غاية المرام في علم الكلام

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

غاية المرام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4311-5
الصفحات: ٣٣٤

وما يلحق الإنسان من مشقة التكليف والآلام في الدنيا فبالنظر إلى ما يناله على ذلك من الثواب في العقبى قليل من كثير ، (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١] ولا محالة أن فوات الخير الكثير دفعا للشر اليسير شر كثير ، والتزام الشر اليسير رعاية للخير الكثير خير كثير وفائدة خلود أهل النار في النار كفهم عن الكفر والفساد والعناد والشقاق والنفاق ، (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] من ذلك فهو الأصلح لهم ثم لا ينكر أن العلة قد تخفى وتدق عن أن تصل إليها أفهام الخلق ، كما في إماتة الأنبياء وإنظار إبليس ، وإحياء من علم كفره إلى حين البلوغ ونحوه ، فمجرد استبعاد العلة لخفائها وعدم الاطلاع عليها مما لا يفيد ، لأنه لا يلزم من عدم الاطلاع عليها القبول في نفسها.

ولا يلزم من وجوب رعاية الصلاح في حق الله ـ تعالى ـ وجوب النوافل بالنسبة إلى أفعالنا لكونها صالحة ؛ فإن رعاية ذلك بطريق الوجوب بالنسبة إلى أفعالنا مما يوجب الكد والجهد في حقنا ، ولا كذلك الباري ـ تعالى ـ فإنه قادر على نفع الغير وصلاحه ، من غير أن يلحق به جهد ولا ضرر ، فلذلك جاز القول بإيجاب الفعل الصلاح في حق الباري دون غيره. ولهذا المعنى لم نقل بوجوب رعاية الصلاح والأصلح في حق الواحد منا ، مع تمكنه منه.

وليس القول بوجوب رعاية الصلاح في حق الغائب ، بالقياس على الشاهد ؛ ليلزم ما ذكرتموه بل هو مستند إلى ما ذكرناه من إحالة صدور القبيح والعبث عن واجب الوجود كما بيناه. وما ذكرتموه من امتناع رعاية الأصلح ، فإنما يلزم أن لو لم يكن ما تجب رعايته مقدرا ومضبوطا ، وضبط ذلك وتقديره مما يعلم الله ـ تعالى ـ أن الزيادة عليه مما يوجب للبعد العتو والطغيان ، والكفران والعناد ، ولا محالة أن رعاية مثل ذلك لا يفضي إلى محال.

٢٠١

وما وقعت الإشارة إليه من أقسام مدلولات الواجب مما لا ننكره ولا ننكر امتناع الوجوب في حق الله ـ تعالى ـ بالاعتبار الأول والثاني ؛ إنما النزاع في الاعتبار الثالث ، فإن معنى كون الفعل واجبا على الله ـ تعالى ـ ليس إلا أنه يلزم من فرض عدمه المحال ، وذلك المحال ليس هو لازما من فرض عدم الفعل لذاته بل لغيره ، فمعنى كون الصلاح في الفعل واجب الرعاية ، أنه يلزم من فرض عدمه العبث في حق الله وهو محال ومعنى كون الثواب على إيلام الحيوان واجبا أنه يلزم الظلم من فرض عدمه في حق الله ـ تعالى ـ وصدور القبيح منه ، وهو محال ، ولهذا صارت التناسخية إلى أن ذلك لا يقع إلا جزاء منه لها على ما فرطت واقترفت من الكبائر والجناية حين كانت أنفسها في قوالب أشرف وأحسن من قوالب الحيوان.

ومن الناس من جعله قبيحا لعينه وذاته. ثم منهم من أضافه إلى ظلمه كالتناسخية. ومنهم من لم يسلم وجوده كالبكرية. فما ظنك به مع خلوه عن الجزاء المقابل؟ وعلى هذا كل ما يوصف بالوجود من أفعال الله تعالى.

أما قصة أبي جهل فلا احتجاج بها ، فإن ما كلفه به ممكن في نفسه ، ومتمكن منه بكونه مقدورا له ، فلم يكن ما أوجبناه من التمكين غير واقع ولا متصور.

والجواب :

أننا لا ننكر كون الباري ـ تعالى ـ حكيما ، وذلك بتحقق ما يتقنه من صنعته ويخلقه على [وفق] علمه به وبإرادته ، لا بأن يكون له فيما يفعله غرض ومقصود. والعبث إنما يكون لازما له بانتفاء الغرض عنه أن لو كان قابلا للفوائد والأغراض ، وإلا فتسميته غرضا ، عن طريق التوسع والمجاز ، هو غير ممكن ، كمن يصف الرياح في هبوبها ، والمياه عند خريرها ، والنار عند زئيرها بكونها عابثة ، إذ لا غرض لها ولا غاية تستند إليها ، ولا يخفى ما في ذلك من التحجير بوضع ما لا أصل له في الوضع.

٢٠٢

وأما تقبيح صدوره من الباري ـ تعالى ـ فمبني على فاسد أصلهم في التحسين والتقبيح ، والرد عليهم في ذلك يستدعي تقرير المذهب من الجانبين ، وتمهيد القاعدة من كلا الطرفين فنقول :

معتقد المعتزلة : أن الحسن والقبح للحسن والقبيح صفات ذاتيات ، ووافقهم على ذلك الفلاسفة ومنكرو النبوات ، ثم اختلف هؤلاء في مدارك الإدراك لذلك ، فقالت المعتزلة والفلاسفة : المدرك قد يكون عقليا وقد يكون سمعيا ، فما يدرك بالعقل منه بديهي كحسن العلم والإيمان وقبح الجهل والكفران ، ومنه نظري كحسن الصدق المضر ، وقبح الكذب النافع. وما يدرك بالسمع فكحسن الطاعات وقبح ارتكاب المنهيات (١).

__________________

(١) مذهب أهل الحق : أن العقل لا يدل على حسن الشيء وقبحه في حكم التكليف من الله شرعا على معنى أن أفعال العباد ليست على صفات نفسية حسنا وقبحا ، بحيث لو أقدم عليها مقدم أو أحجم عنها محجم استوجب على الله ثوابا أو عقابا ، وقد يحسن الشيء شرعا ويقبح مثله المساوي له في جميع الصفات النفسية ، فمعنى الحسن ما ورد الشرع بالثناء على فاعله ومعنى القبيح ما ورد الشرع بذم فاعله ، وإذا ورد الشرع بحسن وقبح لم يقتض قوله صفة للفعل وليس الفعل على صفة يخبر الشرع عنه بحسن وقبح ولا إذا حكم به ألبسه صفة فيوصف به حقيقة وكما أن العلم لا يكسب المعلوم صفة ولا يكتسب عنه صفة كذلك القول الشرعي والأمر الحكمي لا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة ، وليس لمتعلق القول من القول صفة كما ليس لمتعلق العلم من العلم صفة. وخالفنا في ذلك الثنوية والتناسخية والبراهمة والخوارج والكرامية والمعتزلة فصاروا إلى أن العقل يستدل به حسن الأفعال وقبحها على معنى أنه يجب على الله الثواب والثناء على الفعل الحسن ويجب عليه الملام والعقاب على الفعل القبيح والأفعال على صفة نفسية من الحسن والقبيح ، وإذا ورد الشرع بها كان مخبرا عنها لا مثبتا لها ، ثم من الحسن والقبح ما يدرك عندهم ضرورة كالصدق المفيد والكذب الذي لا يفيد فائدة ، ومنها ما يدرك نظرا بأن يعتبر الحسن والقبح في الضروريات ، ثم يرد إليها ما يشاركها في مقتضياتها ثم يرتبون على ما ذكرناه قولهم في الصلاح والأصلح واللطف والثواب والعقاب. وقد فرق أبو الحسن الأشعري بين حصول معرفة الله

٢٠٣

__________________

تعالى بالعقل وبين وجوبها به فقال : المعارف كلها إنما تحصل بالعقل لكنها تجب بالسمع وإنما دليله في هذه المسألة لنفي الوجوب التكليفي بالعقل لا لنفي حصول العقلي عن العقل. قال أهل الحق : لو قدرنا إنسانا قد خلق تام الفطرة كامل العقل دفعة واحدة من غير أن يتخلق بأخلاق قوم ولا تأدب بآداب الأبوين ولا تزيّا بزي الشرع ، ولا تعلم من معلم ، ثم عرض عليه أمران أحدهما : أن الاثنين أكثر من الواحد ، والثاني : أن الكذب قبيح بمعنى أنه يستحق من الله تعالى لوما عليه لم يشك أنه لا يتوقف في الأول ، ويتوقف في الثاني ومن حكم بأن الأمرين سيان بالنسبة إلى عقله خرج عن قضايا العقول وعاند عناد الفضول أو لم يتقرر عنده أن الله تعالى لا يتضرر بكذب ، ولا ينتفع بصدق ، فإن القولين في حكم التكليف على وتيرة واحدة ، ولم يمكنه أن يرجح أحدهما على الثاني بمجرد عقله. والذي يوضحه : أن الصدق والكذب على حقيقة ذاتية لا تتحقق ذاتهما إلا بأن كانت تلك الحقيقة مثلا كما يقال إن الصدق إخبار عن أمر على ما هو به والكذب إخبار عن أمر على خلاف ما هو به ونحن نعلم أن من أدرك هذه الحقيقة عرف التحقق ولم يخطر بباله كونه حسنا أو قبيحا فلم يدخل الحسن والقبيح إذا في صفاتهما الذاتية التي تحققت حقيقتهما ولا لزمتهما في الوهم بالبديهة كما بينا ولا لزمها في الوجود ضرورة فإن من الأخبار الصادقة ما يلام عليها كالدلالة على نبي هرب من ظالم ومن الأخبار التي هي كاذبة ما يثاب عليها مثل إنكار الدلالة عليه فلم يدخل كون الكذب قبيحا في حد الكذب ولا لزمه في الوهم ولا لزمه في الوجود فلا يجوز أن يعد من الصفات الذاتية التي تلزم النفس وجودا وعدما عندهم ولا يجوز أن يعد من الصفات التابعة للحدوث فلا يعقل بالبديهة ولا بالنظر فإن النظري لا بد وأن يرد إلى الضروري البديهي ، وإذا لا بديهي فلا مرد له أصلا فلم يبق لهم إلا استرواح إلى عادات الناس من تسمية ما يضرهم قبحا وما ينفعهم حسنا ونحن لا ننكر أمثال تلك الأسامي على أنها تختلف بعادة قوم دون قوم وزمان وزمان ومكان ومكان وإضافة وإضافة ، وما يختلف بتلك النسب ، والإضافات لا حقيقة لها في الذات ، فربما يستحسن قوم ذبح الحيوان وربما يستقبحه قوم وربما يكون بالنسبة إلى قوم وزمان ومكان حسنا وربما يكون قبيحا لكنا وضعنا الكلام في حكم التكليف بحيث يجب الحسن فيه وجوبا يثاب عليه قطعا ، ولا يتطرق إليه لوم أصلا ، ومثل هذا لا يمتنع إدراكه عقلا هذه هي طريقة أهل الحق على أحسن ما تقرر ، وأوضح ما تحرر. انظر : شفاء العليل لابن القيم

٢٠٤

وأما منكرو النبوات فقد منعوا أن يكون إدراكها إلا بالعقول ، دون الشرع المنقول.

وأما أهل الحق فليس الحسن والقبح عندهم من الأوصاف الذاتية للمحال ، بل إن وصف الشيء بكونه حسنا أو قبيحا فليس إلا لتحسين الشرع أو تقبيحه إياه ، بالإذن فيه أو القضاء بالثواب عليه ، والمنع منه أو القضاء بالعقاب عليه. أو تقبيح العقل له باعتبار أمور خارجية ، ومعان مفارقة من الأعراض ، بسبب الأغراض والتعلقات ، وذلك يختلف باختلاف النسب والإضافات.

فالحسن إذا : ليس إلا ما أذن فيه أو مدح على فعله شرعا ، أو ما تعلق به غرض ما عقلا. وكذا القبيح في مقابلته.

وإطلاق الأصحاب : أن الحسن والقبيح ليس إلا ما حسنه الشرع أو قبحه ، فتوسع في العبارة ؛ إذ لا سبيل إلى جحد أن ما وافق الغرض من جهة المعقول ، وإن لم يرد به الشرع المنقول ، أنه يصح تسميته حسنا ، كما يسمى ما ورد الشرع بتسميته حسنا كذلك ، وذلك كاستحسان ما وافق الأغراض من الجواهر والأعراض وغير ذلك وليس المراد بإطلاقهم : أن الحسن ما حسنه الشرع ، أنه لا يكون حسنا إلا ما أذن فيه ، أو أخبر بمدح فاعله. وكذا في جانب القبح أيضا.

__________________

ـ (ص ١٧) ، والصواعق المرسلة له (٢ / ٤٩٥) (٤ / ١٢٦١ ، ١٤٥٠) ، والملل والنحل للمصنف (١ / ١٥ ، ٣٢) ، ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية (٢ / ٤١٥) (٣ / ٢٨) (٥ / ١٢٧) ، والعقيدة الأصفهانية (ص ٢٠٣) ، وبيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (ص ٢١٤) ، والمواقف للإيجي (٢ / ١٣١ ، ٢٧٥ ، ٢٨٦ ، ٣٥٩ ، ٤٢٦) ، الغنية في أصول الدين للنيسابوري (ص ١٣٧) ، ومرهم العلل المضلة لليافعي (ص ٤٧ ، ٩٨ ، ٩٩).

٢٠٥

وبعد هذا فلم يبق إلا الرد على أهل الضلال ، وهو أن يقال :

الحاكم بالحسن والقبح على ما حكم بكونه حسنا أو قبيحا إما العقل أو الشرع لا محالة. فإن كان الحاكم هو العقل فلا محالة أن ما حكم العقل به من التحسين والتقبيح ، لو خلي ودواعي نفسه في مبدأ نشوئه إلى حين وفاته من غير التفات إلى الشرائع ، والعادات والأمور الاصطلاحيات ، والموافقات للأغراض والمنافرات ، لم يجد إلى الحكم الجزم بذلك سبيلا.

وإذا لم يكن في الحكم بهذه الأمور بد من النظر إلى ما قدرناه فهي لا محالة مختلفة بالنسبة والإضافة ؛ إذ رب شيء حكم عليه عقل إنسان ما بكونه حسنا لكونه موافقا لغرضه ، أو لما فيه من مصلحته أو دفع مفسدته ، أو لكونه جاريا على مقتضى عادته وعادة قومه عرفا أو شرعا ، وقد يحكم عليه عقل غيره بكونه قبيحا ، لكونه مخالفا له فيما وافق غرضه ، وذلك كالحكم على ذبح الحيوان بالحسن والقبح ، بالنسبة إلى أهل الشرائع المختلفة ، وكالحكم بالحسن والقبح على سمرة اللون مثلا بالنسبة إلى من يستحسنها أو يستقبحها. وكالحكم بقبح الكذب الذي لا غرض فيه ، وحسنه إذا قصد به إحقان دم نبي أو ولي من غاشم يقصد قتله. وهلم جرا في كل ما يقضي العقل ، باعتباره ، على كون الشيء حسنا أو قبيحا. ولو كان ذلك ذاتيا لما اختلف باعتبار النسب والإضافات ، بل لوجب أن يكون متحققا مع تحقق الذات وإن تغيرت الحالات كما في سائر الذاتيات.

وإن كان الحاكم به الشرع فلا محالة أنه قد بكون القتل مثلا أو الكذب قبيحا في حق العاقل القاتل لا لغرض ، ولا يحكم بقبح ذلك في حق الصبي والمجنون. بل وقد يحكم بحسن شريعة ما بالنسبة إلى قوم ويقبحها بالنسبة إلى آخرين ، ولهذا صح القول بنسخ الشرائع ، ولو كان القضاء فيه بالحسن أو القبح على شيء ما لذاته ونفسه ، لا لنفس الخطاب ، لما تصور أن

٢٠٦

يختلف ذلك باختلاف الأمم والأعصار على ما حققناه.

فإن قيل : لو كان الأمر على ما ذكرتموه لوجب أن من أراد قضاء حاجة وكان سبيله فيها إما الصدق وإما الكذب ، وهما بالنسبة إلى قضاء حاجته سيان ، أن لا يرجح الصدق على الكذب. وأن من رأى شخصا في الهلاك ، وهو قادر على إنقاذه وخلاصه ، وليس له في إنقاذه غرض ، ولا هو متدين بدين ، بل ربما أوجب ذلك عنده تعبا ونصبا ، أن لا يرجح عنده الإنقاذ على عدمه ، وهو مما تقضي العقول السليمة برده وإبطاله. وإذا ثبت الترجيح فلو لم يكن ذلك لحسنه في ذاته وإلا كان عبثا وسفها. ثم كيف ننكر ذلك والعقل الصريح يقضي ببديهته على حسن العلم والإيمان ، وقبح الجهل والكفران ، من غير توقف على أمر خارج أصلا؟ ومن أنكر ذلك فهو لا محالة معاند مجاحد ، مع أن اتفاق العقلاء على ذلك مما يخصمه.

قلنا : ما ذكرتموه من الإلزامات واعتمدتموه من الخيال ، مهما قطع النظر فيها عما ذكرناه من المقاصد والأغراض ، فالترجيح لا محالة يكون ممتنعا ، والمحتج به يكون منقطعا. ومهما لم يكن بد من الأغراض فيما حكم العقل بحسنه أو قبحه امتنع أن يكون ذلك له ذاتيا ، كما مهدناه.

ومن قضى بإطلاق التحسين لما حسنه أو التقبيح لما قبحه ، من غير اقتصار على متعلق الغرض ، فليس ذلك إلا لذهوله عن محز الغلط ومثار الفرط ، وهو إما حبه لنفسه ، وشغفه بما تعلق به غرضه ، فإنه قد يحكم إذ ذاك قطعا بحسن ما وافق غرضه وقبح ما خالفه ، من غير التفات إلى غرض الغير ؛ لكونه غير مشغوف به ، وذلك كمن يحكم بحسن صورة ما أو قبحها ؛ لما وافق من غرضه أو خالف ، مطلقا ، وإن جاز أن يكون غرض غيره مخالفا لغرضه.

وقد يكون ذلك لكون ما يحكم بحسنه أو قبحه مما يوافق الأغراض

٢٠٧

غالبا ، ومخالفة لها نادرا ، فيحكم عليه بكونه حسنا أو قبيحا مطلقا لخفاء موضع المخالفة عليه ، وندرته في وقوعه. وذلك كمن يحكم على الكذب بأنه قبيح مطلقا ، فلا يلتفت إلى حسنه عند ما يستفاد به عصمة دم نبي أو ولي. لندرته وخفائه في نفسه. ومثارات الغلط في ذلك متكثرة متعددة لا محالة ولا مستند للحكم بجهة الإطلاق إلها ، حتى لو فرض شخص ما متنبها ، عند حكمه على ما حكم فيه لجميع مواضع الغلط ومواقع الزلل لما تصور منه القضاء بذلك مطلقا.

وما ذكروه من ادعاء الضرورة للعلم بحسن العلم والإيمان وقبح الجهل والكفران. فمن أحاط بما ذكرناه وفهم ما قررناه بان له وجه فساده من غير توقف. ثم كيف يقنع بالاسترسال في ادعاء ذلك مع أن أكثر العقلاء في ذلك لهم مخالفون وهم عما يدعونه مدافعون؟ ولو كان مجرد ذلك كافيا لاكتفى به من جحد الصانع ، وقضى بالتجسيد والتشبيه. وذلك مما يبطل القضايا العقلية والأمور النظرية وهو ممتنع. وليس اتفاق بعض العقلاء عليه مما يوجب كونه ضروريا ، وإلا للزم أن ما اتفق عليه الخصوم أيضا ضروري ، لكونهم من جملة العقلاء بل أكثرهم ، وذلك يفضي إلى كون الشيء الواحد معلوما نفيه وإثباته في حالة واحدة بالضرورة ، وهو ممتنع.

كيف!! وكم من شيء اتفق عليه أكثر العقلاء وليس بضروري؟ كما في حدث العالم ووجود الصانع ونحوه. بل لو قدر اتفاق المخالف لهم ، بحيث وقع الإطباق على ذلك ، فإنه لا ينقلب البتة ضروريا ، على معنى أنه لو خلي الإنسان ودواعي نفسه يحكم به من غير توقف على ما أمر ما.

لم يبقى إلا قولهم : إن الاضطرار إلى معرفة كون الحسن والقبح ذاتيا واقع لا محالة ، وإنما النزاع في مدركه. ومن تنبه لما أشرنا إليه علم أن ذلك غلط من قائله لوجهين :

٢٠٨

الوجه الأول : أن ما حكموا بتقبيحه فنحن قد نحكم بتحسينه ، وذلك كإيلام الحيوان وتعذيب الإنسان ، من غير ثاب ولا لغرض مقصود. فكيف يدعي الموافقة على نفس الحسن والقبح وكونه ذاتيا؟

الوجه الثاني : أنه وإن وقع الاتفاق على تحسين كل ما حسنوه ، وتقبيح كل ما قبحوه ، فلم يقع الاتفاق على كون الحسن والقبح ذاتيا ، ولا يلزم من الاتفاق على كون الشيء الواحد حسنا أو قبيحا أن يكون قد سلم كون الحسن والقبح له ذاتيين.

ولا يلزم من عدم جواز اتصاف الباري بكونه جاهلا أن يكون ذلك لكون القبح للجهل وصفا لزاما ، وأنه لذاته قبيح ، بل لكون الدليل القاطع قد دل على وجوب العلم له وكونه عالما ولو جاز أن يكون جاهلا لجوزنا أن لا يكون عالما ، وذلك خلاف ما اقتضاه الدليل القاطع وإلا فلو جوزنا النظر إلى مجرد الجهل لم يقتض ذلك كون القبح له ذاتيا ، فإنه وإن صح تقبيحه بالنسبة إلى من خالف غرضه ، بسبب عدم اطلاعه على المعلومات ، وإحاطته بالمعقولات ، فقد علم بحسنه من وافق جهل هذا الجاهل غرضه ، وذلك كما نحكم على كون القتل قبيحا بالنسبة إلى المقتول وأوليائه ، وتحسينه بالنسبة إلى حساده وأعدائه ، وهذا واضح لا خفاء به. وبهذا التحقيق يقع التقصي عن كل ما يرد من هذا القبيل.

وإذا بطل أن يكون الحسن والقبح ذاتيا لم يبق معنى للحسن والقبح إلا ما ذكرناه ، ويلزم منه منع جواز إطلاق القبح على أفعال الله ـ تعالى ـ ؛ لعدم وروده على لسان الشرع المنقول ، وعدم تأثير مخالفته لأغراض أصحاب العقول.

ثم كيف السبيل إلى جحد انتفاء الغرض على أفعاله مع وقوع ما بيناه من الأفعال التي لا غرض فيها؟ وما قيل من أن فائدة خلق الحادثات المعدنيات وغيرها إنما هو انتظام حال نوع الإنسان ، والاستدلال بها على

٢٠٩

وجوب وجوده ، وعظم جلاله في وحدانيته. فلا يصلح أن يكون غرضا ، وإلا لوجب حصوله من كل وجه على نحو لا يختلف من وجه ما ، وإلا عد عاجزا عن تحصيل غرضه من ذلك الوجه.

ولم يكن هلاكه لما خلق لأجل صلاحه وانتظام أحواله ، وذلك كما في حق الغرقى ، والحرقى ، والمسمومين ، والهلكى بالرياح العاصفة ، كما مضى فيمن هلك من الأمم السابقة؟ بل وكم من تارك النظر في الآيات والدلائل الباهرات ، ولم يلتفت إلى ما فيها من جهات الاستدلالات؟ ولهذا لو نسبنا الناظر المؤمن إلى الجاحد الكافر لم نجده إلا قليلا من كثير. ثم لا محالة أن فائدة الاطلاع على وجوب وجود واجب الوجود ، ومعرفة وحدانيته ، لا سبيل إلى القول بعودها إليه ؛ إذ هو يتعالى ويتقدس عن الأغراض ، كما سبق. فلا بد وأن يعود إلى الناظر ، وتلك الفائدة عند البحث عنها لا تخرج عن الالتذاذ بنفس المعرفة والثواب عليها ، وذلك كله مقدور أن يحصله الله ـ تعالى ـ للعبد من غير واسطة ، بأن يخلق له العلم بديا بمعرفته ، وأن ينيله الثواب الجزيل بدون النظر إلى نظره وطاعته. وعلى هذا يخرج القول بوجوب التكليف أيضا.

ولا يصح أن يقال : إن الثواب على النظر والمشاق اللازمة بالفكر والتزام الطاعات بفعل المأمورات واجتناب المنهيات ألذ من أن يكون بديا ، لانتفاء المنة والامتنان ؛ فإنا نلوذ بجناب الجبروت ، ونستعيد بعظمة الملكوت ، ممن يتجاسر على الإفصاح بهذا الافتضاح ، ويتفوه بالتكبر على الله ـ تعالى ـ ، والتجنب من الدخول في مننه ، والاشتمال بنعمته. وكيف السبيل إلى الخروج عن ذلك وأين المفر منه؟ وهل أصاب إيجاده مبرأ من الآفات ممكنا من اللذات ، أو خلق ما يصدر عنه من الطاعات وأنواع العبادات إلا بفضل من الله ـ تعالى ـ بديا من غير سابقة طاعة أو فعل عبادة؟ وهل نعمه السابقة إلينا ، المشتملة علينا مما يمكن القول بعدها ، أو التعرض لحصرها؟

٢١٠

ثم إن الخصم معترف بأن ما يفعله العبد من الطاعات واجب عليه وملجئ إليه شكرا منه لله ـ تعالى ـ على ما أولى من مننه ، وأسبغ من جزيل نعمه. فكيف يستحق الثواب على ما أدى من الواجبات ، والجزاء على ما حتم عليه من الطاعات ، وأنواع العبادات؟

أم كيف السبيل إلى الجمع بين القول بوجوب الطاعة على العبد شكرا ، والثواب على الباري جزاء؟ وهل ذاك إلا دور ممتنع؟ ؛ من جهة أن الشكر لا يجب إلا بعد سابقة الثواب المتطول به ، لا ما وقع بطريق الوجوب ، فإن ذلك لا يستحق شكرا ، والجزاء الواجب لا يكون إلا بعد سابقة خدمة وطاعة متبرع بها لا ما وقع بطريق الإيجاب.

وقوله تعالى : (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الجاثية : ٢٢] وقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم : ٣١] فليس المراد بها التعليل ، وإنما المراد بها تعريف الحال في المآل ، كما في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] ، وقوله : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣] ، وعلى هذا يخرج كل ما ورد في هذا الباب من الآيات والدلالات السمعيات. ونحن لا ننكر أن ذاك مما يقع ، وإنما ننكر كونه مقصودا بالتكليفات والأمر بالطاعات حتى يقال : إنه خلق لكذا ، أو لعلة كذا. بل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

بل ويكفي الخصم من سخف عقله وزيف رأيه أن عادت حكمة خلق السموات والأرض والنجوم والشجر والجبال ، وإظهار الآيات والدلائل والمعجزات ، وإيجاب الطاعات والعبادات ، وتصريف الخلائق بين المأمورات والمنهيات ، إلى لذة يجدها بعض المخلوقين في مقابلة طاعته تزيد على اللذة التي يجدها بطريق الابتداء والتفضل ، مع أن الله ـ تعالى ـ قادر على أن يخلق له أضعاف تلك اللذة في التفضل الابتدائي ، من غير تعب ولا نصب (إِنَّ اللهَ

٢١١

عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران : ١٦٥].

ثم الذي يقطع به دابر العناد ، ويخمد ثائرة الإلحاد التزم خلود أهل النار في النار بكبيرة واحدة ، إذا ماتوا قبل الإقلاع عنها والتوبة منهما!! وما قيل من أن ذلك هو الأصلح لهم لعلمه بهم أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه فغير مفيد ، مع العلم بقدرة الله ـ تعالى ـ على منعهم منها ، وإماتتهم قبل الوصول إليها ، وإقدارهم على التوبة قبل الأوبة. فما الفائدة في تمكينهم من الكفران؟ وإقدارهم على العصيان؟ ومنعهم من التوبة؟ ولقد كان قادرا على التجاوز والامتنان والصفح عنهم والغفران ، فلو فعل ذلك لقد كان أليق بحكمته ، وأقرب إلى رأفته من أن يعذبهم بالنيران ، ويحرمهم نعيم الجنان ، فإنا قد وجدنا المديح للغافر ، لا سيما في حق من لا يتضرر بالغفران ، ولا ينتفع بالانتقام.

بل هما بالنسبة إلى جلال عظمته ، وقدوس صمديته سيان ، فما باله استأثر بالانتقام ، على الإنعام بالغفران ، وبالعقاب على الامتنان؟!

بل لا يحسن في العقل في معرض المجازاة مقابلة معصية واحدة بالخلود في العذاب المقيم الأبدي السرمدي ، بل لو قيل إن العقل يقبح ذلك لقد كان هو الأليق. فانظر إلى هؤلاء كيف تخبطوا في الحقائق لقصور أفهامهم ، وضلوا في ظلمات أوهامهم ، واشكر الله على ما منحك مما حرم منه غيرك ، إن الله يجزي الشاكرين.

وما هول به من أن انتفاء الحكمة غير لازم من عدم تعلق العلم بوجودها فصحيح لكن المدعى هاهنا إنما هو تعلق العلم بعدمها ، على ما شهد به العقل الصريح ، وفرق بين عدم تعلق العلم بوجود الشيء وبين تعلق العلم بعدم الشيء ؛ إذ الوجود مع الأول متصور ومع الثاني ممتنع.

فقد تحقق من هذه الجمل أن الغرض والصلاح ووجوب رعايته ممتنع في حق واجب الوجود ، والذي يشهد بذلك ويؤكده ما أسلفناه من الإلزامات ، وقدمناه من الإشكالات ، في اعتبار إيجاب النوافل ، واعتبار إيجاب

٢١٢

رعاية الصلاح والأصلح في الشاهد ، في اعتبار إيجاب النوافل ، واعتبار إيجاب رعاية الصلاح والأصلح في الشاهد ، وما ذكروه من الفرق فهو يرجع على قاعدتهم في إيجاب الطاعة والشكر على العبيد بالإبطال ، وإن نظر إلى ما يستحقه من الثواب في مقابلته فهو باطل ، لما أثبتناه. ومع بطلانه فلم لا قيل به في محل الإلزام؟ وما الفرق بين الصورتين؟ وما الفاصل بين الحالتين؟ وهل ذلك إلا محض خيال لا أصل له ، ومجرد استرسال لا سند له؟ نعوذ بالله من الشيطان ، والتخبط في الأديان.

وما قيل من أن مستند ذلك ليس إلا نفي العبث والقبح عن أفعال واجب الوجود فمبني على أصلهم في التحسين والتقبيح وقد أوضحنا فساده.

وما قيل في تقرير الأصلح مما لا ثبوت له على محك النظر ، ولا مقر له في ميدان العبر ؛ فإنه ما من أمر يقدر أن الإنسان سيطغى عنه إلا والرب ـ تعالى ـ قادر على أن يعصمه منه ويمنعه عنه ، وإذ ذاك فلا يطغى ، واعتبار الأصلح في حقه يكون أولى. كيف وأن هذا ينقض قاعدتهم في التكليف رعاية لمصلحة العبد مع العلم بأنه يكفر ويفجر؟

فإذن يمتنع رعاية الأصلح نفيا للطغيان ، ويمتنع من التكليف رعاية لدفع الكفران ، وهو مما يعسر دفعه علي الخصوم ، ويصعب حله على أرباب الفهوم. وإذا ثبت ما مهدناه لزم القول بانتفاء الوجوب عن جميع أفعال واجب الوجود ، لما سبق.

ولا يروعنك تفسير وجوب فعل الله ـ تعالى ـ بلزوم الظلم والعبث عليه بفرض عدمه ، كما في الثواب على الطاعة وإيلام الحيوان البريء. فإن ذلك يستدعي بيان قبوليته لأن يتصف بالظلم والعبث وكل ما يوجب له في ذاته نقصا ، وذلك مما لا سبيل إليه ، بل الظلم وكل صفة منقصة مسلوبة عنه لامتناع اتصافه بها. وذلك على نحو سلب الظلم والعبث عن الحيوانات والجمادات ، وغير ذلك من النباتات ؛ إذ الظلم يتصور ممن يصادف تصرفه

٢١٣

ملك غيره من غير علمه ، أو مخالفة من هو داخل تحت تصرفه وحكمه ، وذلك كله منفي عن الباري ـ تعالى ـ.

ثم إن ذلك مبني على أصولهم في التحسين والتقبيح وقد أبطلناه. ثم كيف السبيل إلى تفسير الواجب في حقه بما يلزم من فرض عدمه المحال ، مع ما أسلفناه من قصة أبي جهل وتكليف غيره ممن مات على كفره بالإيمان ، ومجرد الإمكان غير كاف في التمكين إلا مع القدرة عليه ، والاسترسال بكونه مقدورا له قبل الفعل ـ مع ما عرف من أصلنا في الاستطاعة وأنها لا تكون إلا مع الفعل ـ غير مفيد. ثم ولو كان مقدرا فلا بد وأن يكون وقوعه بالفعل متصورا ، ولو تصور وقوعه بالفعل لانقلب العلم السابق جهلا ، وذلك محال في حق الباري ـ تعالى ـ لما سلف. وامتناع وقوع المحال لا فرق فيه بين أن يكون لازما على الشيء باعتبار ذاته وبين أن يكون لازما عنه باعتبار غيره فيما يرجع إلى نفس المقصود وهو الوقوع ، ومن جحد ذلك فليسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقه عقلا.

ومن أنكر حلول الآلام بالحيوان ، وإلمامه بها فجحده لبديهته يغني عن مكالمته ، ولسانه ينادي على نفسه بفضيحته ، فإن ذلك غير متقاصر عن جحد كونها حية ومتحركة وغير ذلك مما لها من الصفات المحسوسة. ومن زعم أن ذلك قبيح لعينه فقد تبين فساد أصله في التحسين والتقبيح. ثم ولو كان كذلك للزم أن من شرب دواء كرها أو احتجم أو أن انفصد أملا لإزالة داء ممرض أن يعد ذلك منه قبيحا ، على نحو ما إذا ألقى نفسه في تهلك ، وهو خلاف المعقول.

وأما الثنوية فقد أبطلنا عليهم قواعدهم ، والتناسخية فسنبين فيما يأتي زيف عقائدهم إن شاء الله تعالى. وهو الهادي لطرق الرشاد.

٢١٤

القاعدة الثالثة

في حدوث المخلوقات وقطع تسلسل الكائنات (١)

وقد اضطربت فيه الآراء ، واختلف فيه الأهواء

فذهبت طوائف من الإلهيين كالرواقيين والمشائيين ، ومن تابعهم من فلاسفة الإسلاميين إلى القول بوجوب ما وجب عن الواجب بذاته مع وجوده. وإن قيل له «حادث» فليس إلا بمعنى أن وجوب وجوده لغيره ، وأن له مبدأ يستند إليه ، ويتقدم عليه تقدما بالذات ، على نحو تقدم العلل والمعلولات ، لا بمعنى أن حدوثه من عدم بل هو أزلي أبدي لم يزل ولا يزال. وكذلك حكم ما وجب عما وجب وجوده بالواجب بذاته ، وهلم جرا ، على ما ذكرناه من تفصيل مذاهبهم وإيضاح قواعدهم فيما لا يقبل الفساد ، كالأجرام الفلكية ونفوسها والعقول التي هي مبادئ لها ، فهي قديمة أزلية لم تزل ولا تزال.

وما هو قابل للاستحالة كالحركات والامتزاجات أو الفساد كالصور الجوهرية للعناصر والمركبات ، فهي وان كان كل واحد منها حادثا ، لكنه لا أول لها ينتهي إليه ، بل هي لا تتناهى مدة ولا عدة ، وما من كائن فاسد إلا وقبله كائن آخر ، إلى ما لا يتناهى. ولم يوجبوا التناهي ، على أصلهم ، إلا فما له ترتيب وضعي ، كالامتدادات أو ترتيب طبيعي وآحاده موجودة معا كالعلل والمعلولات ، وأما ما سواه فالحكم بأن لا نهاية له غير مستحيل كالحركات الدورية ، والنفوس الإنسانية بعد المفارقة للأجرام البدنية ، كما سلف.

__________________

(١) انظر : موافقة صحيح المنقول لشيخ الإسلام ابن تيمية (٢ / ٨٨ ، ٩٠) ، والمحصل للرازي (ص ٧٨) ، وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار (ص ٩٢ ، ٥٠٥ ، ٥١٤) ، ومناهج الأدلة لابن رشد (١٢ / ١٥ ، ١٣٨ ، ١٤٤) ، والنجاة لابن سينا (ص ١٠٢ ، ١٠٤) ، الإشارات الإلهية له (٢ / ١٢٧ ، ١٤٥) ، الشفاء له الفن الثاني من الطبيعيات (ص ٧٠ ، ٧١).

٢١٥

وذهب أهل الحق من الإسلاميين وغيرهم من أهل الشرائع الماضين ، وجماعة من الحكماء المتقدمين ، إلى أن كل موجود سوى الواجب بذاته فموجود بعد العدم ، وكائن بعد أن لم يكن. وأن الحكم له بالمعية مع الواجب الأبدية واللازم للسرمدية مما لا سبيل إليه ، ولا معول لأرباب العقول عليه ، بل الباري تعالى كائن ولا كائن ، ومتقدم بالوجود ولا موجود. وأن ما أبدعه لم يكن معه ، بل هو المنفرد بالأبدية ، المتوحد بالسرمدية ، خالق الخلق بعد العدم ومعيدهم بعد الرمم ، إن الله على كل شيء قدير.

وعند هذا فلا بد من البحث عن مطمح نظر الفريقين ، والكشف عن مقصد الطائفتين.

ولتكن البداية بتقديم النظر في طرق أهل الحق أولا وإبطال شبه أهل الضلال ، والانفصال عنها ثانيا.

والكلام في هذه المسألة يقع في طرفين :

١ ـ طرف في إبطال القول بلزوم القدم.

٢ ـ وطرف في إثبات الحدوث بعد العدم.

٢١٦

أما الطرف الأول

فقد سلك المتكلمون فيه بيان افتقار العالم إلى صانع مبدع أولا. ثم بيان إبطال الإيجاد بالذات ثانيا ، فقال بعضهم في بيان وجه الافتقار إلى الصانع المبدع :

إنا لو قدرنا قدم الجواهر ، فليس تخلو من اجتماع وافتراق ، إذ لا جائز أن تكون لا مجتمعة ولا مفترقة ، وعلى كل تقدير فنحن نعلم جواز تبدل الاجتماع والافتراق عليها ، وعند ذلك فلا تخلو : إما أن تكون مستحقة لذلك لذواتها ، فإن ما ثبت للذات يدوم بدوام الذات ، ولا يتصور عليه التبدل أصلا ، فإذا لا بد أن يكون المخصص لها بذلك أمرا خارجا لا محالة.

واعلم أن التعرض لإظهار هذا المقدار ليس بمفيد ؛ لأن الخصم ما يدفعه أو يمنعه ، وإنما هو لإسناد العلم به إلى الدليل. ولدفع شغب معاند مجاحد خارج عن هذا القبيل. فإذا كان كذلك فالعلم بصحة مدلول هذا الدليل يتوقف على حصر الجواهر والموجودات فيما هو قابل للاجتماع والافتراق ؛ إذ ربما يقول الخصم بوجود جواهر مجردة عن المادة وعلائق المواد. لا تقبل لاجتماع والافتراق ولا يصح القول بكونها مجتمعة ولا متفرقة ، لكونها عقولا محضة.

وذلك أيضا مما لا يكفي بل لا بدّ من بيان أن ما حصل بين الجواهر أو بعضها من الاجتماع أو الافتراق مما لا تقتضيه بذواتها ، إذ ربما لا يسلمه الخصم عنادا ، بالنسبة إلى بعض الجواهر ، كالاجتماع الكائن بين الأجرام الفلكية والجواهر العلوية ، وكذلك بعض الافتراقات لبعض الأجرام أيضا ، فمجرد الدعوى في ذلك غير كافية ولا شافية.

وليس يلزم من جواز تبدل الاجتماع والاقتران على بعض الجواهر السفلية مثله في الجواهر العلوية ، ولا كذلك بالعكس ، لما اشتركا فيه من الجوهرية أو الجسمية ، فإنه لا مانع من أن يكون ذلك لها باعتبار خصوصياتها.

٢١٧

ولما وقع به الافتراق بين ذواتها.

وإن أمكن بيان ذلك فهو مما يطول ، ويصعب تحقيقه جدا على أرباب العقول. ولهذا انتهج «إمام الحرمين» هذا المنهج بعبارة أخرى فقال :

نعلم قطعا أن اختصاص العالم بشكله المقدر ، مع جواز أن يكون أصغر من ذلك أو أكبر ، وفرضه في مستقره من غير تيامن ولا تياسر ، واختصاص كل جزء من أجزائه بمكانه من المحيط إلى المركز ، بحيث كانت الأفلاك محيطة بالنار والنار محيطة بالهواء والهواء بالماء والماء بالتراب ، إلى غير ذلك من وجوه التخصيصات مما لا يستحيل القول بفرض وجود تلك الأجرام بذواتها مع غيرها ، كأن يكون العالم أصغر أو أكبر مما هو عليه أو متيامنا أو متياسرا مما هو عليه من مستقره أيضا ، ولو كان ذلك مما يثبت لها باعتبار ذواتها ، لما تصور فرض تبدله أصلا ، فإذا اختصاصها به إنما هو باعتبار مخصص خارج.

وما لزم الأول في قضيته فهو أيضا لازم لهذا القائل على طريقته ، مع لزوم بيان تناهي الأبعاد ، وفرض خلاء وراء العالم ، لضرورة صحة فرض التباين والتياسر.

ولأجل ذلك فر بعض المحققين في ذلك إلى بيان جهة الإمكان ، فقال : القسمة العقلية حصرت المعلومات في ثلاثة أقسام : واجب لذاته ، وممتنع لذاته ، وممكن لذاته. فالواجب هو الموجود الذي لو فرض معدوما لزم عنه المحال لذاته ، والممتنع لو فرض موجودا لزم عنه لذاته المحال ، والممكن : هو ما لو فرض موجودا أو معدوما لم يعرض عنه محال.

فالعالم إما أن يكون واجبا أو ممتنعا أو ممكنا لا جائز أن يكون واجبا لأن أجزاءه متغيرة عيانا ، وضروري الوجود لا يتغير بحال. ولا جائز أن يكون ممتنعا ، وإلا ما وجد. فتعين أن يكون لذاته ممكنا ، وكل ممكن فترجحه في جانب وجوده أو عدمه ليس إلا بغيره ، وإلا كان واجبا ممتنعا ، فترجح العالم في جانب وجوده ليس إلا بغيره.

٢١٨

ثم نظم لذلك قياسا مركبا منفصلا ، فقال : العالم متغير ومتكثر ، وكل متكثر ومتغير فهو ممكن الوجود بذاته ، وكل ممكن الوجود بذاته فوجوده بإيجاد غيره ، فوجود العالم بإيجاد غيره. وذلك الغير يستحيل أن يكون مرجحا بذاته لثلاثة أوجه :

الوجه الأول : أن الوجود والذات لا اختلاف فيهما بين موجود وموجود ، وهما في الواجب والجائز بمعنى واحد ، فلو أوجب الوجود ، من حيث إنه ذات ووجود ، لم يكن إيجاده لغيره ـ بذلك الاعتبار ـ بأولى من وجوده هو بغير بناء على ما اشتركنا فيه من ذلك الاعتبار.

الوجه الثاني : هو أن الجائزات بأسرها متماثلة من حيث هي جائزة وهي لم تكن مفتقرة إلى المرجح إلا من حيث ما وقع بينها من الاشتراك في جهة الإمكان ، والموجب بالذات لا يخصص مثلا عن مثل ؛ إذ نسبة سائر المتماثلات إليه على وتيرة واحدة.

والوجه الثالث : هو أن الواجب بذاته مهما لم يكن بينه وبين الموجب مناسبة أو تعلق ما ، بل انفرد كل واحد بحقيقته وخاصيته ، لم يقض العقل بصدور أحدهما عن الآخر أصلا ، ولا محالة أن الباري تعالى منفرد بحقيقته عن جميع المناسبات والتعلقات ، فإيجاده لغيره بالذات لا يكون معقولا.

فإذا قد امتنع الإيجاد بالذات ، وتعين أن يكون بصفة زائدة بها التخصيص وهي المعني بالإرادة ، ومع ذلك فلا يلزم القول بلزوم القدم.

ولربما قرر بتقرير آخر : وهو أن العالم ممكن ، والممكن جائز الوجود وجائز العدم ، لا جائز الوجوب وجائز الامتناع ، فاستفادته من المرجح ليس إلا وجوده لا وجوبه ؛ إذ الوجوب عارض للوجود. ولهذا يصح أن يقال : وجد فوجب ولا يصح أن يقال : وجب فوجد. وإذا كان الوجوب عارضا للوجود ، فالمستند إلى المرجح إنما هو الوجود لا ما عرض له. فعلى هذا إذا قيل : إن الممكن وجد بإيجاد غيره كان مستقيما لفظا ومعنى. وإذا قيل : إنه

٢١٩

وجب بإيجاب غيره كان مختلا لفظا ومعنى ، وإذا بطل أن يكون المستفاد من المرجح هو الوجوب بطل الإيجاب الذاتي ، للملاءمة بين وجود المفيد والمستفيد.

ولقد فر مما لا طاقة له به إلى ما لا قبل له به ، وذلك أنه إن أراد بالتغير التغير في كل أجزاء عالم الكون والفساد ، والتبدل بالوجود بعد العدم والعدم بعد الوجود ، فذلك مما لا سبيل إلى ادعائه غائبا بطريق العموم والشمول ، وإن صح ذلك في بعض الجواهر الصورية ، وبعض الأمور العرضية ، ومع امتناع إسناد ذلك إلى العيان لا بدّ فيه من البيان.

وإن أراد به التغير في أحوال الموجودات ، وما يتعلق بها من التغيرات ، فقد التزم في ذلك ما فر منه أولا : وهو بيان انتفاء موجود لا يقبل التغير أصلا ، وذلك كما أثبته الخصم من العقول الكروبية ، والنفوس الروحانية. وبيان وجود الأعراض ، وحدثها وانتهائها ، وامتناع عرو الجواهر عنها ، حتى يصح القول بحدث الجواهر بأصلها ، وكونها ممكنة الوجود في نفسها. وإلا فلا يلزم من قيام شيء متغير بشيء أن يكون ذلك الشيء في نفسه متغيرا ، وإذا لم يكن متغيرا فقد انتفى عنه ما جعله مستندا لبيان الإمكان أولا. وعند ذلك فلا يلزم أن يكون العالم بجميع أجزائه ممكنا ، على ما لا يخفى.

وما قيل من أن الوجود بالذات في الواجب والجائز بمعنى واحد ، وليس إيجاب أحدهما للآخر بأولى من العكس. فمما لا سبيل إليه على الرأيين. وذلك أنه لو كان معنى الذات والوجود فيهما معنى واحدا لزم أن تكون ذات واجب الوجود ووجوده ممكنا أو أن يكون وجود الجائز وذاته واجبا ، لضرورة الاشتراك فيما قيل إنه واجب في أحدهما وممكن في الآخر ، فإن ما ثبت لشيء لنفسه كان لازما له مهما وجد ، وإن اختلفت الجهات والمتعلقات. ولا يخفى أن جعل الواجب بذاته ممكنا أو الممكن واجبا من أمحل المحالات ، إذ الواجب لذاته ، ما لو فرض معدوما عرض عنه المحال لذاته ،

٢٢٠