غاية المرام في علم الكلام

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

غاية المرام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4311-5
الصفحات: ٣٣٤

يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [الحج : ٧٥].

وقد يكون التعريف للصدق ، بإظهار المعجزات على يد مدعي النبوات على وجه تدين له العقول السليمة بالإذعان والقبول ، وذلك أنه إذا قال : أنا رسول وآية صدق في قولي إتياني بما لا تستطيعون الإتيان بمثله ، ولو كان بعضكم لبعض ظهيرا ، من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وشق البحر وقلب العصا حية ، وغير ذلك من الآيات ، فإذا ما ظهر ذلك على يده مقارنا لدعوته قطع كل عقل سليم ، ولب مستقيم ، بتصديقه في قوله وتحقيقه ، وأذعن إلى اتباعه وتقليده ؛ إذ العقل الصريح يقضي بأن ظهور الخارق للعادة مقارنا لدعوته ، وعجز الناس عن معارضته ، مع توفر دواعيهم على مقابلته ، وإفحامه في رسالته ، ينهض دليلا قاطعا على صدق مقالته ، وإظهار الباري تعالى ذلك على يده مقارنا لدعوته ينزل منزلة الخطاب : إنه رسول ، وإنه صادق فيما يقوله ؛ إذ لو كان ذلك اتفاقا لما وقع على وفق إخباره ، وعلى حسب إيثاره واختياره ؛ إذ هو ممتنع بالنظر إلى الاستحالة العادية ، ولا سيما إن وقع ذلك منه متكررا.

وليس ذلك في ضرب المثال إلا كما لو كان بعض الملوك جالسا في رتبته ، قاعدا على سرير مملكته ، والناس مجتمعون لخدمته قياما في طاعته ، فقام واحد من عرض الناس وقال : يا أيها الناس إني رسول هذا الملك إليكم بكذا وكذا ، وآية صدقي على ذلك أني إذا طلبت منه أن يقوم ثلاث مرات أو يحرك كفه أو يده مثلا فعل ، ولو أراد واحد منكم لم يجد إليه سبيلا ، فإنه إذا أتى له بذلك لم يتمار أحد من الحضور ، ولا يداخله شك أو فتور أنه صادق فيما ادعاه ، حقيق فيما أتاه ، والذي يؤكد ذلك إسناد تصديقه ، إلى متوقف على مشيئة الباري تعالى وإرادته دون مشيئة هو وإرادته سرعة اقترانها بدعوته ، وإلا فلو كانت المعجزة مستندة إلى حوله وقوته لم ينتهض من ذلك دليل على كونه رسول رب العالمين ، فإنه لم ينزل اقتران المعجزة بدعواه منزلة

٢٨١

التصديق له من الله تعالى كما إذا كانت المعجزة من خلق الله وفعله ، وداخلة تحت مشيئته وحوله ، والمكابر لذلك جاحد لما أنعم الله عليه من العقل السني ، والنطق النفساني.

وبعد ما تقترن المعجزة بدعواه ، على سبيل ما يجريه الله ، ويثبت صدقه في ذلك بطريق العلم بناء على ما احتفت به من القرائن الظاهرة ، والدلائل الباهرة ، فلا ينتهض عدمها بعد ذلك دليلا على كذبه وإبطاله رسالته ، وإلا لوجب أن ينقلب العلم جهلا ، وذلك محال ، وليس انتفاء دليل الإثبات في بعض الأوقات دليلا على إيجاب النفي ، بخلاف دلالته في حالة الإثبات ، فلا تعارض ، وعليك بمراعاة هذه الدقيقة ، والإشارة إلى هذه الحقيقة.

فإن قيل : تعلق العلم بتصديق مثل هذا في الشاهد ينبني على قرائن الأحوال ، كالأفعال والأقوال من المرسل ، وذلك مما يتعذر الوقوف عليه في حق الغائب ، فلا يصح التمثيل ثم وإن صح ذلك في حق الغائب ، وأن ذلك نازل منه منزلة التصديق بالقول ، لكن ذلك إنما يدل على صدقه أن لو استحال الكذب في حكم الله تعالى وذلك إما أن يدرك بالعقل أو السمع : لا سبيل إلى القول باستحالته عقلا ؛ إذ قد منعتم أن يكون الحسن والقبح ذاتيا ، ولا سبيل إلى إدراكه بالسمع ؛ إذ السمع متوقف على صحة النبوة ، والنبوة متوقفة على استحالة الكذب في حكم الله ، فلو توقف ذلك على السمع كان دورا ممتنعا.

قلنا : المقصود من ضرب المثال ليس إلا تقريب الصور من الخيال ، وإلا فالعلم بصدق المتحدي بالنبوة ، عند اقتران المعجز الخارق للعادة بدعواه ، واقع لكل عاقل بالضرورة ، فإنه إذا قال : أنا رسول خالق الخلق إليكم ، ويعضد ذلك بما يعلم أنه لا يقدر على إيجاده ، أحد من المخلوقين ، ولا يتمكن من إحداثه شيء من الحادثات ، علم أن مبدعه وصانعه ليس إلا مبدع العالم وصانعه وذلك عند كل لبيب أريب منزلة التصديق له بالقول ، على نحو ما

٢٨٢

ضربناه من المثال ، ومن جرد نظره إلى هذا القدر من الاستدلال ، في الشاهد أيضا ، وجد في نفسه أن المدعي صادق في المقال ، وإن قطع النظر عن قرائن الأحوال ، ولهذا فإن من كان غائبا من مجلس الملك ولم يشاهد عرشه ، ولا حالة من الأحوال لو نظر إلى مجرد هذا أوجب ذلك عنده التصديق والتحقيق ، من غير التفات إلى شيء غيره.

وأما ما ذكروه في تطرق الكذب إلى حكم الله تعالى فتهويل ليس عليه تعويل ، لكن من الأصحاب من قال في الجواب : إن إثبات الرسالة مما لا يفتقر إلى نفي الكذب عن الله تعالى في حالة الإرسال ؛ فإنه لا يتوقف تصحيح الرسالة على الإخبار بأنه رسول في الماضي ، حتى يصح أن يدخله الصدق والكذب ، بل إظهار المعجزة على يده واقترانها بدعوته ينزل منزلة الإنشاء لذلك ، والأمر به ، وجعله رسولا في الحال ، وهو كقول القائل : وكلتك في أمري ، واستنبتك في أشغالي ، وذلك مما لا يستدعي تصديقا ولا تكذيبا.

وهو غير مرضي ؛ فإن المعجزة لو ظهرت على يد شخص لم يسبق منه التحدي ، لم تكن آية في النبوة ولا دليلا له في الرسالة إجماعا ، فلو كان ظهور المعجزة ، على يده ينزل منزلة الإنشاء للرسالة والأمر بالبعثة لوجب أن يكون مثل هذا هنا ، وليس كذلك ، وإذا لم يكن بدلا من القول بالتحدي علم أن ذلك ليس ينزل منزلة الإنشاء المطلق ، بل لا بدّ فيه من الخبر ، لتصديقه فيما أخبر به أنه نبي ورسول ؛ لضرورة اشتراط التحدي سابقا ، والتصديق بذلك والعلم به ، مع قطع النظر عن بيان استحالة الكذب في حق الله ، تعالى ، محال.

والذي يخمد تأثره هذا الإشكال ، ويقطع دابر هذا الخيال وإن كان عند الإنصاف في التحقيق عويصا هو أن يقال : إن القول باستحالة الكذب في حق الله تعالى مما لا يستند إلى سمع ، ولا إلى التحسين والتقبيح ، وإن حصر مدرك ذلك في هذين باطل ؛ بل المدرك في ذلك أن يقال : قد ثبت كون الباري تعالى عالما متكلما ، وأن كلامه في نفسه واحد ، وذلك لا يقبل الصدق والكذب ،

٢٨٣

وإنما يقبل ذلك من جهة كونه خبرا ، والخبرية له من جهة متعلقة لا غير فلو تعلق خبره بشيء ما ، على خلاف ما هو عليه ، لم يخل : إما أن يكون ذلك في حالة الغفلة والذهول ، أو مع العلم به ؛ فإن كان مع الغفلة فيلزم منه إبطال الدليل القاطع على كونه عالما. وإن كان ذلك مع العلم به على ما هو عليه فلا محالة أن تعلق الخبر بما هو معلوم غير مستحيل ، بل واجب ، على نحو تعلق الإرادة والقدرة بمتعلقاتها كما بيناه ، وعند ذلك فلو تعلق الخبر بالمعلوم على خلاف ما هو عليه لم يخل : إما أن يصح تعلق الخبر به على ما هو عليه أو لا يصح ، فإن لم يصح فهو محال ، وإن صح لزم منه جواز تعلق الخبر بشيء واحد على ما هو به وعلى خلاف ما هو به ، وهو محال ؛ إذ الخبر يستدعي مخبرا عنه ؛ إذ الخبر ولا مخبر محال ؛ وإذا استدعى مخبرا فالواجب أن يكون متصورا في نفسه ؛ فإن تعلق الخبر بمخبر غير متصور نازل منزلة الخبر ولا مخبر ، وعند ذلك فلا يخفى أن المخبر عنه هاهنا غير متصور ، إذ الجمع بين الشيء ونقيضه محال ، فلا يتصور أن يقوم بنفس القائل الإخبار عنه ، فلو تعلق خبر الباري تعالى بالشيء على خلاف ما هو عليه للزم منه هذا المحال ، وهو ممتنع وهذا ظاهر لا مراء فيه ، ولا شبهة أو ظن يعتريه ، وإذا ثبت قيام الخبر الكاذب بنفس الباري ، وأن إظهار المعجزة على يد النبي نازل منزلة الإخبار بالتصديق ، فلو لم تكن دالة على وفق ما قام بالنفس من الخبر الصادق ، وإلا لما كانت نازلة منزلة التصديق وهو ممتنع ؛ لما سبق.

وأما ما ذكروه من جواز اطرادها وإظهارها على يد غيره أو يده ، فذلك مما لا يقدح في دلالتها على صدقه ، وأن اقترانها بدعوته وهي من قبيل الخوارق للعادات نازل منزلة التصديق له فيما يقوله ، ويتحدى به ؛ بحيث تركن النفوس إليه ، وتطمئن القلوب بما دعا إليه ، من غير مداخلة شك ولا ريب ؛ فإنه لم يتحدّ بأن معجزته مما لا تطرد ، ولا مما لا تظهر على يد غيره وإنما تحدى بما هو الخارق ، واقترانه بدعواته ، ووقوعه على وفق مقالته

٢٨٤

وإرادته ، وذلك كما إذا قال : أنا رسول وآية صدقي نزول المطر في هذه الحالة ، وليس ثم غيم ولا تصاعد أبخرة ، ولا علامة دالة على نزول المطر ، فإنه إذا نزل المطر كان ذلك آية صدقه ؛ من حيث وقوعه على وفق مقالته ، وعدم دخوله تحت قدرته وإن كان نزول المطر في نفسه ليس بخارق ولا نادر ، وكذلك الكلام في حق كل من ظهر هذا الخارق على يديه مقترنا بالتحدي ، فإنه يجب القول بتصديقه في قوله ، والإجابة لدعوته ، نعم إن تصور منه التحدي ، والإخبار بأن آية صدقه أن ما ظهر على يده لا يظهر على يد غيره ، فإن معجزته لا تتم إلا بعدم ظهور ذلك إلا على يده ؛ إذ الإعجاز ليس إلا فيه ، فإن ظهر على يد غيره فإن ذلك لا يكون آية على صدقه ، بل يتبين به كذبه في مقالته.

وأما الإشارة إلى عدم تمييز المعجزة عن الكرامات ، والسحر ، والطلسمات ، وغير ذلك من الأمور العجيبات ، فالجواب الإجمالي فيه : هو أن ادعاء أن كل مقدور لله تعالى مما يمكن تأتيه بهذه الأمور مما يعلم بطلانه بالضرورة ؛ فإن أحدا من العقلاء لا يجوز انتهاء السحر والطلسم وغيره من الصنائع إلى فلق البحر وإحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص.

وإن قيل بالتفاوت فقد جوز من جهة العقل تصور تصديق للرسول بما لا يتأتى من السحر ولا بغيره ، وهو ما وقع مقصودنا هاهنا ، وليس تشوفنا إلا للفرق من جهة التفصيل ، فيستدعي ذلك تحقيق المعجزة ، وبيان خواصها التي لا يشاركها فيها غيرها ، فنقول : المعجزة في الوضع مأخوذ من العجز ، وهو في الحقيقة لا يطلق على غير الباري تعالى ؛ لكونه خالق العجز ، وإن سمينا غيره معجزا ، كما في فلق البحر وإحياء الموتى ، فذلك إنما هو بطريق التجوز والتوسع ، من كونه سبب ظهور الإعجاز ، وهو الإنباء عن امتناع المعارضة ، لا الإنباء عن العجز عن الإتيان بمثل تلك المعجزة كما يتوهمه بعض الناس ، فإن ذلك مما لا يتصور العجز عنه حقيقة ؛ فإن دخلت تحت قدرته فلا عجز ،

٢٨٥

وإن لم تدخل تحت قدرته فالعجز عما لا يدخل تحت القدرة أيضا ممتنع ، فإن قيل : إنه معجوز عنه ، فليس إلا بطريق التوسع لا غير.

وأما حقيقة المعجزة فهي كل ما قصد به إظهار صدق المتحدي بالنبوة المدعي للرسالة فعلى هذا لا يجوز أن تكذب الرسول ، كما إذا قال أنا رسول وآية صدقي أن ينطق الله يدي ، فلو نطقت يده قائلة إنه كاذب فيما يدعيه لم يكن ذلك آية على صدقه ، لكن شرط ذلك أن المكذب مما يقع في جنسه خرق العادة ، كما ذكرناه من المثال ، وأما إن كان غير خارق للعادة فلا ، وذلك كما إذا قال : آية صدقي إحياء هذا الميت فأحياه الله وهو ينطق بتكذيبه ، فإنه لا يكون ذلك تكذيبا بل الواجب تصديقه ؛ من جهة أن الإحياء خارق ، وكلام مثل ذلك إذا كان حيا غير خارق بخلاف اليد ، وبه يتبين ضعف من لم يفرق بين الصورتين من الأصحاب.

ولا يجوز أن تكون صفة قديمة ، ولا مخلوقة للرسول ، ولا عامة الوقوع بحيث يستوي فيها البر والفاجر ، ولا أن تكون متقدمة على دعواه بأني رسول وآيتي ما ظهر على يدي سابقا ، ولا متأخرا عنها ، إلا أن تكون واقعة على ما يخبر به عنها ؛ بأن يقول : آية صدقي ظهور الشيء الفلاني في وقت كذا على صفة كذا ؛ فإن المعجزة إنما تدل على الصدق من حيث إنها تنزل منزلة الخطاب بالتصديق ، وذلك لا يتم عند تحقق هذه الأمور كما لا يخفي.

بل لا بدّ وأن تكون خارقة للعادة ، مقترنة بالتحدي ، غير مكذبة له ، ولا متقدمة عليه ، ولا متأخرة عنه إلا كما حققناه ، ولا يشكك في منع تقديم المعجزة على التحدي أن يقول : آية صدقي أن في هذا الصندوق المغلق كذا على كذا مع سبق علمنا بخلوه عما أخبر به ، فإنه إذا ظهر ، وإن جاز أن يكون مخلوقا لله قبل التحدي فليس الإعجاز في وجوده ، وإنما هو في إخباره بالغيب.

٢٨٦

وإذا عرفت ما حققناه من المعجزة ووجود شرائطها ، فما سواها من الأفعال إن لم يكن خارقا للعادة فلا إشكال ، وإن كان خارقا للعادة فإما أن يكون ذلك على يدي نبي أو غير نبي : فإن كان نبيا فلا إشكال أيضا ، وإن كان غير نبي بأن يكون وليا أو ساحرا أو كاهنا أو غير ذلك فقد اختلفت أجوبة المتكلمين هاهنا :

فذهبت المعتزلة وبعض الأصحاب إلى منع جواز ذلك على يدي من ليس بنبي ، وقالوا : لو جاز ظهور مثل ذلك على يدي من ليس بنبي أفضى ذلك إلى تكذيب النبي وافترائه ، وألا نعرف النبي من غيره ، ولجوزنا في وقتنا هذا وقوع ما جرى على أيدي الأنبياء من قبلنا ، وذلك يوجب لنا التشكك الآن في كون البحر منفلقا ، وانقلاب الموتى أحياء ، وذلك مما لا يستريب في إبطاله عاقل.

وأما أهل التحقيق فلم يمنعوا من جواز إجراء مثل ذلك على يدي من ليس بنبي ، لكن منهم من قال : إن ذلك لا يقع إلا من غير إيثار واختيار ، بخلاف المعجزة ، وذلك كله مما لا نرتضيه فإنه ما من أمر يقدر من الأفعال الخارقة وغير الخارقة إلا وهو مقدور لله تعالى أن يظهره على يدي من شاء من عباده على حسب إيثاره واختياره ، وإنكار ذلك يجر إلى التعجيز ، وإبطال كون الفعل مقدورا لله تعالى وهو مستحيل.

ثم كيف ينكر ، وقوع مثل ذلك مع اشتهار ما جرى من قصة أصحاب الكهف ، وأمي موسى وعيسى ، وما تم لهما من الآيات الغريبة والأمور العجيبة التي لم تجر العادة بمثلها ، ولم يكونوا أنبياء إجماعا ، بل وما جرى للسحرة في أيام جرجيس وموسى عليهما‌السلام؟ وليس ذلك مما يفضي إلى تكذيب النبي ؛ إذ ليبس شرط المعجزة ألا يؤتى بمثلها ، وإلا لما جاز أن يأتي النبي بما أتى به الأول ، وهو خلاف المذهبين ، بل شرطها أن تقع موقع التصديق له فيما يدعيه ، كما سلف.

٢٨٧

وما ذكروه من تجويز انخراق العادات في زمننا فهو إنما يستحيل بالنظر إلى العادات لا بالنظر إلى العقليات ، كما سبق تحقيقه ، فإذا الفرق المرضيّ ليس إلا في أن المعجزة واقعة على وفق الدعوى دون غيرها من الأفعال ، ولا افتراق بينهما في الجواز العقلي أو في غير ذلك.

لم يبق إلا قولهم : إن الإضلال على الله تعالى جائز ، وإظهار المعجزة على يد الكاذب جائز أيضا ، وذلك موضع إشكال ، وقد أجاب عنه بعض الأصحاب فقال : لو توقف العلم بتصديقه على العلم المصدق له غير قاصد للإغواء ، وعلى كونه غير كاذب ، لوجب أن من حضر مجلس الملك وقد قام فيه واحد من عرض الناس فادعى الرسالة ، ووقعت المعجزة له من الملك على النحو المفروض ، ألا يحصل له العلم بصدقه ، مع قطع النظر عن كون الملك غير قاصد للإغواء ، وذلك مخالف للضرورة ومكابر للبديهة ، وفيه نظر.

فإذا السبيل في الانفصال عن هذا الخيال أن يقال : قد بينا أن إظهار المعجزة على يده في مقرن دعواه ، وحصولها على وفق مقالته ، ينزل منزلة التصديق بالقول : إنك صادق فيما تقول ، فلو كان الرسول كاذبا لكان المصدق له كاذبا ، وقد بينا استحالة ذلك في حق الله تعالى ، فهذا مع تقرير القول بأن مقصوده إنما هو الإغواء وإلقاء الناس في المضال والأهواء جمع بين النقيضين ؛ وذلك أنه إذا ثبت استحالة الكاذب في حق الله تعالى وأن إظهار المعجزة على يده دليل على تصديقه في رسالته استحال كونه كاذبا ، مما لا معنى له إلا أنه رسول ، والجمع بين كونه كاذبا أي ليس برسول وبين ما يدل على أنه رسول مستحيل قطعا ، وبهذا يتبين ضعف قول بعض الأصحاب بجواز ظهور المعجزة على يد الكذاب ، بل لو قدر كذب من ظهرت المعجزة على يده ، من غير ما دلت المعجزة منه على صدقه ، لقد كان ذلك بالنظر إلى العقل جائزا ، ولما كان وقوعه بالنظر إليه ممتنعا.

وعند هذا فلا بد من التنبيه لدقيقة شدت عن مطولات الكتب وجهابذة

٢٨٨

المتكلمين : وهي أنه لو قال النبي : آية صدقي ظهور جمل أو ناقة في هذا الصندوق أو الصخرة ، وذكر من نعته وصفته ، مع سبق علمنا بعد ذلك ثم ظهر على وفق قوله ودعواه ، فعلى قولنا بجواز ظهور الخارق على يد من ليس بنبي يجوز أن يكون قد أوتي بمخبر خبره قبل التحدي ، وعند ذلك فالخارق إنما هو علمه بذلك واطلاعه عليه لا نفس خبره عند التحدي ، وبعد العلم به فإن ذلك ليس بمعجز ، وإلا كان كل من أخبر عن ذلك ، بعد ما حصل له العلم به ، أن يكون خبره معجزا ، وهو هوس.

وإذا لم يكن الخارق المعجز إلا ما قضى بجواز سبقه على التحدي ، فقد سبق إلى فهم بعض المجوزين لذلك ، القاصرين عن الإحاطة بقواعد خواص المتكلمين ، أن ذلك لا يكون آية ولا دليلا على الصدق ، ولا يعلم أن ذلك يجر إلى إبطال إعجاز القرآن وجعله دليلا مصدقا ؛ لتحقق هذا المعنى فيه ، بل ويلزم منه إبطال سائر المعجزات ؛ لجواز أن يكون قد أعلم الله ذلك الشخص بأنه سيشق البحر في وقت كذا ، وسيقلب العصا حية إلى غير ذلك ، وأنى يكون ذلك والله تعالى بما منحه من هذا لاطلاع الخارق والإحاطة بالمعجزة مع علمه بأنه سيتحدى ويستند في الاستدلال والإعجاز إلى ما أظفره به ينزل منزلة التصديق له بالقول ، وإن تأخرت معرفة ذلك إلى حين؟! وهل بين ذلك وبين ما لو كان حصوله مقارنا للدعوى فرق في هذا المعنى؟

نعم ، شرط ذلك ألا يكون هذا الخارق قبل التحدي قد ظهر للناس منه ، واشتهر عنه ؛ فإن إظهاره لهم عند دعوته لا ينزل في نظر العقلاء منزلة التصديق ، وهذا بخلافه إذ لم يكن ظهوره لهم على يده إلا مقارنا لدعوته ومن نظر فيما قررناه بالتحقيق اندفع عنه خيال اشتراط عدم سبق المعجزة مطلقا ، في تنزيله منزلة التصديق.

وما أشير إليه من إلزام إفحام الرسل فإنما يلزم أن لو قيل بوجوب الإمهال في النظر ، والاعتبار بالعبر ، وهو إنما يلزم المعتزلة ؛ حيث اعترفوا

٢٨٩

بوجوب الإمهال عند الاستمهال ، ولا محيص لهم عنه ، فأما على رأي أهل الحق فلا ، وأنى يجب ذلك على من ظهر صدقه في مقالته ، بالدلالات الواضحة ، والمعجزات اللائحة ، لا سيما وهو متصد للدعوة الشامخة ، والكلمة الباذخة ، وما فيها من صلاح نظام الخلق ، والإرشاد إلى السبيل الحق ، الذي به يكون معاشهم في الدنيا ، وحصول سعادتهم في الأخرى؟! وإنما ذلك مبني على فاسد أصول الخصوم في التحسين والتقبيح ، وقد أبطلناه ، بل ولو وقع الإلزام على أصلهم بقبح التأخر والإمهال في النظر ؛ حيث لم يرشدهم إلى المصالح ، ويحذرهم من المهالك ، ويعرفهم طريق السعادة ليسلكوها ، ومفاوز المخافة ليرهبوها ، بعد ما ظهر صدقه واتضحت كلمته بالمعجزات القاطعة ، والبراهين الساطعة ، لم يجدوا إلى دفع ذلك سبيلا.

كيف وأن ما يجب النظر لأجله فالنبي قائم بصدده ومتكفل بأوده ، من تعريف ذات الباري وصفاته ، وما يتعلق بأحكام الدنيا والأخرى؟! ولهذا إذا فحص عن أحوال الأنبياء والمرسلين وجدناهم في الدعوة إلى الله تعالى وإلى معرفة وحدانيته سابقين ، ولذلك على دعوى النبوة مقدمين.

وعند ذلك فليس طلب الإمهال مع ما ظهر من صدق الرسول ودعوته إلى ما فيه صلاح نظام المدعو ، مع إمكان وقوع الهلكة على تقدير التأخر ، إلا كما لو قال الوالد لولده مع ما عرف من شفقته ، وحنوه ورأفته : إن بين يديك في هذا الطريق سبعا أو مهلكة ، وإياك وسلوكه ، وكان ذلك في نفسه ممكنا ، فقال الولد : لا أمتنع من ذلك ما لم أعرف السبع أو المهلكة ، لقد كان ذلك منه في نظر أهل المعرفة يعد مستقبحا ، ومخالفا للواجب ، ولو لم ينته فهلك كان ملوما مذموما غير معذور.

وأما ما ذكروه من قبح البعثة إلى من علم الله أنه لا يؤمن فهو أيضا مبني على أصلهم في التكليف بما لا يطاق ، والقبح والحسن ، وقد أفسدناه.

ثم يلزم الصابئة الملتزمين لتصديق شيث وإدريس ، ومن التزم من البراهمة

٢٩٠

بتصديق آدم وإبراهيم ، المنع من إحالة تصديق غيرهم من المرسلين ؛ فإنه مهما وجد دليل ، يدل على صدق بعض المخبرين بطريق اليقين ، لم يمتنع وجود مثل ذلك في حق غيره أيضا ، وما انفردت به التناسخية فهو فرع أصلهم في التناسخ وقد أبطلناه ، وعند ذلك فلا بد من معرف يعرف بالطرق الجيدة والأحوال السديدة ، التي يتعلق بها صلاح الخلق من مآلهم ؛ فإن ذلك مما لا يعرف العقل ؛ إذ الأفعال مما لا تقبح ولا تحسن لذواتها ، حتى يسبق العقل بدرك الصالح والفاسد منها ، بل لعل العقل قد يقبح من النفس بغض الأفعال التي تحصل بها الملاذ ، وتتعلق بها الأغراض ، إذا قطع النظر عما يتعلق بها من الملاذ ، ثم العبد إذا انتهى إلى العالم العلوي أو السفلي جزاء على فعله ، فما يفعله في حالة خسته أو في حالة رفعته ، مما يوجب اقتضاء زيادة في حاله يبقى مما لا مقابل له ؛ لانتهائه في درجة الثواب إلى ما لا درجة للثواب بعدها ، وكذلك في درجة العقاب أيضا ، وهو مما يفضي إلى تعطيل طاعة من هو في الدرجة العليا عن الثواب ، ومعصية من هو في الدرجة السفلى عن العقاب وهو مما يقبح على موجب اعتقاداتهم ، ولا محيص عنه ، ولا يتخيلن أن إنكار الرسالة مما يستدعي الإقرار بها ؛ من جهة الخبر عن الله تعالى بأن لا إرسال ولا رسول ، كما ظن بعض الأصحاب ؛ إذ الخبر بذلك ونفيه إنما يستند عندهم إلى الدليل العقلي لا إلى التوقيف السمعي ، وذلك لا يلزم منه الاعتراف بالرسالة أصلا ، إلى غير ذلك من قضايا العقول.

فإذا قد تنخل من مجموع ما ذكرناه ، عند النظر اللبيب ، والفهم الأريب ، جواز الإرسال وامتناع لزوم المحال ، وسيتضح ذلك زيادة إيضاح ببيان وقوعها بالفعل ، إن شاء الله تعالى.

٢٩١

الطرف الثاني

في بيان وقوعها بالفعل وإثبات معرفتها بالنقل

ومن ثبتت نبوته واشتهرت رسالته بالمعجزات والدلالات القطعيات ، أكثر من أن يحصى ، لنقتصر من ذلك على إثبات نبوة سيد الأولين والآخرين ، وخاتم المرسلين ، محمد صلى الله عليه وعلى آله أجمعين ؛ إذ الطوائف على إنكار بعثته متفقون ، وفي مآخذهم مختلفون.

فرب من أنكر رسالته بمجرد القدح في معجزاته ، والطعن في آياته ، كالنصارى وغيرهم من المعترفين بجواز نسخ الشرائع وبعثة الرسل.

ورب من أنكر رسالته ؛ لاعتقاده إحالة نسخ الشرائع وتبدل الذرائع كبعض اليهود لكن منهم من أحال ذلك عقلا كالشمعنية ، ومنهم من أحال سمعا كالعنانية ، ولم يوافق أهل الإسلام على كونه نبيا غير العيسوية ؛ فإنهم معترفون برسالته ، لكن إلى العرب خاصة ، لا إلى الأمم كافة.

والذي يدل على صحة رسالته ، وصدقه في دعوته ، ما ظهر على يده من المعجزات والآيات الباهرات ، فمن جملتها القرآن المجيد ، الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] ، فإن من نظر بعين الاعتبار ، وله قدم راسخ في الاختبار ، علم أن القرآن من أظهر المعجزات ، وأبلغ ما تخرق به العادات ، وأن ذلك مما لا يدخل تحت طوق البشر ، ولا يمكن تحصيله بفكر ولا نظر ؛ لما اشتمل من النظم الغريب ، والأسلوب المخالف لما استنبطه البلغاء من الأوزان والأساليب ، من الجزالة والبلاغة ، وجمع الكثير من المعاني السديدة في الألفاظ الوجيزة الرشيقة ، وإليه الإشارة بقوله عليه‌السلام : «أوتيت جوامع الكلم ، واختصرت لي الحكمة اختصارا» وذلك كما دل على وحدانيته ، وعظم صمديته ، والإرشاد لمن ضل إلى معرفته بقوله : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الآية : ٤] ، فإنه بينة على أن ذلك كله ليس إلا بمشيئته وإرادته وأنه مقدور

٢٩٢

بقدرته ، وإلا فلو كان ذلك بالماء والتراب والفاعل له الطبيعة لما وقع الاختلاف.

ومما كثرت معانيه ، وقل لفظه ، على أتم بلاغة وأحسن فصاحة قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) ، فإنه مع قلة ألفاظه ورطوبتها قد دل على العفو عن المذنبين ، وصلة القاطعين ، وإعطاء المانعين وتقوى الله ، وصلة الأرحام ، وحبس اللسان ، وغض الطرف ، وغير ذلك من المعاني.

ومن أراد زيادة الاختبار فعليه بالاعتبار ، والنظر في مجمله ومفصله ومحكمه ومتشابهه فإنه يجد في طي ذلك العجب العجاب ، ويحقق بما أمكنه من إدراكه إعجازه لذوي العقول والألباب ، وأن أبلغ وأحسن ما نطقت به بلغاء العرب من ذوي الأحساب والرتب ، المختصين من بين الأمم ، المميزين عن سائر أصناف العجم ، بما منحهم الله تعالى به من اللسان العربي المبين ، إذا نسبه إلى الكلام الرباني واللفظ اللاهوتي وجد النسبة بينهما على نحو ما بين اللسان العربي والأعجمي ، ولعلم من نفسه ما اشتمل عليه من الإعجاز والبلاغة والإيجاز وأن ذلك مما تتقاصر عن الإتيان بمثله أرباب اللسان ، وتكل عن معارضته الإنس والجان ، (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨].

فإنك ألا ترى إلى فصيح قول العرب ، في معنى ارتداع سافك الدم بالقتل : «القتل أنفى للقتل» وفي قوله تعالى : (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] ، وما بينهما في الفرق في الجزالة والبلاغة ، والتفاوت في الحروف الدالة على المعنى؟ ومن كان أشد تدربا ومعرفة بأوزان ، العرب ، ومذاهبها في اللغات ، وأساليبها في العبارات ، كان أشد معرفة بإعجاز القرآن ، وأسبق إلى التصديق والإيمان ، كما أن من كانت معرفته بعلم الطبيعة في زمن إبراهيم ،

٢٩٣

وعلم السحر في زمن موسى ، والطب في زمن عيسى أشد ، كان أشد معرفة بالإعجاز ، وأسبق للتصديق والقبول لما جاء به الرسول ، كيف والعرب مع شدة بأسها ، وعظم مراسها ، ومنعتهم عن أن يدخلوا في حكم حاكم ، ونبوتهم عن أن يقبلوا رسم راسم ، منهم من أجاب بالقبول ، وأذعن بالدخول ، ومنهم من نكل عن الجواب ، واعتضد بالقبائل والأصحاب ، ولم يرض غير القيل والقال ، والحرب والنزال ، فاستنزل بالعنف عن رتبته ، وأخذ بالقهر مع نبوته؟ فلو أن ذلك مما لهم سبيل إلى معارضته ، أو إبداء سورة في مقابلته ، مع أنهم أهل اللسان ، وفصحاء الزمان لقد كانوا يبالغون في ذلك ما يجدون إليه سبيلا ، لإفحام من يدعي كونه نبيا أو رسولا ؛ إذ هو أقرب الطرق إلى إفحامه ، وأبلغها في دحره وانحسامه ، وادراء لما ينالهم في طاعته ومخالفته من الأوصاب ، وكفا لما يلحقهم في ذلك من الأنصاب ، وخراب البلاد ونهب الأموال ، واسترقاق الأولاد.

لا سيما وقد تحدّى بذلك تحدّى التعجيز عن الإتيان بمثله ، فقال : «فأتوا بكتاب مثله» ؛ بل «بعشر سور من مثله» ، بل سورة واحدة ، فلم يجدوا إلى سبيلا ، إلا أن منهم من وقف على معجزته ، وعرف وجه دلالته ، فواحد لم يسعه إلا الدخول في الإيمان والمبادرة إلى الإذعان ، وواحد غلبت عليه الشقاوة ، واستحكمت منه الطغاوة فخذل بذنبه ، ونكص على عقبه ، وقال : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) [القمر : ٥٤](إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [المائدة : ١١٠] ، ومنهم من حمله فرط جهله ، وقصور عقله ، على المعارضة والإتيان بمثله ؛ كما نقل من ترهات مسيلمة في قوله : الفيل والفيل وما أدراك ما الفيل ، له ذنب طويل ، وخرطوم وثبيل. وقوله : والزارعات زرعا فالحاصدات حصدا ، والطاحنات طحنا ، إلى غير ذلك من كلامه ، ولا يخفى ما في ذلك من الركاكة والفهاهة ، وما فيه من الدلالة على جهل قائله ، وضعف عقله وسخف رأيه ، حيث ظن أن هذا الكلام الغث الرث ، الذي

٢٩٤

هو مضحكة العقلاء ، ومستهزأ الأدباء ، معارض لما أعجزت الفصحاء معارضته ، وأعيت الألباء مناقضته ، من حين البعثة إلى زماننا هذا (١).

بل لو نقر العاقل على ما فيه من الإخبار بقصص الماضين ، وأحوال الأولين ، على نحو ما وردت به الكتب السالفة ، والتواريخ الماضية ، مع ما عرف من حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأمية ، وعدم الاشتغال بالعلوم والدراسات ، بل وما فيه من الإخبار عما تحقق بعد ما أخبر به من الغائبات ، كما في قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨] وقوله :

__________________

(١) قال الآمدي : وما نقل من ترهات مسيلمة من قوله : الفيل وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وثيل ، وخرطوم طويل وقوله والزارعات زرعا ، فالحاصدات حصدا ، والطاحنات طحنا وقوله يا ضفدع بنت ضفدعين نقي أو لا تنقين ، لا الماء تكدرين ، ولا الشارب تمنعين إلى غير ذلك من كلامه الغث ولتاته الرث ؛ فلا يخفى ما فيه من الدلالة على جهالة قائلة وضعف عقله ، وسخف رأيه ، حيث ظن أن مثل هذا الكلام النازل الذي هو مضحكة العقلاء ، ومستهزئ الأدباء ، معارض لما أعجز الفصحاء معارضته وأعيا الألباء مناقضته ، من حين البعثة إلى زمننا هذا. وأما ظن المعارضة بالقصائد العربية ، فظن من لا تحصيل لديه. فإنا قلنا : إن وجه الإعجاز في القرآن : إنما هو مجموع النظم البديع ، والبلاغة وما يشتمل عليه من الإخبار عن الغيب. وما قيل من القصائد فإنها وإن قدر اشتمالها على البلاغة مع الإحالة ، فغير مشتملة على مثل نظم القرآن ، والإخبار عن الغيب ، ولا يخفى أن من تحدى بقصيدة بليغة وأتى غيره بنثر مساو لقصيدته في البلاغة دون النظم بأن أتى بخطبة ، أو رسالة ؛ فإنه لا يعد معارضا له في نظر أحد من أرباب أهل الأدب. وأما ما نقل من معارضات ابن المقفع ، المعري وغيرهما من المتأخرين فإنه لم يبلغ من البلاغة ، وتناسب الكلام مبلغ القرآن ، وبتقدير بلوغه ذلك في النظم ، والبلاغة فغير مشتمل على أخبار الغيب ، وبتقدير اشتماله على ذلك مع الإحالة ؛ فليس من شرط دلالة المعجزة على صدق الرسول أن لا يوجد مثلها فيما يستقبل من الأزمنة المتأخرة عن زمان الرسول ؛ بل شرط ذلك إعجاز من في زمنه عنه لا غير. انظر أبكار الأفكار (٦ / ٧٤) ، وإعجاز القرآن للباقلاني (١ / ٢١) ، والتمهيد (ص ١١٩ ، ١٢٩) ، وشرح الطحاوية (ص ٨٧ ـ ٩٦).

٢٩٥

(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [الفتح : ٢٧] ، وقوله : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) [الفتح : ٢٠] وقوله : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) [الروم : ١ ، ٣] لقد كان ذلك كافيا له في معرفة إعجاز القرآن ، وصادا له عن المكابرة والبهتان ، ومن جملة آياته ، ومعجزاته الظاهرة حنين الجذع اليابس إليه ، وسلام الغزالة عليه ، وكلام الذراع المسموم له ، وتسبيح الحصي في يده ، ولا محالة أن هذه كلها من الخوارق للعادات ، وليست مما يدخل تحت وسع شيء من المخلوقات وأنه نبي (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).

وللخصوم على ما ذكرناه أسئلة :

السؤال الأول :

أنهم قالوا : ما ذكرتموه من كون القرآن معجزا لا بدّ من أن تثبتوا بطريق قطعي يقيني ، أنه مما ظهر على يده ، واقترن بدعوته ، اقتران التصديق ، وإلا فلا نأمن أن ذلك من خلق الأولين ، أو تخرصات المتأخرين.

ثم إن ذلك ، ولو كان مسلما فلا بد أن تبينوا وجه الإعجاز فيه ، وذلك يتعذر ، من جهة القرآن قد يطلق بمعنى المقروء ، وقد يطلق بمعنى القراءة : فإن كان المقروء هو المعجز فذلك عندكم صفة قديمة بذات الرب تعالى ، والصفة القديمة يستحيل أن تكون معجزا ، إذ لا اختصاص لها بحادث دون حادث ، وإن كان المعجز هو القراءة التي هي فعله وكسبه ، فليست معجزة ، فإنها لا تنزل منزلة التصديق له فيما يقوله ، كما سلف.

وأما ما ذكرتموه من وجه إعجازه في النظم والبلاغة والفصاحة ، فأنتم في ذلك مختلفون : فقائل إن : المعجز هو النظم دون الفصاحة ، وقائل الفصاحة دون النظم وقائل إن المعجز فيه صرف الدواعي عن الإتيان بمثله وقائل : إن المعجز فيه هو المجموع ، وهذا الاختلاف مما يوجب خفاء الإعجاز فيه ، والمعجز يجب أن يكون وجه إعجازه ظاهرا بالنسبة إلى جل من هو معجزة

٢٩٦

بالنظر إليه ودليل عليه ، ظهورا لا يكون فيه شك ولا ريبة.

وما ذكرتموه من عجز بلغاء العرب عن مقابلته ، وكلالهم عن معارضته فإنما يتحقق أن لو ثبت أنه تحدى عليهم به ومنعهم من الإتيان بمثله ، وذلك غير معلوم ، فلا بد من إثباته ثم ولو ثبت أنه تحداهم به فما الذي يؤمننا من أن المعارضة وقعت ، واتفقت الأهواء على دفعها وإبطالها ، أو صرف الله دواعي الخلق عن نقلها ، وأنساهم إياها أو أن خوف السيف منعهم من إظهارها ، أو أنهم لم يتعرضوا بالمعارضة لإعراضهم عن النظر في أن ذلك مما يوجب إفحامه وإبطال دعوته ، أو أن إعراضهم كان قصدا لإهانته وإخماله بترك معارضته ، أو لاعتقادهم أن السيف والسنان أقرب إلى إخماد ثائرته وإطفاء جمرته من الإتيان بمعارضته ، والتطويل في محاورته ، وإلا فكيف يعجزون عن الإتيان بمثله وهو غير خارج عن حروف المعجم ، التي يتكلم بها العرب والعجم ، والألكن والألسن.

كيف وإنه ما من أحد إلا وهو قادر على أن يأتي منه بالكلمة والكلمات ، والآية والآيات ، ومن كان قادرا على ذلك كان قادرا على كله لكن غاية ما يقدر أنه يتميز عليهم بنوع فصاحة وجزالة ، وذلك غير مستحيل ؛ إذ التفاوت فيما بين الناس في ذلك واقع لا محالة ، وليس له حد يوقف عنده إذ ما من فصيح إلا ولعل ثم من هو أفصح منه ، فغير ممتنع أن تنتهي الفصاحة في حق شخص إلى حد يعجز عن الإتيان بمثله ، وذلك لا يوجب جعله نبيا وإلا للزم أن من كان دونه في الدرجة أن يكون نبيا وكلامه معجزا بالنسبة إلى من هو دونه ، وأن يكون هو متبوعا بالنسبة إلى من هو دونه وتابعا بالنسبة إلى من هو أفصح منه ، ثم إنه يمتنع أن يكون معجزا من وجهين : الوجه الأول : أنه من الجائز أن يكون ذلك قد حصل له قبل التحدي بالنبوة ، وادعاء الرسالة ولم يظهر عليه ؛ فإنه لا مانع على أصلكم من إجراء الخوارق على يد من ليس بنبي وعلى تقدير جواز تقدمه على التحدي يخرج

٢٩٧

عن أن يكون دالا على صدقه من حيث إن المعجزة لم تدل إلا من جهة أنها نازلة منزلة التصديق بالقول ، وذلك لا يكون إلا مع وجودها عند الدعوى ، لا قبلها ، كما سبق وليس إظهار ذلك عند الدعوى خارقا ، كما في الإحياء ، وشق البحر ونحوه ، بل هو محض تلاوة وتكرار ، ولا افتراق فيه بين إنسان وإنسان ، وإنما الخارق إظهاره إليه واطلاعه عليه ، ومع جواز سبقه يمتنع أن يكون دالا على صدقه.

والوجه الثاني : أن من حفظه ، ومضى به إلى أهل بلد لم تبلغهم الدعوة ولم يسمعوا بمثله ، ولا بمن ورد على يده ، فتحدى به عليهم ، فلا بد من أن يوجب التصديق أو التكذيب : فإن أوجب التصديق فهو معلوم كذبه ، وإن أوجب التكذيب مع ما ظهر لهم على يده من الخارق ، أفضى إلى إفحام الرسل ، وإبطال المعجزات وظهور الآيات ، ولذلك لا سبيل إلى القول بمثل ما ينقل ويحفظ أن يكون معجزا ، دالا على صدق الرسالة ، بل المعجزات يجب أن تكون كشق البحر وإحياء الموتى وقلب العصا حية إلى غير ذلك ، مما لا سبيل إلى ظهوره على يد غير نبي.

فإذا قد ثبت لا إعجاز في القرآن ، ثم ولو كان معجزا بناء على كونه خارقا لوجب أن يكون ما ظهر من العلوم الرياضية ؛ كالهندسية والحسابية ، معجزا ، وأن يجب التصديق لمن أتى به عند تحديه بالرسالة ودعواه للنبوة ، وهو محال ، وما ذكرتموه من تسبيح الحصى وانشقاق القمر ، وتكليم الغزالة ، وحنين الجذع ، ونحو ذلك فآحاد هذه الأمور غير معلومة ، ولا منقولة بطريق التواتر وإنما هي مستندة إلى الآحاد ، وهي مما لا سبيل إلى التمسك بها في القطعيات وإثبات النبوات ، وزادت العنانية على هؤلاء ، فقالوا : قد ثبت أن موسى الكليم كان نبيا صادقا ؛ بما ظهر على يده من شق البحر ، وقلب العصا حية وبياض يده ، إلى غير ذلك ، وقد نقل عنه بالتواتر خلف عن سلف أنه قال لقومه : هذه الشريعة مؤبدة عليكم ، لازمة لكم ما دامت السموات والأرض ،

٢٩٨

فقد كذب كل من ادعى نسخ شريعته ، وتبديل ملته ، فلو قلنا : إن محمدا كان نبيا ، وإن شرعه ناسخ بطريق الصدق ، للزم أن يكون موسى الكليم فيما قاله كاذبا ، وهو محال.

وزادت الشمعنية على العنانية بأن قالوا : لو جاز أن يكون محمد نبيا لجاز القول بنسخ الشرائع ، والنسخ في نفسه محال ؛ فإنه إذا أمر بشيء فذلك يدل على حسنه وكونه مرادا ، وأن فيه مصلحة ، فلو نهي عنه انقلب الحسن قبيحا والمصلحة مفسدة ، وما كان مرادا ، غير مراد ، ويلزم من ذلك البداء والندم بعد الأمر والطلب ، وهو ممتنع في حق الله تعالى : ثم إن مدلول النسخ في الوضع ليس إلا الرفع ، وذلك لا سبيل إلى تحققه ، فيما أمر به ونهى عنه ، فإنه إما أن يكون الرفع لما وقع أو لما لم يقع : فإن كان لما وقع فهو محال ، وإن كان لما لم يقع فرفع غير الواقع محال أيضا كما وقع في الواقع.

وأما العيسوية منهم فإنهم قالوا : سلمنا ظهور المعجزات على يده واقترانها بدعوته ، لكنه إنما ادعى الرسالة للعرب خاصة ، لا إلى الأمم كافة ، فلا بد لبيان عموم دعواه من دليل قاطع ، ولا سبيل إليه.

والجواب عن كلمات أهل الزيغ عن الصواب :

أما إنكار ظهور القرآن على يده ، واقترانه بدعوته فمما لا سبيل إليه ، إلا في حق من رفع نقاب الحياء عن وجهه ، وارتكب جحد الضرورة الحاصلة من أخبار التواتر بذلك ؛ فإن ما من عصر ، من الأعصار ، ولا قطر من الأقطار ، إلا والناس فيه بأسرهم مطبقون ؛ الموافقون والمخالفون ، على أن ذلك مما لم يظهر إلا على يده ، ولا صدر إلا من جهته ، واستقر ذلك في الأنفس ، على نحو استقرار العلم بالملوك الماضية والأمم السالفة ، والبلاد النائية ، فمن تفوه بإنكاره فقد ظهرت مخازيه ، وسقطت مكالمته ، وكان كمن أنكر وجود مكة وبغداد ، ووجود من اشتهر من هؤلاء العباد ، ونحو ذلك وبه يندفع تشكيك من شكك على نفي العلم الحاصل بالأخبار ، الواردة على

٢٩٩

لسان الجمع الكثير والجم الغفير ؛ بأن ما من واحد إلا والكذب في حقه ممكن ، وحصول العلم بخيره ممتنع وذلك لا ينتفي عنه بسبب انضمامه إلى من هو مثله في الرتبة ، ولا حاجة إلى الإطناب.

وأما جواز الإعجاز من جهة القراءة والمقروء فتهويل لا حاصل له ، فإنا لا نقول : إن المعجز هو الصفة القديمة القائمة بذات الرب تعالى ، ولا ما يتعلق من القراءة بكسب القارئ ، بل وجه الإعجاز فيه قد يتقرر من وجهين :

فتارة نقول : إن المعجز هو إظهار ذلك المقروء القائم بالنفس على لسان الرسول بما خلق الله من العبارات الدالة عليه ، فلا يكون كلامه الدال هو المعجز ، ولا المدلول ، بل إظهار ذلك المدلول بكلامه ، عند تحديه بنبوته ، ولا محالة أن ذلك مما يتقاصر عن تحصيله أرباب الفكر ، ويكل دونه حذاق أهل النظر ، وذلك كما ذكرناه في قضية المتحدي بإظهار ما في الصندوق ونحوه.

وتارة نقول : إن المعجز هو هذه العبارات ، وهذه الكلمات ، من جهة ما اشتملت عليه من الفصاحة والبلاغة والنظم المخصوص ، وذلك مما لا يدخل تحت قدرة النبي ، ولا هو متوقف على إرادته ، بل هو مقدور ومخلوق لله تعالى وما هو مقدور له ومتعلق كسبه فليس إلا حفظه وتلاوته ، ونسبته إليه كنسبته إلينا ، فإنا نعلم من أنفسنا عند قراءته ، والشروع في تلاوته ، أن ما هو متعلق كسبنا منه ليس إلا القراءة والتلاوة ، دون النظم والبلاغة ، وما اشتمل عليه من الفصاحة ، لكن لما اختص بإظهار ذلك على لسانه ، بطريق الوحي عن ربه ، مقارنا لدعوته ، وكان ممن تكل عن الإتيان بمثله قوى البشر ، ويعجز عن معارضته ذوو القدر ، كان ذلك دليلا على صدقه ، كما سلف.

ومن صفت فطرته ، واشتدت قريحته ، وكان ناظرا أريبا علم أن ما من آية من القرآن إلا وهي لما اشتملت عليه من النظم البديع ، والترتيب البليغ والمعنى معجزه ، وأنه من عند رب العالمين ، وعلى قدر سلامة الفطر ، وصحة النظر يقع التفاوت بين الناظرين في إعجاز القرآن العظيم ، فربّ شخص

٣٠٠