غاية المرام في علم الكلام

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

غاية المرام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4311-5
الصفحات: ٣٣٤

من غير سبق مادة ولا زمان ، واندفع ما في ذلك من الخيالات ، وبطل ما فيه من الإشكالات.

وأما الرد على المعتزلة :

في اعتقادهم كون المعدوم شيئا : فقد سلك بعض المتكلمين في ذلك منهاجا ضعيفا ؛ فقال : تقرر في أوائل العقول أن النفي والإثبات متقابلان تقابل التناقض ، وكذلك المنفي والمثبت ، ولهذا أن من نفى شيئا معينا في حال مخصوص بجهة لم يمكنه القول بإثباته من حيث نفاه قال : فإذا كان المنفي ثابتا على أصل من يقول بكون المعدوم شيئا فقد رفع هذه القضية ، ثم نظم لذلك عبارة فقال : كل معدوم منفي ، وكل منفي ليس بثابت فيترتب عليه أن كل معدوم ليس بثابت.

واعلم أن هذا المسلك مما لا يقوى ، وذلك أن الخصم وإن سلم أن التقابل واقع بين النفي والإثبات والوجود والعدم فهو لا يسلم ترادف النفي والعدم ولا الوجود والثبوت حتى يلزم من تقابل الإثبات والنفي أو من تقابل الوجود والعدم تقابل الإثبات والعدم ، بل مدلول لفظ الثبوت عنده أعم من مدلول لفظ الوجود ، فكل موجود ثابت وليس كل ثابت موجودا ، وعند ذلك فلا يلزم من العدم النفي ولا التقابل من القضاء عليه بالإثبات ، لكنه قد وجه بعد ذلك خيالا رام به دفع هذا الإشكال ، فقال : إذا كان الإثبات أعم من الوجود وهو عام له وللعدم فهلا قيل مثله في مقابله وهو النفي فيكون النفي أعم من العدم حتى يكون بصفة عمومه حالا ووجها ثابتا للمنفي ، كما كانت صفة خصوص العدم حالا ووجها ثابتا للمعدوم ، وذلك يفضي إلى تحقق الإثبات للنفي في الحال ، وإن قلتم بأنه لا فرق بين المنفي والمعدوم فيلزم من القضاء على كون المعدوم شيئا ومعنى ثابتا رفع التقابل بين النفي والإثبات وهو محال.

ولم يعلم أن ادعاء عموم النفي بالنسبة إلى المعدوم بعد تسليم عموم

٢٤١

الثبوت بالنسبة إلى الموجود والمعدوم مما يشعر بعدم اطلاعه على معنى التقابل وأحكامه ، وذلك أن من أحكام التقابل أن يكون كل واحد من المتقابلين عند صدقه أخص من مقابل ما هو أخص من مقابله ، ولا يجوز أن يكون مساويا له ولا أعم منه صدقا وإن كان أعم منه كذبا ، ولا يجوز أيضا أن يكون مساويا له ولا أخص منه من جهة الكذب ، وذلك لأنه مهما صدق أحد المتقابلين كذب الآخر بالضرورة ، فإذا كان الكاذب أعم من غيره لزم كذب ذلك الغير ؛ لأنه مهما كذب الأعم كذب الأخص ضرورة من غير عكس ، ومهما كذب ذلك الأخص فمقابله صادق لا محالة. وعند ذلك فلو كان هذا المقابل المفروض صدقه ثانيا مساويا للمفروض صدقه أولا في الصدق والكذب للزم منه مساواة نقيضه في الصدق والكذب لما فرض أعم منه أولا ، لضرورة كونهما نقيضين لمتلازمين في الصدق ، وأنه مهما صدق أحد المتلازمين المتعاكسين صدق الآخر ، ويلزم من فرض صدقهما كذب نقيضهما أيضا بجهة التلازم ، وكان قد فرض أحدهما أعم من الآخر ، ومحال أن يكون الأخص مساويا لما هو أعم منه ، وكذا لو فرض أخص منه.

وإذا عرف ذلك في حالة الصدق أمكن نقله إلى حالة الكذب بعينه أيضا ، ومن اعتاص عليه فهم هذا الفصل هاهنا فعليه بمراجعة كتبنا المختصة بهذه الصناعة. فمهما وقع التسليم بكون الثبوت أعم من الوجود المقابل للعدم ، فمهما صدق الثبوت لزم أن يكون مقابله وهو النفي أخص من العدم الذي هو مقابل الوجود ، لضرورة كونه أخص من الثبوت ، حتى يكون كل منفي معدوما ، ولا يلزم أن يكون كل معدوم منفيا ، وإلا للزم منه مساواة الأعم للأخص كما بيناه وهو محال. ثم إنه وإن صدق كون النفي عاما أو خاصا فليس يلزم عند الخصم أن يكون كل ما خص أو عم حالا ثابتا حتى يلزم الثبوت للمنفي ، بل الاشتراك قد يقع عنده في السلوب ، وليست السلوب عنده أحوالا ، بل هي أعدام محضة ، والحال لا يوصف عنده بالعدم

٢٤٢

كما لا يوصف بالوجود وكذلك قد يكون الافتراق بالسلوب كما يكون بالأحوال ، وذلك بأن يكون ما ثبت لأحد الشيئين مسلوبا عن الآخر فيكون التمييز بينهما بثبوت الحال في أحدهما ونفيها عن الآخر ، وذلك كما في التمييز بين الموجود في حال وجوده وبينه في حال عدمه فليس العدم عنده حالا ثابتة للمعدوم حتى يقاس عليها الثبوت أيضا.

ولقد سلك بعض المتأخرين في ذلك طريقا آخر ، فقال : نفرض الكلام في السواد والبياض مثلا ، فإنه عند الخصم ذات ثابتة وحقيقة معينة ، فنقول : ذات السواد في حال العدم لا تخلو إما أن تكون لذاتها متحدة أو متكثرة ، فإن كانت متحدة لم تقبل التكثر ، فإن ما كان مستحقا للوحدة باعتبار ذاته استحال عليه التكثر في نفسه ، وإن كانت متكثرة فهو أيضا باطل من ثلاثة أوجه.

الوجه الأول : هو أن التكثر إما باعتبار صفات ذاتية أو باعتبار صفات عرضية ، لا جائز أن يكون التكثر باعتبار صفات ذاتية ، إذ الكلام واقع في نوع السواد من حيث هو سواد ، ولا اختلاف فيه من حيث هو سواد ، وإن كان الاختلاف باعتبار أمور عرضية ، والأمور العرضية يخصصها قيامها بكل واحد من آحاد النوع ، وهو فرع تحقق ذلك الواحد بما خصصته من الأمور الذاتية ، وذلك يفضي إلى أن تكون العرضيات سبب تكثر ما لا يتصور قيامها به إلا بعد تكثر وهو دور.

الوجه الثاني : هو أن المميزات المعلومة بأسرها ممتنعة في حال العدم وهي الزمان والمكان والجهة وغير ذلك ، فالتكثر يكون غير معقول.

الوجه الثالث : هو أنها لو كانت متكثرة لم تخل وإما أن تكون متناهية أول غير متناهية فإن كانت متناهية فليس القول بثبوت بعض الجائزات بأولى من البعض ، إذ الجائزات غير متناهية. وإن كانت غير متناهية فإذا أخذت مع ما خرج منها إلى الأعيان أمكن فيها فرض الزيادة والنقصان بأمر متناه ، ووقوع ذلك بين ما ليسا متناهيين محال.

٢٤٣

وذلك أيضا غير مرضي وهو أن ما ذكره نفسه لازم له في الذوات الموجودة فإنه يصح أن يقال : إما أن تكون مستحقة لذواتها الكثرة أو التوحد ، لا جائز أن تكون مستحقة للوحدة ، وإلا لما تكثرت ، وإن كانت متكثرة فالتكثر إما بأمور أو بأمور عرضية عرضية ، وهلم جرا إلى آخر الإلزام ، ولا محيص عنه ، فما هو جواب له هاهنا هو جواب الخصم أيضا.

وما ذكره في الوجه الثاني من أن الأسباب الموجبة للكثرة بأسرها ممتنعة في حالة العدم فإنه إن أريد به انتفاء الوجود فصحيح ، وإن أريد به انتفاء الإثبات فذلك مما لا يسلمه الخصم ، بل ما وقع موجبا للتكثر في حالة الوجود بوجوده فهو بعينه موجب للتكثر في حالة العدم بثبوته ، كيف وأنه مع ما فيه من الركاكة مناقض للوجه الأول ، من جهة أنه يتضمن القول بجواز التمييز بالأمور العرضية والوجه الأول يمنعه.

وما ذكره في الوجه الثالث من امتناع ثبوت ذوات لا نهاية لها بناء على فرض وقوع الزيادة والنقصان بأمر متناه فقد سبق وجه إفساده فيما مضى.

فإذا الرأي الحق والسبيل الصدق أن يقال : لو كانت الذوات ثابتة في العدم فعند وجودها إما أن يتجدد لها أمر لم يكن لها في حال عدمها أو ليس : فإن قيل بالأول فهو أيضا إما جوهرا وإما عرضا وإما حالا زائدة عليهما ، لا جائز أن يكون جوهرا ولا عرضا ، إذ قد فرضت ذواتهما ثابتة بديا ، إذ لا فرق في ذلك بين جوهر وجوهر ، ولا بين عرض وعرض ، وإن كان حالا زائدة فهو مبني على القول بالأحوال وقد سبق إبطالها.

وإن قيل بالثاني لم يكن فرق بين الوجود والعدم وهو محال ، والقول إذا بالحدوث والوجود محال. وهذا المحال إنما لزم من فرض الذوات ثابتة في العدم ومتحققة في القدم ، فلا ثبوت لها ، والتحقق بالحدوث والثبوت إنما هو لنفس الذوات الجوهرية والعرضية لا غير.

وأيضا فإنا نفرض الكلام في السواد والبياض فنقول : لو كانت ذواتها

٢٤٤

ثابتة في العدم فإما أن تكون مفتقرة إلى محل تقوم به أو غير مفتقرة ، لا جائز أن تكون غير مفتقرة وإلا فعند وجودها إما أن تفتقر أو لا تفتقر : القول بعدم الافتقار محال ، وإلا لما وقع الفرق بين الجواهر والأعراض ، وإن افتقرت فإما أن تفتقر إلى المحل باعتبار ذواتها أو باعتبار أمر وجودها ولا جائز أن تكون مفتقرة من حيث وجودها ؛ إذ الوجود من حيث هو وجود عند الخصم قضية واحدة شاملة للجوهر والعرض ، فلو افتقر العرض إلى المحل من حيث وجوده لافتقر الجوهر أيضا وهو ممتنع ، فبقى أن يكون الافتقار إلى المحل من حيث ذواتها ، وإذ ذاك فلا فرق بين أن تكون موجودة أو معدومة ، فإن ما هو المفتقر في حالة الوجود هو بعينه الثابت في حالة العدم.

وإذا كانت مفتقرة إلى محل تقوم به فإذا فرضنا سوادا وبياضا متعاقبين على محل واحد في طرف الوجود فإما أن يكونا قبل وجودهما قائمين بذلك المحل ، أو أحدهما قائم به والآخر قائم بغيره : لا جائز أن يكون أحدهما قائما به والآخر قائما بغيره ؛ وإلا فعند وجوده فيه يلزم عليه الانتقال ، والانتقال على الأعراض محال. فبقى أن يكونا ثابتين فيه بصفة الاجتماع في حالة العدم ؛ ولو كان كذلك لما استحال القول باجتماعهما فيه في حالة الوجود ، إذ الاستحالة إما أن تكون باعتبار ذاتيهما أو باعتبار وجوديهما ، لا جائز أن تكون الاستحالة بينهما والتنافر باعتبار وجوديهما إذ الوجود فيهما بمعنى واحد لا اختلاف فيه ، فتعين أن تكون الاستحالة باعتبار ذاتيهما ، فإذا لم يكن بينهما تنافر في العدم لم يكن بينهما تنافر في الوجود أيضا ، لكن الاستحالة والتنافر ثابت في الوجود فيكون ثابتا في العدم ، فيلزم من كونه ثابتا في حالة العدم امتناع قيامهما بمحل واحد لضرورة التنافر ، أو بمحلين لضرورة استحالة الانتقال عند فرض التعاقب ، ويلزم من امتناع قيامهما بالمحل امتناع ثبوتهما في نفسيهما لضرورة أن لا قوام لهما ولا ثبوت إلا بالمعدوم وهو المطلوب. فإن قيل : تعلق العلم والإخبار عنه بكونه مقدورا أو ممكنا ،

٢٤٥

وصحة التصرف فيه بالعموم والخصوص ، حتى انقسم إلى الجائز والمستحيل ، يستدعي متعلقا لهذه العلاقات ، وصحة هذه التصرفات ، وذلك لا يتم إلا أن يكون المتعلق شيئا ثابتا وذاتا متعينة ، وإلا فإضافة العلم والإمكان والقدرة والعموم والخصوص وغير ذلك من الأحكام لا إلى شيء ، وهو محال ، كيف وأنه لو لم تكن الذوات ثابتة في العدم ، متميزة بذواتها في القدم لما تصور من الفاعل إيجادها ، ولا القصد إلى إحداثها ، من جهة أن التخصيص بالوجود والقصد له فرع تميزه عند الفاعل ، وإلا كان الإيجاد لموجود لا تعرف عينه وهويته في نفسه ، ولعله يقع جوهرا ولعله يقع عرضا.

وكان ذلك خبط في عشواء ، والجواب هو أنا نقول : تعلق العلم بالمعدوم ليس يرجع إلا إلى حكم النفس بانتفاء ما وقع متصورا للنفس من الذوات ، وسواء كان وجود ذلك المتصور من الذوات حقيقيا أو تقديريا ، وذلك لا يستدعي ثبوت ذاته لتعلق العلم بانتفائه وإلا كان المعلوم نفيه ثابتا ، وهو محال. بل تعلق العلم بالعدم وإن كانت ذاته غير ثابتة على نحو تعلقه بما هو متعلق بالقدرة ، كالوجود الزائد على الذات. وبتوابعه كالجهات والحركات وغير ذلك من الصفات عند الخصم ، فإن ذات الوجود وتوابعه غير ثابتة أزلا لضرورة القول بحدثه ، وبكونه مقدورا والعلم متعلق بانتفائه قبل الحدوث لا محالة ، وما لزم من تعلق العلم بانتفائه القول بثبوت ذاته أصلا.

وعلى ما حققناه يتضح الجواب عن كونه مقدورا وممكنا أيضا ، وما وقع به الاتفاق والافتراق بين المعدومات أيضا ، فإن ما وقع به الاشتراك بين الجائز والمستحيل إنما هو نفس لنفي والعدم ، وقد بان أن ذلك لا يستدعي ثبوت ذات يضاف إليها وما وقع به الافتراق أيضا بين الاستحالة والجواز غير مفتقر لذلك أيضا ، أما الاستحالة فظاهر لا محالة ، وكذا الجواز لما أسلفناه في الرد على شبهة معلم المشائين أيضا. ثم كيف يمكن دعوى مع اعترافه بجواز تعلق القدرة مع الوجود لضرورة انتفاء الوجود والامتناع عنه ، ومع ذلك فلا

٢٤٦

ثبوت لذاته عند الحكم بجوازه قبل حدوثه.

وأما ما ذكروه من فصل التمييز بين الجوهر والعرض فغايته استبعاد العلم بما قصد إلى إيجاده ، وتصور حقيقته على وجه يتميز بخصوص وصفه عن غيره ، وذلك لا يلزم منه تحقق الذات في نفسها أو ثبوتها قبل الحدوث لما سبق ، ثم ولو استدعى ذلك ثبوتها قبل الحدوث لجاز أن ما كان منها مشارا إلى جهته بعد الحدوث أن يكون مشارا إلى جهته قبل الحدوث أيضا ، وذلك أن ما له الجهة وهو الواقع في امتداد الإشارة إما أن يكون نفس الوجود الذي هو متعلق القدرة فهو محال ؛ فإنه ذات معقولة وليس بمحسوس ، بحيث يكون في الجهة ويقع في امتداد الإشارة ، وإن كان ذلك ثابتا للذات والذات ثابتة قبل الحدوث فوجب أن يكون أو جاز أن يكون في الجهة وهو محال.

ومثار الجهل ومنشأ الخيال هاهنا لأهل الضلال في اعتقاد كون المعدوم شيئا إنما هو من تطفلهم سلوك مسلك الهيولانين ، ونسجهم على منوال الفلاسفة الإلهيين ، وظنهم أن ذلك من اليقينيات ، وأنه لا منافرة بينه وبين القول بحدث الكائنات ، ولهذا لما تخيل بعضهم ما فيه من الجهالة ، وشحذ راية الضلال قال : إنما نطلق عليه اسم الشيء والذات من جهة الألفاظ والعبارات ، وربما تمسك في ذلك بالسمع وظواهر واردة في الشرع ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) [الكهف : ٢٣] وكذلك قوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١] فإنه قد سمّى الساعة والفعل ، قبل كونهما ، شيئا ، وهذا وإن كان نزاعا في اللفظ دون المعنى ، وأنه أقل طغاوة من الأول ، لكنه مما لا عليه معول ، ومعنى قوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ) أي فاعل غدا شيئا إلا أن يشاء الله ، وكذا تسميته زلزلة الساعة شيئا إنما هو في وقت كونهما وهذا على رأي من لا يعترف منهم بكون

٢٤٧

المعدوم متحركا أولى وأحرى ، من جهة أن الزلزلة حركة على ما لا يخفى ، ثم إن هذه الظواهر قد لا تسلم عن المعارضة بمثلها ، وذلك مثل قوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [مريم : ٩]. وهذا آخر ما أردنا ذكره من القانون الخامس.

والله ولي التوفيق.

٢٤٨

القانون السادس

في المعاد وبيان ما يتعلق بحشر الأنفس والأجساد

مقالة الفلاسفة الإلهيين (١) :

والذي ذهبت إليه الفلاسفة أن الأنفس الإنسانية باقية بعد الأبدان ، ولا يلزم فواتها من فواتها ، ولا لسبب خارج.

أما أنه لا يلزم فواتها من فواتها ، فلأن كل شيئين لزم فوات أحدهما من فوات الآخر لا بدّ وأن يكون له به نوع تعلق ، والتعلق إما بالتقدم أو التأخر أو المعية والتكافي ، فلو فاتت النفس بفوات البدن للزم أن يكون لها أحد هذه الأقسام من التعلق.

فإن تعلقت به تعلق المتقدم عليه ، فلا محالة إنه إن كان ذلك النوع من التقدم بالزمان ، أو المكان ، أو الشرف ، أو الطبع ، أنه لا يلزم من فوات المتأخر عنه في تلك الرتبة فواته ، وإن كان التقدم بالذات ، وهو أن يلزم من وجوده وجود ما هو متأخر عنه ، فلا محالة أنه يلزم عند فرض عدم المتأخر عدم المتقدم ، لكن لا لأنه لزم من عدم المتأخر عدم المتقدم بل لأنه لا يكون إلا بعارض في جوهره ، وعدم المتأخر يكون بسبب عدمه إذ هو المرجح له.

وإن كان التعلق بالمكافأة في الوجود فهما متطابقان ، فإن كانا حقيقيين فلا محالة أن ما وقع بينهما من التكافي إنما هو بسبب عارض لهما كما في الأب والابن ، ولا يخفى أن فساد أحدهما في ذاته لا يوجب فساد الآخر في ذاته ، وإن لزم من ذلك فساد العارض الذي أوجب الإضافة بينهما. وإن تعلقها تعلق المتأخر في الوجود فلا محالة أنه لا يلزم من فواته فواتها ، إلا أن يفرض تقدمه بالذات كما بيناه ، ولو كان متقدما عليها بالذات لكان علة لها

__________________

(١) انظر : النجاة لابن سينا (ص ١٧٤ ، ١٩٣) ، والإشارات الإلهية له (٣ / ٧٤٩ ، ٧٧٨) ، والشفاء القسم الثاني الطبيعيات (ص ٢٦ ، ٣٢) ، ومعارج القدس للغزالي (ص ٢١ ، ٢٥) ، ومقالات الإسلاميين (١ / ١٢٤).

٢٤٩

والعلل أربعة : إما فاعلية أو مادية أو صورية أو غائية ، لا جائز أن يكون فاعلا لها ، فإنه إما أن يكون فاعلا بنفسه أو بقواه لا جائز أن يكون فاعلا بنفسه ، وإلا كان كل جسم كذا ، ولا جائز أن يكون فاعلا بقواه ، وإلا كان الموجود في الموضوع مقوما لما وجوده لا في موضوع ، وهذا محال. ولا جائز أن يكون لها كالمادة فإن النفس منطبعة في الجسم كما يلي ، ولا جائز أن يكون كالصورة أو الغاية ، إذ الأولى أن يكون بالعكس وإذ ذاك فلا يلزم فوات النفس من فوات البدن.

ولا يتصور فواتها بسبب خارج أيضا ، وإلا كانت قبل الفساد لها قوة قابلة للفساد ، وقد كان لها إذ ذاك قوة قابلة للبقاء بالفعل ، فهاتان القوتان مختلفتا الإضافة لا محالة ، فيستحيل اجتماعهما في شيء واحد لا تركيب فيه ، والنفس بسيطة لا تركيب فيها ولا انقسام بوجه ما ، وإلا فإدراكها لما لا انقسام له في ذاته من الأمور الكلية والمعاني العقلية ، إما بجزء واحد أو بكل جزء. لا جائز أن يكون بجزء واحد وإلا كان باقي النفس معطلا ، ولا جائز أن يكون بكل واحد من الأجزاء ، وإلا فما أدرك بكل واحد إما نفس ما وقع مدركا للآخر أو غيره ، فإن كان هو أفضى إلى أن يكون الشيء الواحد معلوما كرات متعددة في حال واحدة ، وهو محال. وإن كان ما أدرك بكل واحد غير ما أدرك بالآخر لزم أن يكون المدرك في نفسه متحيزا ، وقد فرض غير متحيز ، فإذا ليست النفس جرما ولا قائما في جرم ، إذ الجرم متجزئ إلى غير النهاية ، وإلا كان ما فرض منه غير منحاز إلى جهة ليس هو ما هو منه منحاز إلى جهة أخرى ولكان ما فرض منه على ملتقى مثليه محاذيا لهما ، أو لأحدهما ، لضرورة ألا يكون محاذيا لبعض كل واحد منهما ، وذلك كله محال. فإذا اجتماع القوى المختلفة الإضافة فيها ممتنع.

ولربما قالوا : إن ما قبل البقاء والفساد فلا بد له عند تحقق كل واحد من الأمرين من وجود القوة القابلة له ، وعند تحقق العدم لا بد من تحقق الحامل

٢٥٠

للقوة القابلة وإلا فلا عدم ، كما أن ما كان قابلا للوجود فلا بد فيه من أن يكون الحامل للقوة القابلة للوجود متحققا ، وإلا فلا وجود ، وأن يكون ما طرأ غير ما فقد وما فقد هو غير ما طرأ ، وذلك في غير المادة محال. فلو قبلت النفس الفساد للزم أن تكون مادية ومركبة وهو ممتنع لما مضى ، فإذا النفس لا فوات فيها بعد فوات البدن.

ثم زعموا أن سعادة كل شيء إنما هو بحصول ماله من الكمالات المختلفة له ، وذلك كما في البصر بالنسبة إلى العين ، والسمع بالنسبة إلى الأذن ونحوه ، وكذلك شقاوته إنما هو بعدم ظفره بماله من تلك الكمالات ، فسعادة النفس الناطقة إنما هي بحصول ما لها من الكمال الممكن لها ، وهو مصيرها عالما عقليا متصلة بالجواهر الروحانية مطلعة على المعقولات محيطة بالمعلومات وكذلك أيضا شقاوتها إنما هي بعدم ظفرها بهذا الكمال الممكن لها ، فحالها بعد المفارقة للبدن إن كانت قد استعدت لقبول كمالها واستكملت بإشراف العقل الفاعلي عليها فلها حالتان : الحال الأول أن تكون في حال المفارقة قد عقلت شيئا من كمالها ومطلوبها بالبحث عنه والاهتمام به ، فإن حصول ذلك لها ليس بطبعها ، وإلا كان ذلك موجودا معها بالفعل ، حيث وجدت فحصول ذلك لها ، مع اشتغالها به عن الرذائل والعوائق البدنية على الدوام هو نعيمها بعد المفارقة ، وفوزها باللذة الدائمة في جوار رب العالمين ، ولا محالة أن على قدر تحصيلها تكون زيادة سعادتها في الأخرى.

قالوا : وليس ما يحصل لها من اللذة يحصل مثل المطلوب. مما شاكل اللذة الحاصلة من غيره ، من المطاعم والمشارب ، وغير ذلك من الكمالات الحاصلة للحيوانات ؛ إذ الالتذاذ وزيادته إنما هو على حسب جمال الشيء المدرك وقوة الإدراك له ودوامه ، ولا يخفى أن شرف كمال النفس ، بالنسبة إلى غيره من الكمالات ، كنسبة شرف جوهر النفس بالنسبة إلى غيره من الجواهر. وكذا أيضا إدراك النفس لما تدركه ليس مثل إدراك غيرها من

٢٥١

القوى ، من حيث إن إدراكها للأمور الكليات والحقائق والماهيات ولا كذلك غيرها وكذا أيضا كمالها أدوم من كمال غيرها فالتذاذها به ليس من التذاذ غيرها بكماله ، وليس التذاذها به أيضا بعد المفارقة على نحو التذاذها به قبل المفارقة ، إذ النفس قبل المفارقة مشغولة بالعوائق البدنية والموانع الدنيوية ، وقد زالت هذه الموانع بعد المفارقة ، وغير خاف أن الالتذاذ بالشيء عند زوال المانع يكون أشد منه عند وجوده ، واللذة الحاصلة منه أعظم وأتم ، وليس نسبة هذه اللذة إلى تلك اللذة إلا على نحو نسبة لذة الأكل إلى لذة شم رائحة المأكول أو أشد.

وهي وإن كنا لا نعرفها على ما هي عليه ، ولا نتشوقها غاية الشوق ؛ لكوننا مشغولين بالعوائق والعلائق ، فإنا لا محالة نقطع بوجودها ، كما يقطع العنين بلذة الجماع ، أو الأكمه بتخيل بعض الصور ، وإن كان لا يتشوقها ولا يعرفها على نحو معرفة غيره بها وتشوقه إليها ممن ليس بعنين ولا أكمه ، فهذه هي اللذة والنعيم الدائم الذي لا يشبهه شيء من أنواع الملاذ.

وإن كانت النفس مع ما حصل لها مشتغلة عنه بالفجور والانغماس في الرذائل ، فهذه النفس تسمى المؤمنة الفاجرة ، فما استقر فيها من تلك الهيئات والشهوات والقبيحات يجذبها إلى أسفل ، وما حصل لها في جوها من الكمالات يجذبها إلى الملأ الأعلى ، فقد يحدث ذلك التجاذب والتضاد ألما عظيما وعذابا أليما ، وعلى حسب رسوخ تلك الهيئات القبيحة في النفس يكون دوام هذه الآلام ، لكنها مما لا يتسرمد لكون الموجب لها عارضا والعارض قد يزول على تطاول الزمان.

الحال الثاني :

ألا تكون قد حصلت شيئا من كمالها ، ولا اشتغلت بشيء من مطلوبها ، فهي إن كانت مع ذلك زكية طاهرة مشتغلة بالرياضات ، وأنواع النسك والعبادات عن الرذائل والشهوات ، فلا يبعد أن تتصل ، بعد المفارقة

٢٥٢

للأبدان ، ببعض الأجرام الفلكية فتتخيل به على نحو تخيل يقظاننا ما كان قد استغرقها من صور الملاذ من المطعومات والمشروبات ، وتكون لذة ذلك بالنسبة إليها تزيد على ما كانت تجده من لذته في دار الدنيا على نحو ما يجد النائم في منامه ، في زيادة لذة المنكوح أو المأكول ، بالنسبة إلى ما يجده من اللذة في حالة كونه يقظان منتبها وأن كانت في ذلك منغمسة في الشهوات البهيمية منهمكة على الرذائل الدنياوية بحيث اشتدت إليه قوتها الرغبية فبعد المفارقة تجد من العذاب الأليم على حساب ما تجده النفس الزكية من لذة النعيم المقيم ، وذلك بسبب تنبهها لفوات مطلبها ، وانجذابها إلى العالم السفلي بما استقر فيها من تلك الرذائل ، واستحكم فيها من صور تلك القبائح.

وإن كانت مع ذلك كله مستقرة على المجاحدة ، منكبة على اعتقادات فاسدة فإنها تجد الألم ما يزيد ويربى على حالها أولا ، لاستحكام صورة نقيض الحق في جوهرها ، وتكون حالها بالنسبة إلى هذا الألم كحالة من يرجح لفساد مزاجه الأشياء الكريهة على المستلذة ؛ فإنه إذا صلح مزاجه وزال عنه المرض ، وهو مستمر على أكل ذلك الشيء المستكره ، فإنه يجد من نفسه تألما لا يجده من لم تكن حاله كحاله.

قالوا : ويشبه أن تتصل هذه الأنفس الفاجرة بعد المفارقة ببعض الأجرام الفلكية ، فتتصور به نقيض ما تتصور الأنفس الزكية الجاهلة ، فيحصل لها من الألم إذ ذاك حسب ما يحصل لتلك النفوس الجاهلة الزكية من الالتذاذ والنعيم ، هذا كله إن كانت النفس الناطقة قد استعدت لقبول كمالها قبل المفارقة وتنبهت لمعشوقها ، وإن لم تكن قد استعدت له فهي لا تجد بعد المفارقة شيئا مما ذكرناه ، وذلك كما في الأنفس الساذجة كأنفس الصبيان والمجانين ونحوهما ، بل حالها بعد المفارقة وإن كانت حالة حصول الالتذاذ كحالها قبل المفارقة فهي كمن خلق أكمه أو عنينا. فإنه عند بلوغ وقت الالتذاذ لا يجد لفواته ألما ، ولا يحس من نفسه لذلك أثرا. هذا حكم معاد الأنفس.

٢٥٣

وأما الأبدان فإنهم قضوا باستحالة إعادتها ، وزعموا أن ذلك مما يفضي إلى القول بوجود أبعاد وامتدادات لا تتناهى ؛ لضرورة وجود أجسام لا تتناهى ، وبنوا على ذلك فاسد أصلهم في القول بالقدم ، واستحالة سبق ما تجدد من الأبدان بالعدم. وما ورد به السمع من حشرها وأحكام معادها ، فإنما كان ذلك لأجل الترغيب والترهيب بما يفهمونه ويعقلونه لأجل صلاح نظامهم ، وإلا فلا بد من تأويل على نحو تأويل أخبار الصفات وما ورد فيها من الآيات ؛ جمعا بين قضيات العقول. وما ورد به الشرع المنقول.

وأما التناسخية : فإنهم وافقوا الفلاسفة في القول بوجوب بقاء الأنفس بعد مفارقة الأبدان ، لكنهم زعموا أنه لا قوام لها بعد مفارقة بدنها إلا ببدن آخر ، كما أنه لا وجود لها قبل البدن ، فالأبدان تتناسخها أبدا سرمدا ، وعلى حسب عملها يكون ما تنتقل إليه ، فإنها إن عملت على مقتضى جوهر النفس الناطقة انتقلت إلى بدن نبي أو ولي ، وإن عملت على مقتضى جوهر النفس الحيوانية انتقلت إلى بدن حيوان آخر من فرس أو حمار أو غيره ، وهكذا لا تزال في الانتقال ، والارتفاع والانخفاض ، وليس ثم حشر ولا معاد ، ولا جنة ولا نار ، ولا غير ذلك مما ورد به الرسول ، ومذهب أهل الحق : من الإسلاميين القول بالحشر والنشر وعذاب القبر ، ومساءلة منكر ونكير ، ونصب الصراط والميزان ، والجنة والنار ، والثواب والعقاب. وقبل الخوض في ذلك بالتفصيل يجب تقديم النظر في إبطال مذاهب أهل التعطيل (١).

__________________

(١) ولقد اتفق سلف الأمة قبل ظهور الخلاف ، وأكثرهم بعد ظهوره : على إثبات إحياء الموتى في قبورهم ، ومسألة الملكين لهم ، وتسمية أحدهما منكرا ، والآخر نكيرا ، وعلى إثبات عذاب القبر للمجرمين ، والكافرين. وذهب أبو الهذيل ، وبشر بن المعتمر : إلى أن من ليس بمؤمن ، فإنه يسأل : ويعذب فيما بين النفختين أيضا. وذهب الصالحي من المعتزلة ، وابن جرير الطبري ، وطائفة من الكرامية إلى تجويز ذلك على الموتى في قبورهم من غير إحياء لهم. وذهب بعض المتكلمين إلا الآلام

٢٥٤

أما الفلاسفة الإلهيون :

فالخواص منهم متفقون على امتناع وجود الأنفس قبل الأبدان ، وأنه لا وجود لها إلا عند وجود الأبدان ، وسلكوا في ذلك طريقا شددوا به النكير على من قال منهم بقدمها ، قالوا : لو فرض قدم النفس على البدن لم يخل : إما أن تكون متكثرة أو متحدة : لا جائز أن تكون متكثرة ؛ إذ التكثر من غير مميز حال ، وكل ما يفرض من الفواصل والمميزات قبل وجود الأبدان محال. ولا جائز أن تكون متحدة ، وإلا فعند بدء الأبدان ووجودها بالفعل إما أن تبقى متحدة أو تتكثر : لا جائز أن يقال بأنها تبقى متحدة ، وإلا فنسبتها إلى بدن واحد أو كل الأبدان؟ لا جائز أن تكون نسبتها إلى بدن واحد ، دون غيره

__________________

ـ تجتمع في أجساد الموتى ، وتتضاعف من غير حس بها فإذا حشروا أحسوا بها دفعة واحدة. وذهب ضرار بن عمرو ، وبشر المريسي ، وأكثر المتأخرين من المعتزلة إلى إنكار ذلك كله. وأنكر الجبائي ، وابنه ، والبلخي تسمية الملكين : منكرا ، ونكيرا ؛ مع الاعتراف بهما وإنما المنكر ما يصدر من الكافر عند تلجلجه إذا سئل ، والنكير : تقريع الملكين له. والدليل على إحياء الموتى في قبورهم قبل الإحياء للحشر قوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر : ١١] والمراد بالإماتتين : الموتة التي قبل مزار القبور ، والموتة التي بعد مساءلة منكر ونكير ، والمراد بالحياتين : الحياة الأولى ، والحياة لأجل المساءلة على ما قاله المفسرون. فإن قيل : لا نسلم أن المراد بالإماتتين ، والحياتين ما ذكرتموه ، وما ذكرتموه عن المفسرين : فهو معارض بما يناقضه من قول غيرهم من المفسرين أيضا : فإنه قد قيل إن المراد بالإماتتين : الموتة الأولى ، في أطوار النطفة قبل نفخ الروح فيها ، والثانية : التي قبل مزار القبور ، والمراد بالحياتين : التي قبل مزار القبور ، والحياة لأجل الحشر. وليس أحد القولين أولى من الآخر ؛ بل هذا القول أولى ؛ لأنه لو كان كذلك فيكون على وفق المفهوم من قوله ـ تعالى ـ : (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) حيث إنه يدل بمفهومه على نفي حياة ثالثة ، وما ذكرتموه يلزم منه أن يكون الإحياء ثلاث مرات : الإحياء الأول : الذي قبل مزار القبور ، والإحياء للمسائلة ، والإحياء للحشر ، وهو خلاف المفهوم من الآية.

٢٥٥

من الأبدان ؛ إذ لا أولوية ثم ، وإن ذلك يفضي إلى تعطيل باقي الأبدان عن الأنفس وهو محال.

فإن قيل نسبتها إلى كل الأبدان ، مع كونها متحدة فهو أيضا ممتنع ، وإلا فيلزم أنها إذا علمت شيئا أو جهلته أن يشترك الناس بأسرهم فيه لاشتراكهم في نفس واحدة. ولا جائز أن يقال بتكثرها عند وجود الأبدان ؛ لأن تكثر ما لا يقبل التكثر والانقسام أيضا محال ، وهذه المحالات كلها إنما هي لازمة من فرض وجود الأنفس قبل وجود الأبدان ، فلا وجود لها قبلها.

فعلى هذا ما ذكروه في امتناع لزوم فوات النفس من فوات البدن لو قلب عليهم في طرف لزوم وجودها من وجوده لم يجدوا إلى الانفصال عنه سبيلا ، وذلك أن يقال : كل شيئين لزم وجود أحدهما من وجود الآخر لا بدّ وأن يكون بينهما علاقة وارتباط ، وذلك التعلق إما على سبيل لزوم تقدم أحدهما على الآخر ، أو على سبيل التكافؤ في الوجود ، فلو لزم وجود النفس من وجود البدن لكان بينهما تعلق على النحو المذكور ، وما ذكروه من المحالات اللازمة من فرض فوات النفس بفوات البدن تكون إذ ذاك بعينها لازمة هاهنا ، فما هو الجواب عنها في لزوم الوجود هو جوابنا في لزوم الفوات من الفوات.

فإذا لا استبعاد في لزوم فوات النفس من فوات البدن ، ولا مانع من أن يكون وجود البدن في كل حين شرطا لوجودها كما كان وجوده ابتداء شرطا في ابتداء وجودها ، وما حصل لها من المميزات والمخصصات عند وجود الأبدان حتى قيل بتكثرها ووجودها بناء عليها فلا محالة أنها بأسرها تفوت بفوات ما أوجبها. ولو جاز القول بوجودها وتكثرها بعد الأبدان ؛ لما كان لها من النسب إليها ، لجاز القول بتكثرها ووجودها قبل وجود الأبدان لما ستنسب إليها. ثم ولو قدر أن فواتها غير لازم من فوات البدن ، لكن لا مانع من أن يكون فواتها مستندا إلى إرادة قديمة ، اقتضت عدمها عند فوات

٢٥٦

البدن ، كما اقتضت وجودها عند وجوده ؛ إذ قد بينا أن كل كائن فاسد فإسناده إنما هو إلى إرادة قديمة لا إلى طبع وعلة.

وما ذكر من امتناع قيام قوى القبول للكون والفساد بالنفس فإنهم إن فسروا القوة القابلة للكون بإمكان الكون ، والقوة القابلة للفساد بإمكان الفساد ، فلا محالة أن معنى كون الشيء ممكنا أن يكون ، وممكنا أن يفسد ، ليس إلا أنه لا يلزم عنه في ذلك كله محال ، فحاصل الإمكان يعود إلى سلب محض ، وذلك وإن تعدد فلا يمتنع اجتماع كثير منه في شيء واحد لا تعدد فيه ، إذ هو غير موجب للكثرة.

وإن فسرت القوة القابلة بأمر موجب للتكثر ، فمع كونه غير مسلم ، هو لازم لهم في الصور الجوهرية من التوالي ؛ فإنها قابلة للكون والفساد ، وذلك لا يكون بقابل. فلو كان القابل للكون والفساد مما يوجب التكثر أوجب في الصور الجوهرية ، وهو ممتنع. بل هو أيضا لازم في النفس ، في جانب قبولها للاتصال بالبدن والانفصال عنه ، فكل ما يفرض من الجواب فهو بعينه جواب لنا في محل النزاع. كيف وأن ما ذكروه فمبني على امتناع قبول النفس للتجزي ، وهو إن كان ممكنا ومقدورا لله تعالى فهو مما لا يدل على وقوعه عقل ، ولا أشار إليه نقل.

وما أشاروا إليه في ذلك فهو يناقض مذهبهم في إدراك القوة الوهمية لما تدركه ، من المعنى الذي يوجب نفرة الشاة من الذئب ؛ فإنه لا محالة غير متجزئ ، وإن كانت لا تدركه إلا إدراكا جزئيا ، أي بحسب شكل شكل وصورة صورة ، ومع ذلك فهي نفسها لا تدرك إلا بآلة جرمانية ، ولهذا قضي بفواتها عند فوات البدن ، فما هو الاعتذار لهم أيضا ، في إدراك القوة الوهمية بالآلة الجرمانية لما ليس بمتجزئ ؛ هو اعتذارنا في إدراك ما ندركه مما ليس بمتجزئ.

ثم كيف ينكر كون النفس مادية ممكنة مع ما عرف من أصلهم أن

٢٥٧

جهة الإمكان لا تقوم إلا بمادة ، والنفس ممكنة الوجود ولا محالة. فإذا قد ظهر امتناع دلالة العقل على بقاء النفس بعد فوات البدن.

ثم ولو قدر بقاؤها بعد فوات البدن عقلا ، كما ثبت ذلك سمعا بقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا) [آل عمران : ١٦٩] ، وقوله عليه‌السلام «إن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر معلقة تحت العرش» (١) وقد بان لها من النعيم والألم بعد المفارقة نحو ما تخيلوه ، فليس بمستبعد عقلا ولا شرعا ؛ إذ ليس فيه تناقض عقلي. ولا محذور شرعي ، والأمر فيه قريب ، والخطب فيه يسير. وإنما الداهية الدهياء ، والمصيبة الطخياء ، استنهاك جانب الشرع المنقول ، والرد لما جاء به الرسول ، من حشر الأجساد ، وما أعد لها من النعيم والألم في المعاد ، وإنكار الجمع في الشقاء والنعيم بين الجسمية والروحانية ؛ من غير دليل عقلي ، ولا نقل سمعي ، استند إليه من أنكر بعث الأجساد ، وأحكامها في المعاد ، فمبني على فاسد أصلهم في القول بالقدم ، وقد أبطلناه بما فيه كفاية.

وأما التناسخية :

فقد سلكت الفلاسفة في الرد عليهم مسلكا ، وهو أنهم قالوا : كل بدن فإنه مستحق لذاته نفسا تدبره ، وتنظر في أحواله ، وتوجد عند وجوده بشوق جبلي ، وميل طبيعي ، على نحو ميل الحديد إلى المغناطيس ، فلو صح التناسخ وانتقال نفس من بدن إلى بدن لأدى إلى اجتماع نفسين في بدن واحد وهي النفس التي يستحقها لذاته والنفس التي انتقلت إليه من غيره. وذلك محال ؛

__________________

(١) صحيح : أورده ابن كثير في تفسيره (١ / ١٩٨) (٤ / ٣٠٢) ، والمناوي في فيض القدير (١ / ٥٣٨) ، ورواه ابن مبارك في الجهاد (٢ / ٢٥٠) (٢٠١). رواه أحمد في الزهد (١ / ١٢٠) ، وابن مبارك في الجهاد (١ / ٦٠ ، ٢١٦) (٢ / ٥١٠ ، ٥١٩) ، وابن منده في الإيمان (١ / ٤٠١) ، والحافظ في الإمتاع (ص ٨٢) ، وابن أبي الدنيا في المتمنين (٥) (ص ٢٣).

٢٥٨

فإن الواحد منا لا يشعر بأن له أكثر من واحدة ، وهي المدبرة له ، فلو كان لنا نفسان لقد كنا نشعر بهما وبتدبير كل واحدة منهما ، فإنه لا معنى لوجود النفس في البدن إلا أنها مدبرة له ومشغولة بالنظر في أحواله ، لا بمعنى أنها فيه منطبعة على نحو انطباع الأعراض في الأجسام.

وهو غير سديد ، فإن البدن ، وإن استحق لذاته نفسا ، فاجتماع نفسين فيه إنما يلزم أن لو كان ما يستحقه يجب أن يكون بدء وجوده مع وجوده غير منتقل إليه من بدن آخر ، وذلك مما لا يسلمه الخصم بل له أن يقول : البدن ـ وإن استحق لذاته نفسا تدبره فلا مانع من أن تكون هي ما انتقلت إليه من البدن الآخر ، وذلك لا يفضي إلى اجتماع نفسين أصلا ، ولا خلاص منه ، فإذا الطريق العقلي اللائق بالمنهج الفلسفي أن يقال : لو قيل بانتقال النفس من بدن إلى بدن ، فلا بد وأن تكون موجودة فيما انتقلت عنه أولا ، وإلا فوجودها لا محالة مع وجود ما قيل إنها منتقلة إليه. وإذا كانت موجودة في البدن الأول فإما أن يكون اختصاصها به لمخصص ، أو لا لمخصص : فإن كل لا لمخصص فليس هو بها أولى من غيره ، وإن كان لمخصص فلا بد وأن يكون تخصصها بما انتقلت إليه أيضا بمخصص ، كما كان اختصاصها بالأول لمخصص ، وعند هذا فالمخصص لها بكل واحد من البدنين ، إما أن يكون واحدا أو مختلفا : فإن كان واحدا فلا يخفى أن فرض وجود البدنين معا جائز ، وإن استحال وجودهما معا بالفعل من حيث إن أحدهما متقدم والآخر متأخر ، وعند فرض اجتماعهما إما أن توجد تلك النفس لهما أو لأحدهما ، لا جائز أن تكون لهما لما سبق ، ولا جائز أن تكون لأحدهما لعدم الأولوية.

وعلى هذا التقسيم إن كان المخصص مختلفا ؛ فإنه إذا فرض وجود البدنين معا فإما أن تكون النفس لهما أو لأحدهما : لا جائز أن تكون لهما لما سبق ، وإن كانت لأحدهما فالذي أوجب تخصصها ليس ذلك له أولى من إيجابه لتخصصها بالبدن الآخر ، مع اتحاد النفس وفرض تساوي البدنين في

٢٥٩

جميع أحوالهما ؛ لضرورة تساويهما بالنسبة إليها وأن لا أولوية لأحدهما على الآخر ، ثم إنه إما أن يكون مساويا لما يوجب تخصصها بالبدن الآخر ، أو أرجح منه في الاقتضاء والتخصيص : فإن كان مساويا فلا أولوية ، وإن كان راجحا فالبدن الآخر إما أن يبقى عريا عن النفس وهو محال ، وإن وجد له نفس أخرى فسواء كان اختصاصها به بذلك المخصص المرجوح أو بمخصص آخر فإنه يلزم أن يكون تنتقل إليه نفس البدن الآخر عند فرض عدمه ، وذلك مفض إلى اجتماع نفسين في بدن واحد ، وهو مما لا يشعر به أحد ، وحصول نفس الإنسان ، وهو لا يشعر بها ، محال ، كما سبق ، وهذه المحالات كلها إنما لزمت من فرض التناسخ.

وأما المسلك اللائق بالمنهاج الإسلامي :

فهو أن ذلك إن وقع مسلسلا إلى غير النهاية أفضى إلى القول بقدم الكائنات الفاسدات ، وقد عرف ما فيه ، وإن وقف الأمر في الابتداء على وجود نفس لبدن ما خسيس أو نفيس ما تستحقه بناء على فعل لها سابق ، ووقف الأمر في الانتهاء على بدن لا تستحق بعد غيره بناء على ما تفعله عند مفارقتها له ، فهو وإن كان مقدورا لله تعالى وجائزا في العقل فالقول به مخالف لما اعتقدوه ، ومجانب لما أصلوه ، مع أنه لم يدل عليه عقل ولا ألجأ إليه نقل ، بل هو مخالف لما جاء به السمع ، ومضاد لما ورد به الشرع ، من أحكام المعاد وحشر الأنفس والأجساد ، فلا سبيل إليه.

وعند ذلك. فلا بد من الإشارة إلى تحقيق مذهب أهل الحق في أحكام المعاد : من الحشر والنشر ، ومساءلة منكر ونكير. وعذاب القبر ، والصراط ، والميزان ، والجنة والنار ، وغير ذلك.

فأما الحشر :

فهو عبارة عن إعادة الخلق بعد العدم ، ونشأتهم بعد الرمم ، وقد اختلف فيه الإسلاميون.

٢٦٠