غاية المرام في علم الكلام

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

غاية المرام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4311-5
الصفحات: ٣٣٤

يكون عنده بالنظر إلى نظمه وحده معجزه ، وبالنظر إلى بلاغته معجزة ، ورب شخص يكون الإعجاز ، عنده من الأمرين ، وعلى هذا التفاوت يكون الاختلاف بين الآية والسورة والكتاب برمته في الإعجاز ، فالخفاء إن وقع في إعجازه ، بالنسبة إلى نظمه أو بلاغته ، أو بالنظر إلى آيه وسوره ، فلا خفاء بأن مجموع ذلك يكون خارقا معجزا ، ولا اختلاف فيه عند القائلين به.

وأما إنكار تحديه بالقرآن للعرب ، وإفحامه ذوى الأدب ، فهو أيضا مما علم بالضرورة والنقل المتواتر ، كما علم وجوده وظهور القرآن على يده ، ولا حجة لإنكاره ، كيف والقرآن مشحون بقوارع من الآيات دالة على التحدي ، ونعي العرب؟ مثل قوله : (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [القصص : ٤٩](فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ) [هود : ١٣] ، (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣].

وقوله : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨].

إلى غير ذلك من الآيات فكيف يقال بإنكار وقوع التحدي؟

ثم ما من آية من هذه الآيات إلا وهي منقولة على لسان التواتر ، وهو سواء في سائر الآيات ، وذلك مما يمتنع معه القول بكونها مؤلفة بعد النبي عليه‌السلام ، أو أنها مجمعة لغيره من الأنام ، فإذا ثبت تحديه به العرب وأرباب الفضل منهم والأدب ، فلو وقعت المعارضة منهم لاشتهر ذلك ولتوفرت الدواعي على نقله كما توفرت على نقل غيره ، إما على لسان الموافق أو المخالف ؛ إذ السكوت عن مثل هذا والتواطؤ على تركه مما تقضي العادة الجارية بإحالته ، والمدعي لذلك ليس هو في ضرب المثال إلا كمن يدعي ظهور نبي آخر بعد النبي عليه‌السلام ، أو وجود إمام قبل الأئمة الأربعة ، أو أن البحر نشف في بعض الأوقات ، أو الدجلة أو الفرات ، ولا يخفى ما في ذلك من الإبطال.

ولا يمكن أن يكون خوف السيف مانعا من نقل ذلك وإظهاره في

٣٠١

العادة كما لم يمنع دعوى المعارضة في كل زمان ، وإن كان ذلك لما في القرآن بل الواجب ، بالنظر إلى العادات ومقتضى الطباع ، النقل لمثل ما هو من هذا القبيل ، ولو على سبيل الإسرار ، كما قد جرت به عادة الناس في التحدث بمساوئ ملوكهم وإظهار معايبهم ، وإن كان خوف السيف قائما في حقهم لا سيما وبلاد الكفار متسعة ، وكلمة الكفر في غير موضع شائعة ، فلو كان ذلك مما له وقوع لقد أشيع كما أشيع غيره مما ليس بموافق للدين ، ولا يتقبله أحد من المسلمين ، : ولا جائز أن يقال : إن ترك المعارضة محمول على الإهمال ، أو على الغفلة عن كون المعارضة موجبة للإفحام ، أو على اعتقاد أن السيف أبلغ في دحره وردعه وإبطال دعوته ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان يقرعهم بالعي ، ويردد عليهم تعجيزهم في الأحياء ، ويقول : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) [يونس : ٣٨] ، مع أن العرب قد كانت في محافلها تتفاخر بمعارضة الركيك من الشعر ، وتتناظر في مجالسها بمقابلة السخيف من النثر ، ولا محالة أن القرآن في نظر من له أدنى ذوق من العربية ، وأقل نصاب من الأمور الأدبية ، لا يتقاصر عن فصيح أقوال العرب ، وبديع فصولهم في النظم والنثر ، بل والخطب ، فكيف يخطر بعقل عاقل ، أو يتوهم واهم ، أن العرب مع ما أوتوه من العقل الغزير ، ومن حسن التصرف والتدبير ، تتاركوا معارضة القرآن ، إخساسا به وإهمالا ، أو لغفلتهم أن ذلك مما يدفع الضرر عنهم ، أو لأن السيف أنجع وأوقع لهم ، مع ما كان المسلمون عليه من شدة البأس وعظم المراس ، والقوة الباهرة ، والعزمة الحاضرة ، والنصرة الحاصرة ، وهم يمكنهم دفع ذلك كله بفصل أو سورة يقولها واحد منهم؟ إن هذا لهو الخسران المبين.

ولا ننكر أن هذه المثلات ، ووقوع هذه الاحتمالات بالنظر إلى العقل وإلى ذواتها ، ممكنات ، لكنها كما أوضحناه بالنظر إلى العادة ، من المستحيلات ، ولا يلزم أن ما كان ممكنا باعتبار ذاته لا يلزم المحال من فرض

٣٠٢

وجوده أو عدمه باعتبار غيره ، كما حققناه في غير موضع من هذا الكتاب ثم إن هذه الاحتمالات ، إن كان الخصم كتابيا فهي أيضا لازمة له في إثبات نبوة من انتمى إليه ، والقول بتصحيح رسالة من اعتمد عليه ، وذلك كالنصارى واليهود وغيرهم من أهل الجحود ، فما هو اعتذاره عنها هو اعتذارنا عنها هاهنا.

ولا يلزم من كون القرآن مركبا من الحروف والأصوات أن لا يكون خارقا ولا معجزا ؛ لما بيناه ، من اشتماله على النظم البديع ، والكلام البليغ ، الذي عجزت عنه بلغاء العرب وفصحاؤهم ، وقدرة بعض الناس على الإتيان بما شابه منه كلمة أو كلمات لا توجب القدرة على ما وقع به الإعجاز ، وإلا كان لكل من أمكنه الإتيان بكلمة أو كلمتين من نظم أو نثر أن يكون شاعرا ، ناثرا ، وأن لا يقع الفرق بين الألكن ، والألسن ، ولا يخفى ما في ذلك من العبث والزلل ، فإنا نحس من أنفسنا العجز عن بعض ما نقل عن فصحاء العرب من نظم أو نثر ، وإن كنا لا نجد أنفسنا وقدرنا قاصرة عن الإتيان منه بكلمة أو كلمات ، بل وليس هذا إلا نظير ما لو قيل بوجوب كون الجبل مقدورا حمله بالنسبة إلينا ، لكون بعضه مقدورا ، إذ هو زيف وسفسطة. ثم ولو كان ذلك مقدورا لهم لقد بادروا إلى الإتيان به ، وسارعوا إلى دفع ما تحدى به على ما سلف.

لكن لا ننكر أن من مقدورات الله تعالى أن يظهر على يد غيره ما يعجز عن الإتيان بمثله ، وتكون نسبته إلى هذا المعجز كنسبة هذا المعجز إلى غيره من الكلام ، وأن ذلك لو ظهر المكان مبطلا لرسالته ، أن كان التحدي بأنه لا سبيل إلى الإتيان بمثله ، لا أن يكون التحدي بإظهار ما هو خارق للعادة على يده فقط ، أي لم يعهد في العادة قبل ذلك مثال كما سبق تحقيقه وكذا الكلام فيما هو دونه بالنسبة إليه أيضا.

وأما منع جواز دلالته على الصدق بناء على جواز تقدمه على الدعوى

٣٠٣

فقد سبق وجه إبطاله فيما مضى فلا حاجة إلى إعادته.

وأما ما فرض من جواز تحدي من حفظه على أهل بلد لم تبلغهم الدعوة ، فمجرد ظهوره على يده غير كاف مهما لم يعلم بطريق قطعي أن ذلك مما لم يظهر على يده غيره ، وغاية ما في الباب أنهم لو علموا ظهور ذلك على يده غيره فذلك لا يوجب العلم بعدم ظهوره على يده هو لكن لعله لو تلاه عليهم لقد علم أنه مما لم يظهر على يده ، من جهة اشتماله على شرح أحوال وأمور وأحكام ، اختصت بأسباب ووقائع حدثت في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو ذكرت بالنسبة إلى غيره لقد كان ذلك في نفسه يعد لغوا من القول ، وسفها من الكلام ، ولا كذلك في حق النبي عليه‌السلام ، فإنه قد علم من جهة القطع أن ذلك مما لم يظهر على يده غير بناء على ما احتف به من القرائن القطعية والأمور اليقينية ، من نزوله على وفق أحوالهم ، ومطابقته لأقوالهم وذلك كما في قصة براءة عائشة ، وذم أبي لهب ، وما ورد من الآيات في يوم بدر وأحد ، إلى غير ذلك مما يمتنع تصوره عند كونه كاذبا في دعواه ، بل الباري تعالى يطبع على قلبه وعقله ، ويختم على لسانه بحيث لا يتمكن من إتيانه والتحدي به أصلا.

وأما غيره من الكتب الغريبة والأمور العجيبة ، من الرياضيات والهندسيات والحسابيات ، والأمور التي لا يمكن الإتيان بمثلها ، فقد قيل : إن مستند إظهارها وسبب اشتهارها ليس إلا من النبيين والمرسلين ، وغاية ما زيد فيها تتميم وترتيب ، ولو قدر أنها مما لم يظهر على يدي نبي ، فلا إحالة في ذلك ، لما سلف ، وعند التحدي بها وثبوت كونها خارقة ، يجب القول بالتصديق ، والقبول بالتحقيق ، لكون ما ظهر على يده نازلا منزلة التصديق له بخلق الله تعالى له ذلك على يده ، واقترانه بدعوته ، كما سبق.

ثم إن ذلك لازم للخصم إن كان كتابيا ، بالنسبة إلى ما ظهر على يد نبيه من المعجزات والآيات ، ولا مخلص له منه.

٣٠٤

وما قيل من أن آحاد المعجزات التي أشرنا إليها من انشقاق القمر ، وتسبيح الحصى ، ونحوه ، لم يثبت بطريق متواتر فبعيد ، فإنا نعلم ضرورة أن ما من عصر من الأعصار إلا وأصحاب الأخبار وأرباب الآثار وأهل السير والتواريخ قوم لا يتصور منهم التواطؤ على الكذب عادة ، وهم بأسرهم متفقون على نقل آحاد هذه الأعلام ، وكذا في كل عصر إلى الصدر الأول.

ثم ولو سلم ذلك في الآحاد فلا محالة أن عموم ورودها يوجب العلم بصدور المعجزات عنه ، وظهور الخوارق عنه جملة ، كما نعلم بالضرورة شجاعة عنتر وكرم حاتم ، لكثرة ما رواه النقلة عنهما من أحوال مختلفة تدل على كرم هذا وشجاعة هذا ، وإن كان نقل كل حالة منها نقل آحاد لا نقل تواتر ، وأما الرد على العنانية فيما تقولوه ، وإبطالهم فيما تخرصوه فهو : أنهم مع عجزهم عن صحة السند ، في متن الحديث مختلفون ، فإن منهم من قال : الحديث هو قوله إن أطعتموني لما أمرتكم به ونهيتكم عنه ثبت ملككم كما ثبتت السموات والأرض ، وليس في ذلك ما يدل على دوام الملك ، فليس ذلك ينافي النسخ ، ثم هو مشروط بطاعته ، والائتمار بمأموراته ، والانتهاء عن منهياته وذلك مما لا يتحقق في حقهم بعده ، ثم وإن قدر أن المنقول هو قوله : هذه الشريعة لازمة لكم خاتمة عليكم.

فلا مانع من أن يكون ذلك مشروطا بعدم ظهور نبي آخر ، ويكون هو المراد باللفظ ، ومع تصور هذا الاحتمال فلا يقين.

وأما استبعاد أن يكون الشيء الواحد حسنا قبيحا ، طاعة معصية ، مصلحة مفسدة ، مرادا غير مراد ، فقد أشرنا إلى إبطال مستند هذه الأصول ، ونبهنا على زيف جميع هذه الفصول ، من التحسين والتقبيح ، ورعاية الصلاح والأصلح ، ودلالة الأمر على الإرادة ، بما فيه مقنع وكفاية.

ثم إنه لا يبعد صدور الأمر من الله تعالى نحو المكلفين بفعل شيء مطلقا في وقت ويكون ذلك ممدودا ، في علم الله ، إلى حين ما علم أنه ينسخه عنده

٣٠٥

لعلمه بأن مصلحة المكلف في ذلك الأمر ؛ لاعتقاده لموجبه ، وكف نفسه عما يغويه ، ثم يقطع عنه التكليف في الوقت الذي علم أنه سينسخه عنده لعلمه بما فيه من المصلحة وكف المفسدة ، (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) [الرعد : ٣٩] ويكون ذلك الفعل نفسه بالإضافة إلى وقت متعلق المصلحة والحسن والإرادة ، وبالإضافة إلى غيره متعلق القبح والمفسدة والكراهة ، وذلك كما أمر بالصيام نهارا ونهى عنه ليلا ، ونحو ذلك.

وعلى هذا يندفع ما ذكروه ، من البداء والندم ، فإن ذلك إنما يكون أن لو انكشف له في ثاني الحال ، ما أوجب له المنع عن الفعل ، والنهي عنه ، ولم يكن قد حصل ذلك له أولا ، ومن استعمل من الأصحاب لفظ الرفع في النسخ ، فليس المعنى به غير قطع استمرار ما كان له ، من القوة والاستحكام وأن يبقى لو لا الناسخ ، وذلك على وزن قطع حكم عقد البيع المطلق المستحكم بالنسبة إلى الفسخ ، وهذا ليس برفع لما وجد ولا لما لم يوجد ، ولا معنى للنسخ عند الإطلاق به إلا هذا ، فقد بطل إذا ما تخيلوه ، وفسد ما توهموه.

ولا يتوهمن إضافة قطع الاستمرار إلى الكلام ، الذي هو صفة الرب الكريم ، فإن العدم عليه مستحيل ، بل المراد إنما هو قطع تعلقه بالمكلف ، وكف الخطاب عنه ، وذلك غير مستحيل.

وأما العيسوية فيمتنع عليهم ـ بعد التسليم بصحة رسالته وصدقه في ودعوته ـ إلا الإذعان لكلمته ؛ إذ لا سبيل إلى القول بتخصيص بعثته إلى العرب ، دون غيرها من الأمم ، مع ما اشتهر عنه وعلم بالضرورة والنقل المتواتر من دعوته إلى كلمته طوائف الجبابرة ، وغيرهم من الأكاسرة وتنفيذه إلى أقاصي البلاد ، وملوك العباد ، وقتال من عانده ، ونزال من جاحده ، ثم ذلك معتمد على سند الصدر الأول من المسلمين مع علمنا بأن ذلك الجم الغفير ، والجمع الكثير ، ممن لا يتصور عليهم التواطؤ على الباطل عادة ، لا سيما

٣٠٦

لما كانوا عليه من شدة اليقين ومراعاة الدين ، فلو لم يعلموا منه ـ ضرورة ـ أنه مبعوث إلى الناس كافة ، وإلى الأمم عامة ، من الأسود والأبيض وإلا لما نقلوا ذلك رعاية للدين ، مع أنه ترك الدين ، وكذلك أيضا من جاء من بعدهم على سنتهم ، وهلم جرا إلى زمننا هذا ، ولو لم يكن نبيا على العموم لزم أن يكون قد كذب في دعواه ، وأبطل فيما أتاه ، وذلك محال في حق الأنبياء ، وحق من ثبت عصمتهم بالمعجزات وقواطع الآيات.

وعلى هذا النحو ثبوت كونه «خاتم النبيين» وآخر المرسلين. حيث قال : «لا نبي بعدي» ، وتنزل الكتاب العزيز بمصداق ذلك ، تشريفا له وتكريما فقال : وخاتم النبيين ، وعلم ذلك فيما مضى من أهل عصره ، ولم يزل تتناقله الأمم والأعصار في سائر الأقطار ، ومن لا يتصور عليهم التواطؤ على الكذب ، واللهو واللعب ، وعلم ذلك ضرورة من قوله وكتابته ، فلا سبيل إلى جحده سمعا ، وإن كان ذلك جائزا عقلا.

وهذا آخر ما أردنا ذكره من النبوات ، والأفعال الخارقة للعادات.

والتوكل على رب الخيرات (١).

__________________

(١) انظر : مقالات الإسلاميين للأشعري (٢ / ١١١) ، والفرق بين الفرق للبغدادي (ص ١٠ ، ٣٣ ، ٢٤٠) ، والملل والنحل للشهرستاني (٢ / ١٠ ، ٢٩) ، والإحكام للمصنف (١١٢).

٣٠٧

القانون الثامن

في الإمامة

ويشتمل على طرفين

٣٠٨

تمهيد في الإمامة :

واعلم أن الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات ، ولا من الأمور اللابديات ، بحيث لا يسع المكلف الإعراض عنها ، والجهل بها ، بل لعمري إن المعرض عنها لأرجى حالا من الواغل فيها ، فإنها قلما تنفك عن التعصب والأهواء ، وإثارة الفتن والشحناء ، والرجم بالغيب في حق الأئمة والسلف بالإزراء ، وهذا مع كون الخائض فيها سالكا سبيل التحقيق ، فكيف إذا كان خارجا عن سواء الطريق؟

لكن لما جرت العادة بذكرها في أواخر كتب المتكلمين. والإبانة عن تحقيقها في عامة مصنفات الأصوليين ، لم نر من الصواب خرق العادة بترك ذكرها ، في هذا الكتاب ، وموافقة للمألوف من الصفات ، وجريا على مقتضى العادات.

لكننا نشير إلى تحقيق أصولها على وجه الإيجاز ، وتنقيح فصولها من غير احتياز.

والكلام فيها يشتمل على طرفين :

(أ) طرف في وجوب الإمامة ، وشرائطها ، وبيان ما يتعلق بها.

(ب) وطرف في بيان معتقد أهل السنة في إمامة الخلفاء الراشدين ، والأئمة المهديين ، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.

الطرف الأول في وجوب الإمامة وما يتعلق بها

مذهب أهل الحق من الإسلاميين أن إقامة الإمام واتباعه فرض على المسلمين شرعا لا عقلا ، وذهب أكثر طوائف الشيعة إلى وجوب ذلك عقلا لا شرعا وذهب بعض القدرية والخوارج إلى أن ذلك ليس واجبا لا عقلا ولا شرعا.

ونحن ـ الآن ـ نبتدئ بتقديم مذهب أهل الحق أولا ، ثم نشير إلى شبه

٣٠٩

المخالفين في معرض الاعتراض ، وإلى وجه إبطالها عند الانفصال ثانيا.

قال أهل الحق : الدليل الحق القاطع على وجوب قيام الإمام واتباعه شرعا ما ثبت بالتواتر من إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على امتناع خلو الوقت عن خليفة وإمام ، حتى قال أبو بكر في خطبته المشهورة بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «ألا إن محمدا قد مات ، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به» (١) فبادر الكل إلى تصديقه ، والإذعان إلى قبول قوله ، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين ، ولا تقاصر عنه أحد من أرباب الدين ، بل كانوا مطبقين على الوفاق ، ومصرين على قتال الخوارج ، وأهل الزيغ والشقاق ، ولم ينقل عن أحد منهم إنكار ذلك ، وإن اختلفوا في التعيين.

ولم يزالوا على ذلك مع ما كانوا عليه من الخشونة في الدين ، والصلابة في اليقين ، وتأسيس القواعد ، وتصحيح العقائد ، من غير أن يرهبوا في الله لومة لائم ، حتى بادر بعضهم إلى قتل الآباء والأمهات ، والإخوة والأخوات ، كل ذلك محافظة على الدين ، وذبا عن حوزة المسلمين ، والعقل ـ من حيث العادة ـ يحيل الاتفاق من مثل هؤلاء القوم على وجوب ما ليس بواجب ، ولا سيما مع ما ورد به الكتاب العزيز من مدحهم ، والسنة الشريفة في عصمتهم ، فقال ـ تعالى ـ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] وقال ـ عليه‌السلام ـ «أمتي لا تجتمع على الخطأ» ، «لا تجتمع أمتي على ضلالة» ، «لم يكن الله بالذي يجمع أمتي على الضلالة» ، «وسألت الله ألا يجمع أمتي على الضلالة فأعطانيها» (٢) إلى غير ذلك من الأحاديث. وهي وإن كانت آحادها آحادا فهي ، مع اختلاف ألفاظها وكثرتها ، تنزل منزلة التواتر في

__________________

(١) صحيح : رواه البخاري (٣ / ١٣٤١) ، (٣٤٦٧).

(٢) رواه الطبراني في الكبير (٢١٧١) (٢ / ٢٨٠) ، والحاكم في المستدرك (١ / ٢٠٠ ، ٢٠١ ، ٢٠٢).

٣١٠

حصول العلم بما دلت عليه ـ من جهة العادة ـ قطعا ، وذلك على نحو علمنا بكرم حاتم وشجاعة عنترة كما بينا فيما سلف ، ثم كذلك العصر الثاني والثالث ، وهلم جرا إلى زماننا هذا ، لم يزل الناس ينسجون على منوال أهل الصدر الأول ، ويتبعون آثارهم ، ويقتفون أخبارهم ، على الخط القويم ، والمنهج المستقيم.

ولذلك من نظر بعين الاعتبار ، وحلى نحره بالأخبار ، وسلك طريق الرشاد ، وجانب الهوى والعناد ، لم يجد من نفسه الاختلاج بمخالفة شيء من ذلك أصلا.

ثم ، والذي يؤكد ذلك النظر إلى مستند الإجماع ، فإنا نعلم أن مقصود الشارع من أوامره ونواهيه ، في جميع موارده ومصادره ، من شرح الحدود والمقاصات ، وشرع ما شرع من المعاملات والمناكحات ، وأحكام الجهاد ، وإظهار شعائر الإسلام في أيام الجمع والأعياد ، إنما هو الإصلاح الخلق معاشا ومعادا ، وذلك كله لا يتم إلا بإمام مطاع من قبل الشرع ، بحيث يفوضون أزمتهم في جميع أمورهم إليه ، ويعتمدون في سائر أحوالهم عليه ، فأنفسهم ـ مع ما هم عليه من اختلاف الأهواء ، وتشتت الآراء ، وما بينهم من العداوة والشحناء ـ قلما تنقاد بعضهم لبعض ، ولربما أدى ذلك إلى هلاكهم جميعا.

والذي يشهد لذلك وقوع الفتن واختباط الأمم ، عند موت ولاة الأمر من الأئمة والسلاطين ، إلى حين نصب مطاع آخر ، وأن ذلك لو دام لزادت الهوشات ، وبطلت المعيشات ، وعظم الفساد في العباد ، وصار كل مشغولا بحفظ نفسه تحت قائم سيفه ، وذلك مما يفضي إلى رفع الدين ، وهلاك الناس أجمعين. ومنه قيل : الدين أس والسلطان حارس ، الدين والسلطان توأمان.

فإذا نصب الإمام من أهم مصالح المسلمين ، وأعظم عمد الدين ، فيكون واجبا ، حيث عرف ، بالسمع ، أن ذلك مقصود للشرع ، وليس مما يمكن

٣١١

القول بوجوبه عقلا ، كما بيناه ، اللهم إلا أن يعني ، بكونه واجبا عقليا ، أن في فعله فائدة ، وفي تركه مضرة ، لذلك ما لا سبيل إلى إنكاره أصلا.

فإن قيل : الاحتجاج بإجماع الأمة فرع تصور الإجماع ، وكما زعمتم أن العادة تحيل اجتماع الأمة على الخطأ ، فكذلك أيضا بالنظر إلى العلماء تحيل اجتماع الكل على حكم واحد مع ما هم عليه من اختلاف الطباع وتفاوت الأزمان ، والسهولة والصعوبة في الانقياد ، كما يستحيل ـ من حيث العادة ـ اتفاقهم كافة على القيام أو القعود في لحظة واحدة ، في يوم واحد.

ثم وإن تصور ذلك ، فالاطلاع عليه لكل واحد من أهل العصر ـ مع انقسام المجتهدين إلى معروف وإلى غير معروف ، وتنائي البلدان ، وتباعد العمران ـ أيضا متعذر.

ثم وإن قدر أن ذلك كله متصور ، لكن ما من واحد نفرضه منهم إلها ويجوز ـ عند تقديره منفردا ـ أن يكون في ذلك الحكم مخطئا ، وذلك الجواز لا ينتقض وإن انضاف إليه ، في ذلك الحكم ، من أعداد المجتهدين ، ما لا يحصى. والذي يدل على جواز ذلك ورود النهي بصفة العموم وهو قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ، ولو لم يكن ذلك منهم جائزا وإلا لما نهوا عنه.

ولو كان ذلك حجة قطعية في الشرعيات لما ذكر ، للزم أن يكون ذلك حجة في العقليات ، وهو خلاف الإجماع.

وما ذكرتموه من الأحاديث فجملتها آحاد لا معتبر بها في القطعيات ، والأمور اليقينيات وإن استدل على صحتها بإجماع الكافة عليها يلزم الدور وامتنع الاستدلال. ثم وإن كانت يقينية فمدلول اسم الأمة : كل من آمن به من حين البعثة إلى يوم القيامة ، وذلك غير متصور فيما نحن فيه ، ومع حمله على أهل الحل والعقد من أهل كل عصر فيحتمل أنه أراد بالضلال أو الخطأ

٣١٢

الكفر ، أو ما يوجب الاعتقاد الخبيث ، أو نوعا آخر من أنواع الخطأ ؛ إذ تناوله لكل ضلال وخطأ ـ إن كان ـ فليس إلا بطريق الظن والتخمين ، دون القطع واليقين.

ثم وإن قدر أن المراد به العصمة من كل خطأ ، والحفظ من كل زلل ؛ فلا بد أن يبين وجود الإجماع فيما نحن فيه ، وما المانع من أن يكون ثم نكير ، وأنه لم تتحقق الموافقة إلا من آحاد المسلمين؟ والذي يدل على ذلك قول عمر ـ رضى الله عنه ـ «ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وقى الله شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه» أي إن بيعة أبي بكر من غير مشورة وقد وقى الله شرها فلا نعود إلى مثلها.

ثم إن الإجماع لا بدّ وأن يعود إلى مستند من الكتاب والسنة ، ولو كان للإجماع مستند لقد كانت العادة تحيل أن لا ينقل ، مع توفر الدواعي إلى نقله ، فحيث لم ينقل له مستند علم أنه غير واقع في نفسه.

وأيضا فإن تعاون الناس على أشغالهم ، وتوفرهم على إصلاح أحوالهم ، وأخذهم على أيدي السفهاء منهم ، والقيام بما يجب عليهم في دينهم ودنياهم ، مما تحدوهم إليه طباعهم وأديانهم ، ويدل على ذلك انتظام حال العربان وأهل البوادي والقفار ، والخارجين عن أحكام السلطان ، فإذا قاموا بذلك فيما بينهم لم يكن لإقامة واحد منهم ، يحكم عليهم فيما يفعلونه ، ويتأمر عليهم فيما يصنعونه ، تعين.

لا سيما وما من مسئلة اجتهادية إلا ويجوز لكل واحد من المجتهدين أن يخالفه فيها بما يؤدي إليه اجتهاده ، وكيف يكون واجب الطاعة مع جواز المخالفة؟ وما الفائدة في نصبه؟ نعم إن أدى اجتهادهم [إلى أن يقيموا] أميرا ورئيسا عليهم ، يتكلف أمورهم ، ويرتب جيوشهم ، ويحمي حوزتهم ، ويقوم بذلك على وجه العدل والإنصاف فلهم ذلك ، من غير أن يلزمهم من تركه

٣١٣

حرج في الشرع أصلا ، ثم إن ذلك يستدعي كون الطريق متواترا ، وقد عرف ما فيه فيما مضى.

والجواب : هو أن وقوع الاتفاق من الأمة على وجوب الصلوات الخمس ، وصوم رمضان وغير ذلك من الأحكام يكر على مقالتهم ، في منع تصوره ، بالإبطال. وما يتخيل من امتناع الاتفاق عليه ، كما فرض من القيام والقعود والأكل والشرب ، وغير ذلك ، فليس إلا لعدم الصارف والباعث له ، وإلا فلو تحقق الصارف لهم إلى ذلك لم يكن بالنظر إلى العادة ممتنعا. ولا محالة أن الأمة متعبدون باتباع النصوص والأدلة ، الواردة من الكتاب والسنة ، ومعرضون للعقاب على تركها ، وإهمال النظر إليها ، فغير بعيد أن يجدوا أنها تصرف دواعيهم إلى الحكم بمدلوله ، وتبعثهم على العمل بمقتضاه ، ويعرف ذلك منهم بمشافهة أو نقل متواتر ، كما عرف أن مذهب جميع الفلاسفة الإلهيين نفي الصفات ، وكما عرف التثليث من مذهب النصارى ، والتثنية من مذهب جميع المجوس ، إلى غير ذلك من الأمور المتفق عليها.

وإن اتفق أن كان ذلك مستندا إلى قول واحد ، والكل في اتفاقهم له مقلدون ، وعليه معتمدون ، كما علم من أصحاب الشافعي الاتفاق على منع قتل المسلم بالذمي ، والحر بالعبد ونحوه ، وكما علم من اتفاقهم أن ذلك هو مذهب إمامهم. فكذلك نعرف من اتفاق الأمة أن ذلك مستند إلى قول نبيهم ، بل ومعرفة ذلك من إجماع الصدر الأول يكون أقرب وأولى ، فإنهم لم يكونوا بعد قد انتشروا في البلاد ، ولا تناءت بهم الأبعاد ، ولم يكن عددهم مما يخرج عن الحصر ، لا سيما أهل الحل والعقد منهم.

وتخيل الرجوع من الأمة عما اتفقوا عليه متعذر ، لضرورة الخطأ في أحد الإجماعين وقد دل السمع والعقل على امتناعه. ورجوع بعضهم ، وإن كان جائزا ، فغير قادح لكونه مخصوما ومحجوجا بما تقدم من الإجماع السابق ،

٣١٤

الذي دل العقل والسمع على تصويبه ، ومع جواز الاتفاق ووقوع الإجماع يمتنع أن يكون على الخطأ ، وإن كان ذلك جائزا على كل واحد ، أن لو قدر منفردا ، لما تقرر من قبل.

وأقر شاهد يخصم هذا القائل ما أشرنا إليه في حصول العلم بالتواتر في مسألة النبوات ، ولا معنى للتطويل بإعادته.

وما أشير إليه من الأخبار الدالة على جواز الخطأ على الأمة فليست ناهية عن الإجماع ليلزم ما ذكروه ، وإنما النهي فيه متوجه على الآحاد. ثم ولو قدر ذلك فليس النهي يستدعي وقوع المنهي عنه ولا جوازه في نفسه فإنه ـ تعالى ـ قال لنبيه : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) وقال : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ، مع علمه بعصمته ، وأن ذلك لا يقع منه ولا يجوز عليه.

ولا شك أن العادة كما تحيل اتفاق الأمة على الخطأ في السمعيات ، كذلك في العقليات أيضا ، لكننا لا نحيل تجويز العقل لنقيض المتفق عليه ، من جهة العقل ، وأن ذلك لا تعرف استحالته إلا من دليل عقلي أو أمر يقيني آخر ، ولم نتعبد بإزاحة ذلك الاحتمال الواهي بالنظر إلى الدليل العقلي ، وإلا فالإجماع حجة في العقليات بسبب كونه في الشرعيات ، وعليكم بمراعاة هذا المعنى ؛ فإنه كثيرا ما يغلط فيه. ويدل على الاحتجاج به ما أشرنا إليه من الأخبار والآثار ، وهى ـ وإن كانت آحادا ـ فلا شك أن جملتها تنزل منزلة التواتر ، كما أسلفناه.

وأما حمل لفظ «الأمة» على من تابعه إلى يوم القيامة فهو وإن كان مقتضى اللفظ من حيث الصيغة ، قد خولف إجماعا بإخراج المجانين والصبيان ومن لا تفهم له عنه ، ومع صرف اللفظ عن ظاهره ، يجب أن ينزل على ما دل عليه الدليل ، وقد دلت السمعيات والقواطع من الشرعيات على تهديد مخالف الجماعة ، الخارج عن السمع لهم والطاعة ، بإخراجه من زمرة

٣١٥

الموحدين ، وسلبه ثوب الدين ، مثل قوله ـ عليه‌السلام : «من خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (١) ، وقوله : «من فارق الجماعة ومات فقد مات ميتة الجاهلية» (٢) ، إلى غير ذلك من الآثار وقواطع الأخبار ، والموافقة والمخالفة ، والتهديد بمثل هذا الأمر العظيم ، والخطب الجسيم ، إنما تتحقق أن لو كان المخالف معصوما فيما أتاه ، مصيبا فيما رآه ، وأن تكون مما وجد دون من لم يوجد ، فوجب حمل اللفظ عليه ، وإلا فالموافقة والمخالفة إنما تتصور في يوم القيامة ، وهو محال.

وأما تخصيص الخطأ والبطلان بالكفران أو غيره من أنواع العصيان ، مع ما فيه من مخالفة ظاهر اللفظ فهو مخالف لظاهر الإطلاق بالتهديد لمخالف الإجماع ، من غير تفصيل ، ومبطل لفائدة التخصيص بالتنصيص على الأمة ، وإيراد ذلك في معرض الإكرام والإنعام والتفضل ، من جهة أن الواحد قد يشارك الأمة ، في ترك كل ما تقدم حمل الضلال والخطأ عليه ، من أنواع العصيان ، وإن لم يوافقهم في أن كل ما ذهبوا إليه واتفقوا عليه ، يكون صوابا وحسنا ، فلا سبيل إذا إليه.

وأما منع وقوع الإجماع فيما نحن فيه فبعيد ، لما أسلفناه ، والتكبر وإن كان وقوعه بالنظر إلى العقل جائزا ، لكنه بالنظر إلى العادة مستحيل ، من جهة امتناع وقوع التواطؤ على ترك نقله مع توفر الدواعي والصوارف إليه. وليس في قول عمر ما يدل على انتفاء وقوع الإجماع على وجوب الإمامة [كما هو مقصدنا ، بل وليس فيه أيضا دلالة على انتفاء وقوع الإجماع على تعيين أبي بكر أيضا ؛ فإنه لا مانع من وقوع الإجماع على ذلك بعينه ، وإن قدر الاختلاف في التعيين.

__________________

(١) رواه البخاري ومسلم بنحوه عن ابن عباس.

(٢) رواه مسلم بلفظ «ومن مات وهو مفارق للجماعة» ... الحديث

٣١٦

وعدم الاطلاع على مستند الإجماع فإنما يكون قادحا أن لو كان ذلك مما تدعو الحاجة إليه ، وتتوفر الدواعي على نقله ، وليس كذلك ، فإنه مهما تحقق الاتفاق واستقر الوفاق ، وظهر دليل وجوب اتباعه ، وقع الاكتفاء به عن مستنده ، ولم يبق نظر إلا في موافقته ، ومخالفته. ومع عدم الحاجة إلى النظر في المستند ، لكون الوفاق قد صار واجبا حتما ، ولازما جزما ، لم تنصرف الدواعي إلى نقله ، ولم تتوفر البواعث على اتباعه ، فلا يكون عدم الاطلاع عليه إذ ذاك قادحا. كيف وإنه لا يبعد أن يكون مما لا يمكن نقله ، بل يعلمه من كان في زمن النبي ـ عليه‌السلام ـ ومشاهدا له ، بقرائن أحوال وإشارات ثم أقوال وأفعال ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن معرفتها إلا بالمشاهدة والعيان.

وأما اتفاق الناس على ما لأجله نصب الإمام ، وإن كان ذلك جائزا في العقل ، لكنه بالنظر لما لا تقبله العادة الجارية والسنة المطردة فممتنع ، بدليل ما ذكرناه من أوقات الفترات وموت الملوك والسلاطين ، وغير ذلك مما ذكرناه ، ولهذا نرى العربان والخارجين عن حكم السلطان كالذئاب الشاردة والأسود الكاسرة ، ولا يبقي بعضهم على بعض ، ولا يحافظون في الغالب على سنة ولا فرض ، ولم تك دواعيهم إلى صلاح أمورهم ، وتشوفهم إلى العمل بموجب دينهم ، بمغن عن السلطان ؛ إذ السيف والسنان قد يفعل ما لا يفعله البرهان.

ومن نظر إلى ما قررناه من الفائدة المطلوبة من نصب الإمام ، والغاية المقصودة من إقامته للإسلام ، علم أنه لا أثر لجواز المخالفة له فيما يقع من مسائل الاجتهاد ، وأن ذلك غير مقصود فيه الانقياد.

وإذا ثبت وجوب الإمامة بالسمع ، فهل التعيين فيها مستند إلى النص أو الاختيار؟ فذهبت الإمامية إلى أن مستند التعيين إنما هو النص ،

٣١٧

وزعموا أن خلافة علي منصوص عليها من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «أنت مني كهارون من موسى» (١) ، وقوله ـ عليه‌السلام ـ بعد ما وجبت طاعة المؤمنين له ، وثبت أنه أحق بهم من أنفسهم : «من كنت مولاه ، فعلي مولاه» (٢) وقوله : «أنت أخي وخليفتي من بعدي على أهلي ومنجز عداتي» (٣) إلى غير ذلك من الآثار والأخبار.

ولربما قرروا ذلك بطريق معنوي ، وهو أن النبي ـ عليه‌السلام ـ إما أن يكون عالما باحتياج الخلق إلى من يقوم بمهماتهم ، ويحفظ بيضتهم ، ويحمي حوزتهم ، ويقبض على أيدي السفهاء منهم ، ويقيم فيهم الأحكام الشرعية ، على وفق ما وردت به الأدلة السمعية على ما تقرر ، أو لم يكن عالما : لا جائز أن يقال بكونه غير عالم ، إذ هو إساءة ظن بالنبوة وقدح في سر الرسالة ، وكذلك أيضا إن كان عالما ولم ينص ، لا سيما والتنصيص هاهنا آكد من التنصيص ، وإيجاب التعريف ، لما يتعلق بباب الاستنجاء والتيمم ، على ما لا يخفى ، وهذا وإن لزم منه صدور الخطأ من الأمة ـ تبع ما عينه وسومح ، من ادعاء انتفاء النكير ـ فلا يخفى أن صيانة النبي عن الخطأ أولى من صيانة الأمة التي عصمتها لم تثبت إلا بقوله وبعصمته ، فإذا لا بدّ من التنصيص والإشارة إلى التخصيص.

ولا جائز أن يقال : إنه ترك الأمر شورى فيما بين الصحابة ، وفوض الأمر إلى اجتهاداتهم وآرائهم ، ليعلم القاصر من الفاضل والمجتهد

__________________

(١) حديث صحيح : رواه مسلم (٢٤٠٤) ، والبخاري (٣٥٠٣) ، (٤١٥٣).

(٢) حديث صحيح : رواه أحمد في المسند (١ / ١١٨ ، ١١٩) والبزار في مسنده (٣ / ٣٥) والترمذي ٠٥ / ٦٣٣) ، وابن ماجه (١ / ٤٣). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ١٠٥) وقال : رواه البزار ورجاله رجال فطر بن خليفة وهو ثقة.

(٣) أورده السيوطي في اللآلئ المصنوعة (١ / ٣٢٦ ، ٣٥٨) ، وهو موضوع.

٣١٨

من العيي ، وإلا لجاز للصحابة ألا ينصبوا إماما أيضا ، ليعلم الطائع من العاصي ، والمنقاد للأوامر والنواهي من غيره ، بل ولجاز إهمال بعثة الرسل ، وتفويض الأمر إلى أرباب العقول ، ليتميز أيضا المجتهد ومن له النظر في المدارك ، واستنباط المسالك ممن ليس كذلك ، وذلك مما لا يخفى فساده ، كيف وأن التعيين بعد ما ثبت القول بوجوب الإمامة لازم لا محالة ، فهو إما أن يستند إلى النص أو الاختيار ، والإجماع على التعيين لا مستند له ، ثم كيف يجب من قبل الشرع وصادرا من جهة السمع ، وهو إنما يثبت في حق من يدعيه ، دون من ينفيه ، هذا معتقد الشيعة وطوائف الإمامية.

وأما معتقد أهل الحق من أهل السنة وأصحاب الحديث فهو أن التعيين غير ثابت بالنص بل بالاختيار ؛ لأنه لو ورد نصا فهو إما أن يكون نصا قطعيا أو ظنيا : لا جائز أن يكون قطعيا ، إذ العادة تحيل الاتفاق من الأمة على تركه ، وإهمال النظر لموجبه ، لما سبق. وإن كان ظنيا بالنظر إلى المتن والسند ، أو بالنظر إلى أحدهما ، فادعاء العلم بالتنصيص إذ ذاك يكون محالا ، والاكتفاء بمحض الظن أيضا مما لا سبيل إليه هاهنا ، لما فيه من مخالفة الإجماع القاطع من جهة العادة.

كيف وأنه لم يرد في ذلك شيء من الأخبار ، ولا نقل شيء من الآثار على لسان الثقات ، المعتمد عليهم من الرواة ، لا متواترا ولا آحادا ، غير ما نقل على لسان الخصوم ، وهم فيه مدعون ، وفيما نقلوه متهمون ، لا سيما مع ما ظهر من كذبهم وفسقهم وبدعتهم ، وسلوكهم طرق الضلال ، والبهت بادعاء المحال ، ومخالفة العقول ، وسب أصحاب الرسول ، وغير ذلك مما اشتهاره يغني عن تعداده وإظهاره.

٣١٩

ومما يؤكد القول بانتفاء التنصيص إنكاره من أكثر المعتقدين لتفضيل علي ـ عليه‌السلام ـ على غيره كالزيدية ومعتزلة البغداديين وغيرهم ، مع زوال التهمة عنهم والشك في قولهم. وقوله ـ عليه‌السلام ـ حين خرج إلى غزوة تبوك لعلي ـ وقد استخلفه على قومه : «أنت مني كهارون من موسى» معناه : في الاستخلاف على عشيرتي وقومي كما كان هارون مستخلفا على قوم موسى من بعده ، وليس في ذلك دلالة على استخلافه بعد موته ، فإن ذلك مما لا يثبت لهارون المشبه به بعد موسى ؛ لأنه مات قبله في التيه ، وما ورد في مساق الحديث من قوله : «إلا أنه لا نبي بعدي» ليس المعنى به بعد موتي ، حتى يكون ما ذكرناه مخالفا لظاهر الحديث ، بل معناه : بعد نبوتي ، لا معي ولا بعدي. وذلك كما يقال : لا ناصر لك بعد فلان أي بعد نصرته لا معه ولا قبله ، وهو وإن افتقر إلى إضمار النبوة فما ذكروه أيضا لا بدّ فيه من إضمار الموت ، وليس إضماره بأولى من إضماره ، بل ما ذكرناه أولى ؛ نفيا لإبطال فائدة التخصيص بما بعد الموت ، فإنه كما قد عرف امتناع وجود نبي آخر بعد وفاته ، عرف امتناع وجوده في حياته ، والاستخلاف في حالة الحياة مما لا ينتهض دليلا على الاستخلاف بعد الموت ، وإلا كان ذلك دليلا في حق الولاة والقضاة ، وكل من تولى شيئا من أمر المسلمين في حالة حياة النبي عليه‌السلام ، وكل عذر ينقدح هاهنا فهو بعينه منقدح في قوله عليه‌السلام. ثم الذي يؤكد ما قلناه أنه لو صدرت هذه العبارة عن خليفة الوقت ، إلى واحد من المسلمين ، لم يكن ذلك عهدا له بالخلافة بعد الموت إجماعا ، وإن كان ذلك مما يدل على فضله وعلو رتبته ، وعلى هذا يخرج قوله عليه‌السلام : «أنت أخي وخليفتي على أهلي وقاضي ديني ومنجز

٣٢٠