غاية المرام في علم الكلام

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

غاية المرام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4311-5
الصفحات: ٣٣٤

كان الأول فمستحيل ؛ إذ القدرة الإلهية غير مخصصة له وإلا أفضى إلى التسلسل ، فلا يتصور قصد الشركة فيها. وإن كان الثاني فلا محالة أن قصد الشركة غير قصد نفس المشترك فيه ، وقصد المشترك فيه يعني أن يكون مضافا في الإيجاد والإحداث إلى أحدهما على وجه الاستقلال ، من غير أن يكون للآخر تأثير البتة ، وليس القول بإضافته إلى أحدهما على الخصوص بأولى من الآخر ، لكونهما مثلين وذلك يفضي إلى القول بانتفاء الحوادث وهو محال ، فإن قيل : قد صادفنا في العالم خيرا وشرا ، وكل واحد منهما يدل على مريد له ، ولا محالة أن مريد الشر لا يكون مريدا للخير ، وكذا بالعكس ، واختلاف المرادات يدل على اختلاف المريد.

قلنا : الاستدلال على وجود الإله إنما هو مستند إلى الجائزات ، وافتقارها إلى المرجح من حيث هي جائزة ، ولا اختلاف بينها فيه ، والفاعل لها إنما يريدها من حيث وجودها ، والوجود من حيث هو وجود خير محض لا شر فيه ، وهو ما يقع مرادا للباري ـ تعالى ـ وأما الشر من حيث هو شر فليس هو مستندا إلى اختلاف الأغراض ، أو إلى قول الشارع : افعل أو لا تفعل ، كما سنبينه ، وذلك مما لا يوجب كونه شرا في نفسه ، فإذا ليس الشر بما هو شر ذاتا يطلب حدوثها ولا عدمها حتى يقال إن ما اقتضاه يجب أن يكون غير ما اقتضى نفس الخير. ثم لو قدرنا أن ذلك مما يصح قصده وأنه ذات وأنه حقيقة ، لكن لا يخفى التحكم بدعوى انتسابه في الإيجاد إلى غير ما نسب إيجاد الخير له ، بل لا مانع من أن يكون إيجادهما بإيجاد موجد واحد ، إلا على فاسد أصل القائل بالصلاح والأصلح وتحسين الفعل لذاته وتقبيحه ، وسيأتي وجه إبطاله إن شاء الله.

وهذا آخر ما أردنا ذكره هاهنا ، والله الموفق للصواب.

١٤١

القانون الرابع

في إبطال التشبيه وما يجوز عليه ـ تعالى ـ وما لا يجوز

ويشتمل على قاعدتين

١ ـ في بيان ما يجوز على الله تعالى.

٢ ـ في بيان ما لا يجوز عليه سبحانه.

القاعدة الأولى (١)

في بيان ما يجوز على الله تعالى

وقد أطبقت الأشاعرة ، وغيرهم من أهل الحق ، على جواز رؤية الباري عقلا ، ووقوعها شرعا. وأجمعت الفلاسفة ، وجماهير المعتزلة ، على انتفاء ذلك مطلقا.

ومن أهل الضلال من فصل وقال : إنه يرى نفسه ، وإنما يمتنع ذلك على غيره.

والواجب البداية بتقديم النظر في طرف الجواز العقلي أولا ، ثم في وقوعه شرعا ثانيا ، وقد سلك المتكلمون في ذلك ، ومن أهل الحق ، مسالك لا تقوى :

المسلك الأول :

هو ما اشتهر من قولهم : الرؤية تتعلق بالموجودات المختلفة كالجواهر والأعراض ، ولا محالة أن متعلق الرؤية فيها ليس إلا ما هو ذات ووجود ، وذلك لا يختلف وإن تعددت الموجودات ، وأما ما سوى ذلك ، مما يقع به الاتفاق والافتراق ، فأحوال لا تتعلق بها الرؤية ، لكونها ليست بذوات ولا وجودات ، وإذا كان متعلق الرؤية ليس إلا نفس الوجود ، وجب أن تتعلق

__________________

(١) انظر : الإشارات الإلهية لابن سينا (٣ / ٤٣٥ ، ٤٤٠) ، المغني للقاضي عبد الجبار (٤ / ٩٠ ، ٩٣) ، اللمع (ص ٦٧ ، ٦٨) ، الإرشاد في أصول الدين للجويني (ص ١٧٧) ، المعالم للرازي (ص ٥٩ ، ٦٧) ، والمحصل له ص (١٣٨) ، ومعارج القدس للغزالي (١٣٥ ، ١٤٠).

١٤٢

الرؤية بالباري لكونه ، لا محالة ، موجودا.

ومن نظر بعين التحقيق علم أن المتعلق به منحرف عن سواء الطريق.

وذلك أنه وإن سلم جواز تعلق الرؤية بالجواهر والأعراض ، مع إمكان النزاع فيه ، فهو لا محالة إما أن يكون من المعترف بالأحوال ، أو قائلا بنفيها : فإذا كان من القائل بها فالوجود الذي هو متعلق الرؤية حينئذ لا بدّ وأن يكون هو نفس الموجود لا زائدا عليه ، وإلا كان حالا وخرج عن أن يكون متعلق الرؤية ، وإذا كان هو نفس الموجود وليس بزائد على الذات فلا بد من بيان الاشتراك بين الذوات الموجودة شاهدا وغالبا ، وإلا فلا يلزم من جواز تعلق الرؤية بأحد المختلفين جواز تعلقها بالآخر ، ولا يخفى أن ذلك مما لا سبيل إليه ، وإلا كان الباري ممكنا لمشاركته الممكنات بذواتها في حقائقها ، وهو متعذر.

ثم ولو قيل : ليس متعلق الإدراك هو نفس الوجود ، بل ما وقع به الافتراق والاختلاف بين الذوات ، كما ذهب إليه بعض الخصوم من المعتزلة ، لم يجد في دفع ذلك مستندا غير الاستناد إلى محض الدعوى. وليس من الصحيح ما قيل في دفعه من أن الإدراك أخص من العلم ، والعلم عند الخصم مما لا يصح تعلقه بالأحوال على حيالها ، فيمتنع دعوى تعلق ما هو الأخص بها ، فإنه لا يلزم من انتفاء تعلق العلم بشيء على حياله ، وإن كان أعم ، انتفاء تعلق الأخص به ، اللهم إلا أن يكون الأعم جزءا من معنى الأخص. ويكون تعلق الأخص به من جهة ما اشتمل عليه من حقيقة ما تخصص به من المعنى العام ؛ إذ هو نفس حقيقة ما منع من تعلقه. وهو تناقض. أما إن كان الأعم كالعرض العام للأخص ، أو هو داخل في معناه ، لكن تعلق المتعلق ليس إلا من جهة خصوصه ، لا من جهة ما يتضمنه من المعنى العام : فلا مانع من أن يكون تعلقه بالشيء على حياله ، وإن كان تعلق المعنى العام به لا على حياله.

ثم ولو قدرنا امتناع تعلق الأخص بالشيء على حياله ، لضرورة امتناع

١٤٣

تعلق الأعم به على حياله ، فحاصله إنما هو راجع إلى مناقضة الخصم في مذهبه ، وهو غير كاف فيما يرجع إلى الاستقلال بتحصيل المطلوب ، لضرورة تخطئة الخصم فيما وقع مستندا له ، وهو من خصائص مذهبه. ولهذا لو اعترف بخطئه فيما ذهب إليه لم يك ما قيل مثمرا للمطلوب ولا لازما عليه ، كيف وأن ذلك وإن كان مناقضا لبعض الخصوم كالجبائي ومن تابعه ، لضرورة منعه من تعلق العلم بما وقع به الاتفاق والافتراق على حياله ، فهو غير لازم في حق غيره ، اللهم إلا أن يكون قائلا بمقالته ، وذلك مما لا سبيل إلى دعوى عمومه.

وإن كان من القائلين بنفي الأحوال ، فما وقع به الاختلاف بين الذوات حينئذ لا مانع من أن يكون من جملة المصحح للرؤية ، لكونه ذاتا ؛ وإذ ذاك فلا يلزم منه جواز تعلق الرؤية بواجب الوجود إلا أن يبين أن ما كان مصححا في باقي الذوات متحقق في حق واجب الوجود ، وهو متعذر.

ولما تخيل بعض الأصحاب زيغ هذه الطريقة عن الصواب انتهج منهجا آخر فقال :

إن الجواهر والأعراض متعلق الرؤية ، ولا محالة أن بينهما اتفاقا وافتراقا فمتعلق الرؤية ومصححها إما ما به وقع الاتفاق أو الافتراق ، أو هما معا : لا جائز أن يكون المصحح ما به الاتفاق والافتراق معا أو الافتراق فقط ؛ إذ المصحح يكون في الجملة مختلفا ، والحكم الواحد في المعقولات يستحيل أن تكون له علل مختلفة أو أن يكون المعلول أعم منه. فبقي أن يكون المصحح ما به الاتفاق فقط ، وما تخيل الاشتراك فيه بين الجواهر والأعراض ليس إلا الوجود والحدوث لا غير ، والحدوث لا يصلح أن يكون هو المصحح لتعلق الإدراك بالشيء ، فإنه قد يدرك لا في حالة حدوثه ، كيف وأن بعض الجواهر وبعض الأعراض حادثة عند الخصم ولا يتعلق بها الإدراك؟ فيمتنع أن يكون هو المصحح ، ثم إن معنى الحدوث ليس إلا كون الشيء موجودا بعد العدم أي لم يكن فكان ، أو أنه ما لا يتم وجوده بنفسه ، وكل هذه سلوب وأعدام

١٤٤

لا سبيل إلى القول بتعلق الإدراك بها ، فبقي أن يكون المصحح للإدراك إنما هو الوجود فقط ، وواجب الوجود موجود ، فوجب القول بجواز تعلق الإدراك به.

وهذا الإسهاب أيضا مما لا يشفي غليلا ، إذ القول بأن الرؤية لا بدّ لها من مصحح ، إما أن يراد به الفاعل أو القابل أو الغاية منه ، فلا معنى لحصره فيما اختلفت فيه القوابل واتفقت ، بل جاز أن يكون الفاعل أمرا خارجا ، وسواء كان تأثيره وفعله بالطبع أو الإرادة ، وعند ذلك فلا بد من أن يتبين تحقق مثله في جانب تعلق الرؤية بواجب الوجود حتى يصح ، كيف وأنه لا يصح ذلك بمجرد تحقق الفاعل مع تعذر القابل ولهذا قالت الخصوم من الإلهيين : إن العقل لنفوس العالم علة فاعلية ، والمعلول متوقف على اعتدال المادة وتهيئها لقبوله ، فلا بد مع الاشتراك في الفاعل من تحقق وجود القابل لا محالة ، ثم ولو قدر انحصار الفاعل فيما وقع به الاختلاف والاتفاق في القوابل ، فلا يمتنع أن يكون ما وقع به الافتراق له مدخل في التأثير ، والقول بأن الحكم الواحد العقلي لا يكون له علتان ، ولا يكون أعم من علته ، فيلزم عليه تعلق العلم بمتعلقاته ، فإنها مختلفة من الواجب والجائز والمستحيل ، ولا محالة أنا لا نجد معنى واحدا وقضية متحدة يقع بها الاشتراك بين هذه الأقسام الثلاثة. فإن كان لا بدّ وأن يكون الفاعل ما وقع به الاتفاق والافتراق بين القوابل ، فيلزم أن يكون الفاعل هاهنا مختلفا ، والمعلول متحدا ، لضرورة عدم الاشتراك في معنى واحد كما بيناه.

ثم إن المعلول إنما يكون أعم من العلة عند القول بتعددها أن لو كان المعلول في نفسه واحدا لا تكثر فيه ، أما إذا كان متعددا بتعدد محاله ومتعلقاته فلا ، إذ لا مانع من أن يكون كل واحد من العلتين المختلفتين يؤثر في أحد المعلولين دون الآخر ، ولا يترتب معلول كل واحد على العلة الأخرى ، كيف وأن هذا القائل ممن يجوز صدور المختلفات عن الواحد ، فما بال الواحد مما يمتنع صدوره عن المختلفات؟ وما الذي يمكن أن يتخيل فارقا بين الصورتين

١٤٥

وقادحا بين الحالتين؟

ثم إن هذا القائل إن كان ممن يعترف بأن الوجود هو نفس الموجود ، وأنه ليس بزائد على ذات الموجود ، فلا محالة أن الذوات مختلفة ، ولا محيص من الاعتراف بكون المخصص مختلفا ، وعند ذلك فلا يلزم من جواز تعلق الرؤية بأحد المختلفين جواز تعلقها بالآخر. وإن كان ممن يقول بكونه زائدا على ذات الموجود ، فإما أن يكون قضية مطلقة مشتركة ، أو أن يكون له تخصيص بكل واحد من الذوات ، فإن كان الأول فمحال أن يتعلق به الإدراك. وإن كان الثاني فلا خلاف في تغايره ، وإذ ذاك فلا بد من الاختلاف بين هذه الحوادث في أمر زائد على نفس الوجود ، وإلا لما صح القول بالتغاير ، وعند ذلك فإما أن يكون الوجود متعلق الرؤية أو مصححا لها مع قطع النظر عن المخصص ، فهو ممتنع وإما أن لا يكون مصححا إلا بالنظر إلى المخصص ، فلا مانع من جعل المخصص من جملة المصحح ، ولا مهرب منه. هذا إن أريد به الفاعل.

وإن أريد به القابل فالقابل لما اتحدت حقيقته لا يجب أن يكون هو في نفسه متحدا ، كما في تعلق العلم بمتعلقاته ، ثم إنه لا خلاف في جواز تعدد المقبول واتحاد القابل ؛ إذ الشيء الواحد قد يكون قابلا للكمية والكيفية والإضافة وغير ذلك من الأعراض مع اختلافها. وإذا لم يبعد اتحاد القابل وتعدد المقبول لم يبعد اتحاد المقبول وتعدد القابل أيضا. ثم إنه إما أن يكون وجود الموجود الذي هو المصحح هو نفس الوجود أو زائدة عليه ، وعلى كلا التقديرين فيلزم التعدد في المصحح كما سلف.

وإن أريد بالمصحح الغاية فهو ، إن سومح فيه ، فلا معنى لحصره فيما وقع به الاتفاق والافتراق في القابل أيضا ، ثم يلزم عليه تعلق العلم بمتعلقاته كما أسلفناه ولا محيص عنه. وإن أريد به ما هو كالذاتي فلا يخفى أن قول القائل : ما وقع به الاتفاق والافتراق بين متعلقات الإدراك يكون ذاتيا لنفس

١٤٦

الإدراك ، تضليل وحيد عن واضح السبيل. كيف ويلزم عليه أيضا تعلق العلم بمتعلقاته كما سلف.

ثم ولو سلم أن ما وقع به الافتراق لا يصلح أن يكون مصححا ، فإن المصحح لا بدّ وأن يكون أمرا مشتركا ، فلا بد من بيان أنه لا مشترك إلا الوجود ، وإلا فمع جواز القول باشتراكهما في معنى آخر غير الوجود فيجوز أن يكون هو المصحح أو داخلا في المصحح وعند ذلك فلا يلزم جواز تعلق الرؤية بواجب الوجود ، لجواز أن يكون المصحح غير شامل له ، كما في الوجود ، وذلك لا دليل عليه غير البحث والسبر ، وهو مما لا يرقى إلى ذروة اليقين بل لعله مما يقصر عن إفادة الظن والتخمين.

كيف وأن ما سلم الخصم تعلق الرؤية به شاهدا ليس إلا الأجرام أو ما قام بها دون الجواهر التي عنها تكون الأجرام ، بل أخص من ذلك فإنه لا يسلم تعلق الرؤية بكل جرم وكل عرض ، بل بعضها مما لا تتعلق الرؤية عنده به ، كما في الهواء والطعوم والأراييح ونحوه ، وإذا لم تتعلق الرؤية بغير الأجرام والأكوان فلا محالة أن الأجرام عند أهل الحق هي كل ما ائتلف من جوهرين فصاعدا ومع قطع النظر عن التأليف فالقول بتفهم معنى الجرم محال ، والتأليف لا محالة عرض وبينه وبين الأعراض مجانسة ما واشتراك في معنى ما ، وعند ذلك فلا مانع من أن يكون المصحح للرؤية هو ذلك المعنى ، ومع القول به فلا سبيل إلى تعلق الرؤية بواجب الوجود لعدم مشاركته لغيره من المرئيات في ذلك المعنى.

ثم إنه لو قدر أنه لا مشترك إلا الوجود فلا بد من بيان أن وجود واجب الوجود مجانس للوجود الذي هو متعلق الرؤية شاهدا حتى يلزم تعلق الرؤية به ، وذلك مما يعز ويشق جدا.

ومما اعتمد عليه أيضا أن قيل : الرؤية معنى لا يتأثر به المرئي ولا يتأثر منه لا بأفعال ولا بانفعال ، وما هذا حكمه في تعلقه فلا مانع من تعلقه ،

١٤٧

وصار حكمه حكم لعلم من غير فرق.

واعلم أن هذه الطريقة ـ مع احتياجها إلى تقرير معنى التأثير ، وحصر الموانع بأسرها ونفيها ـ مما لا حاصل لها ، وذلك أنه لا يخفى أن تعلق الشيء بغيره ليس مما يتم بانتفاء التأثير وزوال المانع ، بل لا بدّ من بيان الصلاحية للتعلق بين المتعلقين ولو انتفى كل ما يقدر من الموانع ، وعند العود إلى بيان الصلاحية والقبولية يرجع الكلام إلى الوجود وتصحيحه للتعلق ، وقد انتهى القول فيه.

فإذا التحقيق في إيضاح الطريق يتوقف على بيان معنى الإدراك والكشف عن حقيقته ، فنقول : الإدراك عبارة عن كمال يحصل به مزيد كشف على ما يخيل في النفس من الشيء المعلوم من جهة التعقل بالبرهان أو الخبر. ولهذا نجد التفرقة بين كون الصورة معلومة للنفس مع قطع النظر عن تعلق الحاسة الظاهرة بها وبين كونها معلومة مع تعلق الحاسة بها ، فإذا هذا الكمال الزائد على ما حصل في النفس بكل واحدة من الحواس هو المسمى إدراكا كما مضى ، وقد بينا أن هذه الإدراكات فيما مضى ليست بخروج شيء من الآلة الدراكة إلى الشيء المدرك ولا بانطباع صورة المدرك فيها ، وإنما هو معنى يخلقه الله تعالى في تلك الحاسة ، وقد بينا أن البنية المخصوصة ليست بشرط له كما مضى ، بل لو خلق الله ذلك المعنى في القلب أو غيره من الأعضاء لقد كنا نسمي ذلك مدركا ، وإذا جاز أن يخلق الله تعالى في الحاسة زيادة كشف وبيان بالنسبة إلى ما حصل في النفس فلا محالة أن العقل لا يحيل أن يخلق الله ـ تعالى ـ للحاسة زيادة كشف وإيضاح بالنسبة إلى ما حصل في النفس من العلم به ، وأن تسمى تلك الزيادة من الكشف إدراكا ، والجاحد لذلك خارج عن العدل والإنصاف ، منتهج منهج الزيغ والانحراف.

ومن عرف سر هذا الكلام عرف غور كلام أبي الحسن في قوله : إن الإدراك نوع مخصوص من العلوم ، لكنه لا يتعلق إلا بالموجودات ، وإذا عرف

١٤٨

ذلك فالعقل يجوز أن يخلق الله ـ تعالى ـ في الحاسة المبصرة ، بل وفي غيرها ، زيادة كشف بذاته وبصفاته على ما حصل منه بالعلم القائم في النفس ، من غير أن يوجب حدوثا ولا نقصا ، وذلك هو الذي سماه أهل الحق إدراكا.

فالمنازعة إذا بعد تحقيق هذا المعنى وإيضاحه إما أن تستند إلى فساد في المزاج ، أو إلى محض الجحد والعناد.

وعلى هذا نقول : يجوز أن يتعلق الإدراك بالإدراك والطعوم والأراييح والعلوم والقدر والإرادات وغير ذلك مما لا تتعلق به الإدراكات في مجاري العادات. وبما حققناه يندفع ما يهول به الخصوم ، ويعتمدون عليه ويستندون في الإلزام إليه ، وهو قولهم : إن الرؤية تستدعي المقابلة ، والمقابلة تستدعى الجهة ، والجهة توجب كونه جوهرا أو عرضا ، فإنهم لم يبنوا ذلك إلا على فاسد أصولهم في أن الإدراك بالبصر لا يكون إلا بانبعاث الأشعة من العين ، واتصالها بالمبصر ، أو انطباع المبصر في البصر بسبب المقابلة وتوسط المشف ، وذلك كله قد أبطلناه ، وبينا أنه ليس الإدراك إلا نوعا من العلوم يخلقه الله تعالى في البصر وذلك لا يوجب في تعلقه بالمدرك مقابلة ولا جهة أصلا ، كيف وأن هذا لا يسوغ من المعترف من الخصوم بكون الباري تعالى يرى نفسه وغيره وإلا كان الباري تعالى في جهة ، ولكان الإلزام عليه منعكسا.

ومن الأصحاب من أورد في دفع ذلك رؤية الإنسان نفسه في المرآة وإن لم يكن في مقابلة نفسه ، لكن فيه نظر ، وهو مما لا يكاد يقوى ، وللخصوم على ما ذكرناه خيالان :

الخيال الأول (١) :

أنهم قالوا : ما ذكرتموه في إدراك البصر إما تعممونه بكل الإدراكات أو

__________________

(١) انظر : المغني للقاضي عبد الجبار (٤ / ١٣٤ ، ١٣٩) ، المعالم في أصول الدين للرازي (ص ٦٤ ، ٦٥٥) ، وشرح الأصول الخمسة (ص ٢٥٤ ـ ٢٦١) ، شرح النسفية (ص ٣٠١ ـ ٣٠٢).

١٤٩

توجبون تخصيصه بالبصر فقط؟ فإن قلتم بالتعميم فيلزمكم على سياقه أن يكون الباري مسموعا ومشموما ومذاقا وملموسا ، وذلك مما يتحاشى عن القول به أرباب العقول ، وإن قلتم بالتخصيص فلا بد من وجه الافتراق بينه وبين باقي الإدراكات وإلا فهو تحكم غير معقول ،.

الخيال الثاني :

أنهم قالوا : لو جاز أن يكون مرئيا على النحو الذي حققتموه لجاز أن يكون مرئيا في دار الدنيا في وقتنا هذا ، إذ الموانع من القرب المفرط والبعد المفرط والحجب منفية ، فحيث لم ينفع انتفاء الموانع لم يكن ذلك إلا لكونه غير مرئي في نفسه.

قلنا : أما الخيال الأول : فقد قال بعض الأصحاب : إنه لم يجز تعلق باقي الإدراكات به من جهة أن شرط حصول الإدراك بها اتصال الأجسام ومحاذاة الأجرام ، ولا كذلك البصر ، وهو مما لا يكاد يفيد ، إذ الشغب فيه غير منقطع واللجاج غير منحسم ، ولعل الخصم قد يقابل بمثل ذلك في البصر ، ودفعه عسير غير يسير.

فالحق في ذلك أن يقال : إن كل الإدراكات من جهة كونها كمالات يحصل بها مزيد كشف للمدرك بالنسبة إلى ما تعلق به من العلم النفساني ، وأنها مخلوقة لله تعالى في محال الإدراك ، من غير تأثير في المدرك والمدرك ، والاتصال والانفصال ـ فغير مختلفة وإنما الاختلاف فيها من جهات أخر ، وذلك أن ما يخلقه الله من زيادة الكشف إن كان من ذات الشيء ووجوده بالنسبة إلى ما يحصل من تعلق علم النفس به شرحا سمي ذلك نظرا ، وإن تعلق العلم بكونه كلاما ، كان ذلك من الكلام النفساني أو اللساني ، مما يحصل بخلق الله تعالى من زيادة الكشف بكونه كلاما لا من جهة كونه موجودا ، سمي ذلك سماعا ، وبهذا المعنى سمي موسى سامعا لكلام الله تعالى ، وما يحصل بخلق الله تعالى من زيادة الكشف بطعم شيء على ما حصل من العلم به ، لا من

١٥٠

جهة كونه موجودا أو كلاما ، سمي ذلك الإدراك ذوقا وعلى هذا النحو فيما يدرك من الكيفيات المحسوسة الأربعة أو الملموسات.

ولا محالة أن هذه الإدراكات مختلفة النوعية متمايزة بالخواص ، فإن ما حصل من الكشف والزيادة من كون الموجود موجودا أمر يغاير بذاته ما حصل من مزيد الكشف من كونه كلاما أو طعما أو رائحة أو غيره ، فامتناع كون الباري مسموعا إنما كان من جهة أنه ليس هو في نفسه كلاما ، ولا حقيقته نطقا ، فالعلم لم يتعلق به بكونه كلاما فإدراكه إذ ذاك بالسمع يكون ممتنعا. بلى لو قيل إن كلامه يكون مسموعا لقد كان ذلك جائزا. وعلى هذا النحو امتناع كونه مشموما ومذوقا وملموسا. ولا كذلك البصر فإن البصر هو ما يخلقه الله من زيادة الكشف من كونه ذاتا ووجودا ، وذلك مما لا يستحيل تعلق العلم به حتى لا يسمى ما حصل من مزيد الكشف عليه بصرا ، ومن عرف ما نعنى بالإدراك هان عليه الفرق ، وسهل لديه فهم معنى الرؤية ، واندفع عنه الإشكال ، وزال عن ذهنه الخيال.

وعلى هذا حصول مثل هذه الإدراكات لله تعالى واتصافه بها غير ممتنع في نفسه عقلا ، وان لم يجز القول بإطلاقها عليه شرعا ، لعدم وروده بها ، فإن حصول الإدراكات المختلفة لمدرك واحد جائز ، أما تعلق الإدراكات المختلفة بمدرك واحد من جهة واحدة ، فممتنع كما بينا. وأما انتفاء وقوع الإدراك في وقتنا هذا فإنما يلزم منه انتفاء جواز تعلق الإدراك به أن لو لم يقدر ثم مانع وصاد ، وليس مستندهم في حصر ما ذكروه من الموانع غير البحث والسبر ، وأعلى درجاته أن يفيد ظنا بعدم المانع لا علما. كيف وأنه من المحتمل أن يكون المانع من الإدراك تكدر النفس بالشواغل البدنية ، وانغماسها في الرذائل الشهوانية ، وتعلقها بعالم الضلال ، وانهماكها في البدن وما يتعلق به من الأحوال؟ فعند صفوها في الدار الأخرى وزوال كدورتها بانقطاع علائقها ، وانفصال عوائقها ، يتحقق لها ما كانت مستعدة لقبوله ، ومتهيئة لإدراكه.

١٥١

ولا يهولنك ما يجعجع به الخصم ويشنع وهو قوله : لو جاز أن يكون مدركا لامتنع أن لا يتعلق به الإدراك مع سلامة آلة الإدراك ، وإلا جاز أن يكون الإنسان بين يديه فيل واقف أو جبل شامخ وهو لا يراه.

فذلك من السفسطة والتجاهل ، لأنه لما وقع الاشتراك في اسم الجواز بين الجواز العقلي والعادي ، ورأى أن من حكم بذلك كان بالنظر إلى العادة مستقيما ظن ذلك واقعا في القطعي أيضا ، وليس كذلك على ما سبق تحقيقه. ثم وكيف ننكر ذلك مع ما قد ورد من الأخبار ، وتواتر من الآثار ، المستندة إلى الشريعة الطاهرة ، والرسالة الظاهرة ، مما أوجب لنا العلم بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يرى جبريل ويسمع كلامه ، عند نزوله عليه ، ومن هو حاضر في مجلسه لا يدرك شيئا من ذلك ، مع سلامة آلة الإدراك.

ومما يلزم المعترف بالنبوات المصدق بالرسالات ، في جواز تعلق الإدراك بالباري تعالى قول الكليم : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] ، ولو كان مستحيلا لكان الكليم الأمين على الرسالة ، المصطفى للنبوة ، جاهلا بالله ، ومما يكون لو كان عليه لجاز أن يعتقده جسما أو عرضا أو غير ذلك ، وذلك مما تأباه العقول ومراتب الإمامة ، حيث اعتقد بالله ما لا يليق به ، وذلك كفر. ولا يلزم عليه عدم معرفته لوقوع الرؤية في الدنيا ، فإن الظن بذلك أو الجهل به لا يعد كفرا.

وقوله : (تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] مما لا ينهض شبهة في جواز خطئه وجهله بذلك إذ التوبة قد تطلق بمعنى الرجوع ، ومنه قوله (تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) [التوبة : ١١٨] أي رجع عليهم بالفضل والإنعام ، وعند ذلك فيحتمل أنه أراد بالتوبة أن لا يرجع إلى مثل تلك المسألة ، لما رأى من الأهوال ، لا لكونه غير جائز في نفسه. يحتمل أنه لما رأى تلك الأهوال تذكر له ذنبا فأقلع عنه بالتوبة ، لا لأن ما سأل عنه ليس جائزا في نفسه. ولا يمكن حمل السؤال على طلب مثل ذلك الجواب لأجل دفع توقعهم في قولهم :

١٥٢

(أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] ، ولا على العلم بالله والمعرفة به ، فإنه كيف يظن بالنبي سؤال المحال لأجل قومه؟ بل لو علم أن ذلك مما لا يجوز لبادر إلى دفعهم في الحال ، كما قال لهم : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف : ١٣٨] ، عند قولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً) [الأعراف : ١٣٨] كيف وقد وقع ردعهم وزجرهم عن مثل ذلك السؤال بأخذ الصاعقة لهم والعذاب الأليم عقيبه؟ كما قال تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) [الذاريات : ٤٤] ، وليس في أخذ الصاعقة لهم ما يدل على امتناع ما طلبوه ، بل لأنهم طلبوا ذلك في معرض التشكيك في نبوة موسى وقصدوا إعجازه عن ذلك ، فأنكر الله ذلك منهم ، كما أنكر قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] ، (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [الشعراء : ١٨٧] لا لأن ذلك مستحيل ، بل بالنظر إلى ما قصد بالسؤال هنا ، ثم الآية بظاهرها تدل على أن السؤال لم يكن إلا لموسى عليه‌السلام بقوله : (أَرِنِي) [الأعراف : ١٤٣] ، وقوله تعالى : (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] ، ولو كان المقصود من ذلك دفع قومه عن سؤال الرؤية لم ينتهض دفع موسى عن الرؤية شبهة في دفع قومه.

وأما حمل الطلب على المعرفة بالله فأبعد من الأول أيضا ، من جهة أن لفظ النظر إذا أطلق فالمفهوم منه ظاهرا ليس إلا النظر بالعين. ثم إن موسى ـ عليه‌السلام ـ لم يكن جاهلا بربه ولا غير عارف به ، وإلا لما صح كونه نبيا ، فحمل الرؤية على التعريف لما قد عرفه يكون من عبث الكلام وسمجه ، ولا يجوز أن ينسب مثل ذلك إلى جاهل غبي فضلا عن نبي صفي.

لكن قد يتخيل من (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] ما يدرأ القول بالجواز ، وهو بعيد ، فإنا سنبين أن ذلك لم يكن منعا له إلا في الدنيا ، وإن قيل إن ذلك للتأييد فليس منه ما يدل على نفي الجواز ، بل لو قيل إنه يدل على

١٥٣

الجواز لقد كان ذلك سائغا واقعا ، من جهة أنه لم يقل «لست بمرئي» بل أحال ذلك على عجز الرائي وضعفه عن الإدراك بقوله : (لَنْ تَرانِي) ولو كان غير مرئي لكان الجواب : لست بمرئي ، كما لو قال : أرني أنظر إلى صورتك ومكانك ، فإنه لا يحسن أن يقال : لن تري صورتي ولا مكاني بل لست بذي صورة ولا مكان.

وعلى الجملة فلسنا نعتمد في هذه المسألة على غير المسلك العقلي الذي أوضحناه ، إذ ما سواه لا يخرج عن الظواهر السمعية والاستبصارات العقلية ، وهي مما يتقاصر عن إفادة القطع واليقين فلا يذكر إلا على سبيل التقريب ، واستدراج قانع بها إلى الاعتقاد الحقيقي ، إذ رب شخص يكون انقياده إلى ظواهر الكتاب والسنة واتفاق الأمة أتم من انقياده إلى المسالك العقلية ، والطرق اليقينية ، لخشونة معركها ، وقصوره عن مدركها.

وإذا عرف جواز الرؤية عقلا فيدل على وقوعها شرعا قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢] ، ووجه الاحتجاج منه أن النظر في لغة العرب قد يطلق بمعنى الانتظار ، ومنه قوله تعالى : (انْظُرُونا) [الحديد : ١٣] ، أن انتظرونا وقوله : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) [يس : ٤٩] أي ينتظرون ، ومنه قول الشاعر :

فإن يك صدر هذا اليوم ولى

فإن غدا لناظره قريب (١)

أي لمنتظره ، وهو إذا استعمل بهذا المعنى جاء من غير صلة. وقد يطلق ويراد به التفكير والاعتبار وإذا استعمل بإزائه وصل بفي ومنه يقال : «نظرت في المعنى الفلاني أو في الكتاب. وقد يطلق ويراد به العطف والرحمة ، وإذا استعمل بإزائه وصل باللام ، ومنه تقول العرب : نظر فلان لفلان. وقد يطلق بمعنى الإبصار بالبصر ، وإذا استعمل بإزائه وصل بإلى ، ومنه قول الشاعر :

__________________

(١) قائله : قراع بن أجدع ، كما في مجمع الأمثال للميداني (١ / ٦٣ ، ٦٤).

١٥٤

إني إليك لما وعدت لناظر

نظر الذليل إلى العزيز القاهر (١)

ومقال العرب : نظرت إلى فلان ، أي أبصرته ببصري.

والنظر المذكور في الآية موصول بإلى فوجب حمله لغة على النظر بالعين ، فإن قيل قد يوصل النظر بإلى ولا يراد به الإبصار بالعين ، ومنه قول الشاعر :

ويوم بذي قار رأيت وجوههم

إلى الموت من وقع السيوف نواظرا (٢)

والموت لا يتصور أن يكون مرئيا بالعين ، ثم إنه يحتمل أن يكون المراد بقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] أي إلى ثواب ربها ناظرة ، ويكون ذلك تجوزا بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. كيف وهى معارضة بقوله ـ تعالى ـ : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] وقوله لموسى : (لَنْ تَرانِي) وهى للتأييد ، وليس العمل بأحد الظاهرين بأولى من الآخر ، بل الترجيح لنا ، فإنه أورد ذلك في معرض التمدح والاستعلاء فلو جاز أن يكون مدركا عنه التمدح ، وهو محال.

قلنا قد بينا أنه مهما اتصلت «إلى» بالنظر فإنه لا يراد به غير النظر بالعين ، وهو المراد من قول الشاعر : (إلى الموت من وقع السيوف نواظرا) لكن يحتمل أنه أراد بالموت الكر والفر ، والطعن والضرب ، معبرا باسم المسبب عن السبب. ويحتمل أنه أراد به أهل الحرب الذين يجري الموت والقتل على أيديهم ، ولهذا قال الشاعر :

أنا الموت الذي خبرت عنه

فليس لهارب مني نجاء

وأما نسبة النظر إلى الثواب ، فمع مخالفته الظاهر فيمتنع حمله عليه ، فإن ذلك إنما ورد في معرض الامتنان والإنعام ، والنظر إلى الثواب ليس بثواب ولا إنعام ، فيكون فيه إبطال فائدة الإنعام ، وهو ممتنع.

__________________

(١) انظره في تفسير القرطبي (١٩ / ١٠٩).

(٢) قائله : جرير كما في ديوانه ص ١٤.

١٥٥

أما قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) فيحتمل أنه أراد به الإدراك الذي يتبادر إلى الأفهام ، ويغلب على الأوهام ، من الإحاطة بالغايات ، والتحديد بالنهايات ، دفعا لوهم من يتوهم أنه يرى ، لصورة أو شكل مخصوص. ويحتمل أنه أراد بذلك في دار الدنيا ، ويكون المراد من ذلك اللفظ العام المعنى الخاص كما في قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرعد : ١٦] وقوله : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) [الذاريات : ٤٢] إلى غير ذلك من الآيات ، والظواهر السمعيات. وأما وجه التمدح فليس إلا في قوله : (يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) لا في قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ولا يمكن حمله على كلا القسمين ، فإن بعض الموجودات عند الخصم لا يدرك بالأبصار ، وليست ممدوحة بذلك ، وامتداحه لنفسه فيما وقع به الاشتراك بينه وبين ما ليس بممدوح محال ، كما إذ قال : أنا موجود أو ذات. كيف لا وإن الخصم لا يمكنه التمسك بهذه الآية ، فإن ما ثبت للباري تعالى يجب أن يكون نفس ما نفي عن غيره ، وما ثبت للباري عند الخصم ليس إلا نفس العلم بالأبصار لا أمرا زائدا عليه ، فالمنفي عن الأبصار يجب أن يكون نفس العلم وليس ذلك حجة في نفي الإدراك الذي هو زائد على العلم.

وقوله لموسى ـ عليه‌السلام ـ (لَنْ تَرانِي) فيحتمل أنه أراد ذلك في دار الدنيا ، لا في العقبى ، وهو الأولى لأن يكون الجواب مطابقا للسؤال ، وهو لم يسأل الرؤية في غير الدنيا.

«ولن» فقد قيل : المراد بها التأكيد لا التأييد ، وإذ ذاك فالتخصيص جائز كما مضى. وإن قدر أن ذلك متأبد في حق موسى ـ عليه‌السلام ـ فليس ذلك حجة في نفي الرؤية بالنسبة إلى غيره مطلقا. والقول بتأويل هذه الظواهر على ما ذكرناه أولى عملا بالظاهر من الجانبين وجمعا بين البديلين ، وذلك ينعكس في تأويل ما اعتمدنا عليه ، فإن ذلك لا يقع إلا بصرفه ما لا

١٥٦

يعهد بالإجماع إطلاقه عليه ، وبإبطال فائدة الإنعام ، وكلاهما بعيدان ، ولا كذلك ما ذكرناه من التأويل ، إذ قد عهد مثله في الأدلة السمعية والظواهر الشرعية غالبا ، وهذا غاية ما يعتمد عليه في طرف الوقوف ، ومن رام اليقين فيه إيجابا أو سلبا فقد كلف نفسه حرجا.

والله الموفق للرشاد.

١٥٧

القاعدة الثانية

في إبطال التشبيه

وبيان ما لا يجوز على الله تعالى (١)

__________________

(١) مذهب أهل الحق : أن الله تعالى ليس بجوهر. وذهبت الفلاسفة ، والنصارى إلى أنه ـ تعالى ـ جوهر بسيط لا تركيب فيه. وربما تحاشى بعض الحذاق من الفلاسفة :

كابن سينا ، وغيره من إطلاق اسم الجوهر على الله ـ تعالى ـ مصيرا منه إلى الجوهر : هو الذي له ماهية إذا وجدت في الأعيان كان وجودها لا في الموضوع ، وذلك لا يكون إلا فيما وجوده يزيد على ماهيته. والباري ـ تعالى لا يزيد وجوده على ماهيته ؛ بل ذاته وجوده ووجوده ذاته ؛ فلا يكون جوهرا. والمعتمد هو أنا نقول : لو كان الباري ـ تعالى جوهرا ؛ لم يخل إما أن يكون جوهرا كالجواهر ، أو لا كالجواهر. فإن كان الأول : فهو محال لوجوه خمسة : الأول : أنه لا يخلو إما أن يكون وجوده واجبا لذاته ، أو ممكنا لذاته. فإن كان واجبا لذاته : لزم اشتراك جميع الجواهر في وجوب الوجود لذاتها ؛ ضرورة اشتراكها في معنى الجوهرية ؛ وهو محال. وإن كان ممكنا : لزم أن يكون قابلا للحدوث ، والعدم ؛ وهو خلاف الفرض ؛ إذ الكلام إنما هو مفروض في واجب الوجود لذاته. الثاني : أنه إما أن يكون قابلا للتجزئة ، أو لا يكون قابلا للتجزئة. فإن كان الأول : لزم أن يكون جسما مركبا ؛ وهو محال كما يأتي وإن كان الثاني : فيلزم أن يكون في الحقارة والصغر ، بمنزلة الجوهر الفرد ، والله ـ تعالى ـ يتقدس عن ذلك. الثالث : أنه لا يخلو : إما أن يكون بذاته قابلا لحلول الأعراض المتعاقبة عليه ، أو لا يكون قابلا لها. فإن كان الأول : فيلزم أن يكون محلا للحوادث ؛ وهو محال كما يأتي. وإن كان الثاني : فيلزم امتناع ذلك على كل الجواهر ضرورة الاشتراك بينها في المعنى ؛ وهو محال خلاف المحسوس. الرابع : أنه لا يخلو : إما أن تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها أنها هاهنا ، أو هاهنا ، أو لا تكون قابلة لذلك. فإن كان الأول : فيكون متحيزا ؛ إذ لا معنى للتحيز إلا هذا ، والتحيز على الله تعالى ـ محال لوجهين : الأول : أنه إما أن يكون منتقلا عن حيزه ، أو لا يكون منتقلا عن حيزه. فإن كان منتقلا عنه ؛ فيكون متحركا. وإن لم يكن منتقلا عنه ؛ فيكون ساكنا. والحركة والسكون حادثان على ما يأتي. وما لا يخلو عن الحوادث ؛ فهو حادث والحادث لا يكون واجبا لذاته. الوجه الثاني : هو أن اختصاصه بحيزه : إما أن يكون لذاته ، أو لمخصص من خارج. فإن كان لذاته : فليس هو أولى من تخصيص غيره من الجواهر ـ

١٥٨

معتقد أهل الحق أن الباري لا يشبه شيئا من الحادثات ولا يماثله شيء من الكائنات بل هو بذاته منفرد عن جميع المخلوقات ، وأنه ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض ، ولا تحله الكائنات ، ولا تمازجه الحادثات ، ولا له مكان يحويه ، ولا زمان هو فيه ، أول لا قبل له ، وآخر لا بعد له ، ليس كمثله شيء

__________________

ـ به ضرورة المساواة في المعنى. وإن كان بغيره : فيكون الرب ـ تعالى ـ مفتقرا إلى غيره في وجوده ؛ فلا يكون واجب الوجود لذاته. وإن كان غير متحيز : لزم في كل جوهر أن يكون غير متحيز ؛ ضرورة المساواة في المعنى ؛ وهو محال. كيف : وأنه لا معنى للجوهر غير المتحيز بذاته ، فما لا يكون كذلك ؛ لا يكون جوهرا. الخامس : أنه لو كان جوهرا كالجواهر ؛ لما كان مفيدا لوجود غيره من الجواهر ؛ فإنه لا أولوية لبعض الجواهر بالعلية دون البعض ؛ ويلزم من ذلك أن لا يكون شيء من الجواهر معلولا ، أو أن يكون كل جوهر معلولا للآخر ؛ والكل محال. فإن قيل : الجواهر وإن تماثلت في الجوهرية إلا أنها متمايزة ، ومتغايرة بأمور موجبة لتعيين كل واحد منها عن الآخر. وعند ذلك : فلا مانع من اختصاص بعضها بأمور وأحكام ، لا وجود لها في البعض الآخر ، ويكون ذلك باعتبار ما به التعين ، لا باعتبار ما به الاشتراك ؛ فنقول : والكلام في اختصاص كل واحد بما به التعين كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع ؛ فلم يبق إلا أن يكون اختصاص كل واحد من المتماثلات بما اختص به لمخصص من خارج ؛ وذلك على الله ـ تعالى ـ محال. هذا إن قيل إنه جوهر كالجواهر. وإن قيل إنه جوهر لا كالجواهر : فهو تسليم للمطلوب ؛ فإنا إنما ننكر كونه جوهرا كالجواهر. وإذا عاد الأمر إلى الإطلاق اللفظي ؛ فالنزاع لفظي ولا مشاحة فيه. إلا من جهة ورود التعبد من الشارع به ؛ ولا يخفي أن ذلك مما لا سبيل إلى إثباته. وعلى هذا فمن قال : إنه جوهر بمعنى أنه موجود لا في موضوع ، والموضوع هو المحل المتقوم بذاته المقوم لما يحل فيه كما قاله الفلاسفة ، أو أنه جوهر بمعنى أنه قائم بنفسه غير مفتقر في وجوده إلى غيره كما قاله أبو الحسين البصري مع اعترافه أنه لا يثبت له أحكام الجواهر ؛ فقد وافق في المعنى ، وأخطأ في الإطلاق من حيث إنه لم ينقل عن العرب إطلاق الجوهر بإزاء القائم بنفسه ، ولا ورد فيه إذن من الشارع. انظر الأبكار (٢ / ٤٤٥) ، بتحقيقنا والتأسيس للرازي (ص ٨٦) ، والفصل لابن حزم (٢ / ٢٢) ، وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار (ص ٢١٣).

١٥٩

وهو السميع البصير.

وأما اختلاف مذهب أهل التشبيه ، فقد قالت الفلاسفة : إنه جوهر بسيط لا تركيب فيه بوجه من الوجوه ، ولم يتحاشوا من إطلاق اسم الجوهر عليه ، وفسروا الجوهر بأنه الموجود لا في موضوع ، والموضوع هو المحل المتقوم بذاته المقوم لما يحل فيه ولربما تحاشى بعض الحذاق منهم عن إطلاق اسم الجوهر عليه وزعم أنه : الذي ماهيته إذا وجدت كانت لا في موضوع والباري تعالى ليس وجوده زائدا على ماهيته ، بل ذاته وجوده ووجود ذاته ، فلم يوجد فيه معنى الجوهر.

وأما الكرامية : فمنهم من قال : إنه جسم ، ومن أهل الأهواء من بالغ وقال : إنه صورة على صورة الإنسان. ثم هؤلاء اختلفوا : فمنهم من قال على صورة شاب أمرد جعد قطط. ومنهم من قال : هو على صورة شيخ أشمط الرأس واللحية ، ومنهم من قال : إنه مركب من لحم ودم.

واتفقت الكرامية على أن الباري ـ تعالى ـ محل للحوادث ، لكنهم لم يجوزوا قيام كل حادث بذاته ، بل ما يفتقر إليه من الإيجاد والخلق. ثم هؤلاء يختلفون في هذا الحادث ، فمنهم من قال قوله : كن. ومنهم من قال : هو الإرادة. وخلق الإرادة أو القول في ذاته يستند إلى القدرة القديمة لا أنه حادث بإحداث ، وأما خلق سائر المخلوقات فإنه مستند إلى الإرادة أو القول على نحو اختلافهم ، فالمخلوق القائم بذاته يعبرون عنه بالحادث ، والمباين لذاته يعبرون عنه بالمحدث. وقد أطبق هؤلاء على أن ما قام بذاته من الصفات الحادثة ، لا يتجدد له منها اسم ، ولا يعود إليها من حكم ، حتى لا يقال ، إنه قائل بقول : ولا مريد بإرادة ، بل قائل بالقائلية ، مريد بالمريدية ، وهي المشيئة الأزلية. فعلى هذا ما حدث وهو مباين لذاته محدثا بإحداث. وما حدث في ذاته من الصفات تسمى حادثة لا بإحداث ، بل بالمشيئة القديمة.

وقد اتفق هؤلاء بأسرهم مع بعض الحشوية على أن الباري تعالى في

١٦٠