لأنفسها ، أو بخارج عنها ، وكلاهما يجر إلى إبطال الحال. أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فمن جهة أن الذوات إما أن تكون متماثلة دونه أو متمايزة ، والكلام الأول بعينه عائد ، وهو محال. وإن أريد به اللونية العقلية المطلقة ، فتلك لا يتصور أن تكون صفة لما يتشخص من الذوات. ومعنى دخول جميع الشخصيات تحتها ليس إلا أن ما حصل في الذهن من معنى اللونية مطابق لما يحصل من معنى أي لون كان من أشخاص اللون ، من غير زيادة ولا نقصان. وعند هذا إن أريد باشتراك اللونية ، بين السواد والبياض ، هذا النحو من الاشتراك ، فلا إنكار بل هو الرأي الحق ، ولا مشاحة فيه.

وعند هذا فليس لقائل أن يقول ـ من نفاة الأحوال ـ : إن الاشتراك بين السواد والبياض ليس إلا في مجرد التسمية ؛ فإنا نحن ندرك الاشتراك في الجملة ، وإن قطعنا النظر عن التسميات والعبارات. ونشعر بالاشتراك ، وإن طاحت الاصطلاحات والإطلاقات ، فليس ذلك إلا بالنظر إلى قضية عقلية وصورة معنوية. كيف وأنا نعقل حقيقة الإنسان مطلقة ، ونعقلها شخصة؟ وليس تعقلها تعقلا كليا ، هو نفس تعقلها تعقلا شخصيا. ولهذا لو مات جميع أشخاص الإنسان الموجودة في الأعيان ، لم تبطل الحقيقة المطلقة الموجودة في الأذهان.

ثم لو قيل بذلك للزم منه إبطال القول بالحد والبرهان وأن لا يتوصل

٣٤

أحد من معلوم إلى مجهول ؛ وذلك أن الأشياء ، إما كلية وإما شخصية ؛ على ما عرف بالقسمة الحاضرة ، والحد والبرهان ليس إلا للأمور الكلية دون الشخصية. وذلك لأن الحد والبرهان ليسا من الأمور الظنية التخمينية ، بل من اليقينية القطعية ، والأمر الشخصي ما له من الصفات ليست يقينية ، بل هي على التغير والتبدل على الدوام ، فلا يمكن أن يؤخذ منه ما هو في نفسه حقيقي يقيني ، وهذا بخلاف الأمور الكلية. فعلى هذا ما قد بان أن من أراد بإطلاق الحال على ما يقع به الاشتراك ، على النحو الذي أشرنا إليه ، كان محقا. لكن لا ينبغي أن يقال : إنها ليست موجودة ولا معدومة. بل الواجب أن يقال : إنها موجودة في الأذهان ، معدومة في الأعيان. وأما من أراد به غير ما ذكرناه كان زائغا كان عن نهج السداد حائدا عن مسلك الرشاد.

وأما الكلام على ما به يكون الافتراق فهو أن يقال : ما به وقع الافتراق بين السواد والبياض إما أن يكون في مجرد التسمية ، كما في قولنا سوادية وبياضية ، وإما في مدلولهما : لا سبيل إلى الأول ، كما ذهب إليه نفاة الأحوال ، فإنا لو قطعنا النظر عن التسمية ، كما أشرنا إليه في جانب الاشتراك لقد كنا ندرك الافتراق لا محالة. فليس هو إذا إلا في قضية عقلية معنوية.

وإن كان الافتراق بنفس مدلول لفظ السوادية والبياضية ، فأما أن يكون ذلك هو نفس الذات المتميزة أو حاصلا فيها أو خارجا عنها : فإن كان الأول ، فالتمايز بين الذوات ليس إلا لأنفسها لا لأمور زائدة عليها. وكذلك إن كان القسم الثاني أيضا. وأن القسم الثالث فكيف يصح القول بأن كل ما وقع به الافتراق بين ذاتين فهو زائد عليها خارج عنها؟ والعقل صحيح يقضي بأن الافتراق بين بعض الذوات قد يكون بأمور لا يتم تعقل تلك الذوات إلا بعد تعقلها أولا. وذلك كما وقع به الافتراق بين الإنسان والفرس ، والجوهر والعرض ، وغير ذلك من الأنواع والأجناس المختلفة ، وإذ ذاك فلا يكون ما وقع به الافتراق خارجا ولا حالا زائدا. كيف وأنه إما أن تكون تلك

٣٥

الذوات متمايزة دونه ، أو غير متمايزة ، فإن كانت متمايزة ، فمن ضرورة تمايزها وقوع ما به التميز فإن كان ذلك أيضا حالا زائدا على الذات ، فالكلام فيه كالكلام في الأول ، وذلك يفضي إلى ما لا يتناهى وهو محال. وإن لم تكن متمايزة دونه فهي لا محالة متماثلة ومشتركة وما به التماثل والاشتراك ، على ما عرف من أصل القائل بالأحوال ، وحال زائد على المتماثلات. فعند هذا إما أن يكون التماثل فيما هو زائد على الذوات ، أو في نفس الذوات. فإن كان في زائد على نفس الذوات فلا بد أن تكون لا محالة متمايزة ، والكلام الأول بعينه لازم إلى غير النهاية. وإن كان ليس في زائد على نفس الذوات لزم أن لا يكون ما به التماثل حالا أو أن تكون الذوات بأسرها أحوالا. وهو خروج عن المعقول. وإبطال لتحقيق الأحوال أيضا ، إذ الأحول من الصفات التي لا قوام لها بأنفسها. دون ذوات تضاف إليها ، على ما عرف من مذهب القائل بالأحوال.

ثم إنه لو كان ما به يقع الاتفاق والافتراق بين الذوات حالا ، فلا محالة أن بين الأحوال اتفاقا وافتراقا ، إذ ليس كلها حالا واحدة. وعند ذلك فما يلزم في الذوات من الاتفاق والافتراق بعينه لازم في الأحوال ، وذلك يفضي إلى إثبات الحال للحال ، وذلك عندهم محال.

فإن قيل : إنما لم تثبت الأحوال لأحوال من جهة أن الأحوال صفات ، والصفات لا تثبت للصفات ، بخلاف الذوات. أيضا فإن ذلك مما يفضي إلى ثبوت الحال للحال إلى غير النهاية ، وهو محال. وليس يلزم من كون الاتفاق والافتراق بين الذوات ، لا يقع إلا بالحال أن يكون الاتفاق والافتراق بين الأحوال بالأحوال. وهذا كما نقول في حقائق الأنواع ، كالإنسان والفرس ونحوه. فإنها تشترك في الأجناس ونفترق بالفصول ، ولم يلزم أن تكون للأجناس وإن تعددت جنس ، فإن الجوهر والكم والكيف ، ومما وقع به الاشتراك بينهما من الوجود نحوه فليس بجنس لها. وكذا لم يلزم أن تكون

٣٦

للفصول وإن تعددت فصول ، وإلا أفضى إلى التسلسل وهو محال. فكما قيل في الأجناس والفصول فلنقل مثله في الأحوال. كيف وإن ما ذكرتموه من الإشكال راجع عليكم بالمناقضة والإلزام؟ فإنكم رمتم به نفي الأحوال ، بطريق العموم والشمول ، وذلك مع قطع النظر عن معنى يعم ، محال ، وهو بعينه اعتراف بالحال.

فالجواب :

أما ما ذكروه من امتناع قيام الصفات بالصفات فهو يرجع عليهم بالإبطال ، حيث أثبتوا الأحوال للأعراض وهي صفات ولم يتأبوا عن ذلك : فإن ما ذكروا من الفرق لا معنى له. وأما منع قيام الحال بالحال قطعا للتسلسل فليس هذا بأولى من إبطال الأحوال أصلا ورأسا ، قطعا للتسلسل. وهو أولى منعا للتحكم والتهجم بمجرد الدعوى من غير دليل.

وقولهم : إن الأجناس تتماثل بها الأنواع ، وما تتماثل به الأجناس لا يلزم أن يكون جنسا. فهو غلط ؛ فإن ما تماثلت به الأنواع لم يكن جنسا من حيث عمومه لها فقط ؛ فإن الإنسان والفرس قد يشتركان مثلا في السواد والبياض. ولا يقال إنه جنس لهما. فإذا الجنس هو مما تتماثل به الأنواع ويقال عليها قولا أوليا في جواب ما هو ، وذلك كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس. فعلى هذا إنما لم يكن ما وقع به الاشتراك بين الجوهر والعرض من الوجود وغيره جنسا لهما من حيث إنه لم يكن مقولا عليهما ، على النحو الذي ذكرناه ولهذا يفهم كل منهما دونه. ولو كان الجنس هو ما تتماثل به الحقائق المختلفة في الجملة ، لقد قلنا إن ما اشترك فيه الجوهر والعرض جنس لهما ، لكن لم يكن الأمر هكذا. وهذا بخلاف الأحوال فإنها إنما كانت أحوالا من حيث إنه وقع بها الاتفاق والافتراق ، وذلك بعينه متحقق في الأحوال. وإن كان اسم الحال لا يطلق إلا على ما به الاتفاق والافتراق بين الذوات فهو نزاع في التسمية لا في المعنى.

٣٧

وأما القول بأن الأنواع تتميز بالفصول ، وتمييز الفصول لا يكون بالفصول ، فنقول : إذا وقع الافتراق بالفصول ، فإما أن يقال هو نفس الأحوال ، أو الأحوال زائدة عليها : فإن قيل إنها نفس الأحوال التي بها يكون تميز الأشياء بعضها عن بعض فهو محال ، إذ الفصول داخلة في الحقائق ، أي لا تعقل حقائق الأنواع إلا بتعقلها أولا. وما لا يعقل الشيء إلا بتعقله أو لا فلا يكون صفة زائدة على الحقيقة على ما قررناه ، ومع كونه محالا فلم يتوصلوا إلى المطلوب إلا بتعيينه وهو ممتنع. وإن قيل إن الأحوال غير الفصول وإنها زائدة عليها فلا محالة أنه قد حصل التمييز بين [الأشياء] بالفصول لا بالأحوال.

وأما ما ذكروه في معرض الإلزام آخرا فإنما يلزم القائل من نفاة الأحوال : إن التماثل بين الذوات ليس إلا في مجرد الأسماء فقط ، أما على رأينا فلا. وبهذا يندفع قولهم إن إنكار الأحوال يفضي إلى حسم باب القول بالحد والبرهان.

وإما ما ذكروه من شبهة المتحرك والحركة وقولهم : إنا نعلم وجود الذات ثم نعلم كونها متحركة أو عالمة أو قادرة إلى غير ذلك فهو ، وإن كان صحيحا ، فالقول بأن علمنا بكون الذات متحركة أو عالمة غير قيام الحركة بها. وغير قيام العلم والقدرة بها ، هو موضع الخيال وحز الإشكال. بل ليس كون الشيء متحركا يزيد على قيام الحركة به ، ولا كونه عالما يزيد على قيام العلم به ، وكذلك في سائر أحوال الصفات. فإذا ما ذكروه ليس إلا مجرد استرسال بدعوى ما وقع الخلاف فيه. وهو غير معقول.

وإذا تحقق ما ذكرناه ، وتقرر ما مهدناه ، علم منه القول بنفي الأحوال ، إلا على ما أشرنا إليه من الاحتمال. ولقد كثرت طرق المتكلمين هاهنا في طرفي النفي والإثبات لكن آثرنا الإعراض عنها شحا على الزمان من التضييع فيما لا يتحقق به كبير غرض.

والله الموفق للصواب

٣٨

القاعدة الثانية

في إثبات الصفات النفسية (١)

__________________

(١) مذهب أهل الحق من الأشاعرة : أن الواجب بذاته قادرة بقدرة ؛ مريد بإرادة ، عالم بعلم ، متكلم بكلام ، سميع بسمع ، بصير ببصر ، حي بحياة ، وهذه كلها صفات وجودية ، أزلية زائدة على ذات واجب الوجود. وذهبت الفلاسفة ، والشيعة : إلى نفيها. ثم اختلفت الشيعة : فمنهم : من لم يطلق عليها شيئا من الأسماء الحسنى. ومنهم : من لم يجز خلوه عنها. وأما المعتزلة : فلم تفصيل مذهب في الصفات يأتي شرحه في كل مسألة على التفصيل. ونحن الآن نبتدئ بمعتمد المعطلة ، والتنبيه على وجه فساده ، ثم نذكر ما هو معتمد أهل الحق في ذلك فنقول : قالت النفاة : لو قدر له صفات وجودية ؛ زائدة على ذاته : فإما أن تكون كلها واجبة ، أو ممكنة ، أو البعض واجب ، والبعض ممكن. لا جائز أن يقال بالأول : إذ هي مفتقرة إلى الذات ، ضرورة كونها صفات الذات ، والمفتقر إلى غيره ، لا يكون واجبا لذاته. ولا جائز أن يقال بالثاني : وإلا لافتقرت إلى علة موجبة لها ، والعلة الموجبة لها : إما الذات ، أو غيرها. لا يمكن أن يكون الموجب لها الذات ؛ إذ الذات قابلة لها ، والقابل لا يكون هو الفاعل من جهة كونه قابلا ، وإن كان من جهتين ، فالجهات لا بدّ وأن تكون وجودية ؛ فإن نقيض الجهة ، لا جهة ، ولا جهة عدم ؛ فالجهة وجود ؛ والكلام في تلك الجهات : كالكلام في الأول ؛ ويلزم من التسلسل ، أو الدور الممتنع ؛ وهما ممتنعان. وإن كان الموجب لها غير الذات : فواجب الوجود مفتقر إلى غيره في إفادة كمالاته له ، ويلزم أن يكون مشروطا بالنظر إلى ذلك الغير ؛ وهو ممتنع. ثم ذلك الغير : إما أن يكون قديما ، أم محدثا. لا جائز أن يكون قديما ؛ إذ لا قديم عندكم سوى واجب الوجود ، وصفاته. وإن كان حادثا : فصفات واجب الوجود تكون حادثة ، ضرورة حدوث المحدث لها ؛ وهو غير قابل لحلول الحوادث في ذاته ؛ كما يأتي بعد. وإن كان الثالث : وهو أن يكون البعض منها واجبا ، والبعض ممكنا : فبطلان كل واحد منهما ؛ بما به بطلان القسمين الأولين ؛ فإذن واجب الوجود ؛ واجب من جميع جهاته ، وليس له صفات وجودية زائدة على ذاته ، ولا ما يوجب فيه تعددا ، ولا كثرة. وما يوصف به واجب الوجود فلا يخرج عن أن يكون من أسماء الذات : كقولنا : إنه ذات ، ووجود وماهية ، وشيء ، ومعنى ، ونحوه. أو من الصفات السلبية : كقولنا : إنه واجب : أي لا يفتقر إلى غيره في وجوده ، ونحوه. أو الإضافية : كقولنا : إنه جواد ، وعلة ، ومبدأ ،

٣٩

مذهب أهل الحق : أن الواجب بذاته مريد بإرادة ، عالم بعلم ، قادر بقدرة ، حي بحياة ، سميع بسمع ، بصير ببصر ، متكلم بكلام ، وهذه كلها معان وجودية أزلية زائدة على الذات. وذهبت الفلاسفة والشيعة إلى نفيها. ثم اختلفت آراء الشيعة فمنهم من لم يطلق عليه شيئا من الأسماء الحسنى ، ومنهم من لم يجوز خلوه عنها. وأما المعتزلة فموافقون للنفاة ، وإن كان لهم تفصيل مذهب في الصفات كما سيأتي.

ونحن الآن ، نبتدئ بمعتمد أهل التعطيل ، وننبه على وجه إبطاله ، ثم نذكر بعد ذلك ـ مستند أهل الحق ، فنقول :

قال النفاة : لو قدر له صفات فهي إما ذاتية أو خارجية : فإن كانت ذاتية ، فذات واجب الوجود متقومة بمبادئ زائدة عليها ولا يكون إذ ذاك واجب الوجود بنفسه. ثم إن تلك المبادئ إما أن تكون كلها واجبة أو ممكنة أو البعض واجب والبعض ممكن : فإن كانت كلها واجبة أفضى إلى الاشتراك في واجب الوجود. وهو ممتنع ، فإنا لو قدرنا وجود واجبين ، فإما أن يشتركا من كل وجه أو يختلفا من كل وجه أو يشتركا من وجه ويختلفا في آخر : فإن اشتركا من كل وجه فلا تعدد في واجب الوجود ، إذ التعدد والتغاير ـ مع قطع النظر عن التميز ـ محال.

وإن اختلفا من كل وجه ، فلم يشتركا في وجوب الوجود. وان اشتركا من وجه دون وجه فما به الاشتراك غير ما به الاقتران لا محالة وعند ذلك فما به الاشتراك ، إن لم يكن وجوب الوجود ، فليسا بواجبين ، بل أحدهما دون

__________________

ـ وخالق ، ومبدع ونحوه. وأما ما يخص المعتزلة ، والشيعة : فإنهم قالوا : لو كان له صفات وجودية زائدة على ذاته ؛ لم يخل : إما أن تكون هي هو ، أو هي غيره. فإن كانت هي هو ؛ فلا صفة له زائدة عليه. وإن كانت غيره ، فإما قديمة ، أو حادثة. فإن كانت قديمة : فالقدم أخص وصف الإلهية ؛ وذلك يفضي إلى القول بتعدد الآلهة ؛ وهو ممتنع ، انظر الأبكار : (١ / ١٨٥).

٤٠