التّفسير القرآني للقرآن - ج ٣

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٣

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

فهؤلاء الذين يوادّون غير المؤمنين ، ويلقون بأنفسهم فى أهل الكتاب ، ويوثقّون صلاتهم بهم ، إنما يفعلون هذا ليكون لهم منه شفيع عند أهل الكتاب ، إذا كان لهم الغلب يوما على المؤمنين ، فلا يصيبهم من الدائرة ـ وهى الهزيمة وما يلحق أصحابها من أذى ـ ما يصيب المؤمنين ، إذا هم أصابتهم الدائرة التي يتوقعها المنافقون لهم.

وقوله تعالى : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) هو وعيد للمنافقين بما يملأ قلوبهم حسرة وندما ، إذ جاء تدبيرهم وبالا عليهم وخسرانا لهم ، حين قدّروا أن الدائرة ستدور على المؤمنين ، فأخلوا مكانهم من بينهم ، واتخذوا أهل الكتاب أولياءهم ـ ثم هو وعد كريم من الله ، يجىء بتلك البشريات المسعدة للمؤمنين ، وبأنهم هم المنتصرون ، وأن الخزي والخذلان لأعدائهم ، ولمن انضوى إليهم من منافقين .. (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) الذي يمكّن للمؤمنين من أعدائهم ، وقد جاء نصر الله والفتح ، ودخل الناس فى دين الله أفواجا فدالت دولة الشرك ، وذهبت ريح النفاق والمنافقين.

وقوله تعالى : (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) أي تدبير من عند الله ، يجىء على غير انتظار ، وعلى غير عمل من المؤمنين ، كأن يوقع الشقاق والخلاف بين أحلاف السوء ومجتمع الضلال ، فيفضح بعضهم بعضا ، ويخذل بعضهم بعضا ، فإذا أولياء الأمس أعداء اليوم ، يبرأ بعضهم من بعض.

وحمل هذا الوعد الكريم من الله للمؤمنين على يدى فعل الرجاء «عسى» إنما ليقيم المسلمين على رجاء وأمل فى رحمة الله بهم ، وفضله عليهم ، فتظل قلوبهم شاخصة إلى الله ، ذاكرة له ، ترقب غيوث رحمته ، وفواضل نعمه .. ولو جاء هذا الوعد الكريم قاطعا منجزا لما بعث فى القلوب المؤمنة تلك

٣٨١

المشاعر المتجددة ، ولما أمسك بها هذا الزمن الطويل ، متشوّفة بأبصارها وقلوبها إلى غيوث رحمة الله ، ومواطر أفضاله ونعمه.

وقوله تعالى : (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) هو عرض لتلك النهاية التي ينتهى إليها أمر هؤلاء المنافقين ، وما يؤول إليه عاقبة مكرهم وتدبيرهم .. إنه الندم والحسرة والخسران.

قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) .. هو عرض لهؤلاء المنافقين فى معرض آخر من معارض الخزي والفضيحة ، فبعد أن دعا الله سبحانه وتعالى كل ذى نظر أن ينظر إلى هؤلاء المنافقين ، ويشهد كيف يتهالكون على أهل الكتاب ، ويرتمون فى أحضانهم ، خوفا من أوهام متسلطة عليهم ـ بعد أن عرضهم الله سبحانه فى هذا المعرض الفاضح ، وتوعدهم بالخزي والخسران ، بنصر الله المؤمنين ، وبخذلان الكافرين والمنافقين ـ جاءت هذه الآية الكريمة ، تدعو المؤمنين إلى أن يديروا النظر مرة أخرى إلى هؤلاء المنافقين ، وأن يقلّبوا صفحات تاريخهم فى الإسلام ، ويتتبعوا مسيرتهم معه .. ثم ليصدروا حكمهم عليهم .. وهنا يكثر حديث المؤمنين عن هؤلاء المنافقين ، ويلقى بعضهم بعضا بما اطلعوا عليه من نفاقهم ، فتكثر فيهم القالة ، ويكثر العجب والدهش من أمرهم ، وإذا الفضيحة تجلجل بصوتها فى كل أفق ، وتتحرك بأشباحها فى كل مكان.

وليس ما حكاه القرآن من مقولة المسلمين فيهم : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) ليس هذا هو كل ما قيل فيهم .. وإنما هو مضمون ما قيل ، وصميم ما ينبغى أن يقال فى هؤلاء المنافقين .. إذ أنهم كانوا يحلفون بالله للمؤمنين جهد أيمانهم ـ أي بأغلظ أيمانهم وآكدها ـ إنهم لمع المؤمنين ، ولن يتخلّوا عنهم فى حرب أو سلم ..

٣٨٢

وهذا الحلف نفسه ، والمبالغة فيه هو الذي يكشف المستور من أمرهم ، ويعطى الدليل على أنّهم على غير الإسلام .. إذ أنهم لو كانوا مسلمين حقّا لما حلفوا وأكّدوا الحلف أنهم مؤمنون ، ومع المؤمنين .. فما دعاهم أحد أن يحلفوا ، ولكنّ كائن النفاق الذي يعيش فى كيانهم هو الذي حملهم على أن يستروا كذبهم ونفاقهم بهذه الأيمان المؤكدة ، حتى لا يفتضح ما فى قلوبهم .. وهكذا المجرم ، يحوم حول جريمته ، يريد أن يخفى معالمها حتى ولو لم تكن هناك معالم لها .. لأنه لخوفه يتصور أن كل ما كان فى مكان الجريمة من كائنات ، شاهد عليه ، ينادى فى الناس بالإمساك به قبل أن يفلت.

وقوله تعالى : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي فسد تدبيرهم ، وخاب ظنّهم ، وبطل سعيهم ، فكان ذلك خسران لهم أي خسران .. خسروا المؤمنين الذين أصبحوا فيهم وقد افتضح أمرهم لهم ، وخسروا أولياءهم من أهل الكتاب بعد أن أصابتهم الهزيمة ، وعلت راية الإسلام ، وعزّت كلمته ..

____________________________________

الآيات : (٥٤ ـ ٥٦)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٥٦)

____________________________________

التفسير : بعد هذه المراقبة التي اطلع منها المسلمون على هؤلاء المنافقين الذين ارتدّوا على أدبارهم ، وألقوا بأنفسهم فى مجتمع اليهود وغيرهم ، ممن يكيدون

٣٨٣

للإسلام ، ويبيّتون الشرّ للمسلمين ، وبعد أن عاين المسلمون ما وقع أو ما سيقع للمنافقين من سوء حال وشر منقلب ، وخسران للدنيا والآخرة ـ بعد هذا كان على المسلمين أن يراقبوا أنفسهم ، وأن يأخذوا حذرهم من أن يردوا هذا المورد الآسن الآثم .. فجاء قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) منبها لهم ومحذّرا ، أن من يرتدّ منهم عن دينه كما ارتدّ هؤلاء المنافقون الذين عرفوا أمرهم ومصيرهم ، فستكون عاقبة المرتد منهم هى نفس عاقبة أولئك المنافقين : النّدم والحسرة والخزي والخسران المبين ..

والارتداد ، معناه الرجوع إلى وراء ، والعودة من المكان الذي كان قد تحرك منه المرتدّ إلى الأمام .. وهذا يعنى أنه يهدم ما بنى ، وينقض ما غزل ولا يفعل ذلك إلا سفيه أحمق!

وفى إضافة الدّين إلى المؤمن ، وبلفظ المفرد. هكذا : (عَنْ دِينِهِ) ما يلفت المؤمن إلى هذا الدين الذي دخل فيه ، وأصبح من أهله ، وأنه دينه هو ، وثمرته عائدة عليه وحده ، وأنه الدّين الذي ينبغى أن يعيش فيه ، ويشتدّ حرصه عليه. إذ هو الدين الذي يدين به كل عاقل .. إنه دينه ، إن كان من أهل العقل والرشاد.

وقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) هو معطوف على جواب الشرط ، وليس جوابا للشرط ، وإن كانت الفاء الواقعة فى جواب الشرط تشير إلى هذا الجواب ..

ويكون معنى الآية هكذا : يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسيلقى مالقى هؤلاء المنافقون الذين ارتدوا ، من نكال وبلاء وسوء مصير ، ثم إنّه لن يضرّ الله شيئا ، ولن يضير المسلمين فى شىء ، لأنه سيخلى مكانه ، الذي كان له

٣٨٤

فى الإسلام ، ليأخذه من هو أولى به منه ، وأكرم عند الله ، وأكثر نفعا للمسلمين ، وأعظم غناء فى الإسلام .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ...) الآية.

وهؤلاء القوم الذين سيأتى الله بهم ، ويدخلهم فى دينه ، قد وصفوا بأوصاف أربعة :

أولا : يحبهم الله ويحبونه ..

وحبّ الله لهم : دعوتهم إلى الإسلام ، وشرح صدورهم له ، وثثبيت أقدامهم فيه .. لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أحبّهم ، وهو الذي اختارهم ودعاهم .. وهذا فضل عظيم ، ودرجة من الرضا ، لا ينالها إلا من أكرمه الله ، واستضافه ، وخلع عليه حلل السعادة والرضوان .. جعلنا الله من أهل محبته ، وضيافته.

أما حبّهم هم لله ، فهو فى استجابة دعوته ، وامتثال أمره ، والولاء له ، ولرسوله وللمؤمنين ..

ثانيا : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ).

إجماع المفسّرين على أن هذا الوصف ، هو وصف لهؤلاء القوم بعد أن دخلوا فى الإسلام ، فكانت تلك صفتهم ، وهذا سلوكهم فيه .. (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي متخاضعين للمؤمنين ، لا يلقونهم إلا باللّين والتواضع .. (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) أي أشدّاء وأقوياء ، لا يلقى منهم أهل الكفر إلا بلاء فى القتال ، واستبسالا فى الحرب .. أما فى السّلم فهم جبال راسخة فى الإيمان .. لا ينال أحد منهم نيلا فى دينه ، ولا يطمع أحد من أعداء الإسلام فى موالاتهم أو فى تعاطفهم معه.

٣٨٥

هذا هو إجماع المفسّرين فى فهم هذا المقطع من الآية ، ويشهدون لذلك بقوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٢٩ : الفتح)

ومع هذا ، فإنى أستريح لفهم آخر ، غير هذا الفهم .. أرى أنه يفتح لهذا المقطع آفاقا أرحب من هذا الأفق الذي حصره المفسرون فيه ، وأطلعوه منه.

فأقول ـ والله أعلم ـ إن هذا الوصف هو وصف لهؤلاء القوم الذين سوف يدعوهم الله سبحانه وتعالى إليه ، وييسّر لهم الطريق إلى دينه.

وفى قوله تعالى (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) ـ نرى :

١ ـ أن هؤلاء القوم المدعوّين إلى ضيافة الله هم من الذين كانوا يستخفّ بهم مؤمنون ، ويحقرونهم ، لأنهم كانوا على عداوة ظاهرة للإسلام ، وعلى كيد عظيم للمسلمين .. فهم ـ والحال كذلك ـ ميئوس من دخولهم فى الإسلام ، لا يطمع المسلمون فى أن يكونوا معهم فى يوم ما ، وعلى هذا ، فهم لا حساب لهم فى الإسلام عند المسلمين ، ثم هم فى الوقت نفسه (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) إذ كانوا سندا قويا لهم فى مواجهة الإسلام والمسلمين.

وحسبنا أن نذكر هنا خالد بن الوليد ، وعكرمة بن أبى سفيان ، وقد كانا هما للّذين كسبا معركة أحد لقريش ، بعد أن كادت الدائرة تدور عليهم. ثم دخلا بعد ذلك فى الإسلام فكانا درعين حصينين للإسلام ، وقوة من القوى التي استند عليها فى هزيمة الكفر ، وإعلاء كلمة الله .. كانا أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين .. هكذا كانا قبل أن يدخلا فى الإسلام.

٢ ـ أن فى هذا العرض لهؤلاء القوم الذين لم يكن أحد ينتظر منهم خيرا

٣٨٦

للإسلام ، ثم إذا هم خير كثير له بعد أن دخلوا فيه ـ فى هذا ما يغرى أولئك المسلمين الذين تتلجلج فى صدورهم دواعى النفاق ، أن يستمسكوا بمكانهم فى الإسلام ، وأن يرسّخوا أقدامهم فيه ، حتى لا يأخذ مكانهم أولئك القوم ، الذين ينظرون إليهم نظر اتهام وازدراء ، إذا كانوا حربا على الإسلام والمسلمين ..

٣ ـ حين ينظر المنافقون إلى هذا المقطع من الآية الكريمة ـ على هذا الفهم ـ ويرون أن رؤوس الكافرين ، وأهل العزّة فيهم سيكونون يوما فى جانب المسلمين ـ حين يرون هذا يفكرون أكثر من مرة قبل أن يلوذوا بحمى هؤلاء الأعزة الأقوياء ، ويرون أن من الخير لهم أن ينتظروهم على الطريق وهم متجهون إلى دين الله!

٤ ـ فى هذا الفهم تبدو هناك طريق مفتوحة دائما لمن يكيدون للإسلام ـ وهم غالبا أصحاب دولة وصولة فى مجتمع الكفر والضلال ـ ينفذون منها إلى الإسلام ، ويعطون من قوتهم له ، ما أعطوه من قبل فى حربه ، وعداوته .. وفى عمر بن الخطاب شاهد مبين لهذا.

وهكذا ، يصبح من كان عدوا لله ولرسوله وللمؤمنين ، وليّا لله ، متابعا لرسول الله ، مجاهدا فى سبيل الله ، على حين يتحول من كان ـ فى ظاهره ـ مواليا لله ، ولرسوله ، ولدينه ، عدوا الله ، ولرسوله ، وحربا على دينه ..

فهناك طريقان : طريق .. يستقبل منه الإسلام ، أقواما كانوا أعداء له وحربا عليه .. وطريق .. يتسلل منه جماعات من المسلمين ، إلى حيث الكفر والضلال ..

ثالثا : (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ).

هذه صفة ثالثة من صفات أولئك الداخلين فى الإسلام ، المدعوين إلى

٣٨٧

ضيافة الله فيه ، بعد أن طرد من ضيافته أولئك المنافقين ومن فى قلوبهم مرض.

فهؤلاء المسلمون الجدد : (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ويدفعون عن الإسلام والمسلمين يد البغي والعدوان ، ويعطون ولاءهم كله لدينهم الذي دعاهم الله إليه ، وارتضاهم له .. لا يضنّون عليه بأموالهم ولا بأرواحهم.

رابعا : (لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ).

ومن صفاتهم أنهم فى إيمانهم ، وفى جهادهم فى سبيل الله ، لا ينظرون إلى غير الله ، ولا يلتفتون إلّا إلى نصرة دين الله ، لا يثنيهم عن ذلك لوم لائم ، من قريب أو صديق ، ممن بقي على الكفر من أقاربهم وأصدقائهم .. إنهم باعوا كل شىء ، وتخلّو عن كل شىء ، إلا إيمانهم بالله ، ونصرتهم لدين الله.

وفى قوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) إشارة إلى أن هذا الذي يجرى فى حياة الناس ، من تحول وتبدل ، فيتحول أهل الكفر والضلال إلى الهدى والإيمان ، هو من فضل الله ، الذي استنقذ به أولئك الضالين الذين كانوا على شفا حفرة من النار .. وهذا الفضل هو بيد الله ، لا يملك أحد منه شيئا (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ويصرفه عمن يشاء .. (وَاللهُ واسِعٌ) لا يضيق فضله بأحد ، ولا تنفذ خزائنه بالإنفاق .. «عليم» بمن هم أهل لهذا الفضل ، فخصّهم به ، واجتباهم له .. (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) .. هو دعوة للمؤمنين جميعا ، من دخل فى الإسلام ، ومن لم يدخل بعد ، أن تكون ولايتهم ونصحهم لله ولرسوله وللمؤمنين ..

٣٨٨

وفى قوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) هو صفة للمؤمنين الذين يطمئن إليهم المؤمن ، ويعطيهم ولاءه ونصحه ، ومحبته. وفى هذا تحذير للمؤمنين أن ينخدعوا لمن آمن بلسانه ، ولم يدخل الإيمان قلبه ..

ومن آثار الإيمان بالقلب أن يقيم المؤمن الصلاة ، وأن يؤتى الزكاة .. يقيم الصلاة خاشعا ، ويؤدى الزكاة راضيا ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَهُمْ راكِعُونَ) أي خاشعون ، فى غير رياء ، أو استعلاء .. لأنهم فى صلاتهم وزكاتهم على عبادة لله ، وفى حضور بين يديه ، فينبغى أن يعطوا هذا المقام حقّه من الخشوع لله ، والخضوع بين يديه ، حتى يكونوا فى معرض القبول من الله ، لصلاتهم وزكاتهم.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) بيان لما تثمره الموالاة لله ورسوله والمؤمنين ، فإن من يوالى الله يكون من حزب الله ، ومن كان فى حزب الله فهو من الفائزين ، لأنه فى ضمان الله ، وفى جنده الذين لا يغلب أبدا .. (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢١ : المجادلة).

هذا ، وقد ذهب كثير من المفسّرين إلى أن قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) مراد به «علىّ بن أبى طالب» كرّم الله وجهه .. ويروون لهذا أحاديث ، تفيد أن هذه الآية نزلت فى «علىّ» رضى الله عنه ، وأنّه تصدق على فقير سأله وهو راكع فى الصلاة ، فنزع خاتما كان فى يده ، وألقاه إليه ، وهو فى صلاته ..!

وفى هذا الخبر أمور .. منها :

أولا : أن الخطاب عام ، بلفظ الجمع : (الَّذِينَ آمَنُوا ..) والوقوف

٣٨٩

بالآية عند صريح لفظها خير من التأويل والتخريج ، إذ لا يعدل عن صريح اللفظ ، إلا إذا كان ما يخفيه وراءه أولى مما يبديه ظاهره.

والعكس هنا صحيح ، إذ ظاهر الآية وصريح لفظها أولى من حمله على غير هذا المحمل ، كما سترى.

وثانيا : هذا السائل الذي يسأل مؤمنا قائما بين يدى الله يؤدى الصلاة .. ألا ينتظر حتى يفرغ المصلّى من صلاته؟ أهو غريق مشرف على الهلاك ، حتى يستنجد بمن هو قائم بين يدى الله ، عابدا خاشعا؟

ثالثا : الإمام «على» كرم الله وجهه ، وهو فى استغراقه فى صلاته بين يدى ربه .. أيقطع هذا الموقف ، وجلاله ، وروعته ، ليتصدق على فقير؟ وماذا لو انتظر حتى يفرغ من الصلاة؟ أيموت هذا الفقير جوعا؟ إن ذلك كان يمكن أن يقع لو أن نارا علقت بهذا الإنسان الفقير ، وكادت تلتهمه ، ولا منقذ له إلا على بن أبى طالب!

وعلى هذا فالآية الكريمة خطاب عام للمؤمنين جميعا .. وإنما صرفها إلى هذا الوجه من التأويل ، ما جاء فيها من «الولاية» التي يستخرج منها بعض الشيعة دليلا على أحقّية علىّ بالخلافة ، وأن هذه الآية تؤيد حديثا يروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أخذ بيد علىّ كرم الله وجهه ، ثم قال : «من كنت مولاه فعلىّ مولاه .. اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه.»!

والموالاة هنا معناها الحبّ ، والمودة ، لا الخلافة ، فمن أحبّ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجب عليه ـ دينا ـ أن يحبّ آل بيته ، ومنهم علىّ كرم الله وجهه ، بل ووجب عليه دينا أن يحبّ كل مؤمن .. (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا).

٣٩٠

____________________________________

الآيتان : (٥٧ ـ ٥٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (٥٨)

____________________________________

التفسير : دعوة أخرى من الله ـ سبحانه ـ إلى المؤمنين أن يجتنبوا هؤلاء المنافقين والكافرين ، الذين يهزءون بهم وبدينهم ، ويتخذون من أحاديثهم فى المجالس معرضا للسخرية بالمسلمين والزراية بدينهم .. وهذا أقل ما فيه هو أن يغار المسلم على دينه ، وأنه إن لم يستطع قطع هذه الألسنة التي تهزأ بدينه وتسخر منه ، فإن أضعف الإيمان فى هذا الموقف هو أن يتجنب هؤلاء الساخرين المستهزئين ، وأن ينظر إليهم نظرة العدوّ المتربص به ، فلا يأمن له ، ولا يركن إليه.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إشارة إلى أن الغيرة على الدين ، والانتصار له ممن ينتهك حرمته ، هو من تقوى الله ، وأن موالاة أعداء الإسلام ، والكائدين له ، والمستهزئين به ، هو مما يبعد عن التقوى ، ويحجز المؤمن عن أن يكون من المتقين .. فإذا كان المؤمن مؤمنا حقّا ، فليتق الله .. وأول مداخل التقوى إلى الله ، هو توقير الله ، وتوقير دينه ، والغيرة على حرماته ، والدفاع عنها ، واعتبار كل عدوان عليها منكرا ، يدفعه بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان .. كما يقول ذلك النبىّ الكريم فى حديثه الشريف.

٣٩١

وقوله تعالى : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً) هو استحضار لصورة من صور الهزء والسخرية التي يحارب بها الإسلام ، فى محيط الكافرين ، والمنافقين ، ومن فى قلوبهم مرض .. وفى عرض هذه الصورة ما يثير مشاعر المسلمين ، ويلفتهم إلى هذا العدوان الذي يرميهم به أعداؤهم ، وهم فى هذا الموقف العظيم ، بين يدى رب العالمين .. فإن كل مسلم ينتظم فى صفوف المسلمين للصلاة يصيبه رشاش من هذا الأذى الذي يرمى به أعداؤهم فى أعقاب المسلمين ، وهم ركّع وسجود .. ولن يطهّر هذا الأذى ، ويذهب بهذا الرجس ، إلا بأن يأخذ المسلم بحقّه من هؤلاء الذين اعتدوا عليه ، وآذوه فى دينه!

وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) هو تسفيه لهؤلاء الذين يحادّون الله ورسوله ، ويهزءون ممن يولّى وجهه إلى الله ، راكعا وساجدا .. ولو عقلوا لعلموا أنهم بعملهم هذا ، يحاربون الله ويصدّون الناس عن أداء حقّه عليهم من الولاء لجلاله ، والشكران لنعمه إنهم ظلموا أنفسهم ظلما فوق ظلم .. ظلموها (أولا) إذ لم يؤدّوا حق الله عليهم ، وظلموها (ثانيا) إذ يصدّون الناس عن عبادة الله ، بهذا الاستهزاء الذي يلقونه إليهم وهم بين يدى الله.

____________________________________

الآيتان : (٥٩ ـ ٦٠)

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٦٠)

____________________________________

٣٩٢

التفسير : قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) هو نداء مطلق لأهل الكتاب ، وخاصة اليهود ، وليس المراد بهذا القول أن يلقاهم النبىّ به ، وأن يبلغهم إيّاه ، وإنما هو قول موجّه إلى النبىّ وإلى المؤمنين. تنكشف به حال أهل الكتاب ، وموقفهم العنادىّ من المؤمنين .. وليس يمنع من هذا أن يستمع اليهود إلى هذا القول ، وأن يعرفوا رأى القرآن فيهم ، إذ كانوا دائما يتتبعون أخبار النبىّ وما ينزل عليه من كلمات ربّه ، ليبحثوا فيها عن شبهة ، يضلّون بها المؤمنين ، ويفتنونهم فى دينهم ..

وفى هذه الآية يرى المؤمنين أن هذا الموقف العنادىّ من أهل الكتاب الذي يقفونه منهم ، لا سبب له ، إلا إيمان المؤمنين بالله ، وما أنزل عليهم من قرآن ، وما أنزل على النبيين قبلهم من كتب الله .. ذلك فى حين أن أكثر أهل الكتاب «فاسقون» أي خارجون على دين الله ، منكرين أو متنكرين لرسل الله وكتب الله ..

تلك إذن هى أسباب هذه الحرب الخبيثة التي يعلنها اليهود على المؤمنين .. إنها عداوة بين المؤمنين وغير المؤمنين ، بين من استجاب لله ورسله ، ومن حادّ الله ورسله.

وقوله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) الإشارة هنا إلى موقف أهل الكتاب هؤلاء ، ونقمتهم على المؤمنين ، لا لشىء إلا لأنهم مؤمنون .. وهذا موقف يورد صاحبه موارد البوار والهلاك ، وهذا هو المصير الذي سيصير إليه المعاندون من أهل الكتاب ، الذين وقفوا من النبىّ ومن دعوته إلى الإيمان بالله ، هذا الموقف .. ثم إذ يعرض القرآن اليهود المعاصرين للنبوة فى هذا المعرض ، ينتقل بهم فى لمحة خاطفة تردّهم إلى الماضي البعيد ، وتشرف بهم على آبائهم وأجدادهم ، الذين كان لهم موقف من رسل الله كهذا

٣٩٣

الموقف الذي يقفونه هم من رسول الله ، ومن المكر بآيات الله ، فكان عقابهم أليما شديدا ، إذ جعل الله منهم القردة والخنازير وعبدة الطاغوت ، بهذه اللعنة التي رماهم الله بها ، فمسخت آدميتهم ، ونسخت طبيعتهم ، فإذا هم قردة وخنازير فى صور آدمية ، يعبدون الطاغوت ، ويوالون الشيطان .. والأبناء يعرفون عن يقين خبر هذا البلاء الذي حلّ بآبائهم، فكانوا مثلة فى الناس. فإذا كان هؤلاء الأبناء لم يمسخوا بعد قردة وخنازير وعبدة للطاغوت ، فإنهم على الطريق الذي يقودهم إلى هذا البلاء ، إذا هم ظلّوا على هذا الموقف من النبىّ ، ومن دعوته ، ولم يفيئوا إلى السلامة والعافية ، بموادعة النبىّ أو متابعته على دينه.

وفى التعبير عن العقاب الأليم هنا بلفظ المثوبة ، التي يعبّر بها فى مقام الجزاء الحسن ـ فى هذا ما يشير إلى أن هذا العقاب هو الجزاء الحسن الذي يحلّ باليهود ، إذا هو قيس بما وراءه من ألوان العقاب والنّكال ، الراصد لهم!

____________________________________

الآيات : (٦١ ـ ٦٣)

(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٦٣)

____________________________________

التفسير : النفاق هو الصفة الغالبة على اليهود ، فهو توأم الحسد الذي يملأ قلوبهم ضغينة وحقدا على الناس ..

فهم إذا التقوا بالمؤمنين لأمر ما بيّتوه فى صدورهم ، أظهروا الإيمان ،

٣٩٤

حتى يطمئن إليهم المؤمنون ، ويأمنوا جانبهم .. وهم على الحقيقة ليسوا من الإيمان فى شىء ..

وفى قوله تعالى : (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) تغليظ لكفرهم ، وتجسيم له ، لكثافته ، وإطباقه عليهم ، حتى لكأنه يكاد يكون كائنا محسوسا ، يعيش معهم كما يعيش بعضهم مع بعض .. (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) .. إنه أشبه بالوليد تحمله أمّه على صدرها ، حتى لكأنه قطعة منها ، تغدو به ، وتروح به ، لا تدعه بعيدا عنها لحظة واحدة .. وقد حسبوا أنهم أخفوا هذا الكفر الذي يحملونه فى صدورهم ، ولكن الله أعلم بما يكتمون ، لا تخفى على الله منهم خافية.

قوله تعالى : (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي أن كثيرا من هؤلاء اليهود ، يأتون المنكرات فى غير تحرّج أو تأثّم ، بل يفعلونها وكأنها قربات يتقربون بها إلى الله .. فهم يلقون بالكلمات الكاذبة ، الآثمة وكأنّهم يرتّلون مزمارا من مزامير داود ، وهم يعتدون على حرمات الله ، ويستبيحون محارمه ، وكأنهم يتناولون طعاما شهيا ، على جوع وحرمان ، وهم يأكلون أموال الناس بالباطل ، وكأنها مائدة عيسى المنزلة عليهم من السماء!

وهذا كله يكشف عن ضمائر ميتة ، ومشاعر متبلّدة ، لا تتأثّم من إثم ، ولا تعفّ عن محرّم.

وفى قوله تعالى : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) حكم يدين أفعالهم تلك ، ويدمغها بالسوء ، الذي يردى أهله ، ويهلك المتلبّسين به.

وقوله تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) هو تشنيع على علماء اليهود ، وأهل الرأى فيهم ، وأنّهم لا ينكرون

٣٩٥

هذا المنكر الذي يعيش فيه أتباعهم ، ويموج فيه عامتهم ، وهم الأعين المبصرة فيهم ، ولكنها أعين ترى الحق فتصدّ عنه ، وترى النور فتعشى به.

وقوله تعالى : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) هو توبيخ لهؤلاء العلماء ، ووعيد لهم ، إذ عرفوا الحق وكتموه ، ورأوا المنكر وسكتوا عنه أو أجازوه .. ولهذا وصف الله عملهم هذا بأنه ليس مجرد عمل ، بل هو صنعة ، أي عمل مع علم ، على حين وصف عمل أتباعهم بأنه «عمل» لأنه عمل لا يستند إلى علم ، وإنما مستنده أوهام وأباطيل .. (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

____________________________________

الآية : (٦٤)

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٦٤)

____________________________________

التفسير : لم تقف جرائم اليهود عند حدّ التطاول على الأنبياء ، والاعتداء على أموال الناس وأكلها سحتا وعدوانا ، بل لقد تطاولوا على الله سبحانه وتعالى ، وتعاملوا معه كما يتعاملون مع النّاس ، فقالوا فيه سبحانه تلك القولة المنكرة : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) أي ممسكة ، بخيلة ، حتى لكأن غلّا يمسكها ، وقيدا يقيّدها عن البذل والعطاء!.

إنهم لا يرضون بما فى أيديهم من هذا المال الكثير الذي سلبوه من الناس ، وجمعوه من كل وجه حرام .. بل هم يريدون أن تتحول الجبال ذهبا ، يكون لهم وحدهم ، لا ينال أحد غيرهم ذرة منه ..

٣٩٦

إنهم يريدون الله أن يكون مترضيّا لأهوائهم ، مستجيبا لهذا الجشع الذي لا يشبع أبدا .. فإن لم يفعل ذلك كان عندهم إلها بخيلا ممسكا ، لا يستحق أن يحمد أو يعبد!.

وقد أخذهم الله سبحانه بهذه القولة العظيمة ، فجعل عقابهم من جنس عملهم : «غلّت أيديهم» .. فهذا هو حكم الله عليهم بما جدّفوا هم عليه به .. فجعل أيديهم شحيحة ممسكة ، لا تنضح بخير أبدا ، ولا تجود بمعروف أبدا .. يجمعون المال ، ويشقون فى جمعه ، ثم لا ينعمون بهذا المال ، ولا ينالون منه ما ينال أصحاب المال من أموالهم من متع الحياة ونعيمها .. فهم هكذا أبدا .. كائنات مشتتة فى كل وجه من وجوه الأرض ، تجمع المال ، وترد موارد الهلاك فى سبيله ، وأيد شحيحة لا تنفق من هذا المال ، ولا تنتفع به .. (كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

وليس هذا وحده هو حكم الله فيهم ، وعقابه لهم ، على تلك الكلمة الفاجرة ، بل لقد رماهم الله بعقوبة أخرى ، هى آلم وأنكى .. إذ صبّ عليهم لعنته : (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) .. فهم لعنة تمشى على الأرض ، لا يراهم النّاس إلا كانوا منهم فى وجه عداوة وبغضه ، وإلّا موضع بلاء وانتقام .. (مَلْعُونِينَ .. أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (٦١ : الأحزاب).

وقوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) .. تلك هى يد الله ، عطاؤها جزل ، ومواهبها تفيض على الأرض والسماء .. له ملك السموات والأرض .. ينفق كيف يشاء ، حسب ما يقضى علمه ، وكما تقدّر حكمته.

وفى قوله سبحانه : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) إشارة إلى أن هذا الذي نزل على «محمد» من هدى ونور ، هو مما بسطته يد الله لعباده من رزق ، وإنه لرزق كريم ، فيه الغنى كلّه ، والسعادة كلها ..

٣٩٧

وهؤلاء القوم مدعوّون فيمن دعوا .. إلى هذا الرزق الكريم ، وإلى هذا العطاء الجزل ، ولكنّهم لم يستقبلوا هذا الخير استقبال النعم ، بالحمد والشكر ، بل زادهم ذلك طغيانا إلى طغيان وكفرا إلى كفر .. ولن يكون حالهم أحسن من هذا الحال ، لو بسط الله لهم فى الرزق ، من مال وغيره .. إنهم لن يزدادوا به إلا طغيانا وكفرا .. فهذا شأنهم مع كل نعمة من نعم الله.

قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) هو لعنة من لعنات الله على هؤلاء القوم ، تقطع معهم مسيرتهم فى الحياة ، متنقلة بهم من جيل إلى جيل ، إلى أن تقوم الساعة .. فالعداوة قائمة بينهم ، يطعمون منها طعاما خبيثا ، يملأ كيانهم حقدا وبغضا ، لا يطمئن لهم قلب ، ولا يستريح لهم بال ، فهم فى حرب مستعرة فيما بينهم ، وهم فى حرب متصلة بينهم وبين الناس جميعا .. يبغضون الناس ، ويبغضهم الناس ، وتلك هى اللعنة التي تأخذ الملعونين بالبأساء والضرّاء ، مع كل نفس يتنفسونه ، من الميلاد إلى الممات ..

وفى قوله تعالى : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) تأبيد لهذه اللعنة التي لا ترفع عن الملعونين أبدا ، حتى بعد موتهم .. فتصحبهم إلى قبورهم. وتبعث معهم يوم يبعثون.

قوم تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) النار التي يوقدها اليهود هنا ، هى كيدهم لدين الله ، ولرسول الله .. كلّما نزلت آية من آيات القرآن. الكريم ، نظروا فيها ، وتأوّلوها تأويلا فاسدا ، وعرضوها على ما عندهم من مقولات باطلة مضللة ، ليفسدوا بها على الناس دينهم .. وفى كل مرة يفعل اليهود هذا تفضحهم آيات الله على الملأ ، فلا يرجعون إلا بالخزي وسوء المنقلب وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (أَطْفَأَهَا اللهُ) أي أنه تعالى بما ينزل من آيات القرآن الكريم على النبي ، يبطل ما دبّر اليهود ، ويتبّر ما كانوا يعملون ،

٣٩٨

فإذا نارهم التي أوقدوها قد أصبحت رمادا ، لم يبق منها إلّا ما اصطبغت به وجوههم وجلودهم ، من سواد دخانها ، وذرور شررها.

قوله تعالى : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) العطف هنا هو على قوله تعالى : (وَلُعِنُوا بِما قالُوا ..) وعلى هذا يكون قوله تعالى (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) حكم من أحكام الله عليهم ، وأنه بعض معطيات اللعنة التي صبّها الله عليهم .. فهم أبدا مأخوذون بهذا الحكم ، لا يتحولون عنه أبدا .. أي أن سعيهم فى الأرض فسادا هو طبيعة فيهم ، لا يتحولون عنها أبدا.

قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) هو حكم على اليهود ، يتناولهم هم أولا ، ثم يمتدّ إلى كل مفسد غيرهم ثانيا ، فقد وصفهم الله سبحانه قبل ذلك بأنهم يسعون فى الأرض فسادا .. أي أنهم مفسدون ، ثم حكم سبحانه بأنه لا يحبّ المفسدين .. أي لا يحبّ هؤلاء الذين وصفوا بالفساد ، ولم يذكرهم الله تعالى بقوله والله «لا يحبهم» ليقيم الوصف الملازم لهم ـ وهو الفساد ـ مقامهم ، فهم والفساد كائن واحد.

____________________________________

الآية : (٦٥ ـ ٦٦)

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ(٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) (٦٦)

____________________________________

التفسير : العقوبات التي أخذ الله سبحانه وتعالى بها بنى إسرائيل لم تكن

٣٩٩

إلا جزاء لما كسبت أيديهم من سوء ، وما اكتسبت ألسنتهم من إثم .. وإلا فهم خلق من خلق الله ، وعباد من عبيده ، لم يخصّهم بهذه اللعنات التي مسخت وجودهم وغيّرت خلقهم ، إلّا لما كان منهم من محادّة الله ورسله ، ومكر بآياته وكتبه.

ولو أنهم آمنوا كما آمن المؤمنون ، واتقوا الله كما اتقى المتقون ، لكفّر الله عنهم سيئاتهم ، ولمسّهم برحمته ، وأفاض عليهم من رضوانه ، ولسلك بهم مسالك الحق والهدى .. ثم كان جزاؤهم فى الآخرة أن ينعموا بجناته التي أعدّها للمؤمنين المتقين من عباده.

فهذا مشهد يراه «اليهود» وكان من حقهم ـ لو عملوا له ـ أن ينالوه ويسعدوا به .. ولكنهم ـ وقد نكصوا على أعقابهم ـ لن ينالوه أبدا ، ولن يأخذوا نصيبهم منه أبدا.

وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) ـ هو إشارة إلى ما بين أيديهم من خير ضيّعوه ، وما معهم من نور أطفئوه!

فهذه التوراة .. يقول الله فيها .. (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) (٤٤ : المائدة).

وهذا الإنجيل .. يقول الله فيه .. (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) (٤٦ : المائدة).

وهذا القرآن .. يقول الله فيه .. (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢ : البقرة).

هذه الكتب المنزلة من عند الله ، تحمل الهدى والنور .. هى بين يدى

٤٠٠