غاية المرام في علم الكلام

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

غاية المرام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4311-5
الصفحات: ٣٣٤

خلق الإدراك في مثل تلك الحالة أيضا ، وإن نظر في ذلك إلى جهة الجواز العقلي ، فهو أيضا ما نقوله في الإدراك ، فإنه كما يجوز أن لا يخلق له الإدراك عقلا ، يجوز أن لا يدركه عقلا ، كيف وأن هذا لازم على الخصم في العلم أيضا ، فما هو عذره في العلم هو عذرنا في الإدراك.

وأما تفسير الإدراك بنفي الآفة عمن له الحياة فمما لا يستقيم ، إذ قد بينا أن الإنسان يجد من نفسه تفرقة بين الإدراكات ، وذلك لا بدّ وأن يكون بأمر زائد على الحياة وانتفاء الآفة ، وإلا لما وقع الفرق ، ثم كيف يصح أن يقال : السميع والبصير هو الذي لا آفة به ويقال لمن يسمع ويبصر وهو مئوف ناقص.

فإن قيل : ليس السميع هو من سلبت عنه الآفة مطلقا ، بل من سلبت عنه الآفة في محل السمع ، وكذا في كل إدراك على حسبه ، فهو متهافت شنيع ؛ فإن من قال : السمع هو نفي الآفة في محل السمع فكأنه قال : السميع هو من له السمع في محل السمع ، ولو قال : السميع هو من له السمع لقد كان ذلك كافيا عن ذكر المحل ، وإذا كان كافيا فكأنه قال : السميع هو الذي لا آفة به ، وإذ ذاك فرجع الكلام الأول بعينه. ثم إن العقل السليم يقضي بوهاء قول من فسر السمع والبصر بنفي الآفة ، دون العلم والقدرة وغيرها من الصفات. مع أنه لو سئل عن الفرق لم يجد عنه مخلصا ، بل كل ما تخيل من منع تفسير العلم والقدرة بانتفاء الآفة فهو بعينه في الإدراك حجة لنا.

وأما القول بأن ذلك يفضي إلى قدم المبصرات والمسموعات : فمن عرف كيفية تعلق العلم بها في القدم كما أشرنا إليه ، لم يخف عليه دفع هذا الإشكال هاهنا ، فإن تعلق السمع والبصر بمتعلقاتهما الحادثة لا يتقاصر عن تعلق العلم بمتعلقاته الحادثة ، فما به دفع الإشكال ثم به دفعه هاهنا.

وأما اشتراط البنية المخصوصة فمما لا سبيل إليه ، إذ القائل به معترف أن الإدراك قائم بجزء واحد من جملة المدرك ، وعند ذلك فلا يخفى أنه لا أثر

١٢١

لاتصال محله بما جاوره ، إذ الأجسام لا يؤثر بعضها في بعض فيما يرجع إلى ما يقوم بها من الأعراض ، بل الجوهر الفرد يكون على صفته عند المجاورة به لغيره في حال انفراده ، وإذا جاز قيام الإدراك بجزء واحد في حال انفراده واتصاله لزم أن لا تكون البنية المخصوصة شرطا.

ولا يلزم على ما ذكرناه الاجتماع ، وسائر الأعراض الإضافية ، حيث إنها تقوم بالجوهر عند إضافته وضمه إلى غيره ، ولا تقوم به عند انفراده ، لأنا نقول : الكون القائم بكل جرم في حالة الاجتماع هو بعينه قائم في حالة الافتراق مطلقا ، والمختلف إنما هو الأسماء ، فإن ما هو قائم عند ضميمة غيره إليه يسمى اجتماعا ، وبعد الافتراق لا يسمى كذلك. وإن سلم أنه لا يبقى لكنه غير لازم ، وذلك أن الصفات العرضية منها ما يقتضي لذاته الضم والاجتماع بين المحال كبعض الأمور الإضافية ، ومنها ما لا يقتضي ذلك كما في السواد والبياض ونحوه مما ليس بصفة إضافية. ولا يلزم من كون الصفات الإضافية على ما ذكر أن يكون غيرها مثلها ، ولا يخفى أن الإدراك ليس من ذلك القبيل المفتقر إلى الجمع والضم في الأجرام.

ومما يدل على أن الإدراك غير مفتقر إلى البنية ـ ويخص البصريين القائلين بكون الباري مدركا ـ أن يقال : لو كانت البنية شرطا لوجب طردها شاهدا وغائبا ، كما ذهبوا إليه ، واعتمدوا عليه ، في الاشتراط ، ولو كان كذلك لوجب كون الباري ذا بنية مخصوصة ، لضرورة الاعتراف بكونه مدركا ، وإذا ذاك فينقلب الإلزام ، وتتساوى فيه الأقدام.

فإن قيل : اشتراط البنية إنما هو في حق المدرك بإدراك فلا يلزم البنية في حقه تعالي ، فانظر إلى هؤلاء كيف ساقهم الغي إلى كشف عوراتهم ، وإبداء زلاتهم ، ومناقضة أصولهم ، ومخالفة رسومهم ، وتحملهم بالجهالة فيما لا يعلمون ، وإصرارهم على الباطل فيما يقولون ، حيث إنهم جعلوا الحياة شرطا في الشاهد ، لكون العالم عالما بعلم ، ثم طردوا ذلك في حق الغائب ، حتى قالوا

١٢٢

إن الحياة شرط كونه عالما ، وإن لم يكن عالما بعلم ، ولم يجعلوا البنية شرطا لكون المدرك مدركا ، متى لم يكن مدركا بإدراك ، لضرورة كونها شرطا لكون المدرك مدركا بإدراك. ولم يعلموا أنهم في ذلك متحكمون ، وبدعواه متجاهلون ، وأنهم لو سئلوا عن الفرق لم يجدوا إليه سبيلا.

وأما القول بأن ذلك يفضي إلى الالتباس بين الإدراكات ، فغير مستقيم ، وذلك من جهة أن الالتباس فيها لا يكون بسبب اتحاد محلها ، وإلا لما تصور قيام عرضين متغايرين بمحل واحد ، إلا وهما متشابهان. ولا يخفي أن قيام الطول مثلا والسواد وغيره من الكيفيات بمحل واحد جائز ، وإن قرر أنه لاشتباه ، فعلى هذا ليس الالتباس بين الأشياء إلا لما يقع بينها من التشابه في أنفسها ، ولا يخفى انتفاء التشابه بين الإدراكات في أنفسها ، وأن الحاصل من كل واحد غير ما حصل من الآخر.

وعلى ما أشرنا إليه من التحقيق يتبين أن ما ذكروه في السمع والبصر ، وغيرهما من الإدراكات لم يخل إما أن يكون إدراكها لشيء بخروج شيء منها إليه ، أو باتصال شيء منه بها. فإن قيل بالأول : فالخارج إما جوهر وإما عرض : لا جائز أن يكون جوهرا وإلا فهو إما متصل أو منفصل : لا جائز أن يكون متصلا وإلا لزم أن يكون قد خرج من الجرم الصغير جرم ملأ نصف كرة العالم واتصل بالثوابت وهو متعذر. وإن كان منفصلا فهو باطل أيضا ، وإلا لأحس به الخارج منه ، وللزم ألا يدرك المدرك بسبب أن ما به الإدراك خارج عنه ، وأن لا يختلف الشيء المدرك أو المسموع بسبب القرب والبعد ، لكون ما به الإدراك قد أحاط بهما.

هذا إن كان جوهرا ، وإن كان عرضا فهو ممتنع أيضا ، إذ العرض لا تحرك له بنفسه ، وإن تحرك بمحله أوجب المحالات السابق ذكرها. فإن قيل : إن ما بين البصر والمبصر من الهواء المشف يستحيل آلة درّاكة. قلنا : فيلزم أن تكون استحالة عند اجتماع المبصرين أشد ، وإذ ذاك فيجب أن يكون إدراك

١٢٣

الواحد للشيء عند الاجتماع أشد من حالات الانفراد لكون الاستحالة في الآلة الدراكة أشد ، وللزم أن يضطرب الشيء المبصر عند تشويش الجو واضطراب الرياح بسبب تجدد الآلة الداركة وهو ممتنع ، هذا إن قيل بخروج شيء من البصر إلى المبصر.

وإن قيل : إن شيئا من المبصر يتصل بالبصر بحيث ينطبع فيه ويدركه ، فإما أن يكون ذلك على جهة الانتقال والانفصال أو على الانطباع والتمثيل من غير انفصال شيء من المبصر ، وعلى كلا التقديرين فهو باطل ، وإلا للزم أن لا يدرك الشيء المرئي ، إلا على نحو ما انطبع منه في البصر ، من غير زيادة ولا نقصان. ولو كان كذلك لما رؤي الحمل أو الجبل على هيئته ، بل على نحو ما ينطبع منه في البصر وهو هوس. ثم إنه لا جائز أن يكون المنطبع منتقلا وإلا فهو إما جوهر وإما عرض لا جائز أن يكون جوهرا لما أسلفناه ، وأيضا فإنه يلزم منه أن تحترق العين عند كون المرئي نارا وهو ممتنع. وإن كان عرضا فهو أيضا باطل لما سلف ، فتبين من هذا أن الإدراك ليس إلا معنى يخلقه الله ـ تعالى ـ للمدرك ، مع قطع النظر عن الانتقال ، والانطباع في الآلات والأدوات. وحيث لم يكن للعين أو اليد وغير ذلك من الجوارح قوة الإدراك فليس لعدم صلاحيته للإدراك ، بل لأن الله ـ تعالى ـ لم يخلق له الإدراك. وهذا الأصل عظيم ، مطرد عند المحققين من أهل الحق ، في سائر الإدراكات.

وأما ما أشير إليه من النقض بسائر الإدراكات ، فقد سبق وجه الانفصال عنه ، فلا حاجة إلى إعادته.

وعند هذا فيجب أن يعلم أن المستند في إثبات صفة الحياة ما هو المستند في الإدراكات ، وباقي الصفات.

١٢٤

خاتمة جامعة لهذا القانون (١)

إن قيل : فهل للباري ـ تعالى ـ أخص وصف يتميز به عن المخلوقات؟

وهل يجوز أن يكون له صفة زائدة على ما أثبتموه من الصفات؟

وهل الصفة نفس الوصف أم غيره؟

وإن كانت غيره فهل هي عين الموصوف أم غيره أم لا هي هو ولا هي غيره؟

قلنا : أما السؤال الأول :

فقد قال بعض الأصحاب فيه : إنه لا بدّ من صفة وجودية ، إذ التمييز بين الذوات غير حاصل بما يتخيل من الأمور السلبية النفييّة ، كما في قولنا : إنه لا حد له ولا نهاية ، وليس بجسم ولا عرض ونحو ذلك.

لكن هل يجوز أن يدرك أم لا؟ اختلفوا ، فقال بعضهم : إن استدعاء التمييز بالوصف الأخص إنما يكون عند الاشتراك بين الذوات ، والباري ـ تعالى ـ مباين بذاته لجميع مخلوقاته ، وأنه ليس بمجانس لها ، وإلا للزم أن يشاركها في كونها جواهر وأعراضا وكل ذلك محال كما سيأتي ، وهو الأغوص.

وأما السؤال الثاني :

فمما اختلف فيه أيضا ، فقال بعضهم : لا يجوز أن يكون له صفة زائدة على ما أثبتناه من جهة أن الدليل الذي دل عليها لم يدل على غيرها ، وأيضا فإنه لو جاز أن يكون له صفة أخرى لم يخل : إما أن تكون صفة كمال أو نقصان ، فإن كانت صفة كمال فعدمها في الحال نقصان ، وإن كانت صفة نقصان فثبوتها له ممتنع ، وهذا فيه نظر ، فإن غاية ما يلزم من انتفاء دلالة الدليل

__________________

(١) انظر في ذلك : معارج القدس ص ١٥٧ ، والفرقان لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص ٩٦) ، وشرح الطحاوية (ص ١٥٠) ، والمحصل للرازي (ص ١٣٦) ، واللمع (ص ٦٢) ، ومقالات الإسلاميين للأشعري (١ / ٢٢٩).

١٢٥

على الوصف انتفاء العلم بوجوده وذلك مما لا يلازمه القول بنفي تجويزه ، وليس يلزم من كونه جائزا أن يكون معدوما ، حتى يقال إن عدمه يكون نقصا. نعم لو قيل : إن له صفة جائزة له ، وليست في الحال ثابتة له ، لقد كان ذلك ممتنعا.

فإذا الأقرب ما ذكره بعض الأصحاب : وهو أن ذلك جائز عقلا ، وان لم نقض بثبوته ، لعدم العلم بوقوعه عقلا ، وانتفاء الإطلاق به شرعا ، وذلك مما لا يوجب لواجب الوجود في ذاته نقصا ، إلا أن يكون ما هو جائز له غير ثابت.

ومن الأصحاب من زاد على هذا ، وأثبت العلم بوجود صفات زائدة على ما أثبتناه وذلك مثل البقاء ، والوجه ، والعينين ، واليدين ، ومن الحشوية من زاد على ذلك حتى أثبت له نورا ، وجنبا ، وقدما ، والاستواء على العرش ، والنزول إلى سماء الدنيا ، وعند التحقيق فهذه الصفات مما لا دليل على ثبوتها.

أما البقاء : فليس زائدا على معنى «استمرار الوجود» فمعنى قولنا : إن الشيء باق أنه مستمر الوجود ، وإنه ليس بباق أنه غير مستمر الوجود ، وذلك لا يزيد على نفس الوجود فيما يعرض من الأحوال المعددة والمدد المسرمدة ، ثم ولو كان البقاء صفة زائدة على نفس الوجود فإما أن يكون موجودا أو معدوما ، فإن كان معدوما فلا صفة ، وإن كان موجودا لزم أن يكون له بقاء ، وإلا فلا يكون مستمرا ، وذلك في صفات الباري تعالى محال ، وإن كان له بقاء فالكلام في ذلك البقاء كالكلام في الأول وهلم جرا ، وذلك يفضي إلى ما لا نهاية له ، وهو محال.

ثم يلزم منه أن يكون البقاء قائما بالبقاء وذلك ممتنع ، إذ ليس قيام أحدهما بالآخر بأولى من العكس ، لاشتراكهما في الحقيقة ، واتحادهما في الماهية ، وهذا الذي ذكرناه مما لا يفرق فيه بين موجود وموجود لا شاهدا ولا غائبا ، فإذا ليس البقاء صفة زائدة على نفس الباقي.

١٢٦

وأما ما قيل بثبوته من باقي الصفات :

فالمستند فيها ليس إلا المسموع المنقول ، دون قضيات العقول ، والمستند في الوجه قوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٧] وفي اليدين قوله ـ تعالى ـ موبخا لإبليس : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] وفي العينين قوله تعالى : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨] وقوله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٤] وفي النور قوله تعالى : (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] وفي الجنب قوله تعالى : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦] وفي الساق قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢] وفي القدم قوله عليه‌السلام : «إذا كان يوم القيامة واستقر أهل الجنان في نعيمهم وأهل النيران في حميمهم ، قالت : النار : هل من مزيد؟ فيضع الجبار قدمه فيها فتقول : قط قط» أي حسبي حسبي ، وفي النزول قوله عليه‌السلام «إن الله ينزل في كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول : هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟» (١) وفي الاستواء قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] وإلى غير ذلك من الآيات.

واعلم أن هذه الظواهر ـ وإن وقع الاغترار بها ، بحيث يقال بمدلولاتها ظاهرا من جهة الوضع اللغوي والعرف الاصطلاحي ـ فذلك لا محالة انخراط

__________________

(١) رواه البخاري (١٠٩٤) ، ومسلم (٧٥٧) ، وابن حبان (٩٢٠) ، والترمذي (٥ / ٥٢٦) ، والدارمي (١٤٧٩) ، وأبو داود (٢ / ٣٤) (١٣١٥) (٤٧٣٣) ، والنسائي في الكبرى (١٠٣١٠) (١٠٣١٤) ، وابن ماجه (١٣٦٦) ، مالك في الموطأ (٤٩٨) (١ / ٢١٤) ، وأحمد في المسند (٢ / ٢٦٤ ، ٢٦٧ ، ٢٨٢ ، ٤٨٧) ، وعبد الله بن أحمد في السنة (٢ / ٤٨٠ ، ٤٨١) ، والطبراني في الأوسط (٦ / ١٥٩) (٦٠٧٩) ، وابن أبي عاصم في السنة (٤٩٢) (٥٠٦) ، والبخاري في الأدب المفرد (١ / ٢٦٤) (٧٥٣) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (١ / ٢٥٧) ، وابن بطة في الإبانة ـ بتحقيقنا ـ ط. العلمية ـ بيروت.

١٢٧

في سلك نظام التجسيم ، ودخول في طرف دائرة التشبيه ، وسنبين ما في ذلك من الضلال ، وفي طيه من المحال ، إن شاء الله ، بل الواجب أن يقال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١].

فإن قيل : بأن ما دلت عليه هذه الظواهر من المدلولات ، وأثبتناه بها من الصفات ، ليست على نحو صفاتنا ، ولا على ما نتخيل من أحوال ذواتنا ، بل مخالفة لصفاتنا ، كما أن ذاته مخالفة لذواتنا ، وهذا مما لا يقود إلى التشبيه ، ولا يسوق إلى التجسيم.

فهذا وإن كان نفسه جائزا ، لكن القول بإثباته من جملة الصفات يستدعي دليلا قطعيا في وهذه الظواهر وإن أمكن حملها علي مثل هذه المدلولات فقد أمكن حملها على غيرها أيضا ، ومع تعارض الاحتمالات ، وتعدد المدلولات ، فلا قطع ، وما لا قطع عليه من الصفات لا يصح إثباته للذات.

فإن قيل : وما هذه الاحتمالات التي تبدونها والمدلولات التي تعنونها؟ قلنا :

أما لفظ «اليدين» فإنه يحتمل «القدرة» ولهذا يصح أن يقال : فلان في يدي فلان ، إذا كان متعلق قدرته وتحت حكمه وقبضته ، وإن لم يكن في يديه اللتين هما بمعنى الجارحتين أصلا ، وعلى هذا يحمل قوله عليه‌السلام : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» (١).

__________________

(١) حديث صحيح : رواه مسلم (٢٦٥٤) ، وابن حبان (٩٠٢) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٣١٧) (٣١٤٠) ، والترمذي (٢١٣٩) (٣٥٢٢) ، والنسائي في الكبرى (١٠٨٧٠) ، وفي الصغرى (١٢٦٨) ، وابن ماجه (١٩٩) (٣٨٣٤) ، وأحمد في المسند (٢ / ١٧٣) (٣ / ١١٢) (٤ / ١٨٢) (٦ / ٩١) ، والبيهقي في الاعتقاد (١ / ١٥٢) ، والأسماء والصفات (١ / ٥٧) ، وعبد الله بن أحمد في السنة (١٢٢٤) (٢ / ٥٣٠).

١٢٨

فإن قيل : يلزم من ذلك إبطال فائدة التخصيص بذكر خلق آدم باليدين ؛ من حيث إن سائر المخلوقات إنما هي مخلوقة بالقدرة القديمة ، فإذا قال : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] أي بقدرتي لم يكن لها معنى.

قلنا : لا يبعد أن تكون فائدة التخصيص بالذكر التشريف والإكرام ، كما خصص المؤمنين بلفظ العباد وأضافهم بالعبودية إلى نفسه. وكما أضاف عيسى والكعبة إلى نفسه ولم تكن فائدة التخصيص بالذكر اختصاصا ما أضافه إلى نفسه بالإضافة ، بل التشريف والإكرام لا غير. ثم إنا قد بينا أن للباري ـ تعالى ـ قدرة وهى معنى يتأتى به الإيجاد ، واليدان إما أن يتأتى بهما الإيجاد والخلق أو ليس ، فإن تأتى بهما الإيجاد. فهي نفس القدرة ، لا زائدا عليها ، وإن اختلفت العبارات الدالة عليها ، والقول بالتعدد في صفة القدرة مما لا سبيل إليه ، لما أشرنا إليه. وأما إن كانت مما لا يتأتى بها الإيجاد والخلق فلا محالة ـ أن في حمل اليدين إلى غير القدرة ما يفضي إلى الكذب في الآية ، حيث أضاف الخلق والإيجاد إليهما ولا محالة أن محذور إبطال فائدة التخصيص أدنى من المحذور اللازم من الكذب ، وعلى تقدير التساوي فالاحتمال قائم ، والقطع منتف.

وأما قوله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٤] فإنه يحتمل الحفظ والرعاية ، ولهذا تقول العرب : فلان بمرأى من فلان ومسمع ، إذا كان ممن يحوط به حفظه ورعايته ، ويشمله رفده ورعايته وقد قيل : إنه يحتمل أن يراد بالأعين هاهنا على الخص ما انفجر من الأرض من المياه ، وأضافها إلى نفسه إضافة التملك.

وقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن : ٢٧] فإنه يحتمل أن يكون المعني بالوجه الذات ومجموع الصفات ، وحمله عليه أولى ؛ من جهة أنه خصصه بالبقاء وذلك لا يختص بصفة دون صفة ، بل هو بذاته ومجموع صفاته باق.

١٢٩

وقوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] فإنه يحتمل أن يكون المراد به أنه هادي أهل السموات والأرض ، ويكون إطلاق اسم النور عليه باعتبار هذا المعنى.

وقوله : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦] فيحتمل أن يكون المراد به أمر الله ونهيه ، فيكون تقدير ذلك : يا حسرتا على ما فرطت في امتثال أوامر الله ونواهيه ، ويحتمل أن يكون المراد به الجناب ، ومنه يقال : فلان لائذ بجنب فلان أي بجنابه وحرمه.

وأما قوله : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢] فيحتمل أن يكون المراد به الكشف عن ما في القيامة من الأهوال ، وما أعد للكفار من السلاسل والأغلال ، ولهذا يقال : قامت الحرب على ساق ، عند التحامها ، وتصادم أبطالها ، واشتداد أهوالها.

وقوله عليه‌السلام : «فيضع الجبار قدمه في النار» ، فقد قيل : يحتمل أن يراد به بعض الأمم المستوجبين النار ، وتكون بإضافته القدم إلى الجبار ـ تعالى ـ إضافة التمليك ، وقد قيل : يحتمل أن يكون المراد به قدم بعض الجبارين المستحقين للعذاب الأليم ، بأن يكون قد ألهم الله النار الاشتراط إلى حين استقرار قدمه فيها.

وأما آية «الاستواء» فإنه يحتمل أن يكون المراد التسخير ، والوقوع في قبضة القدرة ، ولهذا تقول العرب : استوى الأمير على مملكته ، عند دخول العباد تحت طوعه في مراداته ، وتسخيرهم في مأموراته ومنهياته ، وإليه الإشارة بقول الشاعر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق (١)

وتكون فائدة التخصيص بذكر العرش التنبيه بالأعلى على الأدنى فيما

__________________

(١) قيل في بشر بن مروان ، وانظر : الأسماء والصفات للبيهقي (ص ٤١٢).

١٣٠

يرجع إلى الاستيلاء والاستعلاء.

وأما «خبر النزول» فإنه يحتمل أن يكون المراد النزول بمعنى اللطف والرحمة ، وترك ما يليق بعلو الرتبة وعظم الشأن ، والاستغناء الكامل المطلق ولهذا تقول العرب : نزل الملك مع فلان إلى أدنى الدرجات عند لطفه به ، وإحاطته بعنايته ، وانبساطه في حضرة مملكته ، وتكون فائدة ذلك انبساط الخلق على حضرة المملكة ، بالتضرع بالدعوات والتبتل بالعبادات وغير ذلك ، من الرياضات ، في تحصيل المقاصد والمطلوبات. وإلا فلو نظر إلى ما يليق بمملكته ، وعلو شأنه ، وعظمته ، لما وقع التجاسر على خدمته ، والوقوف بعتبته ، فإن العباد وعباداتهم ، من صومهم وصلاتهم ، بالنسبة إلى عظمته وجلاله دون تحريك أنملة بعض العباد ، في معرض الطاعة والخدمة لبعض ملوك البلاد ، ومن فعل ذلك فإنه يعد في العرف ـ مستهينا ومستهزئا بالمملكة ، وخارجا عن إرادة التعظيم ، فما ظنك بما هو في دون من الرتبة؟

وأما التخصيص بسماء الدنيا فمن حيث إنها أدنى الدرجات بالنسبة إلى رتبة العلى ، فلذلك جعل النزول إليها مبالغة في اللطف ، كما يقال للواحد منا : صعد إلى السماء ونزل إلى الثرى ، إذ هي أدنى الدرجات بالنسبة إلى رتبته في جانبي النزول والرفعة ، لما ذكرناه. وخصص النزول بالليالي دون الأيام ، من حيث إنها مظنة الخلوات ، ووقت التضرع والدعوات لخالق البريات. وقد قيل : إنه يحتمل أن يكون المراد بنزول الله نزول ملك لله تجوزا واستعارة ، كما قال : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي أهل القرية ، وكقوله : (الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة : ٢٠] أي أولياءه ، ويقول على لسانه ، «هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟» (١)

__________________

(١) رواه البخاري (١٠٩٤) ، ومسلم (٧٥٧) ، وابن حبان (٩٢٠) ، والترمذي (٥ / ٥٢٦) ، والدارمي (١٤٧٩) ، وأبو داود (٢ / ٣٤) (١٣١٥) (٤٧٣٣) ، والنسائي في الكبرى (١٠٣١٠) (١٠٣١٤) ، وابن ماجه (١٣٦٦) ، مالك في الموطأ (٤٩٨)

١٣١

وذلك كما يقال : نادى الملك وقال الملك كذا علي كذا ، وإن كان المنادي والقائل بذلك القول غيره.

وليس تأويل هذه الظواهر ، وحملها على هذه المحامل بمستبعد ، كما حمل قوله ـ تعالى ـ (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] ، وقوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) [المجادلة : ٧] ، على معنى الحفظ والرعاية ، وكما حمل قوله ـ عزوجل ـ على ما أخبر به نبيه ـ عليه‌السلام ـ «من آتاني ماشيا أتيت إليه هرولة» (١) على معنى التطول والإنعام ، فإن لم يقل بالتأويل ثم وجب ألا يقال به هاهنا ، وإن قيل به هاهنا وجب القول به ثم ، إذ لا فارق بين الصورتين ولا فاصل بين الحالتين.

وأما السؤال الثالث : فقد اضطربت آراء المتكلمين فيه :

فذهبت المعتزلة إلى أن الصفة هي نفس الوصف ، والوصف هو خبر الخبير عمن أخبر عنه بأمر ما كقوله إنه عالم أو قادر أو أبيض أو أسود ونحوه وأنه لا مدلول للصفة والوصف إلا هذا ، ولربما احتجوا في ذلك بأنه لو خلق الله ـ تعالى ـ العلم أو القدرة أو غيرهما من الصفات لبعض المخلوقات لم يصح

__________________

ـ (١ / ٢١٤) ، وأحمد في المسند (٢ / ٢٦٤ ، ٢٦٧ ، ٢٨٢ ، ٤٨٧) ، وعبد الله بن أحمد في السنة (٢ / ٤٨٠ ، ٤٨١) ، والطبراني في الأوسط (٦ / ١٥٩) (٦٠٧٩) ، وابن أبي عاصم في السنة (٤٩٢) (٥٠٦) ، والبخاري في الأدب المفرد (١ / ٢٦٤) (٧٥٣) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (١ / ٢٥٧) ، وابن بطة في الإبانة ـ بتحقيقنا ـ ط. العلمية ـ بيروت.

(١) حديث صحيح : رواه مسلم (٢٦٧٥) (٢٦٨٧) ، والبخاري (٦٧٩٠) (٧٠٩٨) ، والترمذي (٣٦٠٣) ، وابن ماجه (٣٨٢١) ، وأحمد في المسند (٣ / ٤٠ ، ١٢٢) ، والطبراني في الكبير (٦١٤١) ، وفي الأوسط (١٧١٤) ، والبيهقي في شعب الإيمان (٢ / ١٧) (٥ / ٣٩٠) ، وابن منده في الإيمان (١ / ٢١٩) ، والبخاري في خلق أفعال العباد (١ / ٩٤) ، وابن المبارك في الزهد (١ / ٣٦٦).

١٣٢

تسميته باعتبار ذلك واصفا ، ولو أخبر عنه بأنه عالم أو قادر أو غير ذلك صح القول بتسميته واصفا ، والصفة يجب أن تكون ما يكون بها الواصف واصفا ، وليس على هذا النحو غير القول والإخبار ، ولعل منهم من يستند في ذلك إلى النقل عن أهل الوضع أنهم قالوا : الوصف والصفة بمعنى واحد ، كما يقال الوجه والجهة والوعد والعدة ، وإذا كان كذلك فالوصف هو القول ، والصفة هي القول لكونها في معناه ، ثم بنوا على ذلك انتفاء الصفات عن الباري ـ تعالى ـ في الأزل ، لضرورة استحالة القول بوجود الواصف في القدم.

وأما معتقد أهل الحق : فالصفة هي ما وقع الوصف مشتقا منها ، وهو دال عليها وذلك مثل العلم والقدرة ونحوه ، فالمعني بالصفة ليس إلا هذا المعنى ، والمعني بالوصف ليس إلا ما هو دال على هذا المعنى بطريق الاشتقاق ، ولا يخفى ما بينهما من التغاير في الحقيقة ، والتنافر في الماهية ، فالخلاف إن وقع فليس إلا في تسمية هذا المعنى صفة ، وحاصل النزاع في ذلك مما لا مطمع فيه باليقين ، وإنما هو مستند إلى الظن والتخمين. ويكفي في ذلك ما نقل عن العرب ، واشتهر استعماله في ألسنة أهل الأدب : أن الصفة منقسمة إلى خلقية لازمة وغير خلقية ، ثم فسروا الخلقية بالسواد والبياض ونحوه ، ولو لا أن ذلك جائز ، وإلا ما شاع ولا ذاع ، وعدم اشتقاق اسم منه لمن أبدعه وخلقه لا يدل على امتناع تسميته صفة ؛ لجواز أن يكون اشتقاق ذلك الاسم من الوصف دون الصفة ، ثم ولو وجب اشتقاق اسم الواصف من الصفة لكونه خالقها لوجب اشتقاق اسم الزاني والمؤذي والمفسد للباري ـ تعالى ـ من الزنا والفساد والأذى لكونه خالقها ، وهو محال.

ما نقل عن العرب من قولهم : إن الوصف والصفة بمنزلة الوعد والعدة ، وهما بمنزلة واحدة ، يحتمل أن يكون المراد بذلك التسوية بينهما ، في المصدرية ، فإنه يصح أن يقال : وصفته وصفا ووصفته صفة. كما يقال : وعدته وعدا ، ووعدته عدة ، أو أنهم أرادوا بقولهم إن الوصف هو الصفة للواصف المخبر ،

١٣٣

فإن قيامه به ـ لا محالة ـ صفة له ، والواجب جعل ما صح نقله عنهم من هذا القبيل على مثل هذه المعاني أو عينها جمعا بين النقلين وعملا بكلا الدليلين.

وإذا عرف أن الصفة غير الوصف ، فهل هي نفس الموصوف أم غيره أم لا هي هو ولا هي غيره؟ فالذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن وعامة الأصحاب أن من الصفات ما يصح أن يقال هي عينه وذلك كالوجود ، ومنها ما يقال إنها غيره ، وهي كل صفة أمكن مفارقتها للموصوف بجهة ما ، كما في صفات الفعال ، من كونه خالقا رازقا ونحوه ، ومنها ما لا يقال إنها عينه ولا غيره ، وهي كل صفة امتنع القول بمفارقتها بوجه ما كالعلم والقدرة وغيرهما من الصفات النفسية لذات واجب الوجود ، بناء على أن معنى المتغايرين كل موجودين صحت مفارقة أحدهما للآخر بجهة ما كالزمان والمكان ونحوه ، وهذا الكلام بعينه جار في تغاير الصفات النفسية بعضها مع بعض أيضا ، وهذا مما لا أرى حاصله يرجع إلى أمر يقيني ولا إلى معنى قطعي ، وإنما هو راجع إلى أمر اصطلاحي ، والواجب أن يجرد النظر إلى التحقيق ، ويكشف عن غور مزلة الطريق ، فنقول :

الواجب أن كل ذات قامت بها صفات واجبة زائدة عليها فالذات غير الصفات ، وكذا كل واحد من الصفات غير الأخرى ، إن اختلفا بالذوات ، بمعنى أن حقيقة كل واحد والمفهوم منه ، عند انفراده ، غير مفهوم الآخر ، لا محالة. نعم إن لم يصح إطلاق اسم الغيرين ولا القول به صفة عن ذات الله تعالي وصفاته ، مع الاعتراف بكونها مختلفة الحقائق والذوات ، لعدم ورود السمع به ، فهو جواب ، لكنه مما لا يقدح في المطلوب.

وعند ذلك فلا بد من التنبيه لدقيقة : وهو أنه وإن كانت الصفات غير ما قامت به من الذات ، فالقول بأنها غير مدلول الاسم المشتق منها ، أو ما وضع لها وللذات ، من غير اشتقاق ، وذلك مثل العلم بالنسبة إلى مسمى العالم أو مسمى الإله غير صحيح ، وكذلك لا يصح أن يقال : بأنها عينه أيضا فإنها

١٣٤

إدراك جزء ، ومعنى ما قيل إنها ليست عينه أو غيره ـ ولا محالة ـ أن جزء معنى الشيء ليس هو غيره وإلا لفهم دونه ، ولا هو عينه لافتقاره إلى غيره. فعلى هذا ، وإن صح القول بأن علم الله ـ تعالى ـ غير ما قارنه من الذات ، لا يصح أن يقال إن علم الله تعالى غير مدلول اسم الله ولا عينه ، إذ ليس هو غير مجموع الذات مع الصفات ، وأيضا فإنه لو قطع النظر عن الذات أو بعض الصفات لما كان الباقي هو مدلول اسم الإله ولعل هذا ما أراده الحذاق من الأصحاب في أن الصفات النفسية لا هي هو ولا هي غيره.

وهذا آخر ما أردنا ذكره من هذا القانون ، والله المستعان.

١٣٥

القانون الثالث

في وحدانية الباري ـ تعالى ـ

رأي الفلاسفة الإلهيين (١)

__________________

(١) قال أصحابنا : الواحد هو الشيء الذي لا يصح انقسامه إذ لا تقبل ذاته القسمة بوجه ولا تقبل الشركة بوجه فالباري تعالى واحد في ذاته لا قسم له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له وقد أقمنا الدلالة على انفراده بأفعاله فلنقم الدلالة على انفراده بذاته وصفاته. وقالت الفلاسفة : واجب الوجود بذاته لا يجوز أن يكون أجزاء كمية ولا أجزاء حد قولا ولا أجزاء ذات فعلا ووجودا وواجب الوجود لن يتصور إلا واحدا من كل وجه ، فلا يتصور ولا يتحقق موجودان كل واحد منهما واجب بذاته ، وعن هذا نفوا الصفات وإن أطلقوها عليه فبمعنى آخر كما سنذكره. ووافقهم المعتزلة على ذلك غير أنهم مختلفون في التفصيل وسنفرد لإثبات الصفات مسألة ونذكر المذهبين فيها وهذه المسألة مقصورة على استحالة وجود الإلهين يثبت لكل واحد منهما من خصائص الإلهية ما يثبت للثاني ولست أعرف صاحب مقالة صار إلى هذا المذهب لأن الثنوية وإن صارت إلى إثبات قديمين لم تثبت لأحدهما ما ثبت للثاني من كل وجه والفلاسفة ، وإن قضوا بكون العقل والنفس أزليين وقضوا بكون الحركات سرمدية لم يثبتوا للمعلول خصائص العلة كيف وأحدهما علة والثاني معلول والصابئة وإن أثبتوا كون الروحانيين والهياكل أزلية سرمدية مدبرة لهذا العالم وسموها أربابا وآلهة فلم يثبتوا فيها خصائص رب الأرباب ودلالة التمانع في القرآن مسرودة على من يثبت خالقا من دون الله سبحانه وتعالى قال الله تعالى : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) [المؤمنون : ٩١] وعن هذا صار أبو الحسن رحمه‌الله إلى أن أخص وصف الإله هو القدرة على الاختراع فلا يشاركه فيه غيره ومن أثبت فيه شركة فقد أثبت إلهين. قد بينا على استحالة وجود إلهين : أنا فرضنا الكلام في جسم وقدرنا من أحدهما إرادة تحريكه ، ومن الثاني إرادة تسكينه في وقت واحد لم يخل الحال من أحد ثلاثة أمور إما أن تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى اجتماع الحركة والسكون في محل واحد في حالة واحدة وذلك بين الاستحالة وإما أن لا تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى عجز وقصور في إلهية كل واحد منهما وخلو المحل عن الضدين وذلك أيضا بين الاستحالة وإما أن تنفرد إرادة أحدهما دون الثاني فيصير الثاني مغلوبا على إرادته ممنوعا من فعله مضطرا في إمساكه وذلك ينافي

١٣٦

__________________

ـ إلاهية قال الله تعالى : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) وكذلك لو فرضنا في توارد الإرادة والاقتدار على فعل واحد فإما أن يشتركا في نفس الإيجاد وهو قضية واحدة لا يقبل الاشتراك وإما أن ينفرد أحدهما بالإيجاد فيكون المنفرد هو الإله والثاني يكون مغلوبا مقهورا وكذلك لو فرضنا في فعلين متباينين حتى يذهب كل إله بما خلق فيكون استغناء كل واحد منهما عن الثاني افتقارا إليه لأن نفس الاستغناء استعلاء وفي الاستعلاء إلزام قهر وغلبة على الثاني. ولنزد هذا بيانا وشرحا فإن التمانع في الفعل إن أوجب استحالة الإلهين والتمانع في الاستغناء بالذات أدل على استحالة الإلهين. فنقول لو قدرنا إلهين استغنى كل واحد منهما عن صاحبه من كل وجه خرج المستغني عنه عن كمال الاستغناء فإن المستغني على الإطلاق من يستغني به ولا يستغنى عنه فيكون كل واحد منهما مستغنيا عنه فيكون مفتقرا قاصرا عن درجة الاستغناء المطلق فلن يتصور إذا إلهان مستغنيان على الإطلاق والله الغني وأنتم الفقراء إشارة إلى هذا المعنى. ونقول : لو قدرنا إلهين فإما أن يكونا مختلفين في الصفات الذاتية أو متماثلين والمختلفان يستحيل أن يكونا إلهين لأن الصفة الذاتية التي بها تقدس الإله عن غيره إذا كانا مختلفين فيها كان الذي اتصف به هو الإله والمخالف ليس بإله وإما أن يكونا متماثلين في الصفات الذاتية من كل وجه فالمتماثلان ليس يتميز أحدهما عن الثاني بالحقيقة والخاصية فإن حقيقتهما واحدة بل بلوازم زائدة على الحقيقة مثل المحل والمكان والزمان وكل ذلك ينافي الإلهية أليس لما كان السوادان متماثلين لم يتميز أحدهما بحقيقة السوادية بل باختلاف المحل أو باختلاف الزمان وكذلك الجوهران فدل ذلك على أن التماثل في الإلهية لن يتصور بوجه ليس كمثله شيء إشارة إلى هذا المعنى. ونقول من المعلوم أن الطريق إلى إثبات الصانع هو الدليل بالأفعال إذ الحس لا يشهد عليه والأفعال التي شاهدناها دلت عليه من جهة جوازها وإمكانها في ذاتها والجواز قضية واحدة تدل على الصانع من حيث إنها ترددت بين الوجود والعدم فلما ترجح جانب الوجود اضطررنا إلى إثبات مرجح وليس في نفس الجواز وترجحه ما يدل على مرجحين كل واحد منهما يستقل بالترجيح فإنه لو لم يستقل بالترجيح لم يكن إلها وإنما ترجح جانب الوجود لأنه أراد التخصيص بالوجود وكما أراد علم أنه هو المرجح ، فلو قدرنا مرجحا آخر وشاركه في الترجيح بطل الاستقلال ، ولم يكن علمه وإرادته وقدرته أيضا بأن يكون هو المرجح وإن لم يشاركه في الترجيح وكان متعطلا لم يكن علمه وإرادته وقدرته أيضا بأن يكون هو المرجح بل يكون علمه متعلقا بترجيح غيره وإرادته كذلك ، ـ

١٣٧

وبيان استحالة القول باجتماع الإلهين ، لكل واحد من صفات الإلهية ما لصاحبه.

وقد سلك الفلاسفة طريقا في التوحيد ، حاصله يرجع إلى امتناع وقوع الشركة في نوع واجب الوجود ، واستحالة وجود واجبين ، وقد أشرنا إليها في مبدأ قانون الصفات ، وإلى ما يرد عليها من الاعتراضات ، فلا حاجة إلى ذكرها ثانيا.

وأما المتكلمون فقد سلك عامتهم في الإثبات مسلكين ضعيفين :

المسلك الأول : أنهم قالوا : لو قدرنا وجود الإلهين ، وقدرنا أن أحدهما أراد تحريك جرم ما والآخر أراد تسكينه ، فإما أن تنفذ إرادة كل واحد منهما ، أو لا تنفذ ولا لواحد منهما ، أو لأحدهما دون الآخر : فإن نفذت إرادتها أفضى ذلك إلى اجتماع الحركة والسكون في شيء واحد في حالة واحدة ، وذلك محال. وإن لم تنفذ إرادتهما أفضى إلى عجز كل واحد منهما وإلى أن يكون الجرم الواحد يخلو من الحركة والسكون معا وهو محال أيضا. وإن نفذت إرادة أحدهما دون الآخر أفضى إلى تعجيز أحدهما ، ولو عجز أحدهما لكان عاجزا بعجز قديم ، والعجز لا يكون إلا عن معجوز عنه ، وذلك يفضي إلى قدم المعجوز عنه وهو ممتنع.

لكن منشأ الخبط ومحز الغلط ، في هذا المسلك ، إنما هو في القول بتصور اجتماع إرادتيهما للحركة والسكون وليس ذلك مما يسلمه الخصوم ، ولا يلزم

__________________

ـ وإذا تعلق علمه بأن يكون غيره هو المرجح كان محالا أن يكون هو المرجح فإن خلاف المعلوم محال الوقوع وكذلك إرادته تكون تمنيا وتشهيا من غيره حتى تخصص لا قصدا وترجيحا وتخصيصا من ذاته فقد تطرق النقص إلى كل صفة من صفاته بل كان مفتقرا في جميع ذلك إلى غيره والفقر ينافي الإلهية وهذه الطريقة تعضد بيان طريقة الاستغناء وهي أحسن ما ذكر في هذه المسألة. انظر نهاية الأقدام (ص ٧٨) بتحقيقنا.

١٣٨

من كون الحركة والسكون ممكنين ، وتعلق الإرادة منهما حالة الانفراد ، أن تتعلق بهما حالة الاجتماع ، ووزانه ما لو قدرنا إرادة الحركة والسكون من أحدهما معا فإنه غير متصور ، ولو جاز تعلقها بكل واحد منهما منفردا ، وليس هذا إحالة لما كان جائزا في نفسه ، فإن ما كان جائزا هو إرادته منفردا. والمحال إرادته في حال كونه مجامعا. وبهذا يندفع قول القائل : إن ما جاز تعلق الإرادة به حال الانفراد جاز تعلقها به حالة الاجتماع ؛ إذ الاجتماع لا يصير الجائز محالا. وهذا الكلام بعينه في الإرادة هو أيضا لازم في صفة القدرة ، وأما القول بأن عجز أحدهما يستدعي عجزا قديما ومعجوزا عنه فيلزم مثله في القدرة ، فإن القادر قادر بقدرة قديمة ، فإن استدعى العجز قدم المعجوز عنه ، وجب أن تستدعي القدرة قدم المقدور.

فإن قيل : القدرة ليس معناها غير التهيؤ والاستعداد للإيجاد والإحداث ، وذلك لا يستدعي قدم المقدور ، قيل : والعجز لا معنى له إلا عدم القدرة على الإحداث وذلك أيضا لا يوجب قدم شيء ما ، لا بل أولى. فإن وجود القدرة إذا لم يستدع مقدورا فعدمه بعدم الاستدعاء أولى.

المسلك الثاني : هو أنهم قالوا : الطريق الموصل إلى معرفة الباري ـ تعالى ـ ليس إلا وجود الحادثات ؛ لضرورة افتقارها إلى مرجع ينتهي الأمر عنده ، وهي لا تدل على أكثر من واحد.

وهو أيضا مما لا يقوى ، فإن حاصله يرجع إلى نفي الدليل الدال على وجود الاثنين ، ولا بدّ فيه من الاستناد إلى البحث والتفتيش ، وذلك غير يقيني على ما لا يخفى. ثم ولو قدر انتفاء كل دليل فذلك مما لا يكفي من رام نفي المدلول ؛ لجواز وجوده في نفسه وانتفاء دليله.

فالصواب في هذا الباب :

أن يقال : لو قدرنا وجود الإلهين لم يخل : إما أن يشتركا من كل وجه ، أو يختلفا من كل وجه ، أو يشتركا من وجه دون وجه : فإن كان الأول فلا

١٣٩

تعدد ولا كثرة. وإن كان الثاني فلا محالة أنهما لم يشتركا في وجوب الوجود ولا فيما يجب لله من الكمالات ويستحيل عليه من الصفات ، وإذ ذاك فأحدهما لا يكون إلها. وإن كان الثالث فتخصيص ما به الاشتراك مما به الافتراق ، في كل واحد منهما ، إما أن يستند إليه أو إلى خارج عنه : فإن استند إليه فإما أن يكون ذلك له بالذات أو بالإرادة ، لا جائز أن يكون له لذاته ، وإلا لوجب الاشتراك فيه ، لضرورة أن المقتضي له فيهما واحد. وإن كان ذلك له بالإرادة استدعى كونه متحققا وموجودا دون ما خصصه وهو محال. وإن كان ذلك مستندا إلى خارج لزم أن يستندا في وجوبهما كل واحد على صاحبه ، وهو ممتنع ، ومع كونه ممتنعا فيلزم أن يكون كل منهما ممكنا وجوده ، وهو محال.

وأيضا فإنا لو قدرنا وجود إلهين ، وقدرنا وجود حادث ، فإما أن يستند في وجوده إليهما أو إلى أحدهما : لا جائز أن يستند إليهما ، فإنه إما أن يضاف حدوثه بكليته إلى كل واحد منهما بجهة الاستقلال ، أو يكون مضافا إليهما على وجه لو قدر عدم أحدهما لم يكن موجودا ، فإن كان القسم الأول فهو ظاهر الإحالة ، ثم يلزم إسقاط تأثير أحدهما وليس ما يفرض إسقاط تأثيره بأولى من الآخر ، وذلك يفضي إلى إسقاط تأثيرهما معا لاستحالة الجمع بين التأثير واستقلال أحدهما. وإن كان القسم الثاني فهو محال أيضا ؛ فإن إيجاد كل واحد منهما ليس إلا بالإرادة والقصد لا بالطبع والذات بالضرورة كون الموجود المفروض حادثا كما سنبينه ، وإذ ذاك فيمتنع قصد كل واحد منهما إلى الإيجاد لتعذر استقلاله به. ويتعذر قصده أيضا إلى بعض الإيجاد لتعذر وقوعه به ، وعلى هذا يمتنع وقوع الإيجاد لتعذر وقوع قصد بهما ، وقد فرض وقوع الإيجاد.

ولا جائز أن يقال : ما المانع من أن يقصد كل واحد منهما مشاركة الآخر؟ لأن القصد إما للمشاركة في نفس القدرة ، أو في نفس الفعل : فإن

١٤٠