غاية المرام في علم الكلام

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

غاية المرام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4311-5
الصفحات: ٣٣٤

والممكن ما لا يعرض المحال لذاته لا من فرض وجوده ولا عدمه ، فإذا ليس الاشتراك بين الواجب والجائز في غير اسم الوجود والذات ، والاشتراك في الاسم مع اختلاف الحقيقة لا يوجب الأولوية ، لعدم ارتباط الإيجاد والإحداث بما وقع به الاشتراك من الاسم.

وما قيل من أن الجائزات بأسرها متماثلة ومتساوية بالنسبة إلى الموجود بالذات. فتوسع في الدعوى ، وذلك أن الخصم وإن سلم أن وجود الجائزات متساو بالنسبة إلى ذات الممكن ، بحيث لو اتصف بأي منهما كأن لم يكن ذلك لاختصاصه بمخصص من الذات القابلة له ، بل هي بالنسبة إليه وإلى غيره على السواء ، فليس يسلم تساويهما بالنسبة إلى المخصص ، لا سيما إن كان مقتضيا لذلك بالذات والطبع ، وذلك لأنه إذا كان المخصص مخصصا بالذات ، وكان له صلاحية تخصيص جميع الجائزات من الوجود والعدم من غير أولوية لأحدهما ، فهو إما أن يكون مخصصا لكل واحد منهما من جهة ما خصص الآخر بها ، فهو محال ؛ إذ المخصصات المختلفة مستحيل أن تستند في جانب مخصصها إلى شيء واحد من كل جهة. وإن كان ذلك باعتبار جهات فلا يكون الاقتضاء بالذات ، ولا يكون مستند سائر الممكنات إلى مجرد الذات قضية واحدة ، بل الذات لا تكون مقتضية إلا لشيء واحد إن اقتضت غيره فليس إلا باعتبار صفات زائدة عليها ، فإذا لفظ «الإيجاب بالذات» يلازمه نفي الاشتراك فيه والتساوي في نسبة الموجبات المختلفة إليه ، فالقول بوجوب التساوي إذ ذاك تناقض.

والذي يوضح مأخذ هذا المنع ما اشتهر من معتقد الخصم من أن نسبة إيجاد الباري ـ تعالى ـ لما أوجده بذاته كنسبة إيجاب حركة اليد لحركة الخاتم ، ولا يخفى أنه وإن كانت حركة الخاتم وسكونها بالنسبة إلى ذات الخاتم سيان ، فليس يلزم أن يكون سكون الخاتم وحركتها بالنسبة إلى حركة اليد سيان ، بل العقل يقضي باستحالة سكون الخاتم مع حركة اليد ، ووجوب حركتها عند حركة اليد.

٢٢١

وأما ادعاء المناسبة ووجوب التعلق بين الموجب بالذات وما أوجبه : إن أريد به أن يكون كل واحد منهما على حقيقته بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر فذلك مما لا نزاع فيه. وإنما الشأن بيان أنه لم يثبت للباري تعالى ولما أوجبه الحقيقة التي يكون بها أحدهما علة والآخر معلولا ، ولا يخفى ما فيه من التعسف. وإن أريد بالمناسبة المساواة والمشابهة في أمر ما فذلك أيضا تحكم غير مقبول. ثم كيف يمكن القول بذلك ولو وقع لم يخل إما أن يكون الإيجاب باعتباره ، أو باعتبار ما وقع الاختلاف فيه بين حقيقة الموجب والموجب : فإن كان باعتباره ، فليس جعل أحدهما علة للآخر بأولى من العكس ، لضرورة التساوي بينهما في ذلك المعنى. وإن كان باعتبار ما وقع به الاختلاف فلا حاجة إلى القول بالمشابهة ولا المساواة في شيء ما.

وما قيل : من أن المستفيد ليس له من المفيد غير الوجود ، وأما الوجوب فعارض وتابع للوجود ، فلا يوجب مقارنة وجود المستفيد لوجود مفيدة. فهو يشعر بعدم الإحاطة بمقصود الخصم من قوله : العالم واجب الوجود للواجب بذاته ، ومنشأ ذلك إنما هو اختلاف جهات حقيقة الوجوب مع اتحاد لفظ الوجوب ، فإن وجوب الوجود منه ما هو ثابت لذات الوجود ، وهو غير مراد فيما نحن فيه. ومنه ما هو مشروط بأمر خارج عن الذات ، ثم ذلك منه ما هو مشروط بنفس الوجود ، كقولنا : زيد واجب الوجود في حالة كونه موجودا. ومنه ما هو مشروط بما هو متعلق علة الوجود في العقل ، كما في قولنا بوجوب وجود المعلول بالنظر إلى علته ، ويكون معنى كون أنه واجب الوجود بالنظر إلى علته أنه لو فرض معدوما عند وجود علته لزم المحال.

ولا يخفى أن الوجوب بالاعتبار الأول تابع للوجود ، ولا يصح أن يقال بذلك الاعتبار : إنه وجب فوجب بل وجد فوجب ، وأما الوجوب بالاعتبار الثاني فإنه لا محالة متعلق علة الوجود ، فإنه يصح أن نقول ـ وإن قطعنا النظر عن الموجود ـ : إنه واجب الوجود بمعنى أنه يلزم من فرض عدمه لوجود علته

٢٢٢

المحال. وعلى هذا الاعتبار يصح أن يقال : أنه وجب فوجد ، أي لما لزم المحال من فرض عدمه عند وجود علته وجد ، ولا يصح أن يقال : وجد فوجب ، إذ يلزم المحال من فرض عدمه لوجود علته.

وعلى هذا إن أريد بمتابعة الوجوب للوجود ما هو بالاعتبار الأول بصحته ، لكنه مما لا يفيد ؛ إذ هو غير مراد للخصم. وإن أريد به الاعتبار الثاني فلا خفاء بفساده. ولا يخفى أن ذلك مما يوجب الملازمة بين الوجودين ، والمعية بين الذاتين ؛ إذ يستحيل أن يقال : إنه يلزم المحال من فرض عدمه مهما وجدت علته مع جواز فرض تأخره عنها ، وليس المعني بكونه واجبا بالواجب بذاته إلا هذا ، ولا سبيل إلى مدافعته.

وليس من السديد ما قيل في معرض الإلزام للخصم ، وإبطال القول بالقدم : إنك موافق على تسمية الباري فاعلا والعالم حادثا ، فلو كان وجود العالم ملازما لوجود الباري تعالى ملازمة لا يمكن القول بدفعها كملازمة الظل للشجرة والمعلول للعلة لامتنع تسميته فاعلا ، كما يمتنع تسمية الشجرة فاعلة للظل ، والعلة فاعلة للمعلول ؛ من جهة أن الفاعل عبارة عمن يصدر منه الفعل مع الإرادة للفعل وعلى سبيل الاختيار. وأيضا لامتنع تسمية العالم حادثا ، إذ الحادث هو ما له أول ووجوده بعد ما لم يكن.

فإن الخصم إنما يعني بكون الباري فاعلا للعالم أن وجوده لازم لوجوده لا غير ، وذلك إن لم يوافق الوضع اللغوي فلا يرجع حاصل السؤال إلا إلى مناقشة لفظية ومجادلة قولية ، ولا اعتبار به. وتسمية العالم حادثا إنما هو عنده بمعنى أنه في جانب وجوده مفتقر إلى غيره وإن لم يكن له أول. ومعنى كونه قديما أنه لا أول لوجوده ، إذ القديم قد يطلق عنده على ما لا أول لوجوده. وإن كان وجوده مفتقرا إلى غيره. وقد يطلق على ما لا يفتقر في وجوده إلى غيره ، كما سبق من أن تسمية العالم قديما ومحدثا إنما هو باعتبارين مختلفين ، ولا مشاحة في الإطلاقات بعد فهم غور المعنى.

٢٢٣

ولا يلزم على هذا أن يقال : إذا كان العالم لا أول لوجوده امتنع القول بإيجاده بغيره ؛ إذ القول بإيجاد الموجود محال. فإن من حقق مواقع الإجماع من إيجاد الحادثات بعد العدم سلم أنه لا أثر في الإيجاد لسبق العدم ، فإن إيجاد الموجد له إما أن يتعلق به في حال وجوده ، أو في حالة عدمه ، أو في الحالتين جميعا ، لا جائز أن يكون متعلقا به في حالة عدمه ؛ إذ هو محال. وبه نفس فساد القسم الثالث أيضا. فبقي أن يكون متعلقا به في حال وجوده ، فإنه لو قطع النظر في تلك الحالة عن الموجد لما وجد المعلول ، وليس استناد الموجد إلى الموجد من جهة وجوده حتى يطرد ذلك في كل موجود ، بل الصحيح أن إسناده إليه ليس إلا من جهة إمكانه ، وذلك وإن استدعى سبق الإمكان على الوجود بالذات فهو لا يستدعي سبق العلة أصلا.

ثم ولو قيل : إنه مستند إلى الموجد من حيث وجوده ، فإنما يلزم القول بالاطراد أن لو وقع القول بالاشتراك بين الموجودات في مسمى الوجود لا في مجرد التسمية كما بيناه من قبل.

فإذا القول بإبطال لزوم القدم إنما يلزم أن لو جاز صدور العالم عما صدر عنه بجهة القدرة والإرادة ، ولا يخفى جواز ذلك ، لضرورة كون الباري قادرا مريدا ، كما أسلفناه ، كيف وسنبين اندراجه في طرف سبق العدم بطريقة جامعة بينهما ، وسبيل واحد موصل إليهما ، من غير احتياج إلى تخصيص دليل بكل واحد منهما.

٢٢٤

الطرف الثاني

في إثبات الحدوث بعد العدم (١)

__________________

(١) مذهب أهل الحق من أهل الملل كلها أن العالم محدث ومخلوق أحدثه الباري تعالى وأبدعه وكان الله تعالى ولم يكن معه شيء ووافقتهم على ذلك جماعة من أساطين الحكمة وقدماء الفلاسفة مثل ثاليس وانكساغورس وانكسمانس ، ومن تابعهم من أهل ملطية ، ومثل فيثاغورث وانبدقلس وسقراط وأفلاطون من أثينية ويونان وجماعة من الشعراء والنساك ولهم تفصيل مذهب في كيفية الإبداع واختلاف رأي في المبادئ الأولى شرحناها في كتابنا الموسوم بالملل والنحل ومذهب أرسطاطاليس ومن شايعه مثل برقلس والإسكندر والأفروديسي وثامسطيوس ، ومن نصر مذهبه من المتأخرين مثل أبي نصر الفارابي وأبي علي الحسين بن عبد الله بن سينا وغيرهما من فلاسفة الإسلام أن للعالم صانعا مبدعا وهو واجب الوجود بذاته والعالم ممكن الوجود بذاته واجب الوجود بالواجب بذاته غير محدث حدوثا يسبقه عدم بل معنى حدوثه وجوبه به وصدوره عنه واحتياجه إليه فهو دائم الوجود لم يزل ولا يزال ، فالباري تعالى أوجب بذاته عقلا وهو جوهر مجرد قائم بذاته مجرد عن المادة وبتوسط ذلك أوجب عقلا آخر ونفسا وجرما سماويا وبتوسطهما وجدت العناصر والمركبات وليس يجوز أن يصدر عن الواحد إلا واحد ومعنى الصدور عنه وجوبه به ولا يتصور موجب بغير موجب فالعالم سرمدي وحركات الأفلاك سرمدية لا أول لها تنتهي إليه فلا تكون حركة إلا وحركة قبلها فهي لا تتناهى مدة وعدة واتفقوا على استحالة وجود علل ومعلولات لا تتناهى واتفقوا أيضا على استحالة وجود أجسام لا تنتهي بالفعل والضابط لمذهبهم فيما يتناهى وما لا يتناهى أن كل عدد فرضت آحاده موجودة معا وله ترتيب وضعي أو فرضت آحاده متعاقبة في الوجود وله ترتيب طبيعي فإن وجود ما لا نهاية له فيه مستحيل. مثال القسم الأول جسم أو بعد لا يتناهى. ومثال القسم الثاني علل ومعلولات لا تتناهى وما عدا ذلك كله جملة وعدد فرضت آحاده معا أو متعاقبة لا ترتيب لها وضعا ولا طبعا فإن وجود ما لا نهاية له فيه غير مستحيل. مثال القسم الأول : نفوس إنسانية لا تتناهى وهي معا في الوجود بعد مفارقة الأبدان. ومثال القسم الثاني : حركات دورية وهي متعاقبة في الوجود ومدار المسألة على الفرق بين الإيجاد والإيجاب وبين التقدم والتأخر وإن ما حصره الوجود فهو متناه من غير فرق بين الأقسام ، وما لا يتناهى قط لا يتصور إلا في الوهم والتخيل دون الحس

٢٢٥

__________________

والعقل ولا بد من بحث على محل النزاع حتى يتخلص فيكون التوارد بالنفي والإثبات على محل واحد من وجه واحد فيصبح انقسام الصدق والكذب والحق والباطل ولا يتبين محل النزاع إلا بالبحث عن أقسام التقدم والتأخر فقال القوم : التقدم والتأخر يطلق ويراد به التقدم بالزمان كتقدم الوالد على الولد ويطلق ويراد به التقدم بالمكان والتأخر به كتقدم الإمام على المأموم وقد يسمى هذا القسم متقدما بالرتبة وقد يطلق ويراد به الفضيلة كتقدم العالم على الجاهل وقد يطلق ويراد به التقدم بالذات والتأخر بها كتقدم العلة على المعلول وهؤلاء قصدوا في إطلاق لفظ الذات فإنهم أرادوا به العلية والذات أعم من العلية فكان من حقهم أن يقولوا التقدم بالعلية ثم العلة الغائية تتقدم على المعلول في الذهن والتصور لا في الوجود فهي متأخرة في الوجود متقدمة في الذهن بخلاف العلة الفاعلية والعلل الصورية فإنها لا تكون مقارنة في الوجود فافهم هذا فإنه ينفعك في نفس المسألة حيث يستشهدون بشعاع الشمس مع الشمس وحركة الكم مع حركة اليد فإنهما وإن تقارنا في الزمان أنهما إذا أخذا على أن أحدهما سبب والثاني مسبب لم يتقارنا في الوجود لأن وجود أحدهما مستفاد من وجود الآخر ، فوجود المفيد كيف يقارن وجود المستفيد لكن إذا أخذا على أن وجودهما مستفاد من وجود واهب الصور فحينئذ يتقارنان في الوجود وهناك لا يكون أحدهما سببا والثاني مسببا ومنهم من زاد قسما خامسا : وهو التقدم بالطبع كتقدم الواحد على الاثنين ولو طالبهم مطالب لم حصرتم الأقسام في أربعة أو خمسة لم يجدوا على الحصر دليلا سوى الاستقراء حتى لو قيل لهم ما الذي أنكرتم على من زاد قسما سادسا وهو التقدم والتأخر في الوجود من غير التفات إلى الإيجاب بالذات ، ولا التفات إلى الزمان والمكان والتقدم للواحد على الاثنين شديد الشبه بهذا القبيل ، فإن الواحد ليس بعلة يلزم منه وجود الاثنين ضرورة بل يمكن أن يتصور شيئان : أحدهما وجوده بذاته ، والثاني وجوده مستفاد من غيره ثم بعده ، ذلك يقع البحث في أنه يستفيد وجوده منه اختيارا أو طبعا أو ذاتا ، هذا معقول بالضرورة ثم يجب أن يفرض تقدم وجود المفيد على وجود المستفيد من حيث الوجود فقط من غير أن يخطر بالبال كون المفيد علة لذاته أو موجد له بصفة ثم يقع بعد ذلك التفات إلى أن الوجود المستفيد وجود واجب به لأنه علته أو لا يجب به ، وذلك لأن الوجوب بالغير لازم به فإنه يحسن أن يقال هذا قد وجد عنه ، فوجب به ولا يجوز أن يقال : وجب به فوجد عنه ولكل معنى من معاني التقدم والتأخر معية في مرتبته لا يجامع

٢٢٦

ولقد سلك بعض المتأخرين وهو «محمد الشهرستاني» في ذلك طريقة ظن أنه ممن حاز بها قصب سبق المتقدمين ، فقال في معرض الحكاية عن القوم في أقسام التقدم والتأخر معا : إن التقدم قد يطلق ويراد به التقدم بالزمان ، كتقدم آدم على إبراهيم ، وقد يطلق ويراد به التقدم بالشرف كتقدم العالم على الجاهل ، وقد يطلق ويراد به التقدم بالرتبة كتقدم الإمام على الصف في جهة المحراب إن جعل مبدأ ، وقد يطلق ويراد به التقدم بالطبع كتقدم الواحد على الاثنين ، وقد يطلق ويراد به التقدم بالعلية كتقدم الشمس على ضوئها ، وتقدم حركة اليد على حركة الخاتم ونحوه.

ثم زعم أن هذه الأقسام مما لا دليل على حصرها ، ولا ضبط لعددها ، حتى إنه زاد قسما سادسا وهو التقدم بالوجود ، من غير التفات إلى الزمان أو المكان أو الشرف أو الطبع أو العلية ، فقال : لا يبعد تصور شيئين وجود أحدهما لذاته ، ووجود الآخر من غيره ، ثم ننظر بعد ذلك هل استفاد وجوده منه طبعا أو ذاتا أو غير ذلك ، وعلى هذا النحو أقسام التأخر ومعا ، ثم قال : إن المعية من كل رتبة لا تجامع التقدم والتأخر من تلك الرتبة بحيث تكون نسبة أحد الشيئين إلى الآخر بالمعية والتقدم أو التأخر بالذات ، وإن جاز أن تكون المعية من رتبتها مجامعة للتقدم والتأخر من رتبة أخرى كالمعية بالشرف

__________________

ـ التقدم والتأخر في تلك المرتبة ، ويجامع في مرتبة أخرى مثاله تقدم السبب على المسبب ذاتا ووجودا أو مقارنته معا وزمانا أو مكانا ، ولكن لا يجوز أن تطلق معية ما على الباري تعالى والعالم فإذا ثبت هذا قلنا أما التقدم والتأخر الزماني فيجب نفيهما عن الباري تعالى وكما لا يجوز أن يتقدم على العالم زمانا لم يجز أن يكون مع العالم زمانا فانّا كما نفينا التقدم الزماني نفينا المعية الزمانية ومثار الشبهة ومجال الخيال هاهنا فإن فازت سفينة النظر عن هذه الغمرة فاز أهل الحق بقصب السبق في المسألة ، فإن ما لا يقبل الزمان ولم يكن وجوده زمانيا لم يجز عليه التقدم والتأخر والمعية الزمانية كما أن ما لا يقبل المكان ولم يكن وجوده وجودا مكانيا لم يجز عليه التقدم والتأخر والمعية المكانية راجع نهاية الأقدام للشهرستاني (ص ١٢) بتحقيقنا.

٢٢٧

والتقدم بالزمان ونحوه ، ثم بين ذلك وحكى ما قرر من بيان إمكان العالم باعتبار ذاته وافتقاره إلى مرجح خارج ، ووجوب تقدم المرجح عليه ذاتا ووجودا وامتناع تحقق المعية بكل حال بينهما ، فقال : إذا ثبت أن العالم مفتقر في جانب وجوده إلى مرجح وجب أن نفرض المفيد له متقدما على وجوده ذاتا ووجودا ؛ إذ المفيد مستحيل أن يقارن وجوده وجود المستفيد ، من حيث هما كذلك. وإن قدرت المقارنة بينهما في الوجود كما في حركة اليد مع حركة الخاتم فليس يتصور إلا أن يكون قد أخذا وجودهما عن أمر خارج عنهما لا أن يكون أحدهما سببا والآخر مسببا ، وإذا كان المفيد له سابقا عليه ذاتا ووجودا فيستحيل أن يكون معه بالوجود والذات ؛ إذ قد بان أن المعية من كل رتبة لا تجامع التقدم ولا التأخر من رتبتها بالنظر إلى جهة واحدة ، ولا جائز أن يكون معه بالزمان ولا المكان وإلا كان وجود الباري زمانيا ومكانيا ؛ إذ المعية من جهة المضافات كالأخوة والأبوة ، وإن كان أحد الشيئين مع الآخر بالأخوة كان الآخر معه بها ، ولا يجوز أن يكون معه بالفضيلة والشرف إذ كيف يكون الناقص المفتقر إلى غيره في وجوده مساويا في الفضيلة لما وجوده بذاته غير مفتقر إلى غيره. وكذا لا جائز أن يكون بالتقدم وانتفاء المعية بكل حال ، وثبت أن الباري كان ولم يكن معه شيء ، وأن كل ما أوجده فلا يكون إلا عن سبق عدم عليه.

ولربما أورد ـ في سياق كلامه ـ ما يشعر بزيادة تقرير لهذا المعنى : وهو أن العالم إذ كان ممكنا باعتبار ذاته فالوجود له عرض مأخوذ من الغير ، والعدم له ذاتي مأخوذ من ذاته ، وما هو ذاتي للشيء يكون سابقا على ما هو عرضي بالنسبة إليه ، فالعالم إذا مأخوذ من ذاته ، وما هو ذاتي للشيء يكون سابقا على ما هو عرضي بالنسبة إليه ، فالعالم إذا في وجوده مسبوق بموجود هو واجب الوجود بذاته ، وتقدمه هو ثابت لذاته ، وما له أول والعدم سابق على وجوده سبقا ذاتيا كيف يكون وجوده مع وجود ما لا أول لوجوده ولا عدم بسبقه؟

٢٢٨

وهذا جملة ما أورده متفرقا في غضون كلامه ، ولكنا كسوناه ترتيبا ، وزدناه إلى الفهم تقريبا ، وهو ـ عند التحقيق ـ سراب غير حقيقي ، وذلك أن ما ذكره من القسم السادس الزائد على أقسام التقدم والتأخر ومعا وأن كان الحق على مذهب أهل الحق لكنه مما لا تقع فيه بمجرد المقال ومحض الاسترسال ؛ إذ ربما يقول الخصم : إن ذلك ليس بزائد على الأقسام المذكورة والمراتب المحصورة ، بل هو داخل فيها ، وذلك أن ما فرض متقدما بوجوده ، إما أن يكون بينه وبين المتأخر عنه مدة يمكن وجود ثالث بينهما فهو المتقدم بالزمان. وإن لم تكن بينهما مثل هذه المدة ، فإما أن يفتقر إليه المتأخر في وجوده أم لا يفتقر : فإن لم يفتقر فالتقدم والتأخر بينهما إما بالنسبة إلى أمر يرجع إليهما أو بالنسبة إلى أمر خارج عنهما فإن كان الأول فهو المتقدم بالفضيلة والشرف ، وإن كان الثاني فهو التقدم بالرتبة والمكان. وإن كان المتأخر مفتقرا إليه في وجوده ، فإما أن يصح أن يفرض بينهما مدة أو لا يصح ، فإن كان الأول فالمتقدم متقدم بالطبع ، وإن كان الثاني فهو المتقدم بالعلية.

وما فرض متقدما بالوجود ، وبينه وبين المتأخر عنه مدة كالمدة المفروضة ، وإن افتقر الخصم إلى بيان كونه متقدما بالزمان ، لضرورة الحصر في الخمسة الأقسام فلا بد من بيان نفيه أيضا عند من زاد قسما سادسا ، وهو التقدم بالوجود ، لضرورة صحته ، وإلا فكل واحد من الفريقين يتحكم بالدعوى.

ثم ولو قدر تسليم الخصم بجواز وقوع هذا القسم السادس مع تسليم افتقار العالم إلى مرجح لوجوده على عدمه ، فليس يلزم من ذلك تسليم وجود التقدم في الوجود ، وإن سلم أنه لا بد من وجوب التقدم بأحد الأنحاء المذكورة ، بل له أن يقول : إذا فرض شيئان أحدهما مستفاد من الآخر فالواجب أن يفرض وجوب التقدم لأحدهما على الآخر ، من غير تخصيص بالوجود والزمان أو الذات ، ثم ننظر بعد ذلك : فإن كان بينهما مدة وجاز تأخر أحدهما عن الآخر قيل تقدم بالوجود والزمان ، وإن لم يكن بينهما مدة

٢٢٩

ولا يجوز تأخر أحدهما عن الآخر قيل إنه متقدم بالعلة فقط وهما معا بالوجود ، وذلك كما في حركة الخاتم مع حركة اليد ونحوها ، وعند ذلك فلا يلزم من كون العالم مفتقرا في وجوده إلى غيره أن يكون الغير متقدما بالوجود ، ولا أولوية لإحدى الدعويين على الأخرى.

وعند ذلك فلا يلزم التناقض من القول بوجوب تقدم الباري تعالى على العالم بالعلية ومن كونه معه في الوجود ؛ إذ هما من مرتبتين مختلفتين ، وإنما يلزم التناقض أن لو قيل إنه سابق عليه بالوجود ومعه بالوجود ، وليس كذلك ، بل المعية عند الخصم بين العالم والباري تعالى إنما هي في رتبة الوجود دون غيره والتقدم إنما هو في رتبة العلية دون غيرها.

وما قيل من أن الخلق مستحق العدم باعتبار ذاته فغلط من قائله ؛ إذ لو استحق العدم لذاته لكان ممتنعا ولما تصور وجوده ولا بغيره ، ولخرج عن كونه ممكنا ، بل كما أن الوجود ليس له لذاته كذلك العدم ، ولا يكون أحدهما سابقا لكن قد يكون ما هو علة ومرجح للوجود بوجوده هو علة ومرجح لعدم بعدمه ، فإن تحقق وجوده لزم الوجود ، وإن تحقق عدمه لزم العدم لا محالة.

ومما اعتمد عليه أيضا ـ في هذا الباب ـ الجهابذة من المتكلمين وفضلاء المتقدمين المسلك المشهور والطريق المذكور : وهو أنهم حصروا العالم في الجواهر والأعراض ، ثم قصدوا لإثبات الحركة والسكون أولا ، ثم لبيان حدثها ثانيا ، ثم لبيان تناهيها ثالثا ، ثم لبيان امتناع عرو الجواهر عنها رابعا ، ثم بنوا على ذلك أن العالم لا يسبق الحوادث ، وكل ما لا يسبق الحوادث حادث.

وهذه الطريقة ـ وإن أمكن فيها بيان وجود الأعراض ، وكونها زائدة على الجواهر ، وإبطال القول بالكمون والانتقال ـ فقد يصعب بيان امتناع عرو جوهر عنها ، بل وقد يصعب بيان حدث كل ما لا يعرى الجوهر عنه في وجوده من الحركات والسكنات ، وحدوث الحركة وإن كان مسلما ـ فليس

٢٣٠

يلزم منه حدث ما بطل به من السكون ، بل من الجائز أن يقول الخصم بقدمه وأنه لا أول له ، وفواته لا يدل على حدثه ، وإن دل على أنه لم يكن له ذلك لذاته.

وقول القائل : إن ما يثبت قدمه لو بطل لا فتقر إلى سبب ، إذ يستحيل أن يكون ذلك له لذاته وإلا لما بطل ، وإذا افتقر إلى سبب فالسبب إما فاعل للعدم بالقدرة أو ضد أو انقطاع لا جائز أن يكون بالقدرة ؛ إذ الفعل بالقدرة يستدعي مقدورا والعدم ليس معنى فيستحيل أن يكون مقدورا. ولا جائز أن يكون السبب هو مانع ، فإنه إما قديم وإما حادث فإن كان قديما استحال أن يعدم في الآن ولا يعدم في القدم ، وإن كان حادثا فليس إبطال ما كان بكونه أولى من إبطال كونه عما كان ، ولا جائز أن يكون السبب هو فوات شرط فإنه إما حادث أو قديم ، لا جائز أن يكون حادثا ؛ إذ الحادث لا يصلح شرطا للقديم. وإن كان قديما فالكلام في ذلك القديم كالكلام في الأول ، وهو يسلم للمحال. وهو وإن سومح في قوله بكون الإعدام ليس بمقدور ، مع صحة النزاع فيه فمن الجائز أن يكون دوام السكون إلى حين وغاية يستند إلى إرادة قديمة اقتضت دوامه إلى ذلك الحين ، وعند انقطاع تعلق الإرادة به انقطع دوامه وذلك على نحو انقطاع سائر الموجودات ، وإذ ذاك فلا تسلسل ، وليس يلزم من كونه متعلق الإرادة ومقتضى القدرة أن يكون حادثا كما لا يلزم أن يكون قديما ، بل القدم والحدث إنما يعرض لما هو متعلق الإرادة والقدرة بأمر خارج عنهما ، هذا كله إن سلم كون السكون أمرا وجوديا ، ومعنى حقيقيا.

وإلا فإن سلك القول بكونه أمرا سلبيا ، ومعلوما عدميا ، فإنه لا معنى له إلا عدم الحركة ولا يلزم من القول بإبطاله بوجود الحركة أن يكون هو حادثا ، بمعنى أن له أولا ، إذ الأولية لا تتحقق إلا بعد الوجود ، وإن سلك ذلك لزم منه القول بسبق العدم على الوجود ، والوجود على العدم إلى ما لا يتناهى ، وفيه القول بقدم الحادث قطعا ، وعند ذلك فالطريقة تكون منصوبة لنقيض المأخوذ.

٢٣١

وإن قيل بالوقوف على عدم لا يلزم ثبوت الأولية له بسبب إبطاله بالوجود بعده. لم يلزم القول بأن الحركة الحادثة دالة على حدث السكون ، وليس المقصود غير الإنصاف وتجنب طرق الاعتساف ، وإلا لما اهتممنا بالكشف عن هذه العورت ، ولا الإبانة عن هذه الغمرات ، وهو إنما يعرفه الفطن الثبت الواعي لا الجاهل العنيد المتعامي.

فإذا الواجب فرض الدلالة في إثبات حدث الكائنات الفاسدات ، وما نجده على سبيل الاستحالة ، كالأزمنة والحركات وغير ذلك من الأمور المتعاقبات ، والطريقة الرشيقة في إثبات حدثها وبيان وجودها بعد عدمها ما سلكناه في قطع تسلسل العلل والمعلولات ، وقد سبق وجه تحقيقه ، فلا حاجة إلى إعادته ، واللازم عن ذلك على معتقد الخصم حدث الأفلاك لضرورة الحدث والانتهاء لما قام بها من الحركات وامتناع خلوها عنها عنده ، ويلزم من ذلك حدوث العقول التي هي مبادئ الأفلاك عندهم ، وحدث المعلول الأول الصادر عن واجب الوجود ، لكون ما وجد عنه وعنها حادثا ، وأن إيجادها لما وجد عنها ليس إلا بالذات وأن التقدم والتأخر بينهما بغير هذه الرتبة من الممتنعات كما عرفنا ، من تفصيل مذهبهم وأوضحناه من زيف معتقدهم. ويلزم من ذلك أن يكون وجود ما صدر عن واجب الوجود اختياريا وإبداعيا لا واجبا ، إذ لو استند ذلك إلى ذات المرجح له لما تأخر عن وجوده ، لتساوي أوقات الحدوث بالنسبة إليه.

ولا يلزم على هذا أن يقال : ولو كان وجوده إراديا لما تأخر وجوده عن وجود الإرادة المخصصة له ، لتساوي أوقات الحدوث بالنسبة إليها أيضا. إذ هو يتضمن إبطال معنى الإرادة ، إذ الإرادة على ما وقع عليه الاتفاق ـ ليس إلا عبارة عن معنى يخصص الحادث بزمان حدوثه ، فإن قيل : إن نسبة سائر أوقات الحدوث إلى الإرادة على وتيرة واحدة ، فلم خصصته بالبعض دون البعض؟ كان معناه : لم كانت الإرادة إرادة؟ ولا يخفى ما فيه من الغباوة والحمق والجهالة وليس هو إلا كما لو قيل : الإنسان ـ مثلا ـ حيوان ناطق فقيل : ولم؟ إذ ليس حاصله غير القول : لم كان الإنسان إنسانا؟ وهو هو معنى ،

٢٣٢

وهذا ما أردنا ذكره في إبطال القول بالقدم ، وإثبات سبق العدم. وعند ذلك فلا بد من الإشارة إلى شبه أهل التعطيل ، والإبانة عن معتمداتهم بطريق التفصيل :

الشبهة الأولى :

أنهم قالوا : لو كان العالم حادثا لم يخل ـ قبل الحدوث ـ من أن يكون ممتنعا أو ممكنا ، لا جائز أن يكون ممتنعا ، وإلا لما وجد ولا بغيره ، وإن كان ممكنا فحدوثه بعد ما لم يكن إما لمرجح أو لا لمرجح لا جائز أن يكون لا لمرجح ، وإلا كان بذاته واجبا ، ولما كان معدوما في وقت ما ، وقد فرض معدوما ، وذلك محال. وإن كان له مرجح فإما أن يكون قديما أو حادثا ، فإن كان قديما فإما أن يكون عند الحدوث كهو قبل الحدوث أو أنه يحدث له أمر لم يكن ، فإن كان عند الحدوث كهو قبله وجب أن يستمر العدم على ما كان. وإن حدث له أمر لم يكن فالكلام في حدوث ذلك الغير كالكلام فيما وقع الكلام فيه أولا. وعند هذا فإما أن يتسلسل إلى غير النهاية ، أو يقف الأمر عند مرجح قديم من كل وجه لم يحدث له أمر : لا جائز أن يقال بالتسلسل ، وإن قيل بالثاني فيجب أن يستمر العدم أيضا ولا يقع به الترجيح كما لم يقع به الترجيح أولا. وهذا التقسيم بعينه لازم إن كان المرجح برمته حادثا. وهذه المحالات كلها إنما لزمت من فرض العالم حادثا ، فلا حدوث.

الشبهة الثانية :

أنه لو كان العالم حادثا لم يخل : إما أن يكون بينه وبين الباري تعالى مدة مفروضة ، أو لا مدة بينهما : فإن لم يكن بينهما مدة لزمت مقارنة وجود العالم لوجود الباري تعالى ومع ذلك يستحيل أن يكون حادثا ، وإلا كان الباري تعالى حادثا ، لضرورة مقارنته للحادث. وإن كان بينهما مدة فإما أن تكون بينهما مدة فإما أن تكون متناهية أو غير متناهية فإن كانت متناهية لزم أن يكون وجود الباري تعالى متناهيا أيضا ، وهو ممتنع. وإن كانت غير متناهية فكما يلزم ظ جواز وقوع مدة لا تتناهى يلزم جواز وقوع عدة لا تتناهى.

٢٣٣

الشبهة الثالثة :

هو أن الوجود صفة كمال ، وعدمه نقصان فلو كان العالم قديما لكان الباري ـ تعالى ـ فيما لم يزل جوادا ، ولو كان حادثا لما كان الباري ـ تعالى ـ فيما لم يزل جوادا ، وذلك نقص في حقه ، ولربما قرروا هذا بتقرير آخر ، وقالوا : لو كان العالم حادثا لما كان وجوده إلا بالإرادة ، وكل موجد بالإرادة فإنه لا بدّ وأن يكون الوجود عنده أولى من أن لا وجود ، وإلا كان فعله للوجود عبثا ، وكل ما فعله بالفاعل أولى من أن لا فعله فإنه يستفيد بفعله كمالا وبتركه نقصانا ، والباري يستحيل أن يستفيد كماله مما هو ناقص مفتقر إليه في وجوده ، أو أن يكون الباري تعالى قبل حدوث العالم ناقصا.

الشبهة الرابعة :

أنه لو كان العالم موجودا بعد أن لم يكن فكل موجود بعد ما لم يكن لا بدّ له من زمان ومادة متقدمين عليه ، أما وجه تقدم الزمان فهو أن ما وجد بعد العدم فله قبل كان معدوما فيه لا محالة ، وإلا لما كان له أول ، ثم ذلك القبل إما أن يكون موجودا أو معدوما : لا جائز أن يكون معدوما وإلا لما كان له قبل هو فيه معدوم ، فإن كان موجودا فليس هو مع ولا بعد ، إذ القبلية لا تجامع المعية ولا البعدية بحال. وإذا فذلك ، القبل قد تقضى ومضى وهو المعنى بالزمان ، ثم ما من قبل يقرض وإلا وهو في تجويز العقل مسبوق بقبل آخر إلى ما لا يتناهى ، وفي القول بانتهائه إثبات العجز وإبطال التجويز وهو محال.

وأما وجه الافتقار إلى سبق المادة فمن وجهين : أحدهما أنه إذا ثبت سبق الزمان فذلك مما لا يتم وجوده إلا بموضوع يقومه ، إذ هو معنى عرضي ، وأما الوجه الثاني فهو أن كل حادث بعد ما لم يكن إما أن يكون واجبا أو ممتنعا أو ممكنا لا جائز أن يكون واجبا وإلا لما زال موجودا ، ولا جائز أن يكون ممتنعا وإلا لما وجد ولا بغيره ، فبقي أن يكون باعتبار ذاته ممكنا. وإذ ذاك فإما أن يكون إمكان كونه معنى موجودا أو معدوما لا جائز أن يكون معدوما وإلا لما كان الإمكان على وجوده سابقا ، إذ لا فرق بين قولنا : إن

٢٣٤

الإمكان معدوم وبين قولنا إنه لا إمكان. فبقي أن يكون موجودا ، وإذا كان موجودا فهو مما لا سبيل إلى قيامه بنفسه فتعين افتقاره إلى مادة يقوم بها ويضاف إليها ، وهكذا في كل ما يفرض من الحوادث إلى ما لا يتناهى ، لكن منهم من أثبت لها وجودا مجردا عن الصورة ، ونظرا إلى أن ما صورة تفرض إلا ويمكن القول بفسادها وكون غيرها ، وما جاز عروه عن كل واحد واحد من آحاد الصور جاز عروه عن الجميع ، ومنهم من لم يثبت لها وجودا دون الصورة ، بناء على أنه لو كان لها وجود دون الصورة لم يخل ، إما أن تكون متحدة أو متكثرة : لا جائز أن تكون متحدة وإلا كان ذلك لها لذاتها ، ولما تصور عليها نقيض الاتحاد. ولا جائز أن تكون متكثرة ، إذ التكثر لها مع قطع النظر عن الصور وعما يوجب التغاير والتمييز ممتنع.

قالوا : وليس يلزم من جواز عروها في حالة الوجود عن كل واحدة من آحاد الصور جواز عروها عن جميع الصور ، لجواز أن يكون الشرط في تحقق وجودها ليس إلا واحدة من الصور على البدل ، كيف وأن القول بجواز عروها عن كل ما يقدر من الصور في حالة الوجود غير مسلم ، فإن ما وقع به الاشتراك من الصورة الجسمية وهي الأبعاد التي تشترك بها الأجسام فيما بينها ، من حيث هي أجسام ، لا يجوز تبدلها أصلا ، وإن جاز القول بتبدل غيرها من الصور ، واتساع القول في ذلك لائق بالقانون الحكمي ، وحقيق بالمنهج الفلسفي.

وهذه الشبهة في إثبات المادة هي ما أوجبت للجمهور من المعتزلة اعتقاد كون المعدوم شيئا وذاتا معينة من غير أن يصفوه بالوجود ، لكن منهم من أثبت له خصائص الوجود بأسرها حتى التحيز للجوهر والقيام بالمحل إن كان عرضا ، ومنهم من أثبت له خصائص الوجود غير هذين ، ومنهم من لم يطلق عليه اسم الشيئية إلا لفظا وعبارة فقط ، وسنستقصي الكلام في الرد عليهم إذا انتهينا من الانفصال عن شبه أهل الضلال إن شاء الله تعالى.

٢٣٥

والجواب

أما الشبهة الأولى :

فمندفعة ، من جهة أنه لا مانع من أن يكون حدوث العالم مستندا إلى إرادة قديمة اقتضت حدوثه في الوقت الذي حدث فيه ، واقتضت استمرار عدمه إلى ذلك الوقت أيضا ، فعند ذلك لا يكون الحدوث والتجدد لتجدد شيء ولا لعدمه ولا يلزم من وجوده أن يكون مقتضاه موجودا مع وجوده ، ولا يلزم على هذا إلا ما ذكروه في إبطال القول بالصفات أو استبعاد صلاحية الإرادة للتخصيص ، بناء على أن نسبة جميع الأوقات إليها نسبة واحدة وقد تكلمنا على ذلك بما فيه مقنع وكفاية. كيف وإن ذلك ما يصح استبعاده من الخصم وإلا لما ساغ له الاعتراف بوجود حادث ما ، وإلا فما ذكره من الشبهة تكون إذ ذاك لازمة له من غير محيص.

وأما الشبهة الثانية :

فإنهم إن أرادوا بالمدة معنى زمانيا وأمرا وجوديا حقيقيا ، فالتقسيم بذلك إنما يصح على ما هو قابل للتقدم والتأخر والمعية الزمانية ، وأما على ما ليس بقابل فلا ، والباري ـ تعالى ـ ليس بقابل للتقدم والتأخر بالزمان لكون وجوده غير زماني ، كما أنه غير قابل للتقدم والتأخر المكاني لكون وجوده غير مكاني ، فإذا قيل : إن تقدمه على العالم بمدة زمانية كان محالا ، كما أنه محال أن يتقدم على العالم بالمكان ، وعلى ذلك فلا يلزم بنفي المدة والتقدم الزماني القول بالمعية بينهما ، كما لا يلزم القول بنفي المكان والتقدم به المعية أيضا. فإذا المعنى بكون الباري ـ تعالى ـ متقدما أنه كان ولم يكن معه شيء. والمعنى بكون العالم حادثا أو متأخرا أنه كان بعد ما لم يكن ، وذلك لا يستوجب التقدم بالزمان ولا التأخر به.

نعم ، لا ينكر أن الأوهام قد تنقطع عن الوقوف على مدة لا يرتمي الوهم إلى تقدير مدة قبلها ، وإلى تقدير مدة بين وجود الواجب بذاته ووجود

٢٣٦

العالم ، لكن ذلك كله من تقديرات الأوهام وتخييلاتها ، فلا يقضى بها على العقليات والأمور اليقينيات ، بل يجب أن يقضى بكل منهما على تقديراتها ومنها تقدير [أن] العالم إما خلاء أو ملاء إلى غير النهاية. كيف وأنه لما أريد بلفظ المدة الزمان كان التقسيم خطأ ؛ إذ الزمان من العالم والكلام أيضا واقع فيه. فإذا قيل : إما أن يكون بين الباري ـ تعالى ـ وبين العالم زمان أو ليس ، فهو محال ؛ إذ الزمان الذي وقع الخلاف فيه لا يكون متقدما على نفسه ، بحيث يفرض أنه بين نفسه وبين الباري ـ تعالى ـ ، اللهم إلا أن يفرض الكلام في بعض الأزمنة ، وهو غير مقصود بالخلاف ، إذ ليس هو كل العالم وإنما هو بعضه.

وأما الشبهة الثالثة :

فحاصل لفظ «الجود» فيها يرجع إلى الدلالة على صفة فعلية وهو كونه موجدا أو فاعلا لا لغرض يعود إليه ، ولا لنفع يتوجه عليه. وعند ذلك فادعاء كونه صفة كمالية ليس هو بأولى من ادعاء كونه ليس بكمال ؛ إذ ليس هو من الضروريات ولا من المعاني البديهيات. كيف وأنه لو كان من الكمالات لقد كان كمال واجب الوجود متوقفا على النظر إلى ما هو مشروف بالنسبة إليه ومتوقف في وجوده عليه ، ومحال أن يستفيد الأشرف من مشروفه كماله ، كما في كونه موجدا بالإرادة.

ثم ولو فرض ذلك فإنما يكون عدمه نقصا أن لو قدر جواز وجود الكائنات أزلا ، إذ كون الشيء واقعا فرع كونه جائزا ، وإذ قد بينا أن ذلك ممتنع بما سلف ، فإذا لا نقص بعدم إيجاد ما هو ممتنع ، وهذا على نحو قولهم في نفي النقص عنه بمنع إيجاده للحوادث المركبات بناء على امتناع صدورها ووقوعها به من غير واسطة ، ولا يلزم من عدم جوازه في القدم أن يكون ممتنعا بحيث لا يتصور وجوده ولا في وقت ما ، وإن كان يلزم من ذلك أن يكون في الأزل ممتنعا ، وذلك أن ما قضي بامتناع وجوده في الأزل هو ما لا

٢٣٧

يتناهى ، وما قضي بجواز وجوده ما هو متناه ، وليس يلزم من امتناع ما لا يتناهى امتناع ما هو متناه. ثم ولو قدر أن وجوده في الأزل جائز لكن يجب القول بتناهيه كما يجب القول بتناهي أبعاد العالم وإن كانت بالنظر إلى الجواز العقلي لا تتناهى.

وأما ملازمة النقص للإيجاد بالإرادة والاختيار فمبني على رعاية الصلاح والأصلح ووجوب النظر إلى الأولى ، وقد بينا وجه إبطاله فيما سلف ، وبينا أن الفعل وأن لا فعل بالنظر إلى واجب الوجود سيان ، وهما بالنسبة إليه متساويان ، وأنه لا أولوية ولا ترجيح ، وأن له أن يفعل ، من غير أن يكون المفعول أو المتروك نفسه حسنا ولا قبيحا ، وعلى هذا فهو لا يستفيد بالفعل كمالا ، ولا بالترك نقصانا.

ثم كيف يصح هذا الإلزام من الخصم مع اعترافه بأن ما في عالم الكون والفساد من الحركات والامتزاجات وسائر الحادثات مستندة إلى الحركات الدورية ، وهي بأسرها تستند إلى إرادة قديمة نفسية ثابتة للأجرام الفلكية ، ولا محالة أن الجوهر النفساني أشرف مما وجب به ، فإن كان الإيجاد بالإرادة مما يوجب توقف كمال المريد على المراد ، فكيف يقال بذلك في النفس وهي أشرف مما وجد بها؟ وإن كان ذلك مما لا يوجب التوقف فكيف صح إبعاده من الجملة؟ فما يتحقق جوابا للخصم عن الإلزام عن إيجاد الأنفس الفلكية للحركات الدورية فهو بعينه جواب لنا هاهنا ، وهذا كله مما قد نبهنا عليه فيما سلف.

وأما الشبهة الرابعة :

فأما دعوى لزوم سبق الزمان على كل ما حدوثه بعد العدم بناء على قياسه فمبني على كون القبل أمرا وجوديا ومعنى حقيقيا ، وليس كذلك ، بل المعنى بكون الحادث ذا قبل أنه لم يكن فكان ، وذلك إنما هو أمر سلبي لا معنى وجودي ، ومهما قيل إنه ذو قبل موجود فلا يعني به إلا هذا ، ومهما ورد السلب على القبلية فهو وارد على السلب ، وذلك لا يجوز ؛ إذ سلب

٢٣٨

السلب إيجاب الإيجاب وهو محال ، لما أسلفناه. لكن غاية ما يقدر وجود مدة سابقة بناء على تقدير وهمي وتجويز خيالي ، وذلك مما لا يقضى به على العقول ، لما عرف.

وبما حققناه هاهنا يبطل ما ذكروه من بيان سبق المادة في الوجه الأول أيضا ، وأما ما ذكروه في الوجه الثاني فقد قيل في دفعه : إن معنى كون الشيء ممكنا أنه مقدور عليه ، وذلك مما لا يستدعي وجود مادة تقوم المقدورية بها. وهو غير صواب ، فإنا لو جهلنا كون الشيء مقدورا عليه أو ليس مقدورا لم يمكنا التوصل إلى معرفته إلا بكونه ممكنا أو ليس بممكن ، فلو كان معنى كونه ممكنا أنه مقدور لقد كان ذلك تعريف الشيء بنفسه في حالة كونه مجهولا ، وهو محال.

فإذا الصواب أن يقال : إن الإمكان أيضا ليس هو في نفسه حقيقة وجودية ولا ذاتا حقيقية ، وإنما حاصله يرجع إلى نفي لزوم المحال من فرض وجود الشيء وعدمه ، وذلك لا يستدعي مادة يضاف إليها ولا يقوم بها ، إذ هو في المعنى ليس إلا من القضايا السلبية دون الإيجابية. كيف وإن ذلك مما لا يصح ادعاؤه من الخصم ولا كان واجبا لذاته أو لغيره : فإن كان واجبا لذاته فقد لزم اجتماع واجبين ، وهو خلاف ما مهدت قاعدته. وإن كان وجوبه لغيره لزم أن يكون لذاته ممكنا. ثم ولو استدعى الإمكان مادة يضاف إليها سابقة على كون ما قيل له ممكن لكان كل ممكن هكذا ، وذلك مما يخرم قاعدة المحققين من الإلهيين في النفوس الإنسانية والجواهر الصورية فإنها في أنفسها ليست مادية ، وإن كانت ممكنة ، وجودها بعد ما لم تكن ، فإذا الواجب أن يتصور من إمكان كل موجود بعد العدم ما يتصوره الخصم من إمكان النفوس الإنسانية والجواهر الصورية وغير ذلك من الأمور البسيطة الغير المادية.

فإن قيل : الإمكان وإن رجع حاصله إلى سلب المحال عن طرف الوجود

٢٣٩

والعدم ، فهو لا محالة يستدعي ما يصح أن يضاف إليه الوجود والعدم اللذين سلب المحال عن فرضهما ، وذلك الذي يصح اتصافه بالوجود والعدم هو الذي يجب أن ـ يكون سابقا وهو المعني بالمادة ، وعلى هذا القول فالإمكان السابق على النفوس الإنسانية والجواهر الصورية إنما هو عائد إلى المواد فيقال : إنها ممكن أن تدبرها النفس الناطقة وممكن أن تحل بها الصورة ، أما أن يكون عائدا إلى نفس الصورة والنفس فلا.

قلنا : ولو استدعى سلب المحال عن فرض الوجود والعدم مادة يضاف إليها الوجود والعدم لاستدعى الامتناع ، وهو لزوم الحال من فرض الوجود ، مادة يضاف إليها الوجود ، ولو كان كذلك للزم من فرض القول بامتناع إلهين ووجود مبدأين تحقق المادة وهو محال. ومن رام تفسير امتناع وجود الشريك أو مبدأ آخر بوجوب انفراد واجب الوجود عن النظير ؛ إذ هو لازم امتناع وجود النظير حتى ترجع الإضافة إلى ذات الباري تعالى فهو مع تعسفه وإهمال النظر فيما يستحقه الشريك الممتنع لذاته قد لا يسلم عن المعارضة بنفس الإمكان السابق على الوجود بعد العدم بما يوجب رده إلى ذات واجب الوجود أيضا ، وهو أن يقال : المعني بكون الحادث ممكنا قبل وجوده جواز وجود الباري ـ تعالى ـ مع وجوده ؛ إذ هو لازم قولنا : ليس بواجب الانفراد ولا ممتنع ، ولا محيص عنه. وأما رد الإمكان في النفوس والصور إلى المواد وكونها ممكنة أن تحل فيها الصور أو تدبرها النفوس فلا يستقيم ؛ فإن الصور والنفوس ـ باعتبار ذواتها ـ لا تخرج عن أن تستحق الوجوب أو الامتناع أو الإمكان ، وقد بان أن الإيجاب والامتناع عليهما ممتنعان فتعين الإمكان ، والإمكان الثابت للشيء باعتبار ذاته لا يتصور أن يعود إلى غيره. ثم وإن صح ذلك فقد لا يبعد أيضا أن يفسر غيره الإمكان في الحادث بجواز إيجاد الموجد له ، وعند ذلك فتكون إضافة الإمكان إلى الموجد لا إلى الموجد ، وبه يندفع ما ذكروه.

فإذا قد ثبت أن الكائنات موجودة بعد ما لم تكن ، ومسبوقة بالعدم ،

٢٤٠