غاية المرام في علم الكلام

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

غاية المرام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4311-5
الصفحات: ٣٣٤

جهة ، وخصوها بجهة فوق دون غيرها من الجهات ، لكن اختلفوا في الجهة فقالت الكرامية : إن كونه في الجهة كون الأجسام. وقالت الحشوية : في الجهة ليس ككون شيء من الحادثات. فهذه تفاصيل مذاهب أهل الأهواء وتشعبها في التشبيه تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

ونحن الآن مشمرون للكشف عن زيف مآخذهم ، وإبطال مذاهبهم :

وقد سلك بعض الأصحاب في الرد على هؤلاء طريقا شاملا فقال : لو كان الباري مقدرا بقدر ، مصورا بصورة ، متناهيا بحد ونهاية ، مختصا بجهة ، متغيرا بصفة حادثة في ذاته لكان محدثا ، إذ العقل الصريح يقضي بأن المقادير في تجويز العقل متساوية ، فما من مقدار وشكل يقدر في العقل إلا ويجوز أن يكون مخصوصا بغيره ، فاختصاصه بما اختص به من مقدار أو شكل أو غيره يستدعي مخصصا ، ولو استدعى مخصصا لكان الباري ـ تعالى ـ حادثا.

ولكن هذا المسلك مما لا يقوى ، وذلك أنه وإن سلم أن ما يفرض من المقادير والجهات وغيرها ممكنة في أنفسها ، وأن ما موقع منها لا بد له من مخصص ، لكن إنما يلزم أن يكون الباري حادثا أن لو كان المخصص خارجا عن ذاته ونفسه ، ولعل صاحب هذه المقالة لا يقول به ، وعند ذلك فلا يلزم أن يكون الباري حادثا ، ولا محتاجا إلى غيره أصلا.

فإن قيل : إن ما اقتضاه بذلك ليس هو بأولى من غيره لتساوي الجميع بالنسبة إليه من جهة الاقتصاد فهو ، محز التخيلات. ولعل الخصم قد لا يسلم تساوي النسبة من جهة الاقتضاء ، إلا أن يقدر أنه لا اختلاف بين هذه الممكنات ، ولا محالة أن بيان ذلك متعذر جدا. كيف وأنه يحتمل أن ينتهج الخصم في تخصيص هذه الصفات الثابتة للذات منهج أهل الحق في تخصيص سائر الممكنات ، وبه درء الإلزام ، فإذا الواجب التفصيل في إبطال مذاهب أهل الضلال.

وأول مبدوء به إبطال القول بكونه جوهرا ، فنقول :

١٦١

لو كان جوهرا لم يخل : إما أن يكون واجبا بذاته أو ممكنا أو ممتنعا ، لا جائز أن يكون ممتنعا وإلا لما وجد. ولا جائز أن يكون ممكنا وإلا لافتقر إلى مرجح خارج عن ذاته وهو ممتنع كما سلف. ولا جائز أن يكون واجبا لذاته وإلا لكان كل جوهر واجبا لذاته ، إذ حقيقة الجوهر من حيث هو جوهر لا تختلف ، وهذه المحالات إنما لزمت من فرض كون الباري تعالى جوهرا ، فليس بجوهر ، فإن «ما ليس» لا يلزم من فرضه محال.

فإن قيل : المعني بكونه جوهرا ليس إلا أن وجوده لا في موضوع ، وهذا القدر إما أن يكون ممنوعا أو مسلما ، فإن كان ممنوعا فقد أوجبتم افتقار واجب الوجود إلى غيره وهو ممتنع ، وإن كان مسلما فهو المقصود. وأما قولكم : إنه لو كان واجبا لكان كل جوهر واجبا ، للزوم الاشتراك في حقيقة الجوهرية ، فإنما يلزم أن لو لزم الاشتراك في حقيقة الجوهرية ، وما المانع من أن يكون جوهرا لا كالجواهر ، كما أنه ذات لا كالذوات؟ ثم وإن سلم أن الاشتراك في حقيقة الجوهرية واقع فيلزمكم مثله في سائر الموجودات ، لمشاركتها له في الوجود والذات. فإن قلتم : لم يكن واجبا من حيث هو موجود ولا من حيث هو ذات ، بل من حيث هو ذات مخصوصة ووجود مخصوص ، فاقبلوا منا مثله هاهنا ، وهو أنه لم يكن واجبا من حيث هو جوهر مطلقا ، بل من جهة كونه جوهرا مخصوصا.

والجواب : أن ما قيل من أن الباري جوهر يعني أن وجوده لا في موضوع ، فإن أريد بمدلول اسم الجوهر سلب الموضوع عنه فقط ، فذلك مما لا سبيل إلى إنكاره من جهة المعنى ، وإن كان إطلاقه من جهة الشرع والوضع خطأ ، وإنما محز الأشكال وموضع الخيال دعوى تخصيص سلب الموضوع بحقيقة الجوهر ، وجعل الباري ـ تعالى ـ جوهرا على النحو الموسوم من إطلاق لفظ الجوهر ، ولا محالة أن دعوى ذلك مما يقود إلى الإلزام الذي ذكرناه ويسوق إلى المحال الذي أسلفناه.

١٦٢

وما قيل : من أنه جوهر لا كالجواهر فتسليم للمطلوب من جهة المعنى ، وإنا لا ننكر كونه موجودا وحقيقة لا كالحقائق ، وإنما ننكر كونه مشابها لها. وعند ذلك فحاصل الخلاف إنما يرجع إلى مجرد إطلاق الأسماء ، ولا مشاحة فيها إلا من جهة ورود التعبير بها ، وأما ما ذكروه من الإلزام فإنما يتجه أن لو كان غير الباري ـ تعالى ـ مثليا من جهة ما ، وليس كذلك بل الاشتراك ليس إلا في التسمية ، بكون كل واحد منهما ذاتا ووجودا ، ومجرد الاشتراك في التسمية لا يوجب الاشتراك بينهما فيما يثبت لأحدهما ، وهذا بخلاف الجواهر فإنها من حيث هي جواهر متماثلة ، فما ثبت لواحد منها ثبت لما هو مماثل له أيضا.

فإن قيل : مثله فيما نحن فيه ، ولم يثبتوا لواجب الوجود من الحوادث مثلا ، فقد تركوا مذهبهم ، وعاد الخلاف إلى مجرد التسمية ومطلق العبارة ، والخطب فيه يسير كما مضى.

وأيضا فإنه لو كان جوهرا لم يكن القول بكونه مرجحا لغيره من الجواهر بأولى من العكس ، إذ لا أولوية لأحدهما ، لتحقق المماثلة بينهما.

فإن قيل : إنه مرجح لا من حيث هو جوهر ، بل من جهة ما اختص به من الصفات عن غيره.

قلنا : ما اختص به من الصفات إما داخلة في ذاته أو خارجة لازمة ، فإن كانت داخلة في ذاته فمن حيث ذاته لم يخالف غيره من الجواهر ، فإذا لا اختصاص. ثم يلزمهم القول بتركب ذات واجب الوجود ، ولا محيص عنه. وإن كانت خارجة عن ذاته ملازمة له فهي مفتقرة إليه في وجودها ، والمفتقر إلى الشيء لا يصلح أن يقوم ما هو نوع من ذلك الشيء.

فإن قيل : ما ذكرتموه لازم على أصلكم أيضا ، حيث اعتقدتم أن تخصيص الحدوث بإرادته والوجود بقدرته. وهذه الصفات إما أن تكون داخلة في ذاته فيلزم أن يكون مركبا ، وإن كانت خارجة لازمة فهي عرضية ،

١٦٣

والأعراض كيف تقوم الجواهر في وجودها وجنسها مفتقر إلى جنسها؟

قلنا : انقلاب هذا الإلزام مما لا يوجب على ما نعتقده مناقضة ولا إفحاما ، فأما لو سلكنا اعتقاد كونها داخلة في مدلول اسم الباري ، فهو نفس ما اعتقدناه وعين ما حققناه ، وسواء قلنا : إنها متعددة أو متحدة كما مضى. وإن سلكنا كونها خارجة عن مدلول اسمه وذاته فذلك أيضا مما لا يوجب محالا على أصلنا ، فإنا وإن قلنا إنها مفتقرة إليه ، على نحو افتقار الأعراض إلى ما تقوم به ، فلا نعتقد أن ذاته والمقوم لما قام بها جوهر حتى يلزمنا المحال ، لحكمنا بافتقار الجوهر في إيجاده إلى ما لا يتم وجوده إلا مفتقرا إلى ما هو من جنس الجوهر ، بل المعتقد أن ما قامت به هذه الصفات ليس من جنس ما هو مفتقر إليها ، وإذ ذاك فالإشكال مندفع عنا.

وإذا ثبت أنه ليس بجوهر لزم ألا يكون جسما ، فإنه مهما انتفى أعم الشيئين لزم انتفاء الأخص قطعا ، مع أن ما ذكرناه من المسالك في نفى الجوهرية ، وما يلزم عليها ووجوه الانفصال عنها ، يمكن إجراؤها بعينها هاهنا.

فإن قيل : ما نشاهده من الموجودات ليس إلا أجساما وأعراضا ، وإثبات قسم ثالث مما لا نعقله ، وإذا كانت الموجودات منحصرة فيما ذكرناه فلا جائز أن يكون الباري عرضا ، لأن العرض مفتقر إلى الجسم ، والباري لا يفتقر إلى شيء ، وإلا كان المفتقر إليه أشرف منه وهو محال ، وإذا بطل أن يكون عرضا بقي أن يكون جسما.

قلنا : منشأ الخبط هاهنا إنما هو من الوهم ، بإعطاء الغائب حكم الشاهد ، والحكم على غير المحسوس بما حكم به على المحسوس ، وهو كاذب غير صادق ، فإن الوهم قد يرتمي إلى أنه لا جسم إلا في مكان ، بناء على الشاهد ، وإن شهد العقل بأن العالم لا في مكان ، لكون البرهان قد دل على نهايته ، بل وقد يشتد وهم بعض الناس بحيث يقضي به على العقل ، وذلك كمن ينفر عن المبيت في بيت فيه ميت ، لتوهمه أنه يتحرك أو يقوم وإن كان عقله يقضي

١٦٤

بانتفاء ذلك. فإذا اللبيب من ترك الوهم جانبا ، ولم يتخذ غير البرهان والدليل صاحبا. وإذا عرف أن مستند ذلك ليس إلى مجرد الوهم فطريق كشف الخيال إنما هو بالنظر في البرهان ، فإنا قد بينا أنه لا بد من موجود هو مبدأ الكائنات ، وبينا أنه لا جائز أن يكون له مثل من الموجودات شاهدا ولا غائبا ، ومع تسليم هاتين القاعدتين يتبين أن ما يقضي به الوهم لا حاصل له ، ثم ولو لزم أن يكون جسما كما في الشاهد للزم أن يكون حادثا وهو ممتنع ، لما سبق.

وليس هو أيضا عرضا ، وإلا لافتقر إلى مقوم يقومه في وجوده ، إذ العرض لا معنى له إلا ما وجوده في موضوع ، وذلك أيضا محال. ولا يتطرق إليه العدم لا سابقا ولا لاحقا ، وإلا كان باعتبار ذاته ممكنا ولو كان ممكنا لافتقر في وجوده إلى مرجح كما مضى.

فإذا قد ثبت أن الباري ـ تعالى ـ ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض. ولا محدث ، بل أبدي لم يزل ، وسرمدي ، لا يزال. وهو مع ذلك لا تحله الحادثات ، ولا تقوم به الكائنات ، وللمتكلم في ذلك مسالك :

المسلك الأول :

هو أنهم قالوا : لو جاز قيام الحوادث بذات الباري ـ تعالى ـ لاستحال خلوه عنها ، وما استحال خلوه عن الحوادث فهو حادث ، والباري مستحيل أن يكون حادثا.

واعلم أن هذا المسلك ضعيف جدا ، وذلك أنه وإن تسومح بتسليم أن ما لا يخلو عن الحوادث حادث لكن لا يلزم من كون الباري ـ تعالى ـ قابلا للحوادث أن لا يخلو عنها.

فإن قيل : إن ما قبل شيئا من الحوادث فهو قابل لضده ، وضد الحادث حادث ، ومهما كان قابلا لضده فهو لا يخلو عن أحدهما ، فلو كان الباري قابلا للإرادة الحادثة لم يخل عنها أو عن ضدها ، ومهما لم يخل عن أحدهما ،

١٦٥

وهما حادثان ، لم يخل عن الحوادث ، وكذا الكلام في القول الحادث أيضا.

قلنا : الغلط إنما نشأ من الجهل بمدلول لفظ «الضد» ، وعند الكشف عنه يتبين الحق من الباطل ، الضدان في اصطلاح المتكلم : عبارة عما لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة ، وقد يكونان وجوديين كما في السواد والبياض ، وقد يكون أحدهما سلبا وعدما في الوجود والعدم ، فعلى هذا إن قيل : للإرادة ضد فليس ضدها إلا عدمها وسلبها ، وكذا في القول أيضا ، والعدم المحض لا يوصف بكونه قديما ولا حادثا ، ولا شاهدا ولا غائبا.

فإذا ليس كل ما هو ضد للحادث يكون حادثا. ثم ولو قدر أن ضد الإرادة والقول ليس إلا أمرا وجوديا فلا يلزم أن يكون حادثا ، بمعنى أن وجوده بعد العدم ؛ لكونه ضده حادثا ؛ بل جاز أن يكون قديما بمعنى أنه لا أول لوجوده ، لا بمعنى أن وجوده ليس بمعلول. ويكون منشأ وجوده نقضا لوجوده إلى عدمه ، وذلك المنشأ هو منشأ وجود ضده ، وهذا مما لا يتقاصر عن قول أهل الحق : إن منشأ عدم العالم في القدم إلى حين وجوده هو منشأ وجوده في وقت وجوده.

المسلك الثاني :

أنهم قالوا : لو قامت بذاته صفة حادثة ، لا تصف بها ، وتعدى إليه حكمها وذلك كالعلم ، فإنه إذا قام بمحل وجب اتصافه بكونه عالما ، وكذا في سائر الأعراض القائمة بمحالها ، وسواء كان المحل قديما أو حادثا ، إذ القول بالتفرقة بينهما محض جهالة ولبس فإنه لا فرق بين القديم والحادث فيما يرجع إلى كونه موصوفا قامت به صفة ، إلا فيما يرجع إلى الحدوث والقدم. وذلك مما لا أثر له. وإذا لزم عود حكم الصفة إليه بحيث يصح القول بكونه مريدا بإرادة وقائلا بقول فقد ثبت له ما لم يكن له أولا ، وذلك تغير وتبدل ، وإذا جاز عليه التغير استدعى مغيرا ، وذلك يفضي إلى كون الباري مفتقرا إلى غيره ، وهو متعذر.

١٦٦

قالوا : ولا يلزم على ما ذكرناه الخلق ، فإنه غير قائم بذاته ، إذ لا فرق بينه وبين المخلوق.

وهذا الطريق أيضا من النمط الأول في الفساد ، وذلك أن قائله ، وإن كان ممن يقول بالأحوال ، لكنه يعترف بكونها زائدة على الذات ، وحصول أمر زائد على الذات للذات مما لا يوجب افتقار الذات إلى غيرها ، وإن كان ذلك الشيء الحاصل حادثا. نعم غاية ما يقدر افتقار الحاصل إلى مرجح ، والمرجح لا يستدعي أن يكون خارجا عن الذات ، بل للخصم أن يقول : المرجح إنما هو الذات بالقدرة والمشيئة الأزلية ، كما كانت مرجحة الصفة الموجبة لهذا الحكم الحاصل. وهذا مما لا محيص عنه إلا بالتعرض إلى إبطال القول بكون الذات مرجحة بالقدرة والمشيئة بطريق آخر ، وفيه خروج عن خصوص هذا الطريق إلى ما هو مستقل بإفادة المقصود.

فإن قيل : إذا صلح أن تكون ذات واجب الوجود مرجحة بالقدرة والمشيئة جاز أن تجعل مرجحة لكل محدث ، إذ لا فرق بين الحادث والمحدث من حيث أنه لم يكن فكان ، وإن افترقا من حيث أن أحدهما صفة والآخر خارج ، وذلك مما لا يثير خيالا ، وإذا صلح أن يكون المرجح للمحدثات القدرة القديمة والمشيئة الأزلية فلا حاجة إلى الحادث الذي هو القول والإرادة.

قلنا : وهذا أيضا مما لا يثير غبارا على وجه الكلام ، وذلك أنه وإن قدر صلاحيته لإحداث المحدثات فلا يلزم أن لا يضاف إليه إحداث صفة في ذاته من كونه صالحا أن يحدث المحدثات ، وليس هذا في ضرب المثال ، إلا كما لو قال القائل إنه إذا كان صالحا لإيجاد الإنسان ينبغي ألا يكون موجد للفرس ، ولا يخفى ما فيه من الركاكة والشناعة.

وما قيل : من أنه لا فائدة في إيجاده فمتهافت أيضا ، فإنه مع ما فيه من الركاكة ومحض الدعوى ، والقول بوجوب رعاية الصلاح والغرض يلزم عليه

١٦٧

سائر المحدثات ، فإنه غير متقاصر في وجوده عنها ، فما هو الاعتذار عن إيجاد المحدثات هو الاعتذار عن إيجاد الحادثات.

فإن قيل : لم لم يقع الاكتفاء في إيجاد المحدثات بما استند إليه الحادث؟ كان ذلك محض مطالبة واسترشاد ، وخروجا عما وقع الشروع في الكلام بصدده ، وهو إبطال قيام الحوادث بذات الرب تعالى.

المسلك الثالث :

هو أنهم قالوا : إن كان قوله وإرادته من نوع أقوالنا وإرادتنا فما يحصل بقوله وإرادته وجب أن يحصل بأقوالنا وإرادتنا ، لكون الجميع من نوع واحد ، وحيث لم يحصل بأقوالنا وإرادتنا وجب أن لا يحصل بقوله وإرادته.

قالوا : ولا يصلح أن يفرق بأن أقواله وإرادته حاصلة بالقدرة القديمة والمشيئة الأزلية ، ولا كذلك أقوالنا وإرادتنا ، فإن هذا في الحقيقة لا يصلح أن يكون فرقا ، إذ الفرق بين الشيئين يجب أن يكون بأمر يعود إلى نفسيهما لا إلى نسبتهما. وإن قيل : إن الإيجاد إنما يحصل بالإرادة أو القول مع القدرة ، فالقدرة كافية في الإيجاد فلا حاجة إلى غيرها. ثم لم لا جائز أن تحصل إرادتنا وأقوالنا مع ضميمة القدرة موجبة الإحداث أيضا؟ إذ لا فرق بين أن يضاف إلى القدرة قوله أو قولنا ، وإرادته وإرادتنا ، لكونهما من نوع واحد.

وهذا المسلك أيضا مما لا يقوى ، وذلك لأن ما نثبته نحن من الصفات القديمة للرب ـ تعالى ـ إن اعترفنا بأنها من نوع صفاتنا فالإلزام لخصومنا لازم علينا أيضا. وإن لم نقل بكونها من نوع صفاتنا فقد بطل الإلزام أيضا وإن قدر اشتراكهما في الحدوث. إذ ليس الاشتراك في شيء ما بين شيئين يوجب الاشتراك في الحقيقة كما لا يخفى. ثم ولو قدر امتناع إضافة المحدثات إلى الصفة الحادثة فذلك لا يوجب امتناع قيام الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ.

المسلك الرابع :

قالوا : لو جاز قيام الحوادث بذات الرب فلا بد أن يكون قاصدا لمحل

١٦٨

حدوثها ، ومحل حدوثها ليس إلا ذاته ، فيجب أن يكون قاصدا لذاته ، والقصد إلى الشيء يستدعي كونه في الجهة ، وهو محال ، ثم ولجاز قيام كل حادث به ، وهو متعذر.

وهذا المسلك أيضا مما يلتحق بما مضى في الفساد ، وذلك أنه إن أريد بالقصد العلم ، فذلك مما لا يوجب كون المقصود في الجهة ، وإن أريد به غير هذا فهو مما لا يسلمه الخصم. ثم إنه إن افتقر القصد عند إيجاد الحوادث إلى كونها في جهة ، فيلزم أن يكون القاصد أيضا في جهة ، لضرورة أن القصد إلى الجهة ممن ليس في جهة أيضا محال ، وذلك يفضي إلى كون الباري ـ تعالى ـ في جهة عند خلق الأعراض الخارجة عن ذاته ، ولا محيص عنه ، فما به الاعتذار هاهنا يكون به الاعتذار للخصم ثمّ. والقول بأنه إذا قبل حادثا لزم قبوله لكل حادث لا يخفى ما فيه من التحكم ومجرد الاسترسال مما ليس بمقبول ولا معقول.

وقد ذكر في هذا الباب مسالك أخر فسادها أظهر من أن يخفى ، فلذا آثرنا الإعراض عن ذكرها.

فالرأي الحق ، والسبيل الصدق ، والأقرب إلى التحقيق أن يقال : لو جاز قيام الحوادث به لم يخل عند اتصافه بها. إما أن توجب له نقصا أو كمالا أو لا نقص ولا كمال : لا جائز أن يقال بكونها غير موجبة للكمال ولا النقصان ، فإن وجود الشيء بالنسبة إلى نفسه أشرف له من عدمه ، فما اتصف بوجود الشيء له وهو مما لا يوجب فوات الموصوف ولا فوات كمال له ، وبالجملة لا يوجب له نقصا ، فلا محالة أن اتصافه بوجود ذلك الوصف له أولى من اتصافه بعدمه ؛ لضرورة كون العدم في نفسه مشروفا بالنسبة إلى مقابله من الوجود ، والوجود أشرف منه ، وما اتصف بأشرف الأمرين من غير أن يوجب له في ذاته نقصا تكون نسبة الوجود فيما يرجع إلى النقص والكمال على نحو نسبة مقابله من العدم. ولا محالة أن كانت نسبته إلى

١٦٩

وجود ذلك الوصف أشرف منه بالنسبة إلى عدمه ، ولا جائز أن يقال : إنها موجبة لكماله ، وإلا لوجب قدمها لضرورة أن لا يكون الباري ناقصا محتاجا إلى ناحية كمال في حال عدمها. فبقي أن يكون اتصافه بها مما يوجب القول بنقصه بالنسبة إلى حاله قبل أن يتصف بها ، وبالنسبة إلى ما لم يتصف بها من الموجودات ، ومحال أن يكون الخالق مشروفا أو ناقصا بالنسبة إلى المخلوق ، ولا من جهة ما ، كما مضى.

فإن قيل : لو لم يكن قابلا للحوادث فعند وجود المسموعات ، والمبصرات إما أن يسمعها ويبصرها أو ليس : لا جائز أن يقال إنه لا يسمعها ولا يبصرها إذ هو خلاف المذهبين ، وإن أبصرها وسمعها فلا محالة أن حصول ذلك له بعد ما لم يكن ، وإلا كانت المسموعات والمبصرات قديمة لا محالة. فلو لم يكن قابلا للحوادث حتى يخلق في ذاته سمعا وبصرا يكون به الإدراك ، وإلا لما كان مدركا ، وهو محال.

قلنا : دعوى إدراكه المدركات بعد ما لم يكن مدركا إما أن يراد به أنه لم يكن له إدراك فصار له إدراك ، أو يقال بقدم الإدراك وتجدد تعلقه بالمدرك : فإن قيل بالأول فهو محز الخلاف وموضع الاعتساف ، فما بال الخصم مسترسلا بالدعوى من غير دليل ، مع ما قد عرف أن من أصولنا كونه سميعا بصيرا فيما لم يزل ، والمتجدد ليس إلا تعلق الإدراك بالمدركات ، إذ شرط تعلق الإدراك بالمدركات وجود المدركات فإذا وجدت تعلق بها. أما أن يكون المتجدد هو نفس الإدراك فلا يخفى أن ما قضي بتجدده ليس صفة قائمة بذات الرب تعالى ، فتجدده لا يلزم منه محال.

وليس القول بوجود الإدراك مع عدم المدرك بمستبعد ، فإنه لا يتقاصر عن قول الخصم بأنّ ما يحصل به الإدراك من الصفة الحادثة في الذات يبقى وإن زالت المدركات وعدمت ، على ما عرف من أصله ، ومع الاعتراف بجواز الاتصاف بالإدراك ، وإن زال المدرك ، لا يرد الإشكال ؛ إذ لا فرق عند كون

١٧٠

الشيء مدركا مع عدم المدرك بين أن يكون المدرك قد تحقق له وجود أم لا ، على نحو ما حققناه في العلم.

وإذا ثبت امتناع قيام الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ فقد بنى بعض الأصحاب على ذلك امتناع كونه في الجهة ، وصيغته أن قال :

لو كان الباري في جهة لم تخل الجهة ، إما أن تكون موجودة أو معدومة ، فإن كانت معدومة فلا جهة ، إذ لا فرق بين قولنا : إنه في جهة معدومة وبين قولنا : إنه لا في جهة ، إلا في مجرد اللفظ ولا نظر إليه.

وأما إن كانت الجهة موجودة فهي إما قديمة أو حادثة ، لا جائز أن تكون قديمة ، وإلا أفضى إلى اجتماع قديمين ، وهو محال ، ومع كونه محالا فهو خلاف مذهب الخصم ، ولا جائز أن تكون حادثة وإلا كان الباري محلا للحوادث وهو محال.

ولا يخفى ما في هذا المسلك من التهافت ؛ فإنه وإن سلم أن الجهة موجودة وأنها ليست قديمة بل حادثة ، وأنه يستحيل قيام الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ فلا يلزم من كونه في الجهة ، ومن كونها حادثة ، أن تكون حالة في ذاته ، وأن تكون حاله في ذاته ، وأن تكون ذاته محلا لها ، بل المعني بكونه في الجهة عند الخصم غير خارج عن النسبة الإضافية ، والأمور التقديرية ، وذلك مما لا يوجب قيام صفة الذات ، إذ لا يلزم من كون شيئين وجود أحدهما مضاف إلى وجود الآخر من جهة ما أن يكون أحدهما قائما بالآخر أصلا ، وهو على نحو كونه خالقا ومبدعا وغير ذلك.

ولهذا لما تخيل بعض الأصحاب فساد هذا الطريق ، وانحرافه عن جادة التحقيق ، مر في القول بنفي الجهة إلى مسلك آخر ، وقال :

لو كان في جهة لم يخل : إما أن يكون في كل جهة أو في جهة واحدة ، فإن كان في كل جهة فلا جهة لنا إلا والرب فيها وهو محال وإن كان في جهة مخصوصة فإما أن يستحقها لذاته ؛ أو المخصص لا جائز أن يستحقها

١٧١

لذاته إذ نسبة سائر الجهات إليه على وتيرة واحدة ، فإذا لا بدّ من مخصص ، وإذ ذاك فالمحال لازم من وجهين :

الأول : أن المخصص إما أن يكون قديما أو حادثا ، فإن كان قديما لزم منه اجتماع قديمين ، وهو محال. وإن كان حادثا استدعى في نفسه مخصصا آخر ، وذلك يفضي إلى التسلسل ، وهو ممتنع.

الوجه الثاني : هو أن الاختصاص بالجهة صفة للرب ـ تعالى ـ قائمة بذاته ، ولو افتقرت إلى مخصص لكانت في نفسها ممكنة ، لأن كل ما افتقر في وجوده إلى غيره فهو باعتبار ذاته ممكن ، وذلك يوجب كون الباري ممكنا بالنسبة إلى بعض جهاته ، والواجب بذاته يجب أن يكون واجبا من جميع جهاته.

ولا يخفى ما في هذا المسلك من الاسترسال ، فإنه لا يلزم من كونه في جهة امتناع وجودنا فيها ، إلا على رأي من يزعم أن كونه في الجهة كون الأجرام ، وأما على رأي من لم يقل بذلك فلا. ولا ينافي وجوده ، في أي جهة قدر وجود غيره. بل وقول الخصم هاهنا لا يتقاصر عن القول بأنه لا منافاة بين وجود الجواهر والأعراض في حيز واحد ، مع أن الوجود لهما عيني ، وهما متحيزان وإن قدر أن التحيز للعرض عارض.

وما قيل : من أنه لو كان بجهة معينة لاستدعى مخصصا ، فذلك مما لا ينكره الخصم ، ولكن القول بأنه لو كان المخصص قديما لأفضى إلى اجتماع قديمين ، فإنما يلزم أن لو لم يكن المخصص هو نفس واجب الوجود ، أما إذا كان نفسه فلا كما حققنا ، فيما مضى. ولا يلزم من كون المخصص قديما أن يكون ما خصص به أيضا قديما ، إلا أن يكون مخصصا له بذاته ، وذلك مما لا يقول به الخصم ، بل تخصيصه به إنما هو على نحو تخصيص سائر المحدثات. واستدعاء المخصص إنما يلزم منه كون الباري واجبا من جهة وممكنا من جهة أن لو قيل بأن الاختصاص بالجهة صفة نفسية ، وليس كذلك ، بل لقائل أن

١٧٢

يقول : إنها صفة إضافية. وكون الصفة الإضافية تستدعي مخصصا لا يوجب أن يكون المضاف في نفسه ممكنا ، ثم ولو قدر أنه بالإضافة إلى بعض صفاته ممكن ، فالمحال إنما يلزم أن لو كان المرجح له من تلك الجهة أمرا خارجا عن ذاته ، وليس كذلك كما أوضحناه ، ولا محالة أن هذه القوادح مما يعسر الجواب عنها جدا.

فإذا الواجب أن يقال : لو كان الباري في جهة لم يخل : إما أن يكون متحيزا بها أو ليس ، فإن لم يكن متحيزا بها ، ولا هو مما تحيطه الأبعاد والامتدادات ، ولو هو واقع في مسامتة الغايات والنهايات ، فلا معنى لكونه فيها إلا من جهة اللفظ ولا حاصل له ، وإن كان متحيزا بها لزم أن يكون جوهرا ، فإن من نظر إلى ما هو قابل للتحيز بجهة من الجواهر علم أن قبوله لها إما لذواتها ولكونها جواهر أو لصفة قائمة بها ، وعلى كلا التقديرين يجب أن يكون الباري قابلا للتحيز باعتبار ما قبل به غيره التحيز من الجواهر ، فإنه أن قبله باعتبار أمر آخر فذلك الأمر الآخر أن يكون مخالفا للقابل من كل وجه أو من وجه دون وجه ، فإن كان مخالفا له من كل وجه فيستحيل أن يتفقا في قبول حكم واحد وتأثير واحد ، فإنه مهما لم يكن بين القابل والمقبول مناسبة طبيعية ، بها يكون أحدهما قابلا والآخر مقبولا ، وإلا لما تصور من المبدع اقتضاء قيام أحدهما بالآخر. لا بالإرادة ولا بالطبع ، كما لا يتصور منه اقتضاء قيام الجوهر بالعرض والسواد بالبياض والبياض بالسواد. وإذا لم يكن بد من المناسبة الطبيعية بين القابل والمقبول فالشيئان المختلفان من كل وجه إن قامت بأحدهما أي مناسبة طبيعية استحال أن يكون الآخر مناسبا له من تلك الجهة ، وإلا كان مماثلا له من جهة ما فيه من المناسبة هو خلاف الفرض وإن كان مخالفا له من وجه وموافقا له من وجه فلا بد وأن يكون القبول باعتبار ما به الاشتراك وإلا لزم المحال السابق ، وهو ممتنع.

وعلى هذا فإن كان قبول ما فرض قبوله للتحيز من الجواهر لذاتها

١٧٣

ولجوهرها لزم أن يكون الباري جوهرا ، وهو ممتنع لما مضى. وإن كان باعتبار صفة قائمة به وهو قابل لها ، فلا بد وأن تكون تلك الصفة قائمة بذات الرب ، لضرورة ما حققناه. وعند ذلك فقبول الجوهر لتلك الصفة إما لذاته أو لصفة أخرى فإن كان لصفة أخرى فإما أن يتسلسل الأمر إلى غير النهاية ، أو ينتهي إلى صفة قبولها ليس إلا لذات ما قامت به من الجوهر : لا جائز أن يقال بالأول لما فيه من الامتناع ، وإن قيل بالثاني لزم تناهي ذات واجب الموجود ، وذلك مع ما أوجبناه من الاشتراك في القابل ، يوجب جعل ذات واجب الوجود جوهرا لكون ما انتهى إليه قبول التحيز من الجواهر جوهرا ، لكن الباري ليس بجوهر كما سلف ، فليس في جهة.

وما يخيّل من الاشتراك في قبول الوجود وغيره من الصفات كالعلم والقدرة ونحوه بين الخالق والمخلوق ، مع اختلاف حقيقة القابل ، فمؤذن بقصور المتمسك عن بلوغ كمال آلات الإدراكات ، ومصوت عليه بعجزه عن الارتقاء إلى درجة النظر في المعقولات ، فإنه إن اعتقد أن الوجود نفس الموجود ، وأنه ليس بزائد عليه ، فلا يخفى أن الاشتراك ليس إلا في التسمية دون المعنى ، والإشكال إذ ذاك يكون مندفعا. وإن قدر أنه زائد على نفس الموجود فالواجب أن يعتقد اختلافه في نفسه عند اختلاف قوابله ، لما مهدناه ، أن لا يلفت إلى ما وقع به الاشتراك في الاسم ، وكذا في كل صفة يتخيل المشاركة فيها بين الخالق والمخلوق ، وأن لا يعول على من قصر فهمه وتبلد طبعه عن درك كل ما أشرنا إليه من التحقيق ، ونبهنا عليه من التدقيق.

فإن قيل : لا محالة أن كل شيئين قاما بأنفسهما ، بحيث لا يكون أحدهما محلا للآخر فإما أن يكونا متصلين أو منفصلين ، وعلى كلا التقديرين فلا بد وأن يكون كل واحد منهما بجهة من الآخر ، والباري والعالم كل واحد قائم بنفسه ، فإما أن يكونا متصلين أو منفصلين وربما أورد عبارة أخرى فقيل : إما أن يكون قد خلق العالم في ذاته أو خارجا عن ذاته : لا جائز أن يكون في

١٧٤

ذاته وإلا كان محلا للحوادث. وإن كان خارجا عن ذاته فهو في جهة منه وربما قيل : إنه لو كان في غير جهة لبطل أن يكون داخل العالم وخارجه ، وإثبات لوجود هذا حاله غير معقول. وأيضا فإنا اتفقنا على أنه ذو صفات قائمة بذاته ، ومن المعلوم أن الصفات ليس حيثها إلا حيث وجود الذات ، فإن القائم بغيره لا يكون له حيث إلا حيث ما قام به ، فإذا حيث الصفات إنما هو حيث الذات ، وذلك يوجب كون واجب الوجود ذا حيث وجهة.

والجواب : أما الانفصال عما ذكر أولا من الأشكال ، فقد قال بعض المنتسبين إلى التحقيق : إن حاصله يرجع إلى المصادرة على المصادرة على المطلوب في الدليل مع تغيير في اللفظ ، وذلك أن المباينة والمجامعة لا تكون إلا من لوازم المتحيزات وذوات الجهات ، فإذا قيل إنه مباين أو مجامع فهو نفس المصادرة على المطلوب.

وليس هذا عند التحقيق مصادرة ، لأن المصادرة على المطلوب هو أن يؤخذ المطلوب بعينه ويجعل مقدمة قياسية بلفظ مرادف مشعر بالمغايرة بين المقدمة والمطلوب ، والمطلوب فيما عرضه إنما هو كونه في جهة أم لا ، وليس الجهة هي نفس الاتصال ولا نفس الانفصال ، بل هي قابلة للاتصال والانفصال ، والانفصال والاتصال كل واحد منهما لا يقبل الآخر ، ولهذا يصح أن نعقل الجهة ثم نعقل بعد ذلك كونها متصلة أو منفصلة ، وإذا كان الاتصال والانفصال غير الجهة التي هي نفس المطلوب فالمأخوذ في الدليل إنما هو غير المطلوب لا عينه ، فإذا كان كذلك فلا معنى للقول بالمصادرة هاهنا. فالواجب أن يقال :

إنه إن أريد بالاتصال والانفصال قيام أحدهما بذات الآخر وامتناع القيام فلا محالة أن الباري والعالم كل واحد منهما منفصل عن الآخر بهذا الاعتبار ، وهو مما لا يوجب كون كل واحد منهما في جهة من الآخر ، مع امتناع قبولية كل واحد منهما لها أو امتناع قبولية أحدهما ، ومع امتناع تلك

١٧٥

القبولية فلا تلزم الجهة ، وإن أريد بالاتصال ما يلازمه الاتحاد في الحيز والجهة ، وبالانفصال ما يلازمه الاختلاف فيهما ووقع البعد والامتداد بينهما ، فذلك إنما يلزم على الباري تعالى أن لو كان قابلا للتحيز والجهة. وإلا فإن لم يكن قابلا فلا مانع من خلوه عنهما معا. فإن راموا إثبات الجهة بالانفصال والاتصال ، والخصم لا يسلم ذلك إلا فيما هو قابل للجهة ، أفضى ذلك إلى الدور ، ولا محيص عنه. وليس لهذا مثال إلا ما لو قال القائل : وجود شيء ليس هو عالم ولا جاهل محال ، فيقال : إنما هو محال فيما هو قابل لهما ، وكذا في كل ما هو قابل لأحد نقيضين ، فإن خلوه عنهما محال ، أما وجود ما لا يقبل ولا لواحد منهما فخلوه عنهما ليس بمحال. وذلك كما في الحجر وغيره من الجمادات ، وبهذا يندفع ما ذكروه من الخيال الآخر أيضا.

وعدم التخيل لموجود هو لا داخل العالم خارجه على نحو تخيل الصور الجزئية مع كونه معلوما بالبرهان وواجبا التصديق به غير مضر ، إذ ليس ما وجب التصديق به بالبرهان يكون حاصلا في الخيال ، وإلا لما صح القول بوجود الصفات الغير المحسوسة كالعلم والقدرة والإرادة ونحوه لعدم حصولها في الخيال ، وامتناع وقوعها في المثال ، وما قيل من أن حيث الصفات لا يكون إلا حيث الذات فذلك إنما هو لما كان من الصفات له حيث وجهة ، إذ يستحيل أن تكون الصفات في جهة وحيث إلا وهي في جهة ما قامت به من الذات ، ولا يتصور وقوع الجهة للصفات دون الذات ، وأما ما لا حيث له من الصفات فلا جهة له وعند ذلك فلزوم الجهة والحيث لذات واجب الوجود بالنظر إلى حيث صفاته مع امتناع قبولها للحيث محال.

ولعل الخصم قد يتمسك هاهنا بظواهر من الكتاب والسنة وأقوال بعض الأئمة ، وهي بأسرها ظنية ، ولا يسوغ استعمالها في المسائل القطعية. فلهذا آثرنا الإعراض عنها ، ولم نشغل الزمان بإيرادها.

والله ولي التوفيق.

١٧٦

القانون الخامس

في أفعال واجب الوجود

ويشتمل على ثلاث قواعد :

القاعدة الأولى

في أنه لا خالق إلا الله تعالى (١)

__________________

(١) قال المصنف في أبكار الأفكار (٢ / ٦٦٠) : فإضافة الخلق إلى الله ـ تعالى ـ بمعنى الاختراع والإيجاد ، وبمعنى القصد إلى الشيء ، وبمعنى التسوية صحيح ، دون الخلق بمعنى الظن والكذب ، ويكون مشاركا للعباد في الاتصاف بالخلق بمعنى القصد إلى الشيء. وبمعنى التقدير والتسوية دون الخلق بمعنى الإيجاد ، والاختراع ؛ إذ هو المنفرد به دون غيره كما يأتي. وإذا عرف مدلول اسم الخلق ، واختلاف اعتباراته ؛ فقد اختلف المتكلمون فيما هو جهة الحقيقة منه. فذهب أئمتنا ، وأكثر المعتزلة : إلى أنه حقيقة في الإيجاد ، والاختراع ، ومجاز فيما عداه. وذهب الجبائي ، وابنه (أبو هاشم) : إلى أنه حقيقة في التقدير بمعنى الظن ، والحسبان ثم بينا على هذا الأصل أن الرب ـ تعالى ـ لا يوصف بكونه خالقا حقيقة ؛ لاستحالة الظن والحسبان ، الذي هو مدلول اسم الخلق حقيقة في حقه ، وإن كان موجدا ومخترعا حقيقة. والحق في هذه المسألة : أن إطلاق اسم الخلق بإزاء ما ذكرناه من الاعتبارات واقع ، وكونه حقيقة في البعض مجاز في البعض ، أو أنه مشترك : أي أنه حقيقة في الكل ؛ فمن جملة الوضع ، والوضع على أصول أرباب الأصول دون من لا اعتبار له من الشذوذ ـ لا يثبت بغير الدليل القاطع : وهو النقل المتواتر عن أرباب الوضع ، أو السمع القاطع من جهة الشرع ، ولم يوجد شيء من ذلك. وإن كان الأشبه ، والأغلب على الظن ما ذهب إليه أهل الحق من أئمتنا ؛ إذ هو الشائع ، الزائع ، المتبادر إلى الإفهام من إطلاق اسم الخلق دون ما عداه من الاعتبارات على ما لا يخفى. ثم الخلق بمعنى الإيجاد ، والاختراع ، هل هو نفس المخلوق ، أو غيره؟ اختلفوا فيه : فذهبت الأئمة من المتكلمين ، وأهل الحق : إلى أن الخلق هو نفس المخلوق ، والإيجاد هو نفس الموجود ، والإحداث نفس المحدث. ثم بنوا على هذا الأصل رسم الخلق بأنه المقدور الموجود بالقدرة القديمة. وربما عبروا عنه بأنه المقدور الموجود بالقدرة القديمة ، الخارج عن محل القدرة. وذهبت الكرامية إلى أن : الخلق والإحداث صفات حادثة قائمة بذات الرب ـ تعالى ـ ، وهو باطل ؛ بما سبق من

١٧٧

فالذي ذهب إليه عصابة أهل الحق من الإسلاميين وغيرهم من الطوائف المحققين أنه لا خالق إلا الله تعالى وأن وجوب وجود ما سواه ليس إلا عنه.

وخالفهم في ذلك طائفة من الإلهيين ، وجماعة من الثنوية والمعتزلة والمنجمين.

فأحرى مبدوء به إنما هو البحث عن تفصيل مذهب كل فريق ، والإشارة إلى إبطال مآخذهم ، والكشف عن زيف مسالكهم.

__________________

ـ بيان امتناع قيام الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ. وأما أهل الحق : فقد احتجوا بالنص ، والإطلاق ، والمعقول. أما النص : فقوله ـ تعالى ـ (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١١] وأراد به المخلوق. وأما الإطلاق : فالعرف شائع ذائع بقولهم : انظر إلى خلق الله. وهذا خلق الله إشارة إلى المخلوق. وأما المعقول : فهو أن الخلق لو كان صفة زائدة على نفس المخلوق ، لم يخل : إما أن يكون وجودا ، أو لا وجود. لا جائز أن يكون لا وجود. فإن نقيض الخلق لا خلق. ولا خلق عدم ؛ لاتصاف المعدوم المستحيل به ؛ فكان الخلق وجودا. وإذا كان موجودا : فإما قديم ، أو حادث. لا جائز أن يكون قديما : وإلا لزم قدم المخلوق ؛ ضرورة استحالة الخلق ، ولا مخلوق. وإن كان حادثا : استدعى خلقا آخر ، والكلام فيه ، كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ، أو دور ممتنع. فإن قيل : إذا كان الخلق هو نفس إيجاد الشيء ، واختراعه ؛ فنحن نعقل التفرقة بين وجود الشيء في نفسه ، وإيجاده بإيجاد غيره له ، وبيانه من وجهين : الأول : أنا قد نعقل وجود الشيء في نفسه ، ونجهل إيجاده بالغير حتى نعرفه بالدليل ؛ والمعلوم غير ما ليس بمعلوم. الثاني : أنه يصح أن يقال : هذا موجود بإيجاد الغير له ؛ فنصف الوجود بالإيجاد ، والصفة غير الموصوف. وإذا كان كذلك ؛ فلا يكون الخلق هو المخلوق ، ولا الإيجاد هو نفس الموجود. وأما إطلاق الخلق بإزاء المخلوق : فلا يدل على أن الخلق في الحقيقة هو نفس المخلوق ؛ بل إنما ذلك تعبرة باسم الخلق عن المخلوق بطريق التجوز بكونه سببا له أو ملازما له كما في إطلاق القدرة على المقدور في قولهم : انظر إلى قدرة الله : أي مقدوره ، ودليل التأويل : ما ذكرناه من الدليل على كون الخلق حقيقة زائدة على المخلوق .... وانظر أيضا : الإرشاد للجويني (ص ٢٠٨) ، وشرح النسفية (ص ٣٥٠ ، ٣٧٠).

١٧٨

فمما ذهب إليه «المعلم الأول» ومن تابعه من الحكماء المتقدمين ، وقفا أثره من فلاسفة الإسلاميين : أن الباري ـ تعالى ـ واحد من كل جهة ، وأنه لا يلحقه الانقسام والكم بوجه ما ، وأنه ليس لذاته مبادئ يكون عنها ، ولا صفة زائدة عليها ، وبنوا على ذلك أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ، وإلا فلو صدر عنه اثنان لم يخل : إما أن يتماثلا من كل وجه أو يختلفا من كل وجه أو يتماثلا من وجه ويختلفا من وجه ، فإن تماثلا من كل وجه فهما شيء واحد ولا تعدد ولا كثرة ، وإن اختلفا من كل وجه أو وجه دون وجه فهما في الجملة مختلفان ، وإذ ذاك فصدورهما عما هو واحد من كل وجه ممتنع ، لأن صدورهما عنه إما أن يكون باعتبار جهة واحدة ، أو باعتبار جهتين ، لا جائز أن يقال بالأول ؛ إذ الاختلاف مع اتحاد الموجب محال ، ولا جائز أن يقال بالثاني وإلا فالجهات إما خارجة عن ذاته ، أو هي له في ذاته : فإن كانت خارجة عن ذاته فالكلام فيها كالكلام في الأول ، وذلك يفضي إلى التسلسل أو الدور ، وكلاهما محالان. وإن كانت لذاته وفي ذاته فممتنع ؛ إذ هو واحد من كل وجه ، فلم يبق إلا أن يكون الصادر عنه واحدا لا تعدد فيه ولا كثرة.

ولا يجوز أن يكون ذلك الواحد مادة ولا صورة مادة ، إذ كل واحدة لا وجود لها دون الأخرى ، فإنا لو قدرنا وجود كل واحدة دون الأخرى لم تخل ، إما أن تكون متحدة أو متكثرة ، فإن كانت متحدة فهي لذاتها ، وما اتحد منهما لذاته فالكثرة عليه مستحيلة ، والمواد والصور متكثرة. وإن كانت متكثرة ، فتكثر كل واحدة مع قطع النظر عن الأخرى محال ، كيف وإنه يلزم أن يكون التكثر لذاتها ، ويلزم أن لا تتحد والوحدة عليها جائزة ، فإذا لا وجود لكل واحدة إلا بالأخرى ، ويمتنع أن تكون إحداهما علة للأخرى ، إذ العلة وإن كانت مع معلولها في الوجود فلا بد وأن تكون متقدمة عليه بالذات ، وليس ولا واحدة من المادة والصورة متقدمة على الأخرى بالذات ، ولا بد أن تكونا مستندتين إلى موجود خارج عنهما ، وذلك الخارج لا يجوز

١٧٩

أن يكون متعددا ، وإلا أفضى إلى اجتماع الإلهين. ولا جائز أن يكون متحدا لما سبق.

وكما لا يجوز أن يكون مادة ولا صورة مادة فكذا لا يجوز أن يكون نفسا فإن النفس وإن لم يكن وجودها ماديا فليس إلا مع المادة ، وإلا فلو كان لها وجود قبل مادة بدنها لم يخل : إما أن تكون متحدة أو متكثرة ، لا جائز أن تكون متحدة وإلا فعند وجود الأبدان المتعددة إما أن تنقسم وهو محال ، إذ المتحد لا ينقسم. وإما أن تكون النفس الواحدة لأبدان متعددة ، وهو ممتنع أيضا ، وإلا لاتحد الناس بأسرهم في العلم بما يعلمه الواحد ، والجهل بما يجهله الواحد ، من حيث إن النفس المدركة واحدة ولا جائز أن تكون متكثرة قبل الأبدان ، إذ الكثرة والتعدد للنفس بدون النظر إلى الأبدان وعلائقها محال ، وإذا ثبت أنه لا وجود للنفس إلا مع وجود مادة بدنها امتنع أن يقال بصدورها عن المبدأ الأول ، لما حققناه في المادة والصورة ، فإذا لا بدّ وأن يكون ما صدر عنه ماهية مجردة عن المادة وعلائقها وعبروا عنه «بالعقل الأول».

وبتوسط هذا العقل يوجد عقل آخر ، ونفس ، وجرم ، هو جرم الفلك الأقصى ، وبتوسط العقل الثاني يوجد عقل آخر ، ونفس وجرم ، هو جرم فلك الكواكب. وبتوسط العقل الثالث يوجد عقل آخر ، ونفس ، وجرم ، هو جرم فلك زحل. وبتوسط العقل الرابع يوجد عقل آخر ، ونفس وجرم ، هو جرم فلك المشترى. وبتوسط العقل الخامس يوجد عقل آخر ، ونفس ، وجرم ، هو جرم فلك الشمس. وبتوسط العقل السادس يوجد عقل آخر ، ونفس ، وجرم هو جرم فلك المريخ. وبتوسط العقل السابع يوجد عقل آخر ، ونفس ، وجرم هو جرم فلك الزهرة. وبتوسط العقل الثامن يوجد عقل آخر ، ونفس ، وجرم ، هو جرم فلك عطارد. وبتوسط العقل التاسع ، يوجد عقل آخر ، ونفس ، وجرم هو جرم فلك القمر ، وبتوسط العقل العاشر ، وجدت العناصر والمركبات وغير ذلك من الكائنات والفاسدات.

١٨٠