غاية المرام في علم الكلام

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

غاية المرام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4311-5
الصفحات: ٣٣٤

عداتي» وكذا قوله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» ثم إن لفظ المولى قد يطلق بمعنى الحب ، وقد يطلق بمعنى المعتق وبمعنى المظهر والخلف وبمعنى المكان والمقر وبمعنى الناصر ومنه قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) [التحريم : ٤] ، أي ناصره ومنه قول الأخطل.

فأصبحت مولاها من الناس كلهم

وأحرى قريش أن يهاب ويحمدا

أي ناصرها ، فيحتمل أن يكون كلام النبي عليه‌السلام منزلا على هذا المعنى ، وهو أظهر في لفظ المولى.

ولا يمكن حمل لفظ المولى على الأولى فإن ذلك مما لا يرد في اللغة أصلا ، وقوله : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) [الحديد : ١٥] ليس المعنى به أولى بكم بل مستقركم ومكانكم ، ثم وإن كان ذلك محتملا ، فهو مما يمتنع حمل كلام النبي عليه ، لما فيه من مراغمة الإجماع ، ومخالفة اتفاق المسلمين ، وهدم قواعد الدين.

ثم إنه لو صح الاعتماد على مثل هذه الآثار في التولية لقد كان ذلك بطريق الأولى فيما تمسك به القائلون بالتنصيص على خلافة أبي بكر رضي الله عنه فإنها مع ، ما واتاها من إجماع المسلمين ، أشهر وأولى. وذلك مثل قوله : «يأبى الله إلا أبا بكر» ، وقوله : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (١) ، وقوله : «لا ينبغي لقوم يكون فيهم أبو بكر أن

__________________

(١) حديث إسناده ضعيف : رواه البيهقي في الكبرى (٨ / ١٥٣) ، والطبراني في الأوسط (٤ / ١٤٠) ، (٥ / ٣٤٥) ، وفي مسند الشاميين (٢ / ٥٧) وعبد الله بن أحمد في السنة (٢ / ٥٧٩) ، (١٣٦٦) ، والترمذي (١٠ / ٢٠٩) تحفة الأحوذي ، وأبو نعيم في الحلية (٩ / ١٠٩ ، ١٨٥) ، وفي معرفة الصحابة بتحقيقنا أول طبعة دار الوطن الرياض.

٣٢١

يقدم عليه غيره» ، وقال : «ايتوني بدواة وكتف أكتب إلى أبي بكر كتابا وهو لا يختلف عليه اثنان» ، وقوله : «إن تولوها أبا بكر تجدوه ضعيفا في بدنه قويا في دينه» ، وذلك مع ما قد ورد في حقه من الأخبار الدالة على فضله ، والآثار المشعرة بعلو رتبته ، مثل قوله عليه‌السلام «خير أمتي أبو بكر ثم عمر» (١) وقوله : «من أفضل من أبي بكر؟ زوجني ابنته ، وجهزني بماله ، وجاهد معي في ساعة الخوف» (٢) ، «وما روى عن علي كرم الله وجهه ـ أنه قال : خير الناس بعد النبي أبو بكر ثم عمر ثم الله أعلم» (٣) وهذه النصوص كلها إن لم يتخيل كونها راجحة فلا أقل من أن تكون معارضة ومساوية ، ومع التعارض يجب التساقط والعمل بإجماع المسلمين ، والاستناد إلى اتفاق المجتهدين.

وكون النبي عليه‌السلام لم ينص على التعيين ، مما لا يشعر بعدم علمه بحاجة المسلمين إلى من يخلفه بعده ، ويقوم مقامه ، في إلزام الناس بما يستمر به أمر دينهم ، وأمر دنياهم ، ومع علمه فترك التنصيص عليه إنما يكون محذورا ، أن لو كان به مكلفا ومأمورا ، وإلا فكم من حكم في واقعة تدعو حاجة الناس إلى بيانه ، مات النبي عليه‌السلام ولم يبينه ، من الفرائض والمعاملات والمناكحات وغير ذلك من أحكام العبادات ، فإذا ترك التنصيص من النبي عليه‌السلام ، مما لا يستحيل شرعا ولا عقلا

__________________

(١) ضعيف : أورده بنحوه الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ٥٣) ، وقال : فيه الفضل بن مختار وهو ضعيف.

(٢) ضعيف : رواه ابن أبي عاصم في السنة (٢ / ٢٥٧٦) وهو في مجمع الزوائد (٩ / ٤٦) نحو ، وفي تحفة الصديق (١ / ٦٧) ، والاعتقاد (١ / ٣٤٢) ، وفي إسناده : أرطاة بن الحجاج أبي حاتم ، وقد ضعفوه.

(٣) تقدم بنحوه.

٣٢٢

ولا عادة ، بخلاف اتفاق الأمة على الخطأ ، كما بيناه.

وليس التنصيص على من عقدت له الإمامة بالاختيار شرطا في طاعته ـ فإن طاعته بعد ذلك إنما صارت واجبة بالإجماع ، المستند إلى الكتاب ، أو قول الرسول ، لا إلى نفس الاختيار له أولا ، فإذا اشتراط استناد الاختيار إلى التنصيص إنما يلزم أن لو كان وجوب الطاعة مستندا إليه ، ومعتمدا عليه ، وليس كذلك. وبهذا يندفع ما ذكروه من الخيال الآخر أيضا ، كيف وأنه لو قدر استناد الطاعة إلى الاختيار ، فامتناعه واستبعاده إنما يستقيم أن لو كان ما يثبت بالاختيار لا يتم الاختيار إلا به ، ولا يجب إلا بالنظر إليه ؛ لما فيه من الدور الممتنع ، أما إذا كان ما يجب طاعة الإمام فيه ، هو غير ما يتوقف وجوب الطاعة عليه ، فلا امتناع ولا استبعاد ، وقد تحقق بما قررناه إبطال النص وإثبات الاختيار.

وإذا ثبت أن مستند التعيين ليس إلا الاختيار ، فذلك مما لا يفتقر إلى إجماع أهل الحل والعقد ؛ فإن ذلك ما لم يقم عليه دليل عقلي ولا سمعي نقلي ، بل الواحد من أهل الحل والعقد ـ والاثنان ـ كاف في الانعقاد ، ووجوب الطاعة والانقياد ؛ لعلمنا بأن السلف من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ، مع ما كانوا عليه من الصلابة في الدين ، والمحافظة على قواعد المسلمين ـ اكتفوا في عقد الإمامة بالواحد والاثنين من أهل الحل والعقد كعقد عمر لأبي بكر وعبد الرحمن بن عوف لعثمان ، ولم يشترطوا إجماع من في المدينة من أهل الحل والعقد ، فضلا عن إجماع الأمصار واتفاق من في سائر الأقطار ، وكانوا على ذلك من المتفقين ، وله من المتبعين ، من غير مخالفة ولا نكير ، وعلى ذلك انطوت الأعصار في عقد الإمامة في كل حين ، وعليه اتفاق كافة المسلمين.

٣٢٣

قال بعض الأصحاب : ويجب أن يكون ذلك بمحضر من الشهود وبينة عادلة ؛ كفا للخصام ، ووقوع الخلاف بين الأنام ، وادعاء مدع عقد الإمامة له سرا ، متقدما على عقد من كان له جهرا عيانا ، وهو لا محالة واقع في محل الاجتهاد.

فعلى هذا لو اتفق عقد الإمامة لأكثر من واحد ، في بلدان متعددة ، أو في بلد واحد ، من غير أن يشعر كل فريق من العاقدين بعقد الفريق الآخر ، فالواجب أن نتصفح العقود ، فما كان منها متقدما ، وجب إقراره ، وأمر الباقون بالنزول عن الأمر ، فإن أجابوا ، وإلا قوتلوا ، وقتلوا ، وكانوا خوارج بغاة. وإن لم يعلم السابق وجب إبطال الجميع ، واستؤنف عقد لمن يقع عليه الاختيار ، كما إذا زوج أحد الوليين موليته من شخص ، وجهل العقد السابق منهما.

ولا خلاف في أنه لا يجوز عقد الإمامة لشخصين ، في صقع واحد ، متضايق الأقطار ، ومتقارب الأمصار ؛ لما فيه من الضراء ، ووقوع الفتن والشحناء ، وأما إن تباعدت الأقطار وتناءت الديار ، بحيث لا يستقل إمام واحد بتدبيرها والنظر في أحوالها فقد قال بعض الأصحاب : إن إقامة إمام آخر في محل الاجتهاد.

وليس الاختيار لعقد الإمامة جائزا على التشهي والإيثار ، بل لا بدّ وأن يكون للمعقود له صفات وخصوصيات ، وهي أن يكون من العلم بمنزلة قاض من قضاة المسلمين وأن يكون له من قوة البأس وشدة المراس ما لا يهوله إقامة الحدود ، وضرب الرقاب ، وإنصاف المظلوم من الظالم ، وأن يكون بصيرا بأمور الحرب ، وترتيب الجيوش ، وحفظ الثغور ، ذكرا حرا مسلما ، عدلا ثقة فيما يقول ؛ لاتفاق الأمة على ذلك ومحافظة على

٣٢٤

ما لأجله نصب الإمام.

ومما دل السمع على اشتراطه أن يكون قرشيا ، وذلك نحو قوله ـ عليه‌السلام ـ «الأئمة من قريش» (١) وقوله : «قدموا قريشا ولا تقدموا عليها» (٢) وقوله : «إنما الناس تبع لقريش ؛ فبر الناس تابع لبرهم وفاجرهم تابع لفاجرهم» (٣) وأيضا فإن الأئمة من السلف مطبقون على أن الإمامة لا تصلح إلا لقريش ، وتلقيهم لهذه الأخبار بالقبول ، واحتجاج بعضهم على بعض بها ، وقول عمر رضى الله عنه عن سالم مولى أبي حذيفة : «لو كان حيا لما تخالجني فيه شك» فإنما كان لأنه قد قيل إنه كان ينتسب إلى قريش ، ولعمري إن مثل هذا الشرط واقع في محل الاجتهاد.

وقد زادت الشيعة شروطا أخر : وهو أن يكون من بني هاشم ، معصوما ، عالما بالغيب ؛ لأنا نأمن بمبايعتهم من النيران وغضب الرحمن ، وهذه الشروط مما لم يدل عليها عقل ولا نقل ، ثم إن اشتراط الهاشمية مما يخالف ظاهر النص ، وإجماع الأمة على عقد الإمامة لأبي بكر وعمر ، وبه يبطل اشتراط العصمة والعلم بالغيب أيضا ، ثم ولو اشترطت العصمة في الإمام لأمن متبعيه لوجب اشتراطها في حق القضاة والولاة أيضا ؛

__________________

(١) صحيح : رواه البخاري ومسلم بنحوه ، ورواه أبو نعيم في الحلية (٣ / ١٧) (٥ / ٨) والحاكم في المستدرك (٤ / ٨٥) ، والبيهقي في الكبرى (٣ / ١٢١) ، والنسائي في الكبرى (٥٩٤١). وانظر : الأحكام للآمدي (٢ / ٧٧ ، ٢٢٤ ، ٢٣١).

(٢) حديث حسن : رواه الشافعي في مسنده (١ / ٢٧٨) ، وابن أبي عاصم في السنة (٢ / ٦٣٧) ، وأبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (٢ / ٥٠٨) ، والبيهقي في الصغرى (١ / ٣١٤).

(٣) صحيح : رواه أحمد في المسند (١ / ٥) ، والطبري في التاريخ (٢ / ٢٣٤) ، وابن أبي عاصم في السنة (٢ / ٦٣٦) ، والبزار في مسنده (٢ / ١٤٩).

٣٢٥

فإنه ليس يلي ببيعته أشياء أكثر مما يلي خلفاؤه وأولياؤه.

ثم كيف يدعي اشتراط العصمة في الإمامة ، مع الاتفاق على عقد الإمامة للخلفاء الراشدين واعترافهم بأنهم ليسوا بمعصومين؟ حتى إن كل واحد منهم قد كان يرى الرأي ثم يرجع فيه ، ويطلب الآثار والأخبار كطلب آحاد الناس ، وبعضهم يخالفه البعض ، وذلك كما نقل عن علي ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : في حق أمهات الأولاد : «اتفق رأيي ورأي عمر على أن لا يبعن ، والآن فقد رأيت بيعهن» وبالضرورة عند اختلافهما لا بدّ من وقوع الخطأ في حق أحدهما ، ويخرج عن أن يكون معصوما.

بل وفي ذلك دلالة على انتفاء العصمة عن علي أيضا ، فإنه لا بدّ وأن يكون مصيبا في إحدى الحالتين مخطئا في الأخرى ، ومع تطرق الخطأ إليه لا يكون معصوما.

فإذا قد بان أن ما ذكروه ليس بمتعين في الشرع ، ولا وارد في السمع ، بل مهما ظهر بالإشارات والعلامات ، والبيان من الأفعال والأقوال ، ما يدل ظاهرا على استجماع ما شرطناه في شخص ما جاز عقد الإمامة له ؛ لما أشرنا إليه ونبهنا عليه من قبل ، ويكون حكمه في معرفة ذلك منه حكم القضاة والولاة ، وكل من يتولى أمرا من أمور المسلمين.

ولهم أن يخلعوه ، وإن شرط غير ذلك ، إذا وجد منه ما يوجب الاختلال في أمور الدين ، وأحوال المسلمين ، وما لأجله يقام الإمام ، وإن لم يقدروا على خلعه وإقامة غيره ، لقوة شوكته وعظم تأهبه ، وكان ذلك مما يفضي إلى فساد العالم وهلاك النفوس ، وكانت المفسدة في مقابله آكد من المفسدة اللازمة من طاعته ، أمكن ارتكاب أدنى

٣٢٦

المحذورين دفعا لأعلاهما.

وإن كان ما طرأ عليه هو الكفر بعد الإسلام ، والردة بعد الإيمان ، فحالهم في طاعته والانقياد إلى متابعته لا تتقاصر عن حال المكره على الردة أو القتل ، بالنسبة إلى المكره.

وعلى هذا إن لم يوجد في العالم مستجمع لجميع شروط الإمامة ، بل من فقد في حقه شيء كالعلم أو العدالة ونحوها ، فالواجب أن ينظر إلى المفسدة اللازمة من إقامته وعدم إقامته ، ويدفع أعلاهما بارتكاب أدناهما ، إذ الضرورات تبيح المحظورات ، وذلك كما في أكل الميتة بالنسبة إلى حالة الاضطرار ، ونحوه. هذا تمام الطرف الأول.

٣٢٧

الطرف الثاني

في معتقد أهل السنة في الصحابة وإمامة الخلفاء الراشدين

والأئمة المهديين (١)

ولا خلاف فيما بين أهل الحق أن أبا بكر كان إماما حقا ، وذلك باتفاق المسلمين على إقامته ، واجتماع أهل الحق والعقد على إمامته ، واتباع الناس له في أيام حياته ، وموافقة الصحابة له في غزواته ، ونصبه للولاة والحكام ، وتنفيذ أوامره ونواهيه في البلدان. وذلك مما لا قبل بمدافعته ، ولا سبيل إلى مجاحدته ، وأن من تخلف عن بيعته في مبدأ الأمر مثل علي وغيره لم يكن عن شقاق ونفاق ، وإنما كان لعذر وطروء أمر ، وإلا فلو كان ذلك للشقاق ، والخروج عن الوفاق ، لأمر يكرهونه ولا يرتضونه ، لقد كان ذلك مما يسارعون إلى إنكاره ، ويبالغون في إظهاره ، لا سيما في حق الصحابة الذين شاهدوا التنزيل ، وعرفوا التأويل ، وكانوا مع ما هم عليه من قوة اليقين ، والصلابة في الدين ، لا يراقبون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لومة اللائمين ، ولا خوف المخوفين ، ولو كان ذلك مما ظهر ، لقد كانت العادة مما تحيل تطابق الأمة على ترك نقله ، مع توفر الدواعي عليه ، وصرف الهمم إليه ، واتفاق الأمة على ذلك مما يدل ضرورة على كونه أهلا للإمامة ، ومستجمعا لشرائطها أيضا.

ثم كيف ينكر ذلك مع ما عرف من نسبه ، وعدالته وعلمه ، وشجاعته ، وتصرفه في البلاد ، وإصلاح نظام العباد ، بالآثار الدالة عليها ، والعلامات الواضحة المشيرة إليها ، على ما تواترت به الأخبار ، وتتالت به الآثار ، على

__________________

(١) انظر : منهاج السنة لابن تيمية (٢ / ١٧٥) ، والفرقان له (ص ٦٨) ، العواصم من القواصم لابن العربي (ص ٣٧ ، ٤٨) ، الإبانة للأشعري (ص ٩٢) ، وأصول الدين للبغدادي (ص ٢٨١).

٣٢٨

ألسنة الثقات الأخيار ، وغير ذلك مما يكل عنه اللسان ، ويتقاصر عن تسطيره البيان ، فوجب الاكتفاء بشهرتها عن ذكرها.

ولكن قد يشكك بعض أهل الضلال ، ومن لم يثبت له قدم راسخ في الاستنباط والاستدلال ، باستقالة أبي بكر من الإمامة وبقوله : «وليتكم ولست بخيركم» وقول عمر : «إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه» هذا وأمثاله مما يتمسك به من لا خلاق له من الروافض والإمامية ، الخارجين عن ربقة الدين.

وليس ذلك عند من له أدنى حظ من التفطن مما يؤثر من التفطن مما يؤثر خيالا ولا إشكالا ، فإن الاستقالة لا تدل على عدم الاستحقاق ولا سيما مع اتفاق الأمة على كونه مستحقا ، بل لعل ذلك لم يكن إلا للفرار من حمل أعباء أمور المسلمين ، والخوف من شدة التكليف والتقليد لتدبير أمور الدين ، أو الامتحان لتعرف الموافق من المخالف ، أو غير ذلك من الاحتمالات ، ومع ذلك فلا ينهض الاقتيال شبهة في درء الاستحقاق وكذلك قوله : «وليتكم ولست بخيركم» فإنه يحتمل أنه أراد التولية في الصلاة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن المعلوم أنه لم يكن إذ ذاك أخير من قوم فيهم الرسول ، ويكون فائدة ذكر ذلك الاحتجاج على جواز توليته بعد الرسول ، بطريق التنبيه بالأدنى على الأعلى ، ويحتمل أنه أراد بقوله : «ولست بخيركم» أي في العشيرة والقبيلة ؛ إذ الهاشمي أفضل من القرشي ، وإن لم يكن شرطا في الإمامة ، ويحتمل أنه أراد ذلك قبل التولية ، وفي الجملة ليس يلزم من نفي الأفضلية أن يكون مفضولا ، بل من الجائز أن يكون مساويا ، ومع ذلك فعقد الإمامة له يكون جائزا بالاتفاق.

وقول عمر رضي الله عنه مع ما كان يحتج على الناس بإمامته ، ويدعوهم إلى طاعته ، وتمسكه في ذلك بعهد أبي بكر وولايته لا يجوز أن يحمل على أن

٣٢٩

خلافته كانت باطلة ، وإلا فإن ذلك مما يوجب الخبط في قوله والهجر فيه ، ولا يخفى على أحد ما كان عمر عليه من الأمانة والديانة ، والعقل الكامل والرزانة ، فمعنى قوله : «كانت فلتة» أي من غير مشورة ، وقوله : «وقى الله شرها» أي شر الخلاف فيها ، وقوله : «فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه» ، أي إلى مثل مخالفة الأنصار ، في نصبهم إمامين ، وقولهم : «منا أمير ومنكم أمير» ومع هذه الاحتمالات وانقداح هذه الخيالات ، يخرج ما ذكروه عن أن يكون قادحا ، ويلزم القول بإمامته ، والاعتراف بصحة توليته ، على ما وقع عليه اتفاق الأمة ، ومعتقد أهل السنة.

وأما باقي الخلفاء الراشدين ، كعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين فالسبيل إلى إثبات إمامتهم ، وصحة توليتهم ، واستجماعهم لشرائط الإمامة ، كإثبات ذلك في حق أبي بكر رضي الله عنه وصحة عهد أبي بكر إلى عمر ، والشورى وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان ، فإنها تستند إلى الإجماع أيضا ، وكذا الحكم على قتلة عثمان ومقاتلي علي بكونهم بغاة ، فإن أسباب حل القتل وجواز قتال الإمام محصورة ، ولم يوجد شيء منها في حق عثمان ولا علي ـ عليه‌السلام ـ.

ومع هذا كله فالواجب أن يحسن الظن بأصحاب الرسول ، وأن يكف عما جرى بينهم ، وألا يحمل شيء مما فعلوه أو قالوه إلا على وجه الخير وحسن القصد ، وسلامة الاعتقاد ، وأنه مستند إلى الاجتهاد ، لما استقر في الأسماع ، وتمهد في الطباع ، ووردت به الأخبار والآثار ، متواترة وآحاد ، من غرر الكتاب والسنة ، واتفاق الأمة على مدحهم ، والثناء عليهم بفضلهم ، مما هو في اشتهاره يغني عن إظهاره ، وأن أكثر ما ورد في حقهم من الأفعال الشنيعة ، والأمور الخارجة عن حكم الشريعة ، فلا أصل لها إلا تخرصات أهل الأهواء ، وتصنعات الأعداء ، كالروافض والخوارج وغيرهم من السفساف ،

٣٣٠

ومن لا خلاق له من الأطراف ، وما ثبت نقله ولا سبيل إلى الطعن فيه ، فما كان يسوغ في الاحتمال ، والتأويل فيه بحال ، فالواجب أن يحمل على أحسن الاحتمالات ، وأن ينزل على أشرف التنزيلات ، وإلا فالواجب الكف عنه ، والانقباض منه ، وأن يعتقد أن له تأويلا لم يوصل إليه ، ولم يوقف عليه ؛ إذ هو الأليق بأرباب الديانات ، وأصحاب المروءات ، وأسلم من الوقوع في الزلات ، ولكون سكوت الإنسان عما لا يلزمه الكلام فيه أرجى له من أن يخوض فيما لا يعنيه ، لا سيما إذا احتمل ذلك الزلل والوقوع بالظن والرجم بالغيب في الخطل.

ويجب ـ مع ذلك ـ أن يعتقد أن أبا بكر أفضل من عمر ، وأن عمر أفضل من عثمان ، وأن عثمان أفضل من علي ، وأن الأربعة أفضل من باقي العشرة ، والعشرة أفضل ممن عداهم من أهل عصرهم ، وأن أهل ذلك العصر أفضل ممن بعدهم ، وكذلك من بعدهم أفضل ممن يليهم ، وأن مستند ذلك ليس إلا الظن ، وما ورد في ذلك من الآثار ، وأخبار الآحاد ، والميل من الأمة إلى ذلك ، بطريق الاجتهاد.

وفيما ذكرناه غنية للمبتدئين ، وشفاء للمنتهين ، عند من نظر بعين الاعتبار ، وله قدم راسخ في الاختبار.

والمسئول من بارئ النسم ، ومعيد الرمم ، أن ينيلنا فائدته ، ويعقبنا عائدته ، حين الفقر والفاقة ، وضعف الطاقة ، في يوم القصاص ، حيث لات حين مناص ، وأن يصلي على صفوته من الرسل محمد وآله وأصحابه ، إنه أرجى مسئول وأعطف مأمول.

والحمد لله رب العالمين ، وبه نستعين ، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.

وكان الفراغ من نسخه الخامس عشر من شهر رجب سنة ثلاث وستمائة وذلك بثغر الإسكندرية بالمدرسة العادلية ، والسلام وحسبنا الله ونعم الوكيل.

٣٣١
٣٣٢

فهرس الموضوعات

الموضوع

الرقم

المقدمة.......................................................................... ٥

ترجمة موجزة للمؤلف.............................................................. ٦

كتاب فيه غاية المرام في علم الكلام............................................... ١١

القانون الأول : في إثبات الواجب بذاته........................................... ١٥

القانون الثاني : في إثبات الصفات وإبطال تعطيل من ذهب إلى نفيها من أهل المقالات.. ٢٩

القاعدة الأولى : في مسألة إثبات الأحوال.......................................... ٢٩

القاعدة الثانية : في إثبات الصفات النفسية........................................ ٣٩

الطرف الأول في إثبات صفة الإرادة............................................... ٥٣

الطرف الثاني في إثبات صفة العلم................................................ ٧٣

الطرف الثالث في إثبات صفة القدرة.............................................. ٨٢

الطرف الرابع في إثبات صفة الكلام............................................... ٨٦

الطرف الخامس في إثبات الإدراكات............................................. ١١٤

القانون الثالث : في وحدانية الباري ـ تعالى ـ رأي الفلاسفة الإلهيين................... ١٣٦

القانون الرابع : في إبطال التشبيه وما يجوز عليه ـ تعالى ـ وما لا يجوز ، ويشتمل على قاعدتين ١٤٢

القاعدة الأولى : في بيان ما يجوز على الله تعالى................................... ١٤٢

القاعدة الثانية : في إبطال التشبيه وبيان ما لا يجوز على الله تعالى................... ١٥٨

القانون الخامس : في أفعال واجب الوجود ويشتمل على ثلاث قواعد................ ١٧٧

٣٣٣

القاعدة الأولى : في أنه لا خالق إلا الله تعالى..................................... ١٧٧

القاعدة الثانية : في نفي الغرض والمقصود عن أفعال واجب الوجود.................. ١٩٦

القاعدة الثالثة : في حدوث المخلوقات وقطع تسلسل الكائنات..................... ٢١٥

وفيها طرفان الطرف الأول : إبطال القول بلزوم القدم.............................. ٢١٧

الطرف الثاني : إثبات الحدوث بعد العدم......................................... ٢٢٥

القانون السادس : في المعاد وبيان ما يتعلق بحشر الأنفس والأجساد.................. ٢٤٩

القانون السابع : في النبوات والأفعال الخارقة للعادات.............................. ٢٧٢

تمهيد في النبوات : ـ........................................................... ٢٧٢

الطرف الأول : في بيان الجواز العقلي............................................ ٢٧٤

الطرف الثاني : في بيان وقوعها بالفعل وإثبات معرفتها بالنقل....................... ٢٩٢

القانون الثامن : في الإمامة..................................................... ٣٠٨

تمهيد في الإمامة.............................................................. ٣٠٩

الطرف الأول : في وجوب الإمامة وما يتعلق بها................................... ٣٠٩

الطرف الثاني : في معتقد أهل السنة في الصحابة وإمامة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ٣٢٨

٣٣٤