غاية المرام في علم الكلام

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

غاية المرام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4311-5
الصفحات: ٣٣٤

وأما المنجمون :

فقد اعتقد فريق منهم أن صدور الكائنات وحدوث الحادثات ، وكل ما يجري في عالم الكون والفساد ليس إلا عن الأفلاك الدائرة ، والكواكب السائرة ، وأنه لا مدبر سواه ، ولا مكون إلها.

وقد تحاشى فريق منهم عن سخف هذه الحالة ، وتشنيع هذه المقالة ، فقالوا : المدبر والخالق ليس إلا الله تعالى ، لكن بتوسط الأجرام الفلكية والكواكب السماوية.

وأما الثنوية :

فاعتقادهم أن مبدأ الكائنات وكل ما في العالم من خير وشر ونفع وضر ليس هو إلا امتزاج «النور والظلمة» ، وأنهما أصل العلوم ، فما يحصل من الخير فمضاف إلى النور وما يحصل من الشر فمضاف إلى الظلمة.

لكن منهم من ذهب إلى أن النور قديم ، والظلمة حادثة عن فكرة ردية حصلت لبعض أجزاء «النور» : وعبروا عن النور بالباري ، وعن الظلمة بالشيطان ، ومنهم من قال بأنهما قديمان.

وأما المعتزلة :

فمطبقون على أن أفعال العباد المختارين مخلوقة لهم ، وأنها غير داخلة في مقدورات الرب ـ تعالى ـ ، كما أن مقدورات الرب غير داخلة في مقدوراتهم.

وقد نقل عن القاضي ـ رحمه‌الله ـ أنه لم يثبت للقدرة الحادثة أثرا في الفعل ، بل أثبت لها أثرا في صفة زائدة على الفعل ، كما سنبينه ، ثم اختلف قوله في الأثر الزائد ، فقال تارة : إنه لا أثر للقدرة القديمة فيه أصلا ، وقال تارة : بالتأثير ، وأثبت مخلوقا بين خالقين.

وقد نقل عن الأسفراييني أنه قال في نفس الفعل ما قاله القاضي في القول الثاني في الأثر الزائد.

وذهب إمام الحرمين في بعض تصانيفه إلى تأثير القدرة الحادثة في إيجاد

١٨١

الفعل ، ولم يجعل للقدرة القديمة فيه تأثيرا إلا بواسطة إيجاد القدرة الحادثة عليه.

وذهب من عدا هؤلاء من أهل الحق إلى أن أفعال العباد مضافة إليهم بالاكتساب وإلى الله ـ تعالى ـ بالخلق والاختراع ، أنه لا أثر للقدرة الحادثة فيها أصلا.

وإذا عرف بالتحقيق مذهب كل فريق ، فلا بد من التعرض إلى إبطال مذاهب أهل الضلال :

١ ـ وأول مبدوء به إنما هو الرد على طوائف الإلهيين القائلين بمنع صدور الكثرة عن واجب الوجود :

وهو أنا نقول : عماد اعتقادكم ورأس اعتمادكم ، إنما هو آئل إلى نفي الصفات الزائدة على الذات ، وقد بينا فيما سلف سخف هذا المعتقد ، وتشنيع هذا المعتمد ثم. إن ما أوجب لكم القول بمنع صدور الكثرة عن واجب الوجود إنما هو كونه واحدا ، وأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. ولا بد لكم في هذه الدعوى من العود إلى هدم ما بنيتموه ونقض ما أبرمتموه وذلك أنه لو لزم من كونه واحدا ، وحدة ما صدر عنه ، فيجب أن يكون ما صدر عن معلوله أيضا واحدا لكونه واحدا ، وهكذا لا يزال الحكم بصدور الواحد دائما ، وهو مما يوجب امتناع وقوع الكثرة في المعلولات ، وتناقض قولكم في صدور الكثرة عن المعلول الأول ، حيث قلتم أن المعلول الأول يصدر عنه عقل آخر ونفس وجرم هو الفلك الأقصى. ثم إن صدور الكثرة عن المعلول الأول إما أن تكون وهو متحد أو متكثر ، فإن كان واحدا فقد ناقض قولكم إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. فهلا قلتم بصدور الكثرة عن واجب الوجود ، وإن كان واحد ، كما قلتم بصدور الكثرة عما صدر عنه وهو واحد. وإن قلتم : إن ما صدر عن الكثرة متكثر ، فقد قلتم بصدور الكثرة عن واجب الوجود وأفسدتم ما ظننتم إحكامه وما رمتم إتقانه ، وذلك خسف

١٨٢

القول والفعال.

فإن قيل : لا محالة أن المعلول الأول واجب الوجود بالواجب بذاته ، وكل ما هو واجب بغيره فهو ممكن باعتبار ذاته ، من حيث إن ذاته لا جائز أن تكون واجبة ، وإلا لما كان واجبا بغيره ، ولا جائز أن تكون ممتنعة وإلا لما وجدت ولا بالغير ، فتعين أن يكون باعتبار ذاته ممكنا ، وهو لا محالة يعلم ذاته ويعلم مبدأه وهذه الجهات كلها ليست له عن غيره ، بل هي أمور لازمة تابعه لذاته ، ما عدا وجوب وجوده فإنه له عن مبدئه ، ومبدأ صدور الكثرة إنما هو عن هذه الجهات ، فإنه باعتبار أضافته إلى واجب موجب لوجوده يوجب عقلا ، وباعتبار صلته بمدته يوجب صورة ، وباعتبار كونه ممكنا يوجب مادة ، ترتيبا للأشرف على الأشرف والأخس على الأخس ، وهذه هي مبادئ صدور الكثرة ولو لاها لما كانت الكثرة.

قلنا : هذه العملية والجهالة قد تعظم نسبتها إلى الصبيان ، فضلا عن من ينسب إلى شيء من التحقيق ، والغوص والتدقيق ، وذلك لأن هذه الجهات إما أن توجب التعدد والكثرة في ذات المعلول الأول ، أولا توجب التعدد والكثرة كالأمور السلبية والإضافية : فإن أوجبت التعدد والكثرة فقد قيل بصدور الكثرة عن واجب الوجود. وإن قيل لا توجب التعدد والكثرة فلم لا قيل بصدور الكثرة عن واجب الوجود؟ فإن السلوب والإضافات له أكثر من أن تحصى. هذا من حيث الإجمال.

وأما التفصيل : فهو أن ما ذكروه من الجهات الموجبة للكثرة حاصلها يرجع إلى سلوب وإضافات ، فإن وجوبه بغيره وعلمه بمبدئه وبذاته أمور إضافية. وكونه ممكنا بذاته : إن فسرنا الممكن مما سلب عنه الضرورة في وجوده وعدمه كان أمرا سلبيا ، وإن فسر بما يفتقر إلى المرجح في كلا طرفيه كان أمرا إضافيا. وعند عودها إلى السلوب والإضافات فيلزم عنها ما ذكر في الإجمال.

١٨٣

كيف وأن قولهم إنه يعلم مبدأه ويعلم ذاته دعوى ، لو سئلوا عن الدليل عليها لم يزد قولهم على أنه باعتبار ذاته ممكن أن يكون عالما ، والمانع من العلم إنما هو المادة وعلائقها ، وهى بأسرها منتفية ، فإن ماهيته مجردة عن المادة وعلائقها. وهو أيضا من أقبح المقالات وأعظم الشناعات. فإن إمكان كونه عالما لا يوجب ولا يؤثر في إيجاب العلم له ، وإلا كانت جهة الإمكان هي المرجحة لأحد الطرفين وهو ممتنع.

ونفي المانع مما لا يوجب أيضا ، فإن ثبوت الشيء إنما يستند إلى ما يقتضيه ، أما إلى نفي المانع والمعارض فكلا. ثم يلزمهم من ذلك مناقضة قولهم : إن الباري ـ تعالى ـ لا يعلم الجزئيات ، من حيث إن المانع هو المادة وعلائقها ، وقد انتفت في حقه ـ تعالى ـ. ثم إن كانت هذه الجهات مما توجب الكثرة فلم قيل بانحصار ما صدر عنه في أربعة أشياء؟ ولم لا كانت أزيد من ذلك؟ فإن مثل هذه الجهات لديه أكثر من أن تحصى ، فإذن حاصل ما ذكروه لا يرجع إلا إلى محض تحكمات باردة ، وخيالات فاسدة ، لا يرضى بها لنفسه بعض المجانين ، فضلا عمن يزعم أنه من المحصلين.

وأما المنجمون :

القائلون بصنع الكواكب والأفلاك ، وأنه لا خالق ولا صانع سواها :

فقد أكثر الأصحاب في الرد عليهم بأسئلة باردة ، واستفسارات جامدة ، وإلزامات لا ثبوت لها على محك النظر ، تليق بمناظرة العامة والصبيان ، فسادها يظهر ببديهة العقل لمن له أدنى تحصيل ، لا يليق أن يطول بذكرها هاهنا. فالسبيل الحق أن يقال لمن زعم منهم أن لا خالق إلها ولا مبدأ سواها :

إما أن تكون باعتبار ذواتها واجبة ، أو ممكنة ، أو البعض منها واجب والبعض ممكن : فإن كانت واجبة فقد سلك الإلهيون في إبطال ذلك طريقة امتناع اجتماع واجبين ، وهي غير مرضية كما سلف. فالحق أنها لو كانت

١٨٤

واجبة لكان وجودها سرمديا ، ولو كان سرمديا لوجب القول بأن لا نهاية لحركاتها إن كانت متحركة في القدم ، ولمقادير حركاتها إن لم تكن متحركة ، وذلك ممتنع لما أسلفناه في تناهي العلل والمعلولات.

ثم إن الواجب لذاته هو ما لو فرض معدوما لزم المحال عنه لذاته لا لغيره ، ولا يخفى أن القائل لو فرض بعقله عدم شيء من الكواكب والأفلاك لم يلزم في عقله عن ذلك لذاته محال ، كما لا يلزم من فرض وجود فلك آخر وكوكب آخر ، وما هو على هذا النحو كيف يكون الوجوب له لذاته؟ بل إن فرض واجبا فليس ذلك له إلا لغيره ، وكل ما وجوبه لغيره فهو بذاته ممكن ، كما سلف. كيف وأن ذلك على أصلهم غير مستقيم ، لاعتقادهم أن تأليف الأجرام ليس إلا من المواد والصور ، وقد بان أن كل واحد من المادة والصورة ليس وجوده إلا بأمر خارج عنها فهما لا محالة ممكنان. وما مفرداته التي منها تأليفه ممكنة كيف يكون هو لنفسه واجبا؟

ثم لو كانت واجبة لوجب أن ما شاركها في معنى الجوهرية أن يكون واجبا ؛ إذ يستحيل أن يكون وجوب الوجود لما به تخصص جواهر الأفلاك ومغايرتها لغيرها من الجواهر ؛ فإن ذلك الإلزام لا قوام له بنفسه دون المتخصص به وهو دور ممتنع. وعند ذلك فيلزم على أصله امتناع القول بحدث الجواهر الصورية الثابتة للأجرام العنصرية ، وكذا في الجواهر الإنسانية التي للأبدان الإنسانية على رأي من اعترف منهم بحدثها وبكونها جورها. وهو لا محالة تناقض. وبما حققناه هاهنا يتبين إبطال كون البعض منها واجبا دون البعض ، فبقي أن تكون بأسرها ممكنة.

وإذ ذاك فلا بد لها في وجودها من مرجح خارج عنها وبطل القول بأنه لا مبدأ لها. وأما من اعترف منهم بأن لها مبدئا خارجا عنها لكنه أضاف الخلق إليها ، ووقف الإبداع والإحداث عليها فليس له في دعواه مستند غير الاستقراء ، بأنا وجدنا التأثيرات المختلفة والامتزاجات المتقاربة وجميع ما في

١٨٥

عالم الكون والفساد من خير وشر لا يوجد إلا عند حركة كوكب مخصوص ، وذلك مما يوجب إسناده إليه ، وإحالة وجوده عليه. إذ لو كان اتفاقيا لما دام.

ونحن نعلم أنهم لو طولبوا بصحة هذا الاستقراء لم يجدوا إلى إثباته سبيلا ، ثم لو قدرت صحته وأن وقوع الآثار الحادثة ملازم لحركات الكواكب والأفلاك فغير لازم أن تكون هي عللها والأسباب الموجبة لها ، لما أنه لا مانع من أن يكون الخالق والباري هو الله تعالى ، وقد أجرى العادة بوجود الحادثات ووقع التأثيرات عندها. وإن منع بعض الأصحاب من صحة هذا الإطلاق ، بناء على أن ما من جيشين تلاقيا ، أو من نفسين تخاصما ، إلا وقد أخذ الطالع لكل واحد منهما ، ومع ذلك فالمنصور والغالب لا يكون إلا أحدهما ، فلا معلول عليه ؛ إذ لا مانع من القول بخطإ الآخذ للطالع في الحساب أو الحكم. وليس هذا موضع الإطناب ومحو الإسهاب ، والذي يجب الاعتماد هاهنا عليه ليس إلا ما أشرنا إليه.

وأما الطريق :

في الرد على الثنوية القائلين بالنور والظلمة وأنه لا مبدأ للعالم سواهما أن يقال :

إن النور والظلمة بالنظر إلى ذاتيهما واجبان ، أو ممكنان ، أو أحدهما واجب والآخر ممكن : فإن كانا واجبين لزم أن ما شاركهما في نوعيهما أن يكون واجبا ، وأن لا يكون موجودا بعد العدم ، وهو خلاف ما نشاهده من الأنوار والظلم ، وبه يتبين امتناع كون أحدهما واجبا والآخر ممكنا ، فبقي أن يكونا ممكنين.

وعند ذلك إما أن يستند كل واحد منهما في وجوده إلى الآخر أو إلى أمر خارج عنهما : لا جائز أن يقال بالأول ؛ إذ هو دور ممتنع ، ومع كونه ممتنعا فغير مسلم صدور الشر عن الخير والخير عن الشر ، لكون أحدهما خيرا

١٨٦

والآخر شرا ، وهو تناقض. وإن كان المرجح لهما أمرا خارجا عنهما فقد بطل القول بأنه لا مبدأ سواهما ، ولا مرجح إلا هما. ثم كفى بالخصم سخفا أنه لو سئل عن الدلالة على ما يعتقده ، والإبانة عما يعتمده لم يزد على قوله :

وجدنا الموجودات لا تنفك عن أن تكون ثقيلة تطلب أقصى جهة السفل ، أو خفيفة تطلب أقصى جهة العلو ، أو ذات ظل حاجبة كالأشياء الكثيفة الغليظة من الحديد والحجارة ونحوها ، أو ما هو على نقيضها من الأشياء الشفافة التي لا ظل لها كالزجاجة الصافية واليواقيت ونحوها ، وبالجملة لا ينفك عن خيرات وشرور ، ولا بد من أن نرتب على كل واحد ما يليق به ، ترتيبا للأشرف على الأشرف ، والأخس على الأخس ، وإلا كان الأخس صادرا عن الأشرف ، والقبيح صادرا عن الحسن.

وهو خلاف المعقول ، فإنه مع ما يشتمل عليه من الركاكة والتحكم بتخصيص المبدأ بالنور والظلمة لم يعلم أن مدلول اسم الشر ليس إلا عبارة عن عدم ذات أو عدم كمال ذات ، وأن الحسن والقبح ليس يستدعي إسناده إلى ما هو في نفسه ذات ووجوده حتى يلزم التثنية على ما لا يخفى.

ثم ولو كان الشر والقبح ذاتا واستدعى أن يكون مرجحه ذاتا فلا يخفى أن العالم ينقسم إلى ما هو خير محض وإلى ما هو شر محض ، وإلى ما هو خير من وجه وشر من وجه ، ولا يوصف بكونه خيرا محضا ولا شرا محضا ، ويجب من ذلك أن يكون من المبادئ ما هو خير من وجه وشر من وجه ؛ إذ الخير المحض لا يصدر عنه إلا خير محض ، والشر المحض لا يصدر عنه إلا شر محض. وإن كان ذلك إنما يحصل بامتزاجهما ، فامتزاج كل واحد منهما بالآخر وحركته إليه إما لذاتيهما أو لمعنى زائد عليهما ، كما قال فريق منهم : إن الأصول ثلاثة ، نور محض ، وظلام محض ، وأصل ثالث ليس بنور ولا ظلام ، وهو دون النور وفوق الظلام ، وهو الموجب لامتزاجهما ، والمعدل بينهما : فإن كان لذاتيهما فهو محال ، وإلا لما تصور الافتراق بينهما ، وهو خلاف ما

١٨٧

نشاهده ، كيف وأن النور والظلمة لذاتهما متباينان فكيف يكون أحدهما طالبا للآخر؟ وإن كان ذلك باعتبار أمر ثالث فإما أن يكون من نوعهما. أو من نوع أحدهما ، أو هو نوع ثالث غيرهما. فإن كان منهما فهو دور ، فإن امتزاجهما لا يتم إلا به ، وهو لا يتم إلا بامتزاجهما. وإن كان من نوع أحدهما فليس بأصل ثالث غيرهما ، وإذ ذاك فيعود القسم الأول لا محالة. وإن لم يكن من نوعهما فهو إما بسيط أو مركب : فإن كان بسيطا فهو إما خير محض أو شر محض ، لعدم التركيب فيه ، وإذ ذاك فالصادر عنه يجب أن يكون حاذيا حذوه وقافيا أثره ، وفي ذلك امتناع وجود قسم آخر غير الشر المحض والخير المحض ، وهو ممتنع.

وأما الرد على المعتزلة :

في خلق الأعمال فهو موضع غمرة ومحز إشكال ، وهو يستدعي تقديم طرق المتكلمين ، وإيضاح الصحيح منها والسقيم ، ثم الإشارة إلى شبه المخالفين ، وبيان الفرق بين الخلق والكسب فيما بعد إن شاء الله تعالى ، فنقول : ذهب المتكلمون هاهنا إلى مسالك لا ظهور لها عند من طهرت بصيرته واتقدت قريحته.

المسلك الأول :

أنهم قالوا : لو لم تكن مقدورات العباد مخلوقة لله ـ تعالى لم يكن إلا لاستحالة مقدور بين قادرين وهو غير مستقيم ، فإنه قبل أن يقدر عبده لم يكن الفعل مقدورا للعبد ، فيجب أن يكون مقدورا للرب ، إذ الفعل في نفسه ممكن. والمانع من كونه قادرا بعد إقدار العبد إنما هو استحالة اجتماع مقدور بين قادرين ، وهذا المانع غير موجود قبل إقدار العبد. وإذا كان مقدورا للرب قبل إقدار العبد فبعد إقداره يستحيل أن يخرج ما كان مقدورا له عن كونه مقدورا ، فإنه لو خرج عن كونه مقدورا للرب بسبب تعلق القدرة الحادثة به لم يكن بأولى من امتناع تعلق القدرة الحادثة به ، واستبقاء تعلق القدرة القديمة

١٨٨

به ، بل بقاء ما كان على ما كان من نفيه وإثبات ما لم يكن. وإذا ثبت كونه مقدورا للرب وجب أن يكون خالقه ومبدعه ، من حيث إنه يستحيل انفراد العبد بخلق ما هو مقدور لله ـ تعالى ـ.

واعلم أن هذا المسلك من ركيك القول ، إذ الخصم قد يمنع كونه مقدورا للرب قبل تعلق القدرة الحادثة به ـ وكون الفعل في نفسه ممكنا مما لا يوجب تعلق القدرة القديمة به أصلا ـ ولا يعترف بأن كل ممكن في نفسه مقدور للرب. وما قدر من زوال المانع فمتهافت أيضا ، فإن الخصم مهما لم يسلم إمكان تعلق القدرة القديمة بالفعل فلا يلزم من عدم ما يتخيل في الجملة مانعا أن يكون التعلق في نفسه ثابتا ، ثم ولو قدر كونه ممكنا فلا يلزم التعلق من انتفاء المانع المعين لم يتبين انتفاء غيره من الموانع ، وذلك مما لا يتم إلا بالبحث ، وهو بعيد عن اليقينيات. كيف وإنه لو قدر مقدورا للرب فلا يلزم ، من حيث هو مقدور له ، أن تكون نسبته إليه أولى من نسبته إلى العبد بكونه مقدورا له ، فإن قيل : إنه يكون مخلوقا لهما فهو خلاف المذهب ، ومع ذلك فهو محال لما سلف.

المسلك الثانى :

لو جاز تأثير القدرة الحادثة في الفعل بالإيجاد والاختراع لجاز تأثيرها في إيجاد كل موجود من حيث إن الوجود قضية واحدة لا يختلف وإن اختلفت محاله وجهاته ، والقول بجواز تأثيرها خلف ، فإنها لا تؤثر في إيجاد الأجسام ولا في شيء من الأعراض ما عدا الأفعال ، كالطعوم والألوان والأراييح ونحو ذلك ، وإن كان التالي باطلا كان المقدم باطلا.

وهو من الطراز الأول في الإبطال فإن ما ألزمناه في الخلق والإبداع بعينه لازم لنا فيما أثبتناه من تعلق القدرة الحادثة بإيجاد بعض الأشياء دون البعض ، وعند ذلك فجوابنا عنه هو جواب لما ألزمناه.

وليس من السديد أن يقال : ما ثبت تعلق القدرة الحادثة به لم يكن

١٨٩

باعتبار معنى يشاركه فيه ما لم يكن متعلقا للقدرة الحادثة ، بل ما هو متعلقها إنما هو بخصوص ذاته ومجموع صفاته ، وإذ ذاك فلا يلزم أن تتعلق القدرة بغير تلك الذات ، مما هو مخالف لها في الحقيقة والصفات. فإن القدرة وإن تعلقت بالوجود وبغيره من الصفات الخاصة بالذات فلا يخرجها ذلك عن أن تكون متعلقة بالوجود ، وعند ذلك فالإشكال لازم من جهة تعلقها بالوجود لا من جهة تعلقها بغيره. وإن قيل إنها لا تتعلق إلا بإيجاد مخصوص هو لذات مخصوصة فلعل يوجد مثله في الخلق والإيجاد.

وهو لا محالة لازم على القاضي ـ رحمه‌الله ـ في قوله بتأثير القدرة في إيجاد صفة زائدة على الفعل ، ولا محيص عنه. لكن قد يبقى هاهنا مناقشة جدلية ، ومؤاخذة معنوية ، وهو أن يقال :

غاية ما ذكرتموه وأقصى ما أثبتموه ، أن ألزمتمونا على سياق ما ذكرناه ما ألزمناكم إياه وأدنى ما فيه كونه حجرا على الفريقين ولازما للطائفتين ، وذلك مما لا يوجب كونه في نفسه باطلا ، بل الواجب أن يقضى به على كلا المذهبين.

والجواب على التحقيق عن هذه المؤاخذة إنما يتهيأ مع من يعترف بالإلزام ويقول بالكسب ويعتقد صحته كما هو المنقول عن أهل الحق ، فإنه مهما اعترف صاحب الدليل بمخالفته ووقوع مناقضته ، وكان مع ذلك جازما بالمخالف معتقدا لها ، فقد اعترف بأن ما ذكره لا يوجب الانقياد ولا يصلح للإرشاد ، وكفي مئونة لجواب ، وأما من لا يعترف بذلك فلا.

هذا كله إن قلنا : إن الوجود زائد على ذات الموجود ، وإلا فإن كان هو نفس الموجود فقد بطل القول بالاشتراك والاتحاد في قضية الوجود ، وامتنع الإلزام.

المسلك الثالث : قالوا : الباري ـ تعالى ـ قادر على مثل جميع الأجناس التي هي مقدورة للعبد ، وإذ ذاك فيجب أن يكون قادرا عليها ، فإنه لو لم يكن يقدر عليها لم

١٩٠

يكن قادرا على مثلها وهو خلف ، وإذا ثبت أنه قادر على أفعال العباد فإذا حدثت وجب أن تكون مخلوقة له.

وهو قريب من المسلك الأول ، إذ الخصم قد يمنع كون الرب قادرا على مثل فعل العبد ، وإن سلم فإما أن يكون في محل قدرة العبد أو خارجا عن محل قدرته : فإن كان في محل قدرة العبد فهو محل النزاع وموضع المنع. وإن كان خارجا عن محل قدرة العبد فهو غير مقدور للعبد فإذا قيل بكون الرب قادرا على فعل العبد لكونه قادرا على مثله ، فيلزم أن يكون العبد قادرا على فعل الرب لكونه قادرا على مثله ، وهو محال. ثم ولو سلم أنه قادر على فعل العبد فلا يلزم يكون خالقا له ، لما أسلفناه.

وربما تمسك بعض الأصحاب هاهنا بظواهر الكتاب والسنة وأقوال بعض الأئمة ، ولا مطمع لها في القطعيات ، ولا معول عليها في اليقينيات ، فلذلك آثرنا الإعراض عنها ولم نشغل الزمان بإيرادها.

والصواب في هذا الباب :

أن يقال : لو لم يكن فعل العبد ، بل غيره من الموجودات الحادثة ، مقدورا للرب ، وداخلا تحت قدرته للزم أن يكون الباري تعالى ناقصا بالنسبة إلى من له القدرة عليه ، كما مضى في الإرادة ، وهو محال.

ولئن تشوفنا إلى بيان امتناع إضافة الخلق إلى فعل العبد قلنا : لم يخل إما أن يكون موجدا له بالذات ؛ أو بالإرادة : لا جائز أن يكون موجدا له بالذات ؛ وإلا لما برح فاعلا له ، وهو محال خلاف ما نشاهده ، ومع ذلك فهو خلاف المذهبين. ولا جائز أن يكون موجدا له بالإرادة وإلا لما وجد دونها ، فكم من فعل يصدر من العبد ، ويعتقد كونه مخلوقا له من غير إرادة ، وذلك كما في حالة الغفلة والذهول ونحوه ، والقول بكونه مريدا في مثل هذه الحالة عين السفسطة ؛ فإنه لو سئل هل أردت ما فعلت لم يكن الجواب إلا بلا. كيف وأن الفعل بالإرادة من العبد يستدعي القصد ، والقصد يستدعي مقصودا.

١٩١

والمقصود يستدعي كونه معلوما ، وهو غير عالم به لا محالة ، وإن علمه من وجه لم يعلمه من كل وجه ، ومع ذلك فصدوره عنه يكون على غاية من الحكمة والإتقان ، وعلى سبيل الكمال والتمام ، فلو كان موجدا له بالإرادة لوجب كونه محيطا به عالما بأحواله ، إذ القصد والإرادة لا يكونان إلا مع العلم ، ولا جائز أن يكون متعلق قدرة العبد ما هو معلوم له ، ومتعلق قدرة الباري منه ما ليس بمعلوم للعبد ؛ إذ مقدور كل واحد منهما قد لا يتم إلا مع تحقق مقدور الآخر ، ويلزم من ذلك امتناع وجود الفعل في نفسه لما أسلفناه في مسألة التوحيد. كيف وأن ذلك مما لا قائل به؟ وإذا جاز صدور الفعل عن العبد في مثل هذه الأحوال ، وقيل إنه مخلوق له من غير إرادة ، فقد بطل أخذ الإرادة شرطا في الخلق. وإذا لم تكن الإرادة شرطا في الخلق بالنسبة إلى بعض أفعاله لم تكن شرطا بالنسبة إلى سائر أفعاله وإن كان عالما بها مريدا لها ، إذ لا أولوية لأحدهما. ومع ذلك فلا قائل به. ويلزم من إبطال تالي الشرطية بطلان مقدمها ، وهو المقصود. وما أشرنا إليه لازم على كل من جعل للقدرة الحادثة تأثيرا ما ، في إيجاد الفعل أو في صفة زائدة عليه.

فإن قيل : إنا ندرك بالضرورة وقوع الأفعال على حسب الدواعي والأغراض واختلاف المقاصد والإرادات ، ولو لا صلاحية القدرة الحادثة للإيجاد وإلا لما أحس من النفس ذلك. وأيضا فإن الإنسان يجد من نفسه تفرقة بين الحركة الاضطرارية والحركة الاختيارية ، وليست التفرقة واقعة بالنسبة إلى الحركتين من حيث هما ذاتان ، أو من حيث هما موجودان ، ولا غير ذلك ، بل التفرقة إنما هي راجعة إلى كون إحداهما مقدورة مرادة ، والأخرى ليست مقدورة ولا مرادة. وإذا لم تكن التفرقة إلا لتعلق القدرة بإحداهما دون الأخرى فلا يخلو : إما أن يكون لتعلق القدرة تأثير أو ليس لها تأثير ، لا جائز أن يقال بأنه لا تأثير لها ، وإلا لما حصلت التفرقة ، إذ لا فرق بين انتفاء التعلق وبين ثبوته مع انتفاء التأثير فيما يرجع إلى التفرقة ، فتعين القول بالتأثير.

١٩٢

قال القاضي أبو بكر من أصحابنا ـ رحمه‌الله ـ ولا جائز أن يكون التأثير في إيجاد الفعل ، وإلا لما وقع الفرق ، إذ الوجود من حيث هو وجود لا يختلف ، فيجب أن يكون راجعا إلى صفة زائدة على إحداث الفعل. لكنه قال تارة في الأمر الزائد : إنه مخلوق للرب وللعبد هربا من شنيع إفراد العبد بالخلق دون الرب ، وقال تارة بانفراد العبد به ، وهو ما بين شنيع القول بالانفراد والقول بمخلوق بين خالقين وسيأتي وجه الكلام عليه فيما بعد.

وربما تمسك الخصم بأن أفعال العباد لو كانت مخلوقة لغيرهم كان التكليف في نفسه باطلا ، فإن حاصله يرجع إلى المطالبة بفعل الغير ، والتكليف بالفعل لمن لا يفعله. وليس طلب ذلك منه إلا على نحو طلب إحداث الأجسام وأنواع الأكوان وهو محال. ولبطل أيضا معنى الثواب والعقاب على الأفعال ، والمجازاة على الأعمال ؛ من حيث إن الحكم بذلك للشخص بسبب فعل غيره حارف عن مذاق العقول ، وما ورد به الشرع المنقول. وهذه الشبهة هي التي أوقعت إمام الحرمين والأسفراييني ـ رحمهما‌الله فيما ذهبا إليه واعتمدا عليه.

والجواب :

أما وقوع الأفعال على حسب الدواعي والأغراض فذلك مما لا يدل على صلاحية القدرة الحادثة للإيجاد ، إذ الخلل لائح في خلاله والزلل واقع في أرجائه ، من حيث إن الأشياء منها ما يقع على حسب الدواعي ولا يضاف إلى القدرة الحادثة ، ولا يدل على صلاحيتها للإيجاد ، وذلك كما في حصول الري عند الشرب ، والشبع عند الأكل ، وحصول الألوان في صناعة الصبغ ونحو ذلك. ومنها ما لا يقع على حسب الداعية والغرض ، وذلك كما في أفعال النائم والغافل والساهي نحو ذلك ، ومع ذلك هي مضافة إلى القدرة الحادثة على أصلهم. وحيث لم يصح ما عولوا عليه طردا وعكسا لم يجز الاعتماد عليه أصلا.

١٩٣

وما نجده من التفرقة بين الحركة الاضطرارية والاختيارية فهو سبيلنا في إثبات الكسب على من أنكره من الجبرية ، وقال : إن القدرة الحادثة لا تعلق لها بالفعل أصلا. ولزوم التأثير من وقوع التفرقة هو محز الخلاف وموضع الانحراف ، بل التفرقة قد تحصل بمجرد تعلق القدرة بأحدهما دون الآخر ، وإن لم يكن لها تأثير في إيجاده. وذلك على نحو وقوع التفرقة بين ما تعلق به العلم وبين غيره ، وبين ما تعلقت به الإرادة وبين غيره. وإذ ذاك فلا يلزم أن يقال : إذا جاز تعلق القدرة الحادثة بالفعل من غير تأثير كما في العلم ونحوه ، جاز تعلقها بغيره من الحوادث كما في العلم ، فإن حاصله يرجع إلى دعوى مجردة في المعقولات ، ومحض استرسال في اليقينيات ، وهو غير مقبول.

وكون الوجود قضية واحدة مما لا يوجب تعلق القدرة به بطريق العموم ، وما هو اعتذارنا في تخصيص تعلق القدرة به من غير تأثير هو أن من موجب اعتقادهم أن الرؤية تتعلق بالموجود من غير تأثير ، ولا تتعلق بكل موجود. فما هو اعتذارهم تمّ هو اعتذارنا هاهنا أيضا.

وما اعتمده القاضي أبو بكر ـ رحمه‌الله ـ في منع تعليق القدرة بحدوث الفعل من حيث إن الوجود قضية عامة ، فإما أن يعترف بأن نفس الوجود هو نفس الموجود أو زائد عليه : فإن كان الأول فقد بطل القول بالتعميم ، وإن كان الثاني فهو لازم له في تعلقها بحدوث الصفة الزائدة أيضا ، اللهم إلا أن يجعل التعلق بحدوث الصفة من حيث هو مخصوص بها ، وعند ذلك فيجب قبول القول بأن تعلق القدرة الحادثة ليس إلا بحدوث مخصوص بفعل مخصوص ، ولا محيص عنه. ثم ولو قدر تعلق القدرة بزائد على نفس الفعل فلا يلزم أن يقال بتأثيرها فيه أيضا ، لما أسلفناه في نفس الفعل. وما اعتمد عليه بعض الأصحاب في إبطال قول القاضي في أن ما ثبت تعلق القدرة به مجهول غير معلوم فلست أراه مرضيا.

وما أشير إليه من امتناع وقوع التكليف ، وتعذر القول بالمجازاة على

١٩٤

الأفعال بالثواب والعقاب ، وأن ذلك تكليف بما لا يطاق ، فسيرد وجه الانفصال عنه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وفيما يخص الأسفراييني فيما ذهب إليه من إثبات مخلوق بين خالقين فقد سبق وجه إحالته. وظهر زيف مقالته فيما مضى فلا حاجة إلى إعادته.

وعند هذا فيجب أن نختم الكلام بذكر الكسب والخلق تمييزا لكل واحد منهما عن الآخر :

أما الكسب : فأحسن ما قيل فيه : إنه المقدور بالقدرة الحادثة. وقيل : هو المقدور القائم بمحل القدرة.

وأما الخلق : فإنه وإن أطلق باعتبارات مختلفة : كالتقدير ، والهم بالشيء والعزم عليه ، والإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه ، فالمراد بالخلق المضاف إلى القدرة القديمة إنما هو عبارة عن : المقدور بالقدرة القديمة ، وإن شئت قلت : هو المقدور القائم بغير محل القدرة عليه.

وما أشرنا إليه فكاف لمن لديه أدنى حظ من التفطن والله المستعان.

١٩٥

القاعدة الثانية

في نفي الغرض والمقصود

عن أفعال واجب الوجود

مذهب أهل الحق أن الباري ـ تعالى ـ خلق العالم وأبدعه لا لغاية يستند الإبداع إليها ، ولا لحكمة يتوقف الخلق عليها ، بل كل ما أبدعه من خير وشر ونفع وضر لم يكن لغرض قاده إليه ، ولا لمقصود أوجب الفعل ، بل الخلق وأن لا خلق له جائزان ، وهما بالنسبة إليه سيان.

ووافقهم على ذلك طوائف الإلهيين ، وجهابذة الحكماء المتقدمين.

وذهبت طوائف المعتزلة إلى أن الباري لا يخلو فعله عن غرض وصلاح للخلق ؛ إذ هو يتعالى ويتقدس عن الأغراض ، وعن الضرر والانتفاع ، فرعاية الصلاح في فعله واجبة نفيا للعبث في الحكم عن حكمته ، وإبطالا للسفه عنه في إبداعه وصنعته ، وأما الأصلح فهم فيه مختلفون : طائفة ألحقته بالصلاح في وجوب الرعاية ، وطائفة أحالت القول بوجوبه بناء على أن ما من صالح إلا وفوقه ما هو أصلح منه إلى غير نهاية ، ثم بنوا على وجوب رعاية الصلاح والأصلح ، باتفاق منهم ، وجوب الثواب على الطاعات والآلام الغير المستحقة كما في حق البهائم والصبيان ، ووجوب العقاب وإحباط العمل على العصيان ، ووجوب قبول التوبة والإرشاد بعد الخلق ، إيصال العقل إلى وجوه المصالح بالإقدار عليها ، وإقامته الآيات والحجج الداعية إليها.

ثم التزموا ـ على فاسد أصلهم ـ أن ما ينال العبد في الحال أو المآل من الآلام والأوجاع والنفع والضر والخير والشر ونحو ، فهو الصالح. ولم يتحاشوا جحد الضرورة ومكابرة العقل في أن خلود أهل النار في النار هو الصالح لهم والأنفع لنفوسهم.

ومما فارق به البغداديون البصريون القول بوجوب ابتداء خلق الخلق ،

١٩٦

وتهيئة أسباب التكليف من إكمال العقل واستعداد الآلات للتكليف إلى غير ذلك ، والبصريون لا يرون أن شيئا من ذلك واجب ، بل ابتداؤه بفضل من الله ـ تعالى ـ وإنعام من غير تحقق ولا تحتم ولا إلزام.

ونحن الآن نبتدئ بمأخذ أهل الحق والكشف عنه ، ثم نشير بعد ذلك إلى مأخذ أهل الضلال والإنابة عن معرضها في معرض الاعتراض والانفصال.

فمما اعتمد عليه أهل التحقيق :

في هذا الطريق أن قالوا : لو كان إبداع الباري ـ تعالى ـ لما أبدعه يستند إلى غرض مقصود لم يخل : إما أن يقال بعوده إلى الخالق أو إلى المخلوق ، فإن كان عائدا إلى الخالق ، إما أن يقال بعوده إلى الخالق أو إلى المخلوق فإن كان عائدا إلى الخالق لم يخل إما أن يكون بالنسبة إليه كونه أولى من لا كونه ، أو لا كونه أولى من كونه ، أو أن كونه وأن لا كونه بالنسبة إليه سيان.

فإن قيل : إن كونه أولى من لا كونه فلا محالة أن واجب الوجود يستفيد بذلك الفعل كمالا وتماما لم يكن له قبله ، لكونه أولى بالنسبة إليه ، وتركه وأن لا يفعله نقصانا ، وذلك يوجب افتقار الأشرف إلى الأخس في إفادة كمالاته له ، وأن يكون ناقصا قبله ، ونعوذ بالله من هذا الضلال ، بل هو الغني المطلق ، وله الكمال الأتم ، والجمال الأعظم ، وهو مبدأ الكمالات ، ومنتهى المطالب والأمنيات ، وإليه الافتقار في جميع الحالات ، وليس له في فعله مطلوب يكمله ، ولا له قصد إلى ثناء أو مدح يحصله ، بل هو الغني (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة : ١٢٠].

وإن قيل : إن لا كونه أرجح من كونه أو أنهما متساويان فالقول يجعل مثل هذا غرضا ومقصودا ، مع أنه لا فرق بين كونه وأن لا كونه ، أو أن لا كونه أولى من كونه ، من أمحل المحالات.

وإن قيل برجوعه إلى المخلوق من صلاح أو نفع فأي فائدة في خلق ما

١٩٧

في العالم من الجمادات والعناصر والمعدنيات وغير ذلك من أنواع النباتات ، مع أنها لا تجد بذلك لذة ولا ألما ولا فرق لها بين كونها وأن لا كونها؟ بل وأي فائدة لنوع الحيوان في ذلك؟ أو لتكليف نوع الإنسان مع ما يجد فيه من الآلام والأوصاب والمشاق والأوجاع ، وكل ما تجد النفس من تحمله حرجا؟

وكل عاقل إذا راجع نفسه بين الوجود وأن لا وجود فإنه يود لو أنه لم يكن موجودا ، لما أعد له في الأولى والعقبى ، ولهذا نقل عن الأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين التكره لذلك والتبرم به حتى إن بعضهم قال : يا ليتني كنت نسيا منسيا وقال آخر : يا ليتني لم تلدني أمي.

وقال آخر : يا ليتني لم أك شيئا.

بل وأي نفع وصلاح للعبد في خلوده في الجحيم ، وإقامته في العذاب الأليم؟ وكذا أي مصلحة في إنظار إبليس وإضلاله وإماتة الأنبياء مع هدايتهم؟ وهل من زعم أن في ذلك صلاحا أو نفعا إلا خارقا لحجاب الهيبة بارتكاب جحد الضرورة.

ثم الذي يقطع دابر هذا الخيال ويدفع هذا الإشكال إبداء ما وقع من أفعال الله ـ تعالى ـ مع تسليم الخصم ضرورة أنه لا صلاح فيه ، ولا أصلحية. وذلك أنا لو فرضنا ثلاثة أطفال ، مات أحدهم وهو مسلم قبل البلوغ وبلغ الآخران ومات أحدهما مسلما ، والآخر كافرا : فمن مقتضى أصولهم ـ على ما استدعاه التعديل ـ أن تكون رتبة المسلم البالغ فوق رتبة الصبي ، لكونه أطاع بالغا ، وتخليد الكافر في الجحيم لكونه كان عاصيا.

فلو قال الصبي : يا رب العالمين لم احترمتني دون المرتبة العلية والرفعة السنية التي أعطيتها لأخي ، ولم تمنعه إياها ، ولم أحييتني إلى حين البلوغ لأطيعك فتحصل لي هذه الرتبة؟ وأي مصلحة لي في إماتتي قبل البلوغ ، وقطعي عن هذه الرتبة؟ فلا جواب إلا أن يقول له : لأني علمت منك أنك لو

١٩٨

بلغت لعصيتني فكان احترامك هو الأنفع لك ، وانحطاطك إلى هذه الرتبة أصلح لنفسك. لكن ذلك مما يوجب احترام كل من علم الله كفره عند البلوغ ، ولا يبقى لإحياء ذلك الكافر البالغ معنى ، ولا يتجه عنه جواب.

فقد بان من هذه الجملة أن الغرض في أفعال الله ـ تعالى ـ ووجوب رعاية الصلاح والأصلح عليه مستحيل.

وما يخص رعاية الأصلح أن يقال :

مقدورات الله ـ تعالى ـ في الأصلح غير متناهية ، ورعاية ما لا سبيل إلى الوقوف فيه على حد وضابط ممتنع.

ثم ولو وجب في حقه رعاية الصلاح والأصلح للزم أن تكون الهبات والنوافل بالنسبة إلى أفعالنا واجبة لما فيها من صلاحنا ، إذ الرب ـ تعالى ـ لا يندب إلى ما لا صلاح لنا فيه ، ولا معنى للفرق في ذلك بين الغائب والشاهد أصلا. كيف وأن أصل الخصم فيما يرجع إلى وجوب رعاية الصلاح والأصلح في حق الباري ـ تعالى ـ ليس إلا بالنظر إلى الشاهد ، وهو ممتنع لما حققناه في غير موضع.

كيف وقد سلم أن الواحد منا لا يجب عليه رعاية الصلاح والأصلح في حق نفسه مع تمكنه من تحصيله ، فأنى يصح القياس على هذا الأصل ، مع تحقق هذا الفصل؟ وهل ذلك إلا خبط في عشواء؟

وإذا تحقق ما قررناه من امتناع الغرض في أفعاله ، ووجوب رعاية الصلاح والأصلح ، لزم منه هدم ما بني عليه من وجوب الثواب والعقاب والخلق والتكليف ، وغير ذلك مما عددناه من مذهبهم ، فإنه لم يقضوا بوجوبه إلا بناء على رعاية الصلاح والأصلح لا محالة.

ثم إن «الواجب» قد يطلق على الساقط ، ومنه يقال للشمس والحائط إنهما واجبان ، عند سقوطهما. وقد يطلق على ما يلحق بتاركه ضرر. وقد يطلق على ما يلزم من فرض عدمه المحال.

١٩٩

والمفهوم من إطلاق اسم الواجب ليس إلا ما ذكرناه ، وما سواه فليس بمفهوم. ولا محالة أن الواجب بالاعتبار الأول غير مراد.

والثاني فقد بان أنه مستحيل في حق ـ الله تعالى ـ لانتفاء الأغراض عنه ، والثالث أيضا لا سبيل إلى القول به ، إذ الخصوم متفقون على وجوب التمكين مما كلف به العبد ، وكيف يمكن حمل الوجوب على هذا الاعتبار مع الاعتراف بتكليف أبي جهل بالإيمان ، وهو ممنوع منه ، لعلم الله ـ تعالى ـ أن ذلك منه غير واقع ، ولا وهو إليه واصل.

فإن قيل : لو لم يكن فعل واجب الوجود لغرض. مقصود ، مع أن الدليل قد دل على كونه حكيما في أفعاله ، غير عابث في إبداعه ، لكان عابثا ، والعبث قبيح ، والقبيح لا يصدر من الحكيم المطلق ، والخير المحض. وإذا لا بدّ له في فعله من غرض يقصده ومطلوب يعتمده ، نفيا للنقص عنه ، وتنزيها له ، عن صدور القبيح منه ، وما ذكرتموه من تعلق النقص والكمال به بالنظر إلى الغرض والمقصود فإنما يلزم أن لو كان ذلك الغرض عائدا إليه ، وكماله ونقصه متوقفا عليه ، وليس كذلك ، بل هو الغني المطلق واستغناء كل ما سواه ليس إلا به ، بل عوده إنما هو إلى المخلوق ، وذلك مما لا يوجب كمالا ولا نقصانا بالنسبة إلى واجب الوجود.

وإذا ثبت أنه لا بدّ من حكمة وفائدة ، ففائدة خلق العناصر والمركبات والمعدنيات وغير ذلك من الجمادات العناية بنوع الحيوان ، لأجل انتظام أحواله ، في مهماته وأفعاله ، والاستدلال بما في طيها من الآيات والدلائل الباهرات على وجود واجب الوجود ، ووحدانية المعبود.

وإليه الإشارة بقوله ـ عليه‌السلام : «كنت كنزا لم أعرف فخلقت خلقا لأعرف به» (١).

__________________

(١) أورده المصنف في أبكار الأفكار (٢ / ٥٨٥) ، وهو حديث لا أصل له.

٢٠٠