غاية المرام في علم الكلام

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

غاية المرام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4311-5
الصفحات: ٣٣٤

بالمعلومات ، فإن كان المعلوم محكوما بفعله عبر عنه بالأمر ، وإن كان بالترك عبر عنه بالنهي ، وأما إن كان له نسبة إلى حالة ما ، بأن كان وجد بعد العدم أو عدم بعد الوجود أو غير ذلك ، عبر عنه بالخبر وعلى هذا النحو يكون انقسام الكلام القائم بالنفس ، فهو واحد وإن كانت التعبيرات عنه مختلفة ، بسبب اختلاف الاعتبارات.

ومن فهم هذا التحقيق اندفع عنه الإشكال وزال عنه الخيال ، فإنه غير بعيد أن يقوم بذات الله ـ تعالى ـ خبر عن إرسال نوح مثلا ، ويكون التعبير عنه ـ قبل الإرسال ـ إنا نرسله ، وبعد الإرسال : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) [نوح : ١] فالمعبر عنه يكون واحدا في نفسه على ممر الدهور ، وإن اختلف المعبر به ، وسببه اختلاف الأحوال والأزمنة ، وذلك لا يفضي إلى الكذب بالنسبة المعبر عنه وهو القائم بالنفس أوليا بالنسبة إلى المعبر به أيضا فإن العرب قد تعبر بلفظ الماضي عن المستقبل ، إذا لم يكن بد من وجوده ، حيث يعدّونه بأنه وجد ، وذلك محض تجوز واستعارة ، ولا بعد فيه.

وكذلك أيضا يجوز أن يقوم بذاته طلب خلع النعل من موسى على جبل الطور ، واقتضاؤه منه على تقدير وجوده ، ويكون المعبر عنه قبل الوجود بصيغة إنا سنأمر ، وعند الوجود بصيغة اخلع الدالة على الطلب ، هو الاقتضاء القديم الأزلي ، ولهذا لو قدر الواحد منا في نفسه اقتضاء فعل من شخص معدوم ، واستمر ذلك الاقتضاء إلى حين وجود المقتضي منه ، فإنه إذا علم به ـ إما بواسطة أو بغير واسطة ـ وكان الطالب يجب الانقياد له ، والإذعان لديه ، كان ذلك الاقتضاء بعينه أمرا له وموجبا لانقياده وطاعته من غير استئناف طلب آخر ، كان ذلك الاقتضاء بعينه أمرا له وموجبا لانقياده وطاعته من غير استئناف طلب آخر ، واقتضاء آخر. فعلى هذا النحو هو أمر الله ـ تعالى ـ للمعدوم وتعلقه به ، واشتراط فهم المأمور إنما يكون عند تعلق الخطاب به في حال وجوده لا غير. ومن فهم كلام النفس ورفع عن وهمه

١٠١

الأزمان المتعاقبة ، والأحوال المختلفة ، وحقق ما قررناه في مسألتي العلم والإرادة ، وجد الأمر على ما ذكرناه ولم يخف عليه ما مهدناه.

ولقد استروح بعض الأصحاب في تقرير هذا الكلام إلى طريق أو رده في معرض المناقضة والإلزام فقال كيف يصح استبعاد تعلق الأمر بمأمور معدوم ، وعندكم أنه لا يتناول المأمور به إلا قبل حدوثه ، ومهما وجد خرج عن أن يكون مأمورا به ، وهو أحد متعلقي الأمر؟ فإذا لم يبعد تعلق الأمر بالفعل المعدوم لم يبعد تعلقه بالفاعل المعدوم. وأيضا فإن الأمة مجمعة على أننا في وقتنا هذا مأمورون وعندكم لا أمر ، إذ الأمر قد تقضى ومضى فإذا لم يبعد وجود موجود ولا أمر فلا يبعد وجود أمر بلا مأمور ، ولو لزم من وجود الأمر وجود المأمور ، للزم من وجود القدرة وجود المقدور ، وذلك يفضي إلى قدم المقدور إذ قد سلم قدم القدرة ، وذلك محال على كلا المذهبين.

وهذا مما فيه نظر ، وذلك أن الأمر والنهى ، بالنسبة إلى المأمور والمنهي ، عند الخصم تكليف ، والتكليف يستدعي مكلفا به ، والمكلف به يجب أن يكون معلوما مفهوما ليصح قصده ، من أجل الإتيان به والانتهاء عنه ، إذ هو مقصود التكليف. فإذا الفهم شرط في التكليف ، ولهذا خرج من لا فهم له عن أن يكون داخلا في التكليف. كما في الجمادات ، وأنواع الحيوانات والصبيان ، والمجانين ، ونحو ذلك ، لعدم شرط التكليف في حقهم. وإذ ذاك فلا يلزم من تعلق الأمر بالمأمور به مع عدم الفهم تعلقه بالمأمور مع عدم اشتراك الفهم ، فإن تعلقه بالمأمور به ليس تعلق تكليف ولا كذلك تعلقه بالمأمور.

وأما القول بأنه إذا جاز وجود مأمور ولا أمر جاز وجود أمر ولا مأمور. فهذا إنما يتحقق أن لو صح وجود مأمور ولا أمر ، والخصم ربما لا يسلم ذلك ، بل له أن يقول : كل مأمور فلا بد له من أمر يتعلق به ، لكن ذلك الأمر قد يكون وجوده تقديرا بالنسبة إليه ، كما يقدر وجود العقد في البيع

١٠٢

والنكاح ، بالنسبة إلى تحقيق ثمراته وأحكامه ، أما أن يكون مأمور من غير أمر فلا. وإذ ذاك فلا يلزم من تقدير وجود الأمر عند وجود المأمور وتعلقه به تقدير وجود المأمور لأن يتعلق به الأمر ، فإنه غير مفيد إلا مع وجود شرطه ، وهو العلم والفهم. وذلك متعذر في حق المعدوم. وعلى هذا يخرج الإلزام بالقدرة ، إذ القدرة ليست عبارة إلا عن معنى يتأتى به الإيجاد فيما هو ممكن أن يوجد. وذلك متحقق بدون وجود المقدور ، فلئن رجع في تقدير جواز تعلق الأمر بالمعدوم ومن لا فهم له ، إلى ما أسلفناه كان ذلك كافيا ووجب الاعتناء به.

وأما ما قيل من أن القرآن معجزة الرسول فيمتنع أن يكون قديما ، فتهويل لا حاصل له ؛ فإنا مجمعون على أن القرآن الحقيقي ليس بمعجزة الرسول ، وإنما الاختلاف في أمر ورائه. وهو أن ذلك القرآن الحقيقي ما ذا هو؟ فنحن نقول : إنه المعنى القائم بالنفس. والخصم يقول : إنه حروف وأصوات أوجدها الله تعالى ، وعند وجودها انعدمت وانقضت ، وأن ما أتى به الرسول وما نتلوه نحن ليس هو ذلك ، وإنما هو مثال له ، على نحو قراءتنا لشعر المتنبي وامرئ القيس ، فإنه ليس ما يجري على ألسنتنا هو كلام امرئ القيس ، وإنما هو مثله ، فمن الوجه الذي لزمنا القول بمخالفة الإجماع هو أيضا لازم لهم.

ولأجل ذلك فر الجبائي إلى مذهب خرق به حجاب العقل ، وارتكب فيه جحد الضرورات ، والتزم به القول بالمحالات ، فقال : إن الله تعالى يخلق كلامه عند قراءة كل قارئ ، وكتابة كل كاتب. وزعم أن الكلام إنما هو حروف منظومة ، تقارن الأصوات المتقطعة ، وليست الحروف نفس الأصوات المتقطعة. ولا يخفى ما في ذلك من مخالفة المعقول ، فإن عاقلا ما لا يماري في أن ما نسمعه من الأفواه إنما هو أصوات متقطعة منسقة منتظمة نوعا من الانتظام ، تخرج من مخارج مخصوصة. وأيضا فإنه لا يعقل معها مقارنة غيرها

١٠٣

غيرها أصلا. على أن لا تنازع في أن ما جاء به الرسول من الحروف المنتظمة ، والأصوات المقطعة ، معجزة له ، وأنه يسمى قرآنا وكلاما ، وأن ذلك ليس بقديم. وإنما النزاع في مدلول تلك العبارات ، هل هو صفة قديمة أزلية أم لا؟

وعلى التحقيق ، فالخبط إنما نشأ لأهل الضلال هاهنا ، من جهة اشتراك لفظ القرآن ، فإنه قد يطلق على المقروء. وقد يطلق على القراءة ، التي هي حروف وأصوات ودلالات وعبارات ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أذن الله لشيء إذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن» أي القراءة ومنه قول الشاعر :

ضحوا بأشمط عنوان السجود به

يقطع الليل تسبيحا وقرآنا

معناه قراءة. وذلك كما قد تطلق العرب اسم الكلام على المعنى تارة ، وعلى العبارات أخرى. ولذلك يقولون كلام صحيح حسن ، إذا كان مستقيما ، وإن كانت العبارة غير مستقيمة ، بأن كانت ركيكة أو ملحونة أو مخبطة. وقد يطلقونه على العبارة ، عند كونها معبرة صحيحة ، وإن كان المعنى في نفسه فاسدا ، لا حاصل له. فلما وقع الاشتراك في الاسم ارتفع التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد. فإن ما أثبتوه معجزة لا نثبت له القدم وما أثبتنا له القدم لا يثبتونه معجزة.

وما أورده من الظواهر في معرض إثبات الحدث والأولية فظنية غير يقينية. كيف وإن قوله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء : ٢] يحتمل أن يكون معناه الوعظ والتذكير الخارج عن القرآن ، وهو الأقرب ؛ فإن القرآن لم يحدث عندهم لعبا وضحكا ، بل إفحاما وإشداها. ثم القول بموجب الآية متجه لا محالة فإنها دلت على الضحك واللعب عند ورود الذكر الحادث ، وليس فيها دلالة على حدث كل ما يرد من الأذكار ، فلا يلزم أن يكون القرآن حادثا. ثم إن المراد إنما هو العبارات والدلالات دون المدلولات ، كما حققناه.

وأما قوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [النساء : ٤٧] فيصح أن يقال

١٠٤

المراد به فعله من الثواب والعقاب ونحوه ، فإن الأمر قد يطلق بإزاء الفعل كما قال تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) [القمر : ٥٠] أي فعلنا ، وقوله (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ) [هود : ٩٧] يعنى فعله.

والمراد بقوله (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزخرف : ٣] أي سميناه ؛ فإن الجعل قد يطلق بمعنى التسمية ، ومنه قوله تعالى : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) [الحجر : ٩١] أي سموه كذبا ، وقوله (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] سموهم بذلك. كيف وأنه يحتمل أنه أراد به القرآن بمعنى القراءة كما بيناه وذلك لا يقدح في المقصود. ثم إن هذه الآيات معارضة بمثلها وهو قوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] فقد أثبت له خلقا وأمرا فلو كان الأمر مخلوقا لكان معنى الكلام ألا له الخلق والخلق. وأيضا قوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] فلو كان الأمر مخلوقا لاستدعى ذلك سابقة أمر آخر. وذلك يقضي إلى التسلسل وهو محال. وبما قررناه يندفع قولهم أيضا : إن الأمة من السلف مجمعة على أن القرآن مؤلف من الحروف والأصوات ، فإن الإجماع إنما انعقد علي ذلك بمعنى القراءة ، لا بمعنى المقروء وإليه الإشارة بقوله : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة : ١٧].

وقولهم : لو لم يكن كذلك لما سمعه موسى ، قلنا الدليل إنما لزم المعطل هاهنا ، من حيث إنه لم يفهم معنى السماع ، وإنه بأي اعتبار يسمى سماعا. وعند تحقيقه يندفع الإشكال ، فنقول : السماع قد يطلق ويراد به الإدراك ، كما في الإدراك بحاسة الأذن. وقد يطلق ويراد به الانقياد والطاعة. وقد يطلق بمعنى الفهم والإحاطة ، ومنه ويقال : سمعت فلانا. وإن كان ذلك مبلغا على لسان غيره ، ولا يكون المراد به غير الفهم لما هو قائم بنفسه ، والذي هو مدلول عبارة ذلك المبلغ. وإذا عرف ذلك فمن الجائز أن يكون قد سمع موسى كلام الله تعالى القديم ، بمعنى أنه خلق له فهمه ، والإحاطة به ، إما

١٠٥

بواسطة أو بغير واسطة ، والسماع بهذا الاعتبار لا يستدعي صوتا ولا حرفا.

وما يطلق عليه من الحروف والأصوات أنه كلام الله تعالى ، فليس معناه إلا أنه دال على ما في نفسه ، وذلك كما يقال : نادى الأمير في البلد ، وإن كان المنادي غيره. ويقال لمن أنشد شعر الحطيئة إنه متكلم بكلام الحطيئة وشعره. ومن ذلك سمي الوحي كلاما لله تعالى ، حتى يقال : تكلم الله بالوحي ، والوحي كلامه. ولا ننكر أن القرآن القديم مكتوب ومحفوظ ومسموع ، ومتلو. لكن ليس معنى كونه مكتوبا أو محفوظا أنه حال في المصاحف أو الصدور ، بل معناه أنه قد حصل فيها ما هو دال عليه ، وهو مفهوم منه ومعلوم.

وليس معنى كونه منزلا أنه متنقل من مكان إلى مكان ، فإن ذلك غير متصور على كلا المذهبين. بل معناه أن ما فهمه جبريل من كلام الله تعالى ، فوق سبع سماوات عند سدرة المنتهى ، ينزل بتفهيمه للأنبياء إلى بسيط الغبراء. وكذلك ليس معنى كونه مسموعا إلا ما ذكرناه فيما مضى. ومن حقق ما مهدناه وأحاط بما قررناه هان عليه التفصي عن كل ما أوردوه من الظواهر الظنية واعتمدوا من الآثار النبوية.

ولعل معتمد المعطلة في إثبات الحروف والأصوات هو ما قاد الحشوية ـ لعدم فهمهم كلام النفس ـ إلى إثباتها صفة للذات ، فإنه لما لم يسعهم القول بالتعطيل ، ولم يقدروا على التأويل ، لهذا التهويل ، جمعوا بين الطريقتين ، وانتحلوا مذهبا ثالثا بين المذهبين ، ولم يعلموا ما في طي ذلك من السفاهة ، وفى ضمنه من الفهاهة ، لما فيه من الهرب إلى التجسيم ، خوف الوقوع في التعطيل ، إذ الحروف والأصوات إنما تتصور بمخارج وأدوات ، وتزاحم أجرام واصطكاكات ، وذلك في حق الباري محال كما سلف.

فانظر إلى هاتين الطائفتين كيف التزم بعضهم التعطيل خوف التجسيم ، والتزم بعضهم التجسيم خوف التعطيل ، ولسان الحال ينشد على لسان

١٠٦

الفريقين ويعبر عن حال الجمعين : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) [البقرة : ١١٣].

نعم لو قيل : إن كلامه بحروف وأصوات لا كحروفنا وأصواتنا ، كما أن ذاته وصفاته ليست كذاتنا وصفاتنا ، كما قال بعض السلف. فالحق أن ذلك غير مستبعد عقلا ، لكنه مما لم يدل الدليل القاطع على إثباته من جهة المعقول ، أو من جهة المنقول ، فالقول به تحكم غير مقبول.

وعند ظهور الحقائق وانكشاف الدقائق فلا مبالاة بتلويق المتحذلق المتعمق الذي لا تحصيل لديه ، ولا معول في تحقيق الحقائق عليه ، إذ هو في حيز الجهال ، وداخل في زمرة أهل الضلال.

وإذا ثبتت الصفة الكلامية فهي متحدة لا كثرة فيها. وما أشرنا إليه في إثبات وحدة الإرادة والعلم من المزيف والمختار ، والاعتراض والانفصال ، فهو بعينه يتجه هاهنا. لكن ربما زاد الخصم هاهنا تشكيكا وخيالا ، وهو قوله : ما ذكرتموه وإن دل على عدم لزوم صفات خارجة ، فالقول بإثبات أصل الكلام مفض إليها أيضا ، وذلك أن من ضرورة وجود حقيقة الكلام أن يكون أمرا ونهيا وخبرا ونحوه من أقسام الكلام ، وإلا فمع قطع النظر عن هذه الأقسام لا سبيل إلى تعلق وجود الكلام. وإذا كان الأمر على هذه المثابة ، فلا محالة أن هذه الأقسام مختلفة الصفات ، متباينة في الخواص والمميزات ، وعند هذا فإما أن تكون هذه الخواص المتمايزة والصفات المختلفة داخلة في حقيقة الكلام أو خارجة عنه : فإن كانت داخلة فيه فهو محال ، وإلا كانت الحقيقة الواحدة لها ذاتيات مختلفة متنافرة ، إذ خاصة الأمر بتعذر القول بمجامعتها لخاصة النهي ، وكذا في سائر خواص أقسامه. وإن كانت خارجة عن حقيقة الكلام فقد لزم القول بثبوت صفات زائدة على ما دل عليه الدليل ، ولزمكم المحذور.

ثم إن هذه الصفات الزائدة لا جائز أن تكون لحقيقة واحدة ، لا تعدد فيها ، على نحو ثبوت الضحك والبكاء للإنسان ، لكونها متنافرة متعاندة ، على

١٠٧

ما سلف ، فبقي أن تكون متعددة لا محالة. وسواء كان تعددها تعدد الأشخاص أو الأجناس ، فإن ذلك يوجب نقض ما ذكرتموه وإبطال ما سلكتموه. ولربما استندوا في بيان التعدد إلى ما أوردوه في نفي الكلام عن الذات من الإجماعات والظواهر من السنن والآيات ، الدالة على كون القرآن مؤلفا من حروف وأصوات ، وأنه مرتب من سور وآيات ، ومجموع من كلمات.

والجواب أنا نقول : تعدد أقسام الكلام واختلاف أسمائه من الأمر والنهي وغير ذلك ليس هو له باعتبار تعدد في نفسه ، أو اختلاف صفات في ذاته أو لذاته ، بل هو النظر إلى نفسه ـ من حيث هو كلام ـ واحد. ليس له إلا باعتبار إضافات متعددة وتعلقات متكاثرة لا توجب للمتعلق في ذاته صفة زائدة ، ولا تعددا ، كما أسلفناه في الطرف الأول من التحقيق.

وهو على نحو قول الفيلسوف في «المبدئ الأول» حيث قضى بوحدته وإن تكثرت أسماؤه ؛ بسبب سلوب وإضافات وأمور لا توجب صفات زائدة على الذات. هذا كله إن سلكنا في التكثر مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري. وإلا إن سلكنا مذهب عبد الله بن سعيد في أن الأمر والنهي وغير ذلك لا يكون إلا عند تحقق المتعلقات ، وأن الكلام خارج عنها. أو ما نقل عن بعض الأصحاب من أنه أثبت لله ـ تعالى ـ من الكلام خمس كلمات هي خمس صفات ، وهي الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء ، فالإشكال يكون مندفعا.

وعلى ما ذكرناه من التحقيق يتبين أن من قال من الأصحاب القائلين بنفي التكثر : إن الأوامر والنواهي وغيرها صفات خارجة عن الكلام ، ولم يرد به ما أشرنا إليه ، فقد أخطأ.

وأما ما اعتمدوه من الظواهر الظنية والأدلة السمعية فقد سبق وجه الانفصال عنها فلا حاجة إلى التطويل بإعادته.

١٠٨

فإن قيل : عاقل ما لا تماري نفسه في انقسام الكلام إلى أمر ونهي وغيره ، وأن ما انقسم إليه حقائق مختلفة. وأمور متنافرة متمايزة. وأنها من أخص أوصاف الكلام ، لا أن الاختلاف راجع إلى نفس العبارات ، والاعتبارات الخارجة ، فإنا لو قطعنا النظر عن الاعتبارات الخارجة ، والمتعلقات ، ورفعناها وهما ، لم يخرج عن كونه منقسما. ومع هذا التحقيق كيف يسوغ القول بالاتحاد؟ ثم إن ما أخبر عنه من القصص الماضية والأمور السالفة مختلفة متمايزة ، فإن ما جرى لكل نبي من الأنبياء غير ما جري لغيره من الأنبياء. وكذلك المأمورات والمنهيات المكلف بها مختلفة متغايرة ، فكيف يكون نفس الخبر عما جرى لآدم وإبراهيم هو نفس الخبر عما جرى لموسى أو عيسى؟ أم كيف يكون نفس الأمر بالحج هو نفس الأمر بالصلاة؟ وأن ما توجه لزيد هو نفس ما توجه لعمرو؟ وكيف هذا التداخل؟ أم كيف يجعل الخبر أو ما سمي خبرا هو عين الأمر ، أو ما سمي أمرا هو عين ما سمي خبرا؟ مع أن الأمر هو الطلب والاقتضاء ، والخبر لا يشتمل على شيء من ذلك. وما اشتمل عليه الخبر فالأمر أيضا غير مشتمل عليه. فهل هذا إلا محض تحكم غير معقول؟! وما ليس بمعقول لا سبيل إلى إثباته. فلم يبق إلا أنه أنواع متمايزة الخواص مختلفة الذوات ، مشتركة في الجملة والكلام كالجنس لها.

والتمثيل بالمبدإ الأول مما لا إليه سبيل ؛ فإن اتحاد الذات مع اختلاف أسمائها باعتبار أمور إضافية أو سلبية ، مما لا امتناع فيه. أما إثبات صفات متضادة ، وخواص متنافرة ، وأقسام متعددة ، لذات واحدة لا تعدد فيها ولا تغاير ، فمن أمحل المحالات ، وأشنع المقالات ، ولا سبيل إليه.

قلنا : قد بينا ، فيما سلف ، أن الكلام قضية واحدة ، ومعلوم واحد قائم بالنفس ، وأن اختلاف العبارات والتعبيرات عنه ، إنما هو بسبب اختلاف المتعلقات والنسب والإضافات. كما حققناه. فما يقع به التضاد أو الاختلاف أو التعدد فليس إلا في المتعلقات والتعلقات لا في نفس المتعلق ، ولا

١٠٩

أن ما وقع به الاختلاف أو التضاد بين الأمر والنهي وغيره من أخص صفات الكلام ، بل كل ذلك خارج عنه.

وعلى هذا نقول : لو قطع النظر عن المتعلقات الخارجة ، ورفعت عن الوهم ، فإنه لا سبيل إلى القول بهذه العبارات والتعبيرات أصلا ، ولا يلزم من ذلك رفع فهم الكلام وأن تزول حقيقته عن الوجود أيضا.

وقولهم : كيف يجوز أن يكون المخبر عنه متعددا مختلفا والخبر عنه واحدا؟ أم كيف يكون المأمور به مختلفا والأمر به واحدا؟ وكيف تكون حقيقة واحدة هي أمر ونهي وخبر مع أن هذه الأمور مختلفة؟

قلنا : هل هذا إلا محض استبعاد ، وخروج عن سبيل الرشاد؟ فإنه إذا عرف أن اختلاف العبارات والتعبيرات ، قد يكون باعتبار اختلاف التعلقات ، والنسب إلى الأمور الخارجة ، والإطلاقات ، لم يمتنع أن يكون المتعلق له حقيقة واحد ، ووجود واحد ، وله متعلقات مختلفة ، ويعبر عنه ، بسبب تعلقه بكل واحد منها ، بعبارة مخصوصة ولقب مخصوص ، وإن كان هو في نفسه واحدا. وذلك على نحو ما ذكره الفيلسوف في المبدأ الأول ، وعلى نحو ما ينعكس على الأرض من الألوان المختلفة من زجاجات مختلفة الألوان بسبب شروق الشمس عليها ومقابلتها لها ؛ فإن التأثيرات مختلفة بسبب المتعلقات لا غير ، وإن كان المتعلق في نفسه واحدا. وقد يعبر عنها ، بسبب هذا التعلق واختلاف المتعلقات والتأثيرات ، بأسماء مختلفة حتى يقال : إنها مسودة ومصفرة وغير ذلك ، وإن كانت الشمس في نفسها واحدة. فكذلك ينبغي أن يفهم مثله في الكلام فإن اختلاف هذه التعبيرات عنه ليس لتعدد في نفسه ، بل لتعدد المتعلقات واختلاف الإضافات ، وذلك ليس محالا ، نعم لو عبر عنه بالنهي من جهة ما عبر عنه بالأمر ، ومن جهة ما عبر عنه بالخبر ، أو بالعكس كان ذلك متناقضا.

ومن حقق ما مهدناه زال عنه الخيال واندفع عنه الإشكال. كيف وأن

١١٠

ما ذكروه من أقسام الكلام ، وهي الخبر والاستخبار والأمر والنهي والوعد والوعيد ؛ أمكن أن ترد إلى قسمين ؛ وهما الطلب والخبر ؛ فإن الوعيد والوعد داخلان في الخبر ، لكن تعلق بأحدهما ثواب فسمي وعدا ، وتعلق بالآخر عقاب فسمي وعيدا. وأما الأمر والنهي فداخلان تحت الطلب والاقتضاء ، لكن إن تعلق بالفعل سمي أمرا ، وإن تعلق بالترك سمي نهيا. وأما الاستخبار ـ على الحقيقة ـ فغير متصور في حق الله تعالى بل حاصله يرجع إلى التقرير وهو نوع من الإخبار ، وذلك كما في قوله ـ تعالى ـ (ألست بربكم قالوا بلى). وكما أمكن رد هذه الأقسام إلى قسمين ، أمكن ردها إلى قسم واحد ، في حق الله ـ تعالى ـ ، حتى يكون على ما (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] ذكرناه ، بأن يكون معنى واحدا وقضية متحدة ، وإن تعلق بما حكم بفعله أو تركه سمي طلبا ، وإن تعلق بغيره سمي خبرا.

فإذا المتعلقات متعددة ، والمتعلق في نفسه واحد لا تعدد فيه. وهذا كله إنما هو في متصور البقاء والديمومة ، كما في كلام الله ـ تعالى ـ. وإلا فالكلام في الشاهد ـ أعني كلام اللسان والنطق النفساني ـ ليس كذلك ؛ إذ هو من قبيل الأعراض المتجددة والأغراض المتغيرة ، وذلك مما ينافي القول باتحاده ونفي أعداده.

فإن قيل : إذا قلتم بأن الكلام في نفسه قضية واحدة ، وأن اختلاف التعبيرات عنه إنما هو بسبب المتعلقات الخارجة ، فلم لا جوزتم أن تكون الإرادة والعلم والقدرة وباقي الصفات راجعة إلي معنى واحد ، ويكون اختلاف التعبيرات عنه بسبب اختلاف متعلقاته لا بسبب اختلافه في ذاته ، وذلك بأن يسمى إرادة عند تعلقه بالتخصيص في الزمان. وقدرة عند تعلقه بالتخصيص في الوجود. وهكذا سائر الصفات؟ وإن كان ذلك فلم لا يجوز أن يعود ذلك كله إلى نفس الذات ، من غير احتياج إلى الصفات؟

قلنا : تمويه هذا الإشكال ، والتهويل بهذا الخيال هو ما أوقع جماعة من

١١١

الأصحاب في دائرة الاضطراب ، وكبع حذاقهم عن تحقيق الجواب.

والذي يقطع دابره. ويكشف عن الحق سرائره ، أن يقال : إذا ثبت القول بكونه محيطا بالموجودات وعالما بها ، ومخصصا لها في وجودها وحدوثها. وثبت له غير ذلك من الكمالات ، المعبر عنها بالصفات ، فهو ما طلبناه وغاية ما رمناه. وأما إثبات كونها متغيرة الذوات ، متباينة الذاتيات ، أو أنها راجعة إلى معنى واحد هو نفس الذات ، والتخصيص والاختلاف فيها إنما هو عائد إلى المتعلقات ، والتغير بالعرضيات الخارجيات ، كما ذهب إليه بعض الأصحاب فما لم أر فيما ذكروه لإفحام الخصم كلاما مخلصا عن مغالطات ومصادرات ، وأقاويل منحرفات. وما يظهر مأخذ المعتقد من الجانبين فإنما ينتفع به الناظر مع نفسه ، لا بالنظر إلى غيره.

وأظهر ما قيل في بيان الاختلاف أن تأثير القدرة في الإيجاد. وتأثير الإرادة في التخصيص بالأحوال والأوقات ، ومع اختلاف التأثيرات لا بدّ من اختلاف المؤثرات ، وإلا كان صدور أحد المختلفين من جهة ما صدر المخالف بالآخر ، وهو محال ، وهذا خلاف الكلام فإن تعلقه بمتعلقاته لا يوجب تأثيرا مختلفا ، وكذا كل صفة على انفرادها.

وهو غير سديد ، فإنه لو وجب القول بمخالفة القدرة للإرادة لاختلاف التأثيرات ، فذلك يوجب الاختلاف في نفس الإرادة ، ونفس القدرة ، وكل صفة من الصفات. وإنما كان كذلك من جهة أن تأثيرات الإرادة متعددة ، فإن تخصيص الحادث في الأمس غير تخصيصه في اليوم أو الغد. وكذلك ما يخص بالقدرة ، فإن إيجاد زيد ليس هو نفس إيجاد عمرو. لا سيما إذا قلنا إن الوجود ليس بزائد على الموجود ، وإذا كانت التأثيرات متغايرة ، فإما أن تتحد من كل وجه ، أو تختلف من كل وجه ، أو تتحد في وجه وتختلف في وجه آخر ، فإن اتحدت من كل وجه فلا تعدد وقد فرضت متعددة ، فبقي أن تكون مختلفة ، إما من كل وجه أو من وجه ، وعلى التقديرين فهي مختلفة فيجب أن

١١٢

يكون المؤثر لها مختلفا ، فإن لم يجب أن يكون مختلفا فلا أقل من أن يكون متعددا.

فإن قيل : تأثير القدرة واحد في حقيقته ومعناه واحد في ماهيته ، فإن الإيجاد من حيث هو إيجاد لا يختلف ، وكذلك تخصيص الإرادة بالوقت واحد ، لا يختلف من حيث هو كذلك ، وما وقع به الاختلاف في تأثيرات القدرة أو الإرادة ، فليس اختلافا ذاتيا داخلا في التأثير ، من حيث هو تأثير تلك الصفة المخصوصة ، وإنما هو عائد إلى أمور خارجة عرضية ، وكذا في كل صفة على حدة. وذلك مما لا يوجب الاختلاف في نفس المتعلق أصلا.

وهذا أيضا مما لا حاصل له ، فإنه إن صدر ممن لا يعترف بكون الوجود زائدا على الموجود كان بطلانه ظاهرا ، وإن كان ممن يعترف به ، فالذوات عنده إما أن تكون متعلق القدرة ، مع كون الوجود والحدوث متعلقا لها أيضا ، أو أنها لا تعلق للقدرة بها : فإن كان الأول فقد لزمه اختلاف التأثيرات. وإن كان الثاني لزم أن تكون الذوات ثابتة في القدم ومتحققة في العدم وسيأتي إبطاله. كيف وإن ذلك لو صح في القدرة والإرادة فهو مما لا يتأتى في غيرها من الصفات ، ولا يتحقق في باقي الكمالات ، بالنسبة إلى ما لها من المتعلقات.

وإذا لاحت الحقائق ، وظهرت الدقائق ، فلا التفات إلى شغب المشنع المتحذلق ، فإن ذلك مما لا ينهض دليلا ، ولا يشفي غليلا. وهو آخر ما أردناه من مسألة الكلام وهو المستعان وعليه التكلان.

١١٣

الطرف الخامس

في إثبات الإدراكات (١)

__________________

(١) والإدراك وإن أطلق بمعنى العلم بالشيء ؛ فإنه يصح أن يقال : أدرك فلان الشيء إذا علمه ، وبمعنى اللحوق ؛ إذ يقال : أدرك فلان العصر الفلاني ، إذا لحقه ، وبمعنى البلوغ لحالة من أحوال الكمال ، ومنه يقال : أدرك الغلام إذا بلغ سن كمال العقل ، وأدركت الثمار ، إذا زهت واستوت ، إلا أن المقصود فيما نحن فيه ؛ إنما هو الإدراك بمعنى السمع والبصر. وقد أجمع العقلاء ، على أن الواحد منا مدرك ، ثم اختلفوا : فمن قال بنفي الأعراض : قال : هو مدرك ، لا بإدراك. ومن أثبت الأعراض : قال هو مدرك ، بإدراك ، وإن الإدراك معنى ، غير الإدراك عرض قائم بجزء من المدرك عند المعتزلة ، وقائم بنفس المدرك عند من لا يرى تعدي حكم الصفة عن محلها. وعند هذا اختلف المتكلمون في الرب تعالى : فذهب أصحابنا : إلى أنه سميع بسمع ، بصير ببصر. وذهب المعتزلة : إلى أنه سميع بلا سمع ، بصير بلا بصر. وذهب ابن الجبائي : إلى أن معنى كونه سميعا ، بصيرا : أنه حي لا آفة به. وذهب الكعبي : إلى أن معناه : أنه عالم بالمسموعات ، والمبصرات. وقد اعتمد أصحابنا في المسألة على المسلك المشهور ، وهو أنهم قالوا : الباري تعالى حي ، والحي إذا قبل حكما لا يخلو عنه ، أو عن ضده. وهو كونه حيا موجب لقبول السمع ، والبصر ، فلم لم يتصف الباري ـ تعالى ـ بالسمع ، والبصر. لكان متصفا بضدهما وضد البصر ، والسمع ، صفة نقص ؛ فيمتنع اتصاف الباري ـ تعالى ـ به. وبيان أن الموجب لقبوله للسمع ، والبصر كونه حيا : ما نراه في الشاهد ؛ فإن الموجب لقبول الإنسان ، وغيره من الحيوان لذلك : إنما هو كونه حيا ؛ فإنه لو قدر أن الموجب لذلك غير الحياة من الأوصاف ؛ لكان منتفضا. وإذا كان الموجب لقبول ذلك : إنما هو كونه حيا : فالباري ـ تعالى ـ حي كما يأتي ؛ فيجب أن يكون متصفا بهما وإلا كان متصفا بأضدادهما : وهو ممتنع ، واعلم أن هذا المسلك : مما لا يقوى نظرا إلى ما حققناه في مسألة الكلام. والذي نعده هاهنا أن نقول : حاصل طريقة آئل إلى قياس التمثيل ؛ وهو الحكم على الغائب بمثل ما حكم به على الشاهد بجامع الحياة ، وهو إنما يصح أن لو ثبت أن الحكم في الأصل الممثل به لمعنى ، لا أنه ثابت لنفسه ، أو بخلق علم الله ـ تعالى ـ له في ذلك من غير افتقار إلى أمر خارج ، يكون مصححا له ، وموجبا. وإن سلم أنه ثبت لمعنى ؛ لكن لا بدّ من حصر أوصاف المحل ؛ وذلك لا يتم إلا بالبحث ، والسبر ؛ وهو غير مفيد لليقين كما سلف. ثم وإن أفاد علما للباحث ؛ فلا يكون حجة على غيره ؛ فإن بحث زيد

١١٤

مذهب أهل الحق أن الباري ـ تعالى ـ سميع بسمع ، بصير ببصر.

وذهب الكعبي إلى أنه معنى كونه سميعا بصيرا أنه لا آفة به ، عالم بالمسموعات والمبصرات ، لا غير.

ومن المعتزلة من زاد عليه ، وقال : معنى كونه سميعا بصيرا أنه مدرك للمسموعات والمبصرات ، والإدراك يزيد على العلم.

وذهب الجبائي ومن تابعه إلى أن معنى كونه سميعا بصيرا أنه حي لا آفة به. وقد استروح بعض الأصحاب في الاستدلال على أهل الضلال إلى مسلك ضعيف ، وهو أن قال الباري ـ تعالى ـ حي والحي إذا قبل معنى وله ضد ، ولا واسطة بينهما ، لم يخل عنه أو عن ضده. ولا محالة أن كونه حيا مما يوجب قبوله للسمع والبصر ، فلو لم يتصف بالسمع والبصر لا تصف بضدهما ، وذلك

__________________

ـ لا يفيد العلم في حق عمرو. ثم وإن سلم الحصر ؛ فلا بد من التعرض لإبطال التأثير في كل رتبة تحصل له مع إضافته إلى غيره ؛ وذلك مما يعسر ويشق. وإن سلم التعرض لإبطال غير المستبقى ، غير أن ما به إبطال غير المستبقى ؛ فهو لازم على إبطال المستبقى ؛ فإنه منتقض بباقي أعضاء الإنسان ، وأعضاء غيره من الحيوان ؛ فإنها حية مع انتفاء السمع ، والبصر ، وأضدادهما عنها. وإن سلم أن الحكم لغير ما عين ؛ لكن من الجائز أن يكون ذلك له باعتبار الشيء الموصوف به ، ومهما لم يتبين أن الموصوف به في محل النزاع هو الموصوف به في محل الوفاق ، لم يلزم الحكم. وإن سلم أن المصحح كونه حيا لا غير ؛ فإنما يلزم ذلك في حق الله تعالى أن لو كان إطلاق اسم الحي على الله ـ تعالى ـ وعلى الواحد منا بمعنى واحد ؛ وهو غير مسلم. ولا يلزم من كون الحياة في حق الله ـ تعالى ـ شرطا لصحة الاتصاف بالعالمية ، والقادرية ، كما في الحياة في الشاهد ، التماثل بين الحياتين ؛ لجواز اشتراك المختلفات في لازم واحد. سلمنا اتحاد المسمى الحي بين الشاهد والغائب ، ولكن لم قلتم إنه يلزم من وجود المصحح ؛ وجود الصحة ، وما المانع من أن تكون ذات الباري ـ تعالى ـ مانعة؟ إذ لا يلزم من وجود المصحح انتفاء المانع. ولهذا : فإن كونه حيا كما أنه مصحح لهذه الإدراكات ؛ فهو مصحح في الشاهد لأضدادها. وما لزم من وجوده في حق الله ـ تعالى ـ صحة اتصافه بأضداد الإدراكات. انظر : الأبكار (١ / ٣١٤) ، الملل والنحل (١ / ٩٨ ـ ١٠٨) ، واللمع (ص ٢٥ ، ٣٦ ، ٣٧).

١١٥

نقص في حق الباري ـ تعالى ـ.

قال : والدليل على أن الموجب لقبوله السمع والبصر كونه حيا ما نراه في الشاهد فإن الموجب لقبولية الإنسان وغيره من الحيوان للسمع والبصر كونه حيا. إذ لو قدر أن الموجب لذلك غير الحياة من الأوصاف لكان منتقضا ، وإذا كان الموجب للقبول إنما هو الحياة ، فالباري حي ، فيجب أن يكون متصفا بهما ، وإلا كان متصفا بأضدادهما وذلك نقص في حق الله ـ تعالى ـ فيمتنع.

ومن نظر فيما أسلفناه ، وأحاط بما مهدناه علم أن ذلك مما لا يقوى. والذي نزيده هاهنا أن نقول :

حاصل الطريقة آئل إلى قياس التمثيل وهو : الحكم على جزئي بما حكم به على غيره لاشتراكهما في معني عام لهما. وهو إنما يستقيم أن لو لم يتبين أن الحكم في الأصل الممثل به ثابت لمعنى ، لا أنه ثابت لنفسه ، أو بخلق الله له في ذلك الأمر الجزئي ، من غير افتقار إلى أمر خارج ، ثم لو ثبت أنه ثبت لمعنى ، لكن لا بدّ من حصر جميع الأوصاف ، وذلك لا يتم إلا بالسبر ، وهو غير مفيد لليقين ، بل حاصله أني بحثت فلم أطلع على غير المذكور ، وغاية فائدة البحث الظن بانتفاء غير المعين لا العلم به. ثم وإن أفاد علما السابر فذلك ليس بحجة على غيره ، إذ بحث زيد لا يؤثر علما في حق عمرو ، وإن أفاد ذلك ظنا. وليس هذا كما يقال : إن من كان بين يديه قيل ، وليس بينه وبينه حائل ، وآلة الإدراك لديه حاضرة سليمة ، فإنه يستحيل ألا يبصره. فكذلك هاهنا ، فإنه لو قدر وصف آخر فإنه إما معقول أو محسوس : وأي الأمرين قدر فأسباب مداركه عند الناظر عتيدة ، فيستحيل أن لا يظفر به إذا طلبه.

وهذا وكان مخيلا لكنه مما لا يقوى ، فإنه لو كان الأمر على ما ذكره لما وقع لأحد في نظره خبط ، ولا في فكره تناقض ، ولما وقع الخلاف بين العقلاء

١١٦

في وجود شيء ونفيه ، إذ القواطع لا تتوارد على شيء ونقيضه ، وكم من وقع له التناقض في نظره ، حتى إنه حكم بشيء بعد ما حكم بمقابله. وكذلك كم من شيء اختلف العقلاء فيه ، ولم يظفر ولا واحد منهم بمقصود ، أو ظفر به واحد دون الباقين. ولا كذلك ما ذكروه من المثال. فإن وقوع مثل ذلك فيه مما يستحيل ، بالنظر إلى حكم جري العادة به. ثم ولو سلم الحصر فلا بد وأن يتعرض لإبطال تأثير كل واحد واحد على الخصوص وإبطال تأثيره في كل رتبة تحصل له من إضافته إلى غيره ، وذلك مما يعز ويشق ولا محالة. وما وقعت الإشارة به في إبطال غير المستبقي ، فهو بعينه لازم في المستبقي ، فإنه منتقض بباقي أعضاء الإنسان وأعضاء غيره من الحيوان ، فإنها حية مع انتفاء السمع والبصر وانتفاء أضدادهما أيضا.

ثم إنه وإن لم يكن الحكم لغير ما عين من الأوصاف ، لكن من الجائز أن يكون ذلك باعتبار الشيء الموصوف ، ومهما لم يتبين أن الموصوف به في محل النزاع هو الموصوف به في محل الوفاق لم يلزم الحكم ، وهذا كله لا محيص عنه ، فقد بان أن ما استروح إليه غير يقينيّ ، وإن كنا لا ننكر كونه ظنيا ، فالمطلوب ليس إلا اليقين.

ولربما استند بعض الأصحاب هاهنا إلى السمعيات دون العقليات ، والمحصل يعلم أن كل ما يتمحل من ذلك فغير خارج عن قبيل الظنيات والتخمينات ، وذلك لا مدخل له في اليقينيات وسيأتي إشباع القول في ذلك إن شاء الله ـ تعالى ـ.

فإذا السبيل في الدليل هاهنا ليس إلا ما أشرنا إليه في مسألة الإرادة ، وقد عرفت وجه تحقيقه وما يلزم عليه ، لكن ربما زاد الخصم هاهنا تشكيكات وخيالات لا بدّ من الإشارة إليها ، والتنبيه على وجه الانفصال عنها.

فمن ذلك قوله : إن ما ذكرتموه إنما يستقيم أن لو ثبت أن السمع والبصر إدراكان زائدان على نفس العلم ، وإلا فلا نقص إدراك ولا قصور ،

١١٧

لكون الباري ـ تعالى ـ عالما ، وبم الإنكار على الكعبي حيث ذهب إلى أن السمع والبصر ليسا بزائدين على نفس العلم لا شاهدا ولا غائبا؟ بل المدرك المسموع والمبصر هو السامع المبصر بعلمه. لا بحاسته التي كان حصول هذا العلم بواسطتها ، وهي المعبر عنها بالسمع والبصر ، كيف وأنه لو كان المدرك مدركا بإدراك زائد على العلم ، لجاز أن يكون بين يدي الإنسان سليم البصر والسمع ، مرئيات وأصوات ، وهو لا يراها ولا يسمعها لجواز أن لا يخلق له إدراكها ، والأمر بخلافه ، ثم لو سلم أن الإدراك ليس هو نفس العلم فبم الإنكار على الجبائي في قوله : إن المدرك هو الحي الذي لا آفة به ولا نقص ، وأنه لا معنى له إلا هذا السلب؟

ثم لو سلم أنه معنى إيجابي وأمر إثباتي ، لكنه مما يمتنع ثبوته في حق الباري ـ تعالى ـ من حيث إنه لا يخلو أن يكون قديما أو حادثا لا جائز أن يكون حادثا ، وإلا كان الباري محلا للحوادث ، وهو ممتنع. ولا جائز أن يكون قديما ، وإلا للزم أن يكون له مسموع ومبصر في العدم ، إذ السمع والبصر من غير مسموع ومبصر محال ، وذلك يفضي إلى القول بقدم العالم ، أو أن يكون ما فيه مسموعا ومبصرا في العدم ، وكلا الأمرين محال. وأيضا فإنه إما أن يشترط البنية المخصوصة للإدراك أو ليس ، فإن اشترط فإثبات الإرادة للباري يوجب له البنية المخصوصة ، وهو متعذر ، والقول بعدم الاشتراط ممتنع أيضا ، إذ يلزم منه الالتباس بين الإدراكات ، وأن تكون حاسة واحدة مدركة بإدراكات مختلفة ، وهو ممتنع ، فإن البنية المخصوصة لا بد منها ، فالسمع : هو قوة مرئية في العصبة المنبسطة في السطح الباطن من صماخ الأذن ، من شأنها أن تدرك الصوت المحرك للهواء الراكد ، في مقعر صماخ الأذن ، عند وصوله إليه بسبب ما.

والبصر : هو عبارة عن قوة مرتبة في عصبة مجوفة من شأنها أن تدرك ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من أشباح صور الأجسام بتوسط المشف.

١١٨

والشم : عبارة عن قوة مرتبة في زائدتي مقدم الدماغ من شأنها إدراك ما يتأدى إليها بتوسط الهواء من الأراييح.

والذوق : عبارة عن قوة مرتبة في العصبة البسيطة على السطح الظاهر من اللسان من شأنها إدراك ما يراد عليها من الطعوم يتوسط ما فيه من الرطوبة الغذائية.

واللمس : عبارة عن قوة منبثة في كل البدن من شأنها إدراك ما يرد عليه من خارج ، من الكيفيات الملموسة وهي الحرارة والبرودة واليبوسة ،

وإذا لم يكن في الإدراك بد من الآلات والأدوات امتنع القول بثبوتها في حق الباري ـ تعالى ، كيف وأن ما ذكرتموه ينتقض عليكم بباقي الإدراكات وغيرها من الكمالات ـ كما سلف؟

والجواب :

أما ما قيل من أن السمع والبصر ليسا بزائدين على نفس العلم : فقد قال بعض الأصحاب في الجواب هاهنا : إنه لو لم يكن كذلك وإلا لما وقعت التفرقة بين ما علم بالبرهان أو الخبر ، وبين ما حصل بالعين والبصر ، ولا محالة أن هذه التفرقة مما يشهد بصدقها نظر ذوي الألباب ، فإنكارها مما لا سبيل إليه إلا عن جحد أو عناد.

لكنه مما لا ثبوت له على محك النظر ، إذ الخصم يقول ـ وإن سلم التفرقة ـ بمنع عودها إلى العلم والإدراك. بل ما تشعر به النفس عند الخبر اليقيني بأن زيدا مثلا على صورة كذا أو كذا ، ليس يختلف عند النظر والمشاهدة بالبصر ، وإنما الاختلاف والتفرقة عائدان إلى نفس المحل ، الذي هو واسطة حصول العلم ، من البصر وغيره ، أو إلى الجملة والتفصيل ، أو الإطلاق والتقييد ، أو العموم والخصوص ، وبالجملة إلى المحل الذي هو متعلق العلم في الحالتين ، وذلك بأن يكون ما حصل بالبصر أو السمع مفصلا ، أو مقيدا ، أو خاصا ، وما حصل بالبرهان والخبر لم يكن إلا مجملا أو مطلقا أو غير ذلك.

١١٩

وذلك مما لا يدل على أن ما حصل بالبصر أو السمع خارج عن جنس العلم أو نوعه. وهو كما لو علم بطريق خاص ـ إما بالدليل أو غيره ـ أن كل منقسم بمتساويين فهو زوج واتفق أن ما في يد زيد مثلا منقسم بمتساويين ، فإنه من جهة العموم معلوم أنه زوج ، لضرورة العلم بأن كل منقسم بمتساويين زوج. وما علم بالبصر بعد ذلك ليس هو ما كان معلوما أولا ، وإنما الحاصل ثانيا هو نفس العلم بخصوصه وبكونه منقسما بمتساويين. واختلاف متعلقات العلم واختلاف طرق تحصيلها مما لا يؤثر اختلافا في نفس العلم المتعلق بها.

فالطريق في الانفصال أن يقال : الإنسان قد يجد من نفسه معنى زائدا عند السمع والبصر على ما كان قد علمه بالدليل أو الخبر ، وذلك مما لا مراء فيه كما سبق ، فالمعني بالإدراك ليس إلا هذا المعنى. وسواء سمي ذلك علما أو إدراكا ، وسواء كان متعلقه أمرا تقييديا ، أو تفصيليا ، أو معنى خاصا ، أو غير ذلك من المتعلقات ، فإن حاصل ذلك ليس يرجع إلا إلى محض الإطلاقات ومجرد العبارات ، فلا مشاحة فيها بعد فهم معانيها ، فإن ذلك مما لا يقدح في الغرض بإبطاله أو تصحيحه. وعند ذلك فلا مبالاة بمن اعتاص على فهمه قبول هذا الاعتقاد ، وشمخ أنفه عن أن ينقاد ، بعد ظهور الحقائق وانكشاف غور الدقائق ، ومن رام في الانفصال عن هذا الخيال غير ما أشرنا إليه فقد كلف نفسه شططا ، وذلك على النبيه مما لا يخفى.

وما قيل من أنه لو كان الإدراك زائدا على نفس العلم لجاز أن يكون بين يدي إنسان سليم البصر فيل لا يدركه لجواز أن لا يخلق له الإدراك به وهو محال. قلنا : ادعاء كونه محالا إما أن ينظر فيه إلى الإحالة العقلية أو العادية ، فإن كان الأول فهو استرسال لما هو غير مسلم. وإن كان الثاني فهو بعينه لا محالة لازم في خلق الإدراك ، فإنه كما يستحيل عادة انتفاء الإدراك للفيل ، عند حضوره بين يدي ذي البصر السليم ، كذا يستحيل القول بانتفاء

١٢٠