غاية المرام في علم الكلام

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

غاية المرام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4311-5
الصفحات: ٣٣٤

كان قديما فنسبة الأحوال والأوقات والأضداد وكل ما يقدر بالإضافة إليه على وتيرة واحدة ، فما خصصه بزمان الحدوث ، إن افتقر إلى مخصص آخر ، فالكلام في ذلك المخصص الثاني كالكلام في الأول ، وذلك يفضي إلى التسلسل وهو ممتنع. وإن لم يفتقر إلى مخصص آخر فما هو جواب لكم في الإلزام هاهنا أي في الإرادة هو جواب لنا في الذات.

قلنا : قد بينا أنه لا بدّ من إرادة قديمة كان بها التخصيص ، وليس ما ذكرناه في إبطال التخصيص بالذات مما ينقلب في الإرادة ، فإنه إذا قال القائل : لم خصصت الإرادة هذا الحادث بزمان حدوثه ، وليس هو بأولى مما قبله أو بعده؟ كان السؤال في نفسه خطأ ، من جهة أن الإرادة عبارة عما يتأتى به التخصيص للحادث بزمان حدوثه. لا ما يلازمه التخصيص ، فإذا قيل : لم كانت الإرادة مخصصة؟ فكأنه قال لم كانت الإرادة إرادة؟ وهو في نفسه محال ، وهذا كما لو قال : لم كان الواجب بذاته لا يفتقر إلى علة ، والممكن بذاته يفتقر إلى علة في كل واحد من طرفيه. فإنه لا يقبل ، من حيث إن سؤاله يتضمن القول بأنه لم كان الواجب واجبا ولم كان الممكن ممكنا ، فإن الواجب هو عبارة عما لا يفتقر إلى غيره في وجوده ، والممكن بعكسه ، وهو مما لا يخفى وجه فساده. وهو لا محالة إن ورد من الفلسفي أظهر في الفساد ، من جهة اعترافه بإسناد جميع الحادثات والأمور المتجددات كالحركات وغيرها إلى الإرادات النفسية الثابتة للأجرام الفلكية ولا مندوحة عنه.

فإن قيل : لو سلم قيام المخصص بذات الرب تعالى وكونه قديما لكنه مما يمتنع تفسيره بالإرادة لوجهين :

الوجه الأول : هو أنه لو كان مخصصا بالإرادة لما خصصه ، فلا بد من أن يكون قاصدا لما خصصه وطالبا له ... بل يتعالى ويتقدس عن الأغراض ، وإنما هي عائدة إلى المفعول المرجح ، وذلك مما لا يوجب تحققه للغير ولا

٦١

عدمه نقصا ما ، والذي يوضح هذا هو أن ما ظهر من حكمة بعثة الرسل والأنبياء وتبليغهم ليس إلا إصلاح الخلق وتقويم نظامهم ، وإن كنا نعلم أن عدم هذه الحكمة ووجودها بالنسبة إلى حال النبي سيان ، فيما يرجع إلى نفس كماله ونقصانه ، وهذا مما لا ينكره عاقل إلا عن عناد. ثم إن هذا مما لا يصح إيراده ممن يعترف بكون الباري تعالى مريدا ، من المعتزلة وغيرهم. وإن ورد من الفلاسفة الإلهيين ومن تابعهم فهو لازم عليهم أيضا ، فإنهم قضوا [بأن] الترجيح في الوجود وغيره إنما يستند إلى ذات واجب الوجود ، وإن ما وجب به لا يتأخر وجوده عن وجوده ، بل هو ملازم له في الوجود ، كملازمة حركة الخاتم لحركة اليد. كما سيأتي تفصيل مذهبهم.

وعند ذلك فنقول : ملازمة ما وجد به ووجب عنه إما أن تكون وعدمها سيان أو أن الملازمة أولى : فإن كانت الملازمة وعدمها سيان ، فالقول بوجوب اللزوم في الوجود متناقض. وإن كانت الملازمة هي الأولى ، فلا محالة أن ما هو الأولى في لزومه له أنه يستفيد بملازمته كمالا وبعدمه نقصانا. فإذا ما هو اعتذارهم في الذات هو اعتذارنا في الإرادة ، ولا محيص عنه.

ومما يلزمهم أيضا في ذلك أن تكون الأنفس الفلكية المخصصة للحركات الدورية كما عرف من مذهبهم ، متوقفة في حصول كمالها على معلولها ، لكونها مخصصة له بالإرادة. وفي ذلك توقف كمال الأشرف على المشروف ولا خلاص لهم منه.

وأما ما ذكروه من الوجه الثاني :

في قولهم : «لو كانت صفة نفسية قديمة لما تعلقت ببعض المتعلقات دون البعض كما في العلم» ، فمع أنهم قد نقضوا ما أبرموه ، وحلوا ما عقدوه بالقدرة ، فإنهم قالوا : إنها صفة قديمة نفسية ولا تعلق لها بأفعال العباد ، فهو صحيح.

وسنبين فيما بعد ـ إن شاء الله ـ أنه لا خالق إلا الله. ولا مبدع إلا هو.

٦٢

وأن الإبداع والخلق لجميع الحادثات ، لا يكون إلا عن إرادة واختيار ، لا عن طبع واضطرار ، كيف وإنه لو لم تتعلق إرادته بجميع الكائنات لكان كمال واجب الوجود بالنسبة إلى ما لم تتعلق به إرادته من الكائنات أنقص بالنسبة إلى حال من تعلقت به إرادته من المختارين ، وهو محال؟ وما ذكروه من المحالات وأوردوه من الإلزامات غير متجه.

أما الأول ، وهو قولهم : يلزم أن يكون مريدا لإرادة زيد وعمرو عند اختلاف مراديهما ، فقد منع بعض الأصحاب من تصور اجتماع مثل هاتين الإرادتين وقال : إن ما علمه الله على ما هو عليه وإنه سيكون أولا يكون فهو المراد ، ونقيضه تشبه غير مراد. فعلى هذا تصور الإرادتين عند تعلقهما بنقيضين ممتنع. وهو مما فيه نظر ، فإن ما وجد من كل واحد منهما مماثل لما وجد من صاحبه ، فيما يرجع إلى الميل والقصد ، والاختلاف ليس إلا في التعلق. وكون أحدهما واقعا على الوفق. والآخر على خلافه ، فإن كان ذلك هو الموجب تسمية البعض إرادة ، والبعض شهوة فحاصله يرجع إلى الاصطلاح في الأسماء ، لا الاختلاف في المعنى ، وهو ما يوجد في كل واحد منهما.

فالذي يتجه وله ثبات على محك النظر ، أن يقال : إنما يلزم هذا المحال أن لو لزم من تعلق إرادته بإرادتهما تعلقها بمراديهما ، وليس كذلك ، بل المدعي به متحكم بما لا دليل عليه ، فالرأي الحق أن يقال إن تعلقها بالإرادتين إنما كان بالنظر إلى حدوثها ، وتخصصها بالوجود دون العدم ، وذلك مما لا يوجد تضادا ولا تناقضا. والجمع بين متعلقيهما وإن كان محالا ، فإنما يلزم أن لو لزم تحققه في متعلقهما به ، أي من تعلق الإرادة القديمة بهما وليس كذلك ، بل متعلق كل واحد منهما إنما يتم بتعلق الإرادة القديمة به وذلك غير لازم من تعلقها بإحداث الإرادة الحادثة المتعلقة به.

وأما المحال الثاني فقد أجاب عنه بعض الأصحاب بأن قال : أفعال

٦٣

المكلفين وإن انقسمت إلى خيرات وشرور ، لكن الإرادة إنما تتعلق بها من حيث وجودها وتحققها ، وهي من هذا الوجه ليست بشرور ، بل خيرات محضة ، وإنما تلحقها الشرور باعتبار الصفات التي هي منتسبة إلى فعل العبد وقدرته ، وهي ما قلتم إنها توابع الحدوث ، كما يأتي تحقيقه في مسألة خلق الأفعال. وهي من هذه الجهة ليست مرادة لله ـ تعالى ـ على الأصلين ؛ فإن إرادة فعل العبد ـ من حيث إنه فعله ـ تمن وشهوة ، وذلك في حق الباري محال. فإذا ما هو مراد الله تعالى إنما هو التخصيص والإحداث وذلك هو الخير ، وما هو الشر ومنه الشر فهو ما وقع مسندا إلى فعل العبد من حيث هو فعله ، وذلك غير مراد الله تعالى.

وسنبين إبطال هذا المقال في مسألة خلق الأعمال ، وأن ما من حادث إلا وهو مضاف إلى الباري تعالى بأنه محدثه ومريد له ، وأنه لا خالق إلا الله تعالى ولا مبدع إلا هو ، وأنه لا يجري في ملكه إلا ما هو مراد له ، ومن حيث هو مراد له ليس بشر ، فإن تعلق الإرادة به إنما هو من جهة تخصصه بالوجود دون العدم أو العدم دون الوجود ، وبالجملة من جهة تخصصه ببعض الأحوال دون البعض ، وذلك مما لا يوصف بكونه شرا من حيث هو كذلك. نعم إن وصف بعض الحادثات بكونه شرا ، فذلك ليس هو لعينه ، ولا أن الشر وصف ذاتي له ، ولا هو في نفسه معنى وجودي ، بل معنى نسبي. وأمر إضافي. كما يأتي تحقيقه في مسألة التحسين والتقبيح. وذلك مما لا يمنع من إضافته إلى الإرادة القديمة وإلا لما أضيف إليها ما في عالم الكون والفساد ، من التحريق والتغريق ، والضعف ، والزلازل ، والهدم ، ونحو ذلك من الآفات الفادحة والأمراض المؤلمة وغير ذلك مما لا يقولون به.

ثم إن مستندهم فيما ذكروه ليس إلا الشاهد ، لو صح أن يقال : الغائب باعتبار إرادته للشر شرير ـ كما في الشاهد ـ صلح أن يقال إذا أراد الطاعة مطيع.

٦٤

فإن قيل : تسمية الواحد منا مطيعا ، وإنما كان بالنسبة إلى ما أراده وقصده مما هو مأمور به وملجأ إليه ، والباري ـ تعالي ـ منزه عن ذلك.

قلنا : فما المانع من أن تكون تسمية الواحد منا ـ أيضا ـ شريرا أو سفيها بالنسبة إلى ما قصده ، من جهة أنه منهي عنه ، وممنوع منه؟ كيف وأن هذا هو الحق ، وأن الصبي والمجنون لو أتيا بمثل ما يأتي به المطيع والشرير ، فإنه لا يقال فما مطيع وإلا شرير؟ ولم يكن ذلك إلا لعدم ورود التكليف نحوه. هذا إن ورد من المعتزلة.

وأما الفلاسفة فلهم تفصيل مذهب في معنى الخير والشر ، وهو ما لا تمس الحاجة إلى ذكره. وإن من حقق ما قررناه ، أمكنه التفصي عن كل ما يتخيلونه هاهنا.

وأما المحال الثالث :

فإنما يلزم أن لو كان المأمور والمنهي مرادا وليس كذلك ، بل المأمور الذي علم وقوعه والمنهي الذي علم الانتهاء عنه هو المراد ، أما ما علم انتفاؤه فليس بمراد الوجود ، وإن كان مأمورا به ، وما علم وجوده فليس بمراد الانتفاء وإن كان منهيا عنه ، وإلا كان فيه إبطال أخص وصف الإرادة ، وهو تأتي التمييز بها ، وهو ممتنع. وأما ما يطلق عليه اسم الإرادة مع عدم حصول التمييز به فليس في الحقيقة إرادة بل شهوة وتمنيا ، فإذا الإرادة أعم من الأمر من جهة أنها توجد ولا أمر ، والأمر أعم منها من جهة أنه قد يكون ولا إرادة ، وليس ولا واحد منهما يلزم الآخر لزوما معاكسا ولا غير معاكس. وعند ذلك فلا يلزم من الأمر بالوجود وإرادة العدم ما تخيلوه من التناقض. وعلى هذا القول في النهي أيضا.

ثم كيف ينكر ذلك مع الاعتراف بتكليف أبي جهل بالإيمان من غير إرادة له؟ وبما ظهر من قصة إبراهيم في تكليفه بذبح ولده؟ كما يأتي تحقيقه فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ فإذا ليس ثمرة الأمر امتثال ما أمر به ، بل من

٦٥

الجائز أن تكون له ثمرة أخرى. وعند ذلك فلا يكون عبثا ولا متناقضا ، كما في هذه الصور. ولهذا قال بعض الأصحاب : إنه لو علم من أحد من الأمة ، أنه لو كلف بخصلة من خصال الخير لم يأت بها ، ولو ضوعفت عليه لم يقصر عنها ، فإنه إذا أمر بالضعف كان أمرا صحيحا وإن لم يكن ما أمر به مرادا ، وذلك على نحو أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج بالصلوات. هذا كله إن قيل برعاية الصلاح ، وإلا فلا حاجة إلى هذا التكليف ولا غرض في هذا التعبد. وما قيل من أنه يفضي إلى التكليف بما لا يطاق فذلك مما لا نأباه وسنبين وجه جوازه فيما بعد إن شاء الله.

وما أشير إليه ، من الظواهر الدالة على نفي الإرادة والرضى للقبح والفساد ، مما لا يسوغ التمسك بها ، في مسائل الأصول ، إذ هي مع ما يقابلها من ظواهر أخرى ممكنة التأويل ، جائزة التخصيص ، والمقطوع لا يستفاد من المظنون. كيف وأن القول بموجبها متجه هاهنا؟ فإننا لا نعترف بأن إرادته ورضاه مما يتعلق بالمعاصي على اختلاف أصنافها ، إذ هي من حيث هي شرور ومعاص أمور إضافية ، لا ذوات حقيقة ، كما سنبين ، والإرادة لا تتعلق بها ، إنما تتعلق بها من حيث الحدوث والتجدد كما سبق. ومن تمسك بهذه القاعدة استغنى عن التأويل بطريق التفصيل ، كيف وأنا سنقرر قاعدة في معنى المحبة والرضى والإرادة يمكن أن نتوصل منها إلى تأويل كل ما يرد من هذا القبيل.

أما المحبوب والمرضي في حق الله تعالى فليس معناه إلا أنه ممدوح عليه في العاجل ، ومثاب عليه في الآجل. كما أن المسخوط القابل له ليس معناه إلا نقيض ما ذكرناه. فعلى هذا معني قوله : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) [النساء : ١٤٨] وقوله : (لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] وقوله : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧] أنه غير ممدوح ولا مثاب عليه ، وهكذا تأويل كل ما يرد من هذا القبيل.

٦٦

وأما الإرادة فإنها قد تتعلق بالتكليف من الأمر والنهي ، وقد تتعلق بالمكلف به أي إيجاده وإعدامه ، فإذا قيل : إن الشيء مراد ، فقد يراد به أن التكليف به هو المراد ، لا عينه وذاته. وقد يراد به أنه في نفسه هو المراد ، أي إيجاده أو إعدامه. فعلى هذا ما وصف بكونه مرادا ، ولا وقوع له ، فليس المراد به إلا إرادة التكليف به فقط. وما قيل إنه غير مراد. وهو واقع ، فليس المراد به إلا أنه لم يرد التكليف به فقط.

ومن حقق هذه القاعدة أمكنه التفصي عن قوله : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر : ٣١] بأن يقال : المراد به إنما هو نفي الإرادة بالتكليف به ، لا من حيث حدوثه ، وكذا قوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] معناه الأمر باليسر ، ونفيه عن العسر. وعلى هذا يخرج قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] فإنه ليس المراد به وقوع العبادة ، بل الأمر بها.

وقول بعض الأصحاب في تقرير الأمر بما ليس بمراد : إن ما يتعلق به الأمر والنهي ، إنما هو أخص وصف فعل المكلف ، وهو ما يصير به طائعا أو عاصيا ، وذلك الأخص هو ما يتعلق بكسبه ويدخل تحت قدرته ، وبه يتحقق معنى التكليف ، وهو ما جعلته المعتزلة من توارد الحدوث ، لا أن التكليف متعلق بأصل الفعل ، إذ هو فعل الله ـ تعالى ـ وذلك لا يجوز التكليف به ، إذ هو من فعل الغير ، والتكليف بفعل الغير تكليف بما لا يطاق. فإذا ما يقع به التكليف إنما هو ما ينسب إلى فعل العبد واكتسابه ، وليس ذلك مرادا لله ـ تعالى ـ ولا داخلا تحت قدرته ، غير صحيح. على ما سيأتي تفصيل القول فيه إن شاء الله.

وأما ما ذكروه من المحال الرابع :

فمبني على فاسد قولهم : إن ما سبق من الإرادة لا يكون إلا عزما ، مع سبق فكر وتردد. ولا يخفي ما به من التحكم وهو وإن أمكن تخيله في

٦٧

الشاهد ، فإنه غير لازم في حق الغائب ، كما سلف.

وما قيل من أنه لا حاجة إلى صفة الإرادة مع وجود العلم والقدرة فممتنع ؛ إذ القدرة هي ما يتأتى بها الإيجاد ، ولا محالة أن نسبتها إلى سائر الأوقات نسبة واحدة. فتخصيصها للحادث بزمان حدوثه ، من غير مخصص ، مع أن نسبة الأوقات إليها نسبة واحدة ، لا معنى له. وهو كما قيل في التخصيص بالذات من غير فرق. وهذا لا ينعكس في الإرادة كما سلف. فإذا لا بد من المخصص. ثم لو أغنت عن الإرادة لحصول الإيجاد بها لأغنت عن العلم أيضا. وكيف وأن القدرة عند الخصم في الشاهد ما يتأتى بها الإيجاد ، كما في قدرة المختارين بالنسبة إلى أفعالهم ومع هذا ليست كافية عن الإرادة. حتى إن من كان قادرا ولم يكن مريدا فإنه وإن حصل الإيجاد في حقه. صح أن يقال : ليس هو أولى من عدمه ، وإن فعله عبث. فهلا قيل مثله في حق الباري تعالى؟

وليس العلم مما يصح الاكتفاء به عنها أيضا ، وإن لزم الحدوث في وقت الحدوث من ضرورة تعلق العلم به ؛ إذ العلم لا يحصل به التمييز ، ومع قطع النظر عما به التمييز ، فتخصيص الحادث بزمان حدوثه ، إذ ذاك ، لا يكون أولى به من غيره. ثم إنه لو اكتفى به عن الإرادة ؛ لضرورة وقوع الحادث على وفقه ، لاكتفى به عن القدرة أيضا لهذا المعنى. كيف وأنه من الجائز أن يحصل العلم في الشاهد لبعض المختارين بإخبار صادق ، بأنه سيفعل كذا على كذا ، في وقت كذا ، ومع ذلك فالإرادة لا تكون مستغنى عنها؟ فقد بان من هذا أنه لا سبيل إلى القول بالاستغناء بالعلم أو القدرة عن الإرادة أصلا. ولا جائز أن يقال بأن معناها هو معنى العلم أو القدرة ، إذ هما أعم منها ، من حيث أن كل مراد الله ـ تعالى ـ مقدور ، ومعلوم. وليس كل معلوم أو مقدور مرادا ، والقول بأن الأخص هو الأعم ، والأعم هو الأخص ، محال.

فقد بان أنه لا بدّ من صفة زائدة على ذات واجب الوجود ، يتأتى بها

٦٨

التخصيص بالحدوث ، وتلك الصفة هي الإرادة. وأنها لا بد من قدمها وأزليتها ، وقيامها بذات واجب الوجود ، وتعلقها بجميع الكائنات. وهي ـ مع ذلك ـ متحدة لا كثرة فيها ، ومع اتحادها فلا نهاية لها ، لا بالنظر إلى ذاتها ، ولا بالنظر إلى متعلقاتها.

أما بيان كونها واحدة : فقد قال بعض الأصحاب. لو كانت متعددة لكان تعددها بتعدد متعلقاتها ، وما يصح أن تتعلق به الإرادة غير متناه تقديرا ، فلو تعددت بتعدده لكانت غير متناهية أعدادها تحقيقا ، وقد قام الدليل على استحالة ذلك وإن تعددت بسبب تعلقها ببعض المتعلقات التقديرية فذلك يستدعي مخصصا ، والقديم لا تخصص له بجائز دون جائز.

واعلم أن هذا غير صواب ، فإن ما ذكره من القسم الأول ، فمبني على القول بامتناع وجود أعداد لا نهاية لها ، وهي موجودة معا ، ولا ترتب لها وضعها ، ولا طبعا. وقد بينا وجه فساده فيما مضى. وما ذكره من القسم الثاني ، فهو مع ما فيه من التحكم ، كاذب في دعواه ـ بجهة العموم والشمول ـ استحالة تعلق القديم ببعض المتعلقات الجائزة دون البعض ؛ فإن الممكنات منها ما هو مراد عنده لا محالة ، مع هذا التخصيص.

فالرأي الحق أن يقال : لو كانت متعددة ومتكثرة ، لم تخل تلك المتكثرات إما أن تختلف من كل وجه ، أو تتحد من كل وجه ، أو تتحد من وجه وتختلف من آخر : فإن اتحدت من كل وجه فلا محالة أن الإرادة التي أردناها ليست إلا واحدا منها والباقي ليس إرادة. وإن اختلفت من كل وجه فليس التكثر فيها في صفة الإرادة ، لضرورة أن حقيقة الإرادة ليست إلا حقيقة واحدة. وإن اختلفت من وجه دون وجه فما به التكثر والاختلاف حينئذ لا بدّ أن يكون خارجا عن صفة الإرادة ، وإلا فهو القسم الأول بعينه. وعند ذلك فما اختص بكل واحد من المتكثرين ، إما أن يكون اختصاصه به لذاته ، أو باعتبار مخصص خارج : لا جائز أن يقال بالأول وإلا لما وقع

٦٩

الاختلاف فيه بين أعداد الإرادات ، إذا الكل تحت إرادة واحدة. ولا جائز أن يقال بالثاني ، وإلا فالمخصص له بذلك إما أن يكون بالذات أو الإرادة : فإن كان بالذات فهو أيضا محال ، وإلا لما تخصص به أحد المتماثلين دون الآخر ، إذ لا أولوية. وإن كان ذلك بالإرادة ، فالكلام في تلك الإرادة ، وما به تميزت ، كالكلام في الأول ، وذلك يفضي إلى التسلسل ، وهو ممتنع.

فإن قيل : إضافة التخصيص إلى ما يقتضيه لذاته ، وإن كان ممتنعا ، فلا يخفي أن الإرادة عبارة عما يتأتى بها التخصيص ، وإذ ذاك فلا فرق بينها وبين ما هو قائم بها أو بغيرها. فعلى هذا غير ممتنع أن يضاف التخصيص. لما يخصص به كل واحد من أقسام الإرادة نفسه. ويكون تخصيصه له ، لا لذاته ، بل على النحو المفهوم من تخصيصه لما هو خارج عنه. وعند ذلك فليس يلزم الاشتراك على ما لا يخفى. بل ويجوز أن يكون تخصص كل واحد بما يخصص به مضافا إلى الآخر ، والتسلسل على هذا يكون منقطعا.

قلنا : أما الأول فمما لا يتجه ؛ إذ شرط التخصيص بالإرادة أن تكون مخصصة بالوجود ، وهذا مما لا يتم بدون ما قيل إنه مميز لها ومخصص ، وهو دور ممتنع وعلى هذا يظهر امتناع ما قيل به ثانيا ؛ فإنه كيف يتصور أن يكون كل واحد من أقسام الإرادة مخصصا للآخر ، وهو إنما يكون مخصصا لغيره ، بعد القول بتخصصه. وهو أيضا دور محال. كيف وأن ذلك يفضي إلى إثبات صفات لنفس واجب الوجود خارجة عنها ليست من الصفات النفسية ، من غير دليل عقلي ، ولا نص شرعي ، وهو محال وهذه المحالات كلها إنما لزمت من فرض كون الصفة الإرادية متكثرة.

كيف وأن الطريق الموصل إلى ثبوت صفة الإرادة إنما هو كون الكائنات ، وذلك إنما يدل على أنه لا بد من إرادة يكون بها التخصيص ، والقول بتعددها مما يزيد على القول الواجب من غير دليل. فإنه لا مانع من أن تكون الإرادة واحدة والمعلقات متعددة ، وذلك على نحو تعلق الشمس بما

٧٠

قابلها واستضاء بها ، فإنه وإن كان متعددا ، لا يوجب تعددها في نفسها وإن أوجب تعدد متعلقاتها ، على ما لا يخفى. وهذا هو الأقرب إلى الإنصاف ، والأبعد عن الاعتساف ، من جهة أن العقل قد دل على وجود أصل الإرادة فالقول بنفيها تقصير والقول بتكثرها إفراط. وكل خارج عن حوزة الاحتياط.

ولعمري إن من رام نفي التكثر من صفة الإرادة أو غيرها من الصفات بغير ما سلكناه لم يجد فيه كلاما محصلا.

فإن قيل : قولكم إن ما وقع به التعدد والاختلاف إن كان خارجا عن حقيقة صفة الإرادة فلزم إثبات صفات للذات خارجا عن أصل الإرادة. فإنما يستقيم أن لو لم يصح التغاير بين الذوات ، إلا باعتبار صفات وجودية وأمور حقيقية ، وما المانع من أن التغاير بين الذوات ، باعتبار سلوب ، وإضافات ، ومتعلقات خارجة عن الذوات؟ بأن يكون متعلق كل واحد غير متعلق الأخرى ، مما نسب إليها أو سلب عنها ، وتلك ليست أمورا وجودية ولا صفات حقيقة. وذلك على نحو ما يقوله الفيلسوف في وجوب تكثر الأنفس الإنسانية عند مقارنة الأبدان وبعد مفارقتها أيضا ، فإن السبب الموجب للتكثر ليس إلا ملابسة النفس البدن ، واختصاصها بالنظر إلى أحواله وتدبيره ، لا أن اختصاصها به اختصاص الصفات بالموصوفات ، وأن ما حصل لها من النسبة ، من حالة المقارنة ، هو الذي أوجب بقاءها متغايرة بعد المفارقة ، فعلى هذا غير بعيد أن يكون التغير بين الإرادات المتكثرة ، باعتبار النسب والإضافات وتغير المتعلقات.

قلنا : قد بينا أن الاختلاف يستدعي مميزا ، وما قيل من أنه يجوز أن يسند ذلك إلى السلوب والإضافات فمندفع ، وذلك أن السلب عن أحد المتكثرين إن وقعت بينهما المشاركة فيه ، بأن يكون مسلوبا عن كل واحد منهما ، كسلب الحجر عن الإنسان والفرس فذلك ما لا يوجب الاختلاف ،

٧١

وإن لم تقع المشاركة بينهما فيه بأن يكون ما سلب عن أحدهما موجبا للآخر. ففيه إثبات صفة زائدة ، وهو عود إلى ما أبطلناه.

وأما التغاير باعتبار الإضافة والتعلق ، فتلك الإضافات والتعلقات إما أن توجب قيام صفات بالمتعلقات أو ليس : فإن أوجبت قيام صفات بالمتعلقات فهو ـ وإن أوجب التغاير ـ لكنه فيما نحن فيه متعذر ، لما بينا ، وإن لم يوجب قيام صفات بالمتعلقات ، فهي غير موجبة للتغاير في التعلق أصلا. بل يجوز أن يتحد الشيء اتحادا مطلقا ، وإن اختلفت إضافته ونسبته ، إذ لم تجب له من تلك الإضافات صفات زائدة على ذاته ، وهذا مما لا خفاء به.

وعلى هذا التحقيق فالإرادة صفة واحدة لا انقسام فيها لا بالحد ولا بالكم. وإن وقع التعدد في متعلقاتها ، وتعلقها. وذلك على نحو ما ذكرناه ، من تعلق الشمس بما قابلها ، واستضاء بها ؛ فإنه وإن كان متعددا ، أو متغايرا ، لا يوجب وقوع التعدد في الشمس نفسها. وهو المعني بسلب النهاية عن ذات واجب الوجود وكذا في غير الإرادة من صفات الذات ، وأما سلب النهاية عنها بالنظر إلى متعلقاتها فليس المعني به أيضا إلا أن ما يصح أن تتعلق به الإرادة من الجائزات ، لا نهاية له ، بالقوة. لا أنه غير متناه بالفعل. وهذا مما لا مراء فيه ، ولا دليل ينافيه. وهذا آخر ما أردنا ذكره هاهنا ، والله الموفق للصواب.

٧٢

الطرف الثاني

في إثبات صفة العلم (١)

__________________

(١) مذهب أهل الحق : أن الباري ـ تعالى ـ عالم بعلم واحد قائم بذاته ، قديم أزلي ، متعلق بجميع المتعلقات ، غير متناه بالنظر إلى ذاته ، ولا بالنظر إلى متعلقاته. وأما الفلاسفة فمختلفون : فمنهم من نفى كونه عالما مطلقا ، لا بذاته ، ولا بغيره. ومنهم من أثبت كونه عالما بذات ، دون غيره. ومنهم من أثبت كونه عالما بذاته وبغيره ، إن كان معنى كليا ، ولم يجوّز كونه عالما بالجزئيات : من حيث هي جزئيات ؛ بل على نحو كلي ، وهذا هو الذي ينصره أبو علي بن سينا. وأما المتكلمون : فمنهم من قال : لا يوصف الباري ـ تعالى ـ بما يوصف به خلقه ؛ فلا يوصف بكونه عالما ، ولا حيا ؛ ولكن يوصف بكونه قادرا ، خالقا ؛ لأنه لا يوصف شيء من مخلوقاته بذلك على الحقيقة ، وأثبت لله علوما حادثة لا في محل ؛ وهذا هو مذهب جهم بن صفوان. ومنهم من قالت : هو عالم : بمعنى أنه ليس بجاهل ؛ وهو مذهب ضرار بن عمرو. وذهب الجبائي ، وابنه أبو هاشم : إلى أنه عالم لذاته ؛ لكن اختلفا. فقال الجبائي : هو عالم لذاته : أي لا يقتضي كونه عالما ، صفة زائدة من علم ، أو حال. وقال أبو هاشم : هو عالم لذاته : بمعنى أنه ذو حالة زائدة لا توصف بالوجود ، ولا بالعدم ، ولا بكونها معلومة ، ولا مجهولة. وذهب أبو الهذيل العلاف : إلى أن الباري ـ تعالى ـ عالم بعلم ؛ هو ذاته. وذهب أبو الحسين البصري ، وهشام بن الحكم : إلى أن اتصافه بكون عالما بالجزئيات متجدد ، وبالكليات أزلي. وذهب آخرون : إلى أنه لا يعلم ما لا نهاية له من المعلومات ؛ بل إنما يعلم ما كان متناهيا. ثم إن من اعترف من الفلاسفة ، بكونه عالما بنفسه وبغيره ، انتهج في الاستدلال على ذلك منهجين : المنهج الأول : أنه بين كون الرب ـ تعالى ـ عالما بذاته أولا ، ثم بين استلزامه علمه بذاته ؛ لعلمه بغيره ثانيا. فقال : واجب الوجود يعلم ذاته ، ويلزم من علمه بذاته علمه بغيره. أما أنه يعلم ذاته : فهو أن وجود واجب الوجود مجرد عن المادة ، وعلائقها : أي أنه ليس بجسم ، ولا جسماني ؛ على ما يأتي تحقيقه. وكل ماهية مجردة عن المادة ، وعلائقها ؛ فهي عقل : إذ لا نعني بالعقل إلا هذا. فواجب الوجود بما هو هوية مجردة : عقل. وبما يعتبر له أن ذاته له هوية مجردة : هو عاقل ذاته ؛ إذ لا معنى لتعقل الشيء لذاته إلا حصول ذاته المجردة لذاته ، وبما يعتبر له أن هويته المجردة لذاته : هو معقول. وإذا ثبت أنه عاقل لذاته ، وعالم بها ؛ فيجب أن يكون عاقلا لما وجوده من وجوده ؛ لأنه إذا علم ذاته ، وذاته مبدأ ، لما وجوده

٧٣

مذهب أهل الحق أن الباري ـ تعالي ـ عالم بعلم واحد قائم بذاته قديم أزلي متعلق بجميع المتعلقات.

وأما الفلاسفة فمختلفون :

١ ـ فمنهم من نفى عنه العلم مطلقا ولم يجوز أن يكون له علم متعلق بذاته ولا بغيره.

٢ ـ ومنهم من أوجب له ذلك ، لكن منع أن يكون متعلقا بغيره ، بل بذاته.

٣ ـ ومنهم من جوز عليه ذلك لكن بشرط كون المتعلق كليا ، وأما الجزئيات فإن تعلق بها فليس ذلك إلا على نحو كلي ، لا أنه متعلق بالجزئي ، من [حيث] هو جزئي.

__________________

ـ بوجوده بالذات ؛ فيجب أن يكون عالما ، بأن ذاته مبدأ لغيره. ومتى عليم أن ذاته مبدأ لغيره ، فلا بد وأن يكون عالما بذلك الغير ؛ لأن العلم بكونه مبدأ لذلك الغير ، علم بمعنى إضافي بين ذاته ، وما وجب عنه. ولا تحقق لذلك دون العلم بالمضافين ، ويلزم من علمه بذلك الغير ؛ علمه بما صدر عن ذلك الغير ، وهكذا على الترتيب النازل من عنده طولا ، وعرضا ، إلى ما لا يتناهى. المنهج الثاني : أنه بين كون الرب ـ تعالى ـ عالما بغيره ، ثم بين أن علمه بغيره يستلزم كونه عالما بذاته. فقال : إن علم غيره ؛ علم ذاته ، وقد علم غيره ؛ فيلزم أن يكون عالما بذاته. وبيان أنه يلزم من علمه بغيره ، علمه بذاته : أن من علم شيئا ؛ فلا بد وأن يعلم أنه عالم بذلك الشيء ، وعلمه بأنه عالم بذلك الشيء : علم بصفة له ؛ وهو كونه عالما ، والعلم بالصفة ، يستدعي العلم بالموصوف ؛ ضرورة. وإذا ثبت أنه يلزم من علمه بغيره ؛ علمه بذاته : فبيان أنه عالم بغيره هو أن واجب الوجود مجرد عن المادة ، وعلائقها. وطبيعة الوجود من حيث هو طبيعة الوجود ؛ غير ممتنع عليه أن يعلم ، ويعقل. وإنما يفرض له أن لا يعلم ؛ بسبب كونه في المادة ، ومتعلقا بعلائق المادة ، وواجب الوجود ليس في المادة ، ولا له تعلق بعلائق المادة كما يأتي ؛ فلا يمتنع عليه أن يعلم ، ويعقل. وكل ما لا يمتنع عليه أن يكون معلوما ، بانفراده لا يمتنع عليه أن يكون معلوما مع غيره من المجردات ؛ فواجب الوجود لا يمتنع عليه أن يكون معلوما مع غيره ، وكل ما لا يمتنع تعقله مع غيره ؛ فلا تمتنع مقارنة ماهيته لماهية ذلك الغير في العقل. انظر : الأبكار (١ / ٢٣٩).

٧٤

وأما المعتزلة فموافقون على العالمية ، دون العلمية ، كما مضى تفصيل مذهبهم وأما الجهمية فقد ذهبوا إلى أنه عالم بعلم ، قائم لا في محل ، وهو مع ذلك متجدد بتجدد الحادثات ، متعدد بتعدد الكائنات.

وعند ذلك فلا بد من إيضاح السبيل إلى زيف مذاهب أهل التعطيل.

أما على رأي الإلهيين : فإنه لما انحسم على من أثبت كونه عالما طريق التوصل إليه بتوقف تخصيص الجائزات عليه ، كما سبق وصفه من مذهبهم ، ولم يمكنه الاسترواح إلى ما استروح إليه المتكلمون أهل الحق ، لمناقضات تلزمه ـ انتهج في ذلك منهجا غريبا ، وهو أنه زعم أن الوجود ، من حيث إنه طبيعة الموجود ، غير ممتنع عليه أن يعلم ويعقل. وإنما يعرض له أنه لا يعلم ويعقل بسبب صاد ومانع راد ، وهو كونه في المادة ، ومتعلقا بعلائق المادة ، وكل وجود مجرد عن المادة وعلائقها ، فغير ممتنع عليه أن يعلم. وهو وإن كان متوهما غير سديد ، وما قيل من أن طبيعة الوجود غير ممتنع عليها أن تعقل ، فلا محالة أن إطلاق لفظ الوجود على واجب الوجود وعلى غيره ، ليس إلا بطريق الاشتراك لا بالتواطؤ ، وإلا كان مشاركا لها في طبيعتها ، ويلزم أن تكون ذات واجب الوجود ممكنة مفتقرة إلى مرجح خارج وهو محال. فعلى هذا إن أريد بلفظ الوجود كل مدلولاته بحيث تكون ذات واجب الوجود مندرجة فيه. وداخله تحته ، فدعوى مجردة ، وإدراج لمحل النزاع في كلية ما صادر على كونه مسلما ، ولا يخفى ما فيه من الزيف ، فإنه لو سلم أنه غير ممتنع أن يعلم لوجب أن يكون العلم له إما واجبا ، وإما ممكنا : والإمكان منتف عن ذاته ، عنده : مطلقا. فبقى أن يكون واجبا وذلك محل النزاع.

وإن أريد به طبيعة كل موجود سوى واجب الوجود فمع بعده غير مفيد ولا مؤد للمقصود ، إذ الحكم على القضية الجزئية بمثل ما حكم به على الكلية إنما يلزم أن لو كانت الجزئية داخلة فيها ، وليس كذلك. وإن زال المانع فغير مفيد لعدم القبولية والاقتضاء معا ، ثم ومع التقدير بكونه عالما ، فلا معنى

٧٥

للخوض في التفصيل بين ذاته وباقي الذوات ، ولا بين الكليات والجزئيات كما سنبينه.

فالحق أن مبدأ النظر في مبدأ أهل الحق مستمد من التخصيص والتمييز بصفة الإرادة. ومع ثبوت ذلك : فالمتميز إما أن يكون محاطا به أو غير محاط به ، لا جائز أن يكون غير محاط به ، وإلا لما تصور تمييزه عن غيره. فإذا لا بدّ من الإحاطة به. ثم كيف ينكر ذلك والعقل الصريح يقضي بيديه ، بأن صدور ما هو على غاية من الإحكام والإتقان عمن لا إحاطة له محال ، كيف وأنه لو لم يكن متصفا بالعلم لكان ناقصا بالنسبة إلى من له العلم من مخلوقاته كما سبق بيانه وهو محال.

وعند لزوم هذا العلم له إما أن يكون معنى عدميا ، أو لا وجوديا ولا عدميا ، وإما أن يكون وصفا وجوديا :

لا جائز أن يقال بكونه عدميا ، إذ لا فرق بين قولنا إنه لا علم له ، وبين قولنا إن علمه معنى عدمى ، كيف وأن من فهم مدلول هذه اللفظة لم يجد من نفسه أن فهمه لأمر سلبي عدمي البتة.

ولا جائز أن يقال بأنه لا موجود ولا معدوم ، إذ هو مبني على القول بالأحوال ، وقد أبطلناها. وإذ ذاك فلا بد من أن يكون معنى وجوديا. وهو مع ذلك قديم أزلي ، قائم بذات الرب تعالى ، متعلق بجميع الكائنات ، متحد لا كثرة فيه ، غير متناه بالنظر إلى ذاته ومتعلقاته. وبيان ذلك على نحو بيانه في الإرادة ، وقد عرف فلا حاجة إلى إعادته. لكن ربما أشكل وجه استعمال ما ذكرناه في بيان اتحاد الإرادة في العلم ، والسبيل فيه أن يقال : بعد إبطال الاقتضاء للتخصيص بالذات ، وتعين الاقتضاء بالقدرة والإرادة فإن شرط هذا الاقتضاء تعلق العلم بالمقتضى كما سلف. وإذ ذاك فإما أن يكون كل واحد من أقسام العلم هو المتعلق بما تخصصه القدرة والإرادة ، أو غيره : فإن كان هو ، فهو إنما يتم تعلقه بغيره ، أن لو كان متخصصا بالوجود ، وذلك يفضي

٧٦

إلى الدور. كما دار في الإرادة. وإن كان غيره لزم منه التسلسل أو الدور ، كما حققناه في الإرادة ، وهو أيضا ممتنع.

والذي يخص هذا الطرف من التشكيكات ويتجه عليه من الخيالات قولهم : لو كان له علم لما خرج عن أن يكون ضروريا أو نظريا ، وأن يكون تعلقه بالمعلومات على نحو تعلق علومنا بها ، ويلزم إذ ذاك الاشتراك بين العلم الحادث والقديم في الحقيقة ؛ لضرورة اشتراكهما في أخص صفات العلم الحادث ، وذلك في حق واجب الوجود محال. ثم ولو قدر كونه عالما فما المانع من أن يكون تعلقه بذاته دون غيره؟ وبم الرد على من زعم ذلك وقال : لو علم غير ذاته لم يخل إما أن يكون علمه بذاته هو علمه بغيره أو هما متغايران : لا جائز أن يكونا واحدا ، إذ العقل يقضي بإبطاله ، ولا جائز أن يكونا متغايرين. وإلا لزم التعدد في علم الباري تعالى وهو محال ثم لو قدر تعلقه بغيره فما المانع من أن يكون ذلك مختصا بالكليات دون الجزئيات؟ وبم الرد على من أبطل ذلك؟ وزعم أنه لو كان علم الباري متعلقا بالجزئيات الكائنات الفاسدات لم يخل عند تعلقه بها ، إما أن يكون سابقا عليها ، أو حادثا ومتجددا بتجددها : لا جائز أن يكون أوليا ، وإلا كان ذلك جهلا لا علما. وإن كان حادثا فهو إما أن يكون في ذاته أو في غير ذاته ، وعلى كل تقدير فهو محال لما سبق. وأيضا فإنه إما أن يكون العلم بالكائنات عبارة عن انطباع صورها في النفس ، أو عبارة عن إضافة تحصل بينها وبينه : فإن كان الأول لزم أن يكون ذات واجب الوجود متجزئة لانطباع المتجزئ فيها كما يأتي. وإن كان الثاني فالعلم إذ ذاك إما قديم أو حادث : لا جائز أن يكون قديما وإلا لوجب أن يكون الحادث الذي تعلق به قديما لضرورة أن الإضافة لا تحصل إلا بين شيئين ، والقول بقدم الحادثات محال. وإن كان حادثا فهو محال أيضا ، كما سبق.

ومستند ضلال الجهمية في القول بحدوث علم الباري ـ تعالى ـ لا في

٧٧

محل ، وتجدده بتجدد المعلومات ، وتكثره بتكثرها ، ليس إلا هذه الخيالات ، والاعتماد على هذه التمويهات ، والكشف عن وجه الحق فيها متوقف على الانفصال عنها ، فنقول : قد قدمنا أنه لا بدّ أن يكون له علم ، وما قيل من إنه إما أن يكون بديهيا أو نظريا ، فإنما ينفع أن لو تبين قبوله لهذا الانقسام وإلا فلا ، ومجرد القياس على الشاهد في ذلك مما لا يفيد كما أسلفناه. ثم إن البديهي لا معنى له إلا ما حصل من غير نظر ولا دليل ولا تصح مفارقته أصلا ، وهذا بعينه ما ثبت للرب تعالى ، وإن لم يصح إطلاق اسم البديهة عليه ، من جهة الشرع ، لعدم وروده به. فالمنازعة إذا ليست إلا في إطلاق اللفظ ، لا في نفس المعنى ، ولا حاصل له ، اللهم إلا أن يعني بالبديهية غير ما ذكرناه. والاشتراك بين العلم القديم والحادث إنما يلزم أن لو اشتركا فيما هو أخص صفة لكل واحد منهما أو لأحدهما وليس كذلك ، بل صفة العلم الرباني : وجوب تعلقه : سائر المعلومات ، من غير تأخر ، على وجه التفصيل. وأخص وصف العلم الحادث جواز تعلقه بالمعلومات ، لا نفس وقوع التعلق. ولا يخفى إذ ذاك انتفاء الاشتراك بينهما. ثم إن ذلك لازم على المعتزلي في العالمية أيضا ، إذ نسبة العالمية إلى العلمية ، على نحو نسبة العلم إلى العلمية.

وما قيل : من أنه لو تعلق علمه بذاته بغير ذاته لاتحدا أو تغايرا وهما محالان ، ففاسد ، إذ لا مانع من أن يكون العلم في نفسه واحدا ، ومتعلقاته مختلفة ، ومتغايرة.

وهو متعلق بكل واحد منهما على نحو تعلق الشمس بما قابلها واستضاء بها ، بل وعلى نحو ما يقوله الخصم في العقل الفعال لنفوسنا ، فإنه متحد ، وإن كانت متعلقاته متكثرة ومتغايرة.

وما اعتمد عليه في اختصاص التعلق بالكليات دون الجزئيات فباطل أيضا ، فإن تعلق العلم بالكائنات مما لا يوجب تجدد العلم ولا الجهل من سبقه ، إذ السابق هو العلم بأن سيكون والعلم بأن سيكون الشيء هو نفس

٧٨

العلم بكونه في وقت الكون من غير تجدد ولا كثرة ، وإنما المتجدد هو نفس المتعلق والتعلق به ، وذلك مما لا يوجب تجدد المتعلق ، بعد سبق العلم بوقوعه في وقت الوقوع ، وفرض استمراره إلى ذلك الوقت ، فإنا لو رفعنا كل علم حادث من النفس لم يكن في حال حدوثه غير معلوم ، وإلا كان العلم بأن سيكون في وقت كونه ـ مع القول بفرض استمراره ـ جهلا ، وهو محال. ولهذا إن من علم بالجزم بأن سيقوم زيد مثلا ، في الوقت الفلاني ، فإنه لا يجد نفسه محتاجة إلى علم متجدد بوقوعه في ذلك الوقت ، إذا انتهى إليه ، وفرضنا بقاء علمه السابق إلى ذلك الوقت. وما يجده الإنسان من نفسه من التفرقة بين قبل الكون وبعده فإنما هو عائد إلى إدراكات حسية ، وأمور خارجية عن العلم لم تكن قبل الكون. أما في نفس العلم فلا. بل غاية ما يقدر أن تعلق العلم به ، عند الكون ، لم يكن متحققا قبل الكون. وغاية ما يلزم ذلك انتفاء تعلق العلم بوجوده في حال عدمه ، وتجدد التعلق به في حال الوجود ، وذلك مما لا يلزمه القول بحدث صفة العلم ، بل العلم قد يكون قديما وإن كان ماله من التعلقات والمتعلقات متجددة ، ومتغيرة ، بناء على تجدد شروط التعلق وتغيرها.

كيف وأن هذا مما لا يتجه من الخصم ، سواء كان نافيا كالمعتزلي والفلسفي ، أو مثبتا له حادثا كالجهمي ، وذلك لأن سبق العلم بوجود الشيء في حالة عدمه ، إن كان جهلا ، والجهل قبيح ، فلا محالة أن القول بانتفاء العلم به أيضا جهل ، ويلزم أن يكون قبيحا ، وليس انتفاء العلم أصلا ورأسا كما ظنه النفاة ، أو انتفاء قدمه كما ظنه الجهمي ، لضرورة دفع ما يتحصل من تحقق الجهل ـ بأولى من إثباته والقول بقدمه ، دفعا لما يلزم من الجهل ، ولا محيص عنه. وما يخص المعتزلة من النفاة لزوم ما ألزموه عليهم في العالمية ، حيث قضوا بكون الباري تعالى عالما في القدم ، وعند ذلك : فإما أن يكون عالما بوجود الحادث قبل حدوثه ، أو تجددت له العالمية بتجدد الحادث ، وعلى

٧٩

كل تقدير فما هو جواب لهم في حكم العلم هو جواب لنا في نفس العلم.

وما يخص الجهمية هو أن يقال : ولو كانت العلوم الربانية حادثة ، فتلك العلوم إما أن تفتقر إلى علوم تتعلق بها في حال حدوثها أو لا تفتقر ، لا جائز أن يقال بالأول ، وإلا أفضى إلى التسلسل وهو محال. ولا جائز أن يقال بالثاني ؛ إذ لو استغنت عن تعلق العلم بها مع كونها حادثة لكان كل حادث هكذا كيف وأن عند الخصم أن العلم الحادث سابق على المعلوم بشيء يسير ، وكل علم سابق ـ كان السبق متناهيا أو غير متناه ـ فإنه علم ما سيكون لا علم بالكون ، إذ العلم بالكون قبل وقته يمتنع. وعند هذا فلا فرق بين أن يكون حادثا أو قديما فيما يرجع إلى نفس ما أورده من الإلزام. وليس تعلق العلم بالمعلوم عبارة عن انطباع صورة المعلوم وشكله ، في نفس العالم به ، وإلا لما تصور القول بتعلق السواد والبياض معا ؛ لما فيه من القول باجتماع الضدين في محل واحد ، وليس الاستحالة في اجتماعها منوطة بالحدث والوجود العيني ، فإن ذلك مما لا يوجب التضاد ؛ لكونه قضية واحدة لا اختلاف فيها ، فإذا ليس التضاد إلا لما أمكن تعقله من معنى السواد والبياض وما يلتحق بكل واحد منهما ، مما يكون به الاشتراك بينهما في حالة الوجود العيني.

كيف وأنه لو كان التعلق هو الانطباع ، لما تصور أيضا أن يتعلق العلم بما يزيد في الكم على محل الانطباع ، ثم إن ذلك إنما يستند إلى أصل فلسفي. وهو مناقض لأصله في ذلك ، من جهة قضائه بإدراك القوة الوهمية بآلة جرمانية ، لما لا تجزؤ له في نفسه ، وليس بمادي ، وذلك على نحو إدراك الشاة للمعنى الموجب لنفرتها عن الذئب ، فلو كان التعلق هو نفس الانطباع ، فكما يستحيل انطباع المتجزئ فيما لا تجزؤ له ، فكذا يستحيل انطباع غير المتجزئ في المتجزئ ، فليس التعلق إذا إلا عبارة عن معنى إضافي ، يحصل بين العلم والمعلوم. وذلك مما لا يستدعي كون المعلوم معنى وجوديا ، ولا أمرا حقيقيا ،

٨٠