التّفسير القرآني للقرآن - ج ٣

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٣

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

«ما إخالك سرقت؟» قال «بلى» (أي سرقت) فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا ، فأمر به فقطع ، وجىء به ، فقال له النبي الكريم : «استغفر الله وتب إليه» فقال : أستغفر الله وأتوب إلى الله .. فقال نبىّ الرحمة : «اللهم تب عليه» ثلاثا .. أي قال النبىّ ذلك الدعاء ثلاث مرات.

(٥) يجوز لصاحب المال المسروق إذا ضبط السارق أن يعفو عنه قبل أن يصل الأمر إلى القضاء ، فقد روى أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال لصفوان ابن أميّة وقد جاء ليشفع فيمن سرق رداءه ـ أي رداء صفوان ـ : «هلّا كان ذلك قبل أن تأتينى به؟».

وقوله تعالى : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) هو عزاء لهؤلاء الذين اقترفوا جريمة السّرقة ، سواء أقيم عليهم الحدّ فيها ، أو أفلتوا من إقامة الحدّ ..

وليس عزاء كهذا العزاء الذي يقدمه الله إليهم ، وقد أفسدوا إنسانيتهم بهذا الجرم الذي ارتكبوه ، فجاءهم هذا العزاء فى صورة دعوة كريمة من رب كريم ، يدعوهم فيها إلى جناب رحمته ومغفرته ، إذا هم أرادوا أن يلوذوا بهذا الجناب الكريم ، وأن يستظلوا به ، وذلك بأن يستشعروا الندم عن جرمهم ، وأن يبرءوا إلى الله منه بالتوبة والإنابة والاستغفار ، فإنهم إن فعلوا قبل الله توبتهم وغفر لهم ذنبهم : «ومن (يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً).

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) هو إلفات للطائعين والعاصين جميعا ، وأنهم كلهم فى قبضة الله ، يعذب من يشاء منهم جزاء ما ارتكب من إثم ، وقارف من ذنب ، ويغفر لمن يشاء ، فضلا منه وكرما .. فهو القادر على كل شىء ، والمالك لكل شىء!

٣٦١

وفى تقديم العذاب هنا على المغفرة ـ نظر .. إذ كانت رحمة الله تسبق غضبه وعذابه أبدا : ولكن إذ كان الموقف هنا موقف محاسبة للمذنبين ، ثم مغفرة ورحمة لمن تاب ورجع إلى الله منهم ـ كان ذكر العذاب مقدّما على ذكر المغفرة بالنسبة لهم ، ولو تقدمت المغفرة على العذاب هنا لما كان لعقاب المذنبين ـ مع سبق الرحمة ـ مكان ، ولشملتهم الرحمة قبل أن يؤخذوا بجرمهم ، ويقام الحدّ عليهم ، وإلا لسقطت الحدود ، واضطرب نظام المجتمع!

فكان تقديم العقاب أخذا لحق الله وحق العباد أولا ، ثم تجىء مغفرة الله ورحمته ، فتمحو آثار هذا العقاب وتعفّى عليه ، لمن وجّه وجهه إلى الله ، وطلب الصفح والمغفرة.

وقدّم السارق على السارقة .. لأن الرّجل أجرأ من المرأة على السرقة ، وأكثر تمرسا بها .. كما قدّمت المرأة على الرجل فى جريمة الزنا ، فى قول الله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ـ لأن هذه الجريمة لا تتم إلا بالرجل والمرأة معا ، والمرأة هى صاحبة الموقف هنا ، وبيدها الأمر فيه ، لأن الرجل طالب وهى مطلوبة ، فإذا لم تعطه نفسها ، ولم تمكنه منها فاته مطلوبه ولم تقع الجريمة ..

____________________________________

الآية : (٤١)

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ

٣٦٢

فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٤١)

____________________________________

التفسير : هذا عزاء وتسرية للرّسول الكريم ، عن هذا الحزن الذي كان يقع فى نفسه من أولئك الذين يتخذون دين الله لعبا ولهوا ، يلبسه أحدهم كما يلبس الثوب ، يستر به جسده من لفح الزمهرير ، أو وهج الحرور ، فإذا أمن الحرّ أو البرد ، طرحه ، وبدا للناس عاريا.

إن هؤلاء المتلاعبين بالدين لم يعرفوا حقيقة الإيمان ، ولم يعتقدوه عقيدة ، تستولى على قلوبهم ، وتختلط بمشاعرهم .. ومن هنا كان استخفافهم به ، وتحولهم عنه ، إذا أوذوا فى أموالهم أو فى أنفسهم ، أو إذا لاح لهم فى أفق آخر لمعة سراب لعرض زائل من عروض الدنيا.

ومثل هذا الإيمان لا وزن له ، والمؤمنون إيمانا كهذا الإيمان لا حساب لهم فى المؤمنين .. إن ضررهم أكثر من نفعهم ، وخروجهم من الإيمان خير من دخولهم فيه ..

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) هو كما قلنا عزاء وتسريه للرسول ، كما أنه تهوين لشأن هؤلاء الذين دخلوا فى الإسلام بكلمة ألقوها على أفواههم ، ثم خرجوا منه بكلمة قذفوا بها من أفواههم .. فخسارة الإسلام فيهم ـ إن بدت فى ظاهر الأمر خسارة ـ ليست فى حقيقتها إلا كسبا للإسلام وللمسلمين ، إذ قطعت هذه الأعضاء الفاسدة من جسد المجتمع الإسلامى ، وعزلت عنه هذا

٣٦٣

الداء الخبيث الذي يندسّ فى كيانه ، ويعمل على إضعافه وإفساده.

وفى قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) هو عطف على قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) .. فالذين يسارعون فى الكفر فريقان : فريق من غير اليهود .. من جفاة الأعراب ، الذين وصفهم الله بقوله سبحانه : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ...) (١٠١ : التوبة» واليهود ، وهم الذين أشار إليهم الله سبحانه وتعالى هنا بقوله : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) ومسارعة الذين هادوا إلى الكفر ، إما أن تكون بعد دخول بعضهم فى الإسلام ثم نفاقهم فيه ، أو أن تكون مسارعتهم بالكفر بما فى أيديهم من الكتاب ، إذ أنكروا ما فيه من آيات تحدّث عن الرسول الكريم ، وتبشر به ، وتدعو إلى مؤازرته والإيمان به .. فقد حملهم العناد على أن يكفروا بهذا الذي يحدثهم به كتابهم عن؟؟؟ وعن الأمارات التي يجدونها دالة عليه فى كتابهم .. وكان ذلك إسراعا منهم فى الكفر ، وخروجا من الدين جملة.

وقوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) هو صفة لهؤلاء الذين يسارعون فى الكفر من الفريقين .. والأعراب ، وأشباههم من ضعاف الإيمان من غير اليهود ، يلقون أسماعهم إلى الأكاذيب التي يذيعها المنافقون عن الإسلام والمسلمين ، وعامّة اليهود يعطون زمامهم لأهل العلم فيهم ، ويتحدثون إلى النبي وإلى المؤمنين بما يلقيه علماؤهم فى آذانهم ، دون أن يجرؤ هؤلاء العلماء على لقاء النبي ومواجهته بهذه الأكاذيب وتلك الأباطيل ، لأنهم يعلمون كذبها ، وأنهم مفضوحون إن واجهوا النبىّ بها.

وقوله سبحانه (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) هؤلاء هم العلماء من أحبار اليهود ، يحرّفون كلمات التوراة من بعد أن استقرت فى أماكنها ، ولم يكن ثمة

٣٦٤

سبيل إلى تبديلها. والتحريف هنا هو فى فساد التأويل والتخريج ، وكتمان بعض ، وعرض بعض.

وقوله تعالى : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) هو بيان لضرب من ضروب التحريف ، والفساد فى التأويل. إذ يقيم علماء اليهود عامتهم على رأى خاص محرّف ، ويقولون لهم إن قبله محمد منكم فاقبلوه منه ، ووافقوه عليه ، وإن لم يقبله فاحذروا أن تأخذوا بما يدعوكم إليه ، مخالفا لهذا الرأى الذي أنتم عليه.

وقوله سبحانه : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) هو تعقب فاضح لهذا الموقف اللئيم الذي يقفه علماء اليهود من دينهم الذي يدينون به ، فقد فتنوا هم فيه وأفسدوا على أتباعهم دينهم ، بهذه التأويلات الفاسدة المنكرة .. وإن هؤلاء الفاتنين والمفتونين معا صائرون إلى هذا المصير المشئوم ، إذ كان موافقا لطبيعتهم ، مستجيبا لأهوائهم .. فأخلى الله بينهم وبين أهوائهم ، فلم يمد إليهم يد الهداية والتوفيق .. (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (٨ ـ ٩ ـ ١٠ : الليل) .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : فى خاتمة هذه الآية : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

وفى الإشارة إليهم بقوله تعالى : (أُولئِكَ) عرض كاشف لهم فى هذا الوضع السيّء ، مطرودين من رحمة الله ، واقعين تحت نقمته ، (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) ، حيث يشهد الناس كذبهم ، ونفاقهم ، (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) .. فإن كان فى وجوههم صفافة تحتمل هذا الخزي ، ولا تبتلّ بقطرة من عرق الخجل والحياء ، فى الدنيا ، فإن جلودهم ـ ولو كانت فى بلادة الحجر ،

٣٦٥

أو صلابة الحديد ، فلن تدفع عنهم حريق جهنم أن ينفذ إلى ما وراءها من لحم وعظم ، وأن يجعلهم كتلا من جمر ، وحمم.

____________________________________

الآية : (٤٢ ـ ٤٣)

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (٤٣)

____________________________________

التفسير : هاتان الآيتان تستكملان الصفات الذميمة التي دمغ الله بها اليهود ، وجعلها طبيعة قائمة فيهم ، ولم يذكرهم القرآن هنا ، بل جاء بالوصف الدال عليهم ، هكذا : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) فما أحد أكثر من اليهود كذبا ، ولا أجرأ منهم عليه .. وحسبهم أن يكذبوا على الله ، وأن يحرفوا كلماته ، وأن يقولوا على الله ما لم يقله الله .. وما أحد آكل من اليهود للسّحت ، وهو الحرام الذي يلبسونه وجه الحلال كذبا وافتراء وبغيا وعدوانا.

وقوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ).

قيل فى سبب نزول هذه الآية إنه وقعت فى اليهود جريمة زنا بين كبيرين من كبرائهم ، وكان حد الزنا فى الإسلام يومئذ هو ما جاء فى قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ولم يكن جاء بعد ما جاء

٣٦٦

فى عمل الرسول من رجم المحصنة والمحصن .. فأراد اليهود أن يفيدوا من هذا الحكم الذي جاء فى الإسلام ، وأن يأخذوا صاحبيهما ـ الزانية والزاني ـ بالحدّ الذي شرعه الإسلام ، وهو الجلد ، وأن يحموا الزانية والزاني من الرجم ، لما لهما من منزلة عندهم.

ولا شك أن هذا تلفيق فى الدين ، فإما أن يكونوا يهودا على شريعة اليهود ، فيقيموا حكم التوراة ـ وهو الرجم هنا ـ على صاحبيهما ، مهما كانت منزلتهما ، وإما أن يكونوا مسلمين فيقام عليهما حكم الإسلام وهو الجلد. ولكن هكذا اليهود .. يأخذون من الأحكام الشرعية ما يرضى هواءهم ، فإن لم يكن بالتحريف والتبديل ، كان بالتحول من شريعة إلى شريعة ، ومن دين إلى دين ، حسب الحال الداعية إليه.

وقد جاءوا إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يسألونه الحكم فى هذين الزانيين ، فسألهم الرسول : ما حكم التوراة فيهما؟ فقالوا : الجلد بحبل مطلىّ بالقار ، وعرض الزانيين على الناس ، يطاف بهما وهما على حمار بن ، فى وضع مقلوب. فقال لهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذبتم ، الحكم فى التوراة هو الرجم» فأنكروا .. ثم فضحهم الله ، فشهد شاهد من علمائهم : أنه الرجم .. فأمر الرسول بإمضاء حكم التوراة فيهما ، ورجمهما.

وقوله تعالى : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) استنكار لموقف اليهود ، وتحكيمهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أمر هو من شئون دينهم الذين هم عليه ـ وحكم التوراة واضح فى هذا الأمر ..

ثم كيف يحكمون النبىّ وهم لا يؤمنون به ، ولا يعترفون برسالته ، ولا بالكتاب الذي فى يده؟ إن ذلك لم يكن لطلب حق ، ولا ابتغاء هدى ، وإنما كان إشباعا لأهواء ، وإرضاء لشهوات ، وتحللا من حكم شرعى قائم

٣٦٧

بهذا التأويل الفاسد الذي ذهبوا إليه ، بالانتقال ـ فى هذه الحالة ـ من دين إلى دين ..

وقوله تعالى : (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) هو فضح لما عليه اليهود من ضلال ورياء فى الدين ـ إنهم لا يقبلون من النبىّ إلا ما وافق أهواءهم ، وهم ليسوا بالمؤمنين ، بما يأخذون أو يدعون من شريعة النبي ، .. ثم إنهم ليسوا بالمؤمنين إطلاقا ، لا بدين محمد ، ولا بالشريعة التي هم عليها .. وفى الإشارة إليهم بقوله تعالى : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) تشنيع عليهم ، واستدعاء لكل ذى نظر أن يمسك بهم ، وهم على هذا الكفر الذي يعيش معهم.

____________________________________

الآية : (٤٤)

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٤٤)

____________________________________

التفسير : فى هذه الآية تعريض بأحبار اليهود وعلمائهم ، الذين عاصروا النبوة ، وكتموا ما معهم من التوراة وأحكامها ..

وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) هكذا أنزلنا التوراة ، تحمل شريعة الله ، وضيئة مشرقة بالهدى والحق .. وهكذا حكم بها النبيون الذين جاءوا بعد موسى ، يأخذون بها ، ويبينون لليهود أحكام الشريعة فيها.

ووصف النبيين بالذين أسلموا إشارة إلى أنهم على دين الله ، الذي ارتضاه الله لعباده ، وهو الإسلام ، الذي كانت خاتمة دعوته ، وتمام رسالته ، الدعوة

٣٦٨

الإسلامية ، ورسالة رسولها محمد بن عبد الله .. وفى هذا دعوة لليهود أن يلتقوا مع رسالة الإسلام ، وأن يؤمنوا كما آمن الناس ، وإلا فهم على غير دين الله ، إذا كان ما معهم من شرع لا يلتقى من شريعة الإسلام ، فى الإيمان بالله ، وما شرع الله.

وقوله تعالى : (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) هو عطف على قوله سبحانه (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) أي ويحكم بها ـ أي بالتوراة ـ الربانيون والأحبار ، مشهدين بما تلقوا على يد الرسل والأنبياء من شريعة التوراة ، وكانوا هم أنفسهم شهودا على ما تلقوا .. وفى هذا تحريض لأحبار اليهود وعلمائهم الذين عاصروا النبوة والذين جاءوا بعدهم أن يكونوا على ما كان عليه أنبياؤهم ، وحواريّو هؤلاء الأنبياء ، من الحكم بما أنزل الله ، دون تحريف ، أو تبديل .. وإلا فهم ليسوا ربانيين ولا أحبارا.

وقوله سبحانه : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) توكيد للدعوة التي دعى إليها هؤلاء الربانيون والأحبار ، وهو أن يرقبوا الله ويتقوه فيما فى أيديهم من كتاب الله ، وألا تغلبهم شهوة المال على الوفاء بعهد الله ، وأداء الأمانة التي اؤتمنوا عليها .. والميثاق هو الذي واثقهم الله عليه فى قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) (١٨٧ : آل عمران).

وقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) تهديد ووعيد لهؤلاء الرّبّانيين والأحبار ، وحكم عليهم بالكفر الصريح ، إذا هم لم يحكموا بما أنزل الله ، ولم يلقوا الناس بما فى أيديهم من كتاب الله.

٣٦٩

والربيون : جمع ربّىّ ، وهو العالم الزاهد ، المنقطع للعلم والعبادة.

والأحبار : جمع حبر ، وهو العالم الفقيه ، المتمكن من تعاليم الشريعة.

____________________________________

الآية : (٤٥)

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤٥)

____________________________________

التفسير : قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) أي فرضنا عليهم فى التوراة أحكام القصاص ، على هذا الوجه الذي بيّنه الله فى قوله تعالى :

(أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ).

فكل عدوان على الإنسان ، فى أية جارحة من جوارحه ، أو عضو من أعضائه ، جزاؤه عدوان مثله على المعتدى .. إن قتل قتل ، وإن فقأ عينا فقئت عينه ، وإن جدع أنفا جدع أنفه ، وإن صلم أذنا صلمت أذنه ، وإن كسر سنّا كسرت سنّه!

وقوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) هو عطف على قوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) والجروح هى ما دون تلف هذه الأعضاء التي بينتها الآية الكريمة ، مثل قطع إصبع ، أو كفّ ، أو قدم ، ونحو هذا.

وقوله تعالى : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) هو خطاب للمعتدى عليه ،

٣٧٠

أو وليّه فى القصاص ، وهو أن يتصدق بالعفو على من اعتدى عليه ، فهذا التصدق كفارة له ، وحطّ من سيئاته بقدر ما تصدق به ، والضمير فى «به» يعود إلى القصاص .. أي : ومن تصدق بالقصاص فلم يقتص من خصمه فهو كفارة له.

وقوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) هو تحذير ووعيد لمن غيّر أو بدّل فى أحكام الله ، فإن هذا عدوان على الله ، وظلم للنفس ، إذا أوقعها تحت غضب الله ونقمته ، بالعدوان على ما شرع من أحكام.

وقد وصف الذين يحكمون بما أنزل بوصفين ، وصفوا أولا بأنهم «هم الكافرون» ، ووصفوا ثانيا بأنهم «هم الظالمون» .. فهم كافرون ظالمون .. قد جاوز كفرهم كل حدود الكفر ، فكان كفرا وظلما معا.

____________________________________

الآيتان : (٤٦ ـ ٤٧)

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤٧)

____________________________________

التفسير : التقفيه : المجيء من الخلف ، أو القفا ، ومعناه هنا : مجىء عيسى ، بعد هؤلاء الأنبياء الذين أشار إليهم الله سبحانه وتعالى بقوله : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا).

فقوله تعالى : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي بعثنا بعد هؤلاء

٣٧١

الأنبياء عيسى بن مريم ، فجاء على آثارهم ، متبعا خطوهم فى طريقهم الذي سلكوه ، من دعوة الناس إلى الحق والهدى ..

وقوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) أي مؤيّدا لها ، بإيمانه بها ، وأخذه بشريعتها.

وقوله سبحانه : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) هو عطف على قوله تعالى (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) وقوله تعالى (فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) هو حال من الإنجيل ، تكشف عن مضمون هذا الكتاب الكريم ، وهو أنه يحمل الهدى والنور فى آياته وكلماته ..

وقوله تعالى : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) هو حال أيضا من الإنجيل ، يبين أن الإنجيل مصدّق لما فى التوراة ، لأنه حقّ مثلها ، منّزل من عند الله ، كما أنها منزلة من عند الله ، فالمسيح عليه‌السلام ، مصدق للتوراة بإيمانه بها قبل أن يكون معه كتاب من عند الله ، ثم لما تلقى كتابه من الله سبحانه وتعالى ، جاء هذا الكتاب وهو «الإنجيل» مصدقا للتوراة ، مؤيدا لما جاء فيها.

قوله تعالى : (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) بيان لهذا الهدى والنور الذي يحمله الإنجيل ، وأنه لا يفيد منه ، ولا يهتدى به ، إلا المتقون الذين تلقّوه بقلوب مطمئنة ، ونفوس سليمة ، لا تحرّف كلماته ، ولا تبدّل آياته .. إنه أشبه بالدواء المرصود لداء ما .. إذا تغيرت معالمه بعناصر غريبة دخلت عليه ، فسدت طبيعته ، ولم يفد منه صاحب الداء ، بل ربما أصابه منه ضرر ، فكان داء إلى الداء!

وقوله تعالى : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) هو دعوة إلى أتباع الإنجيل أن يأخذوا أنفسهم

٣٧٢

بأحكامه وآدابه كما جاء بها ، ثم هو وعيد لهم إذا هم انحرفوا عن الأخذ بما أنزل الله فيه ، فتأوّلوه على غير وجهه ، أو حرّفوا الكلم عن مواضعه .. إنهم حينئذ يحكمون بغير ما أنزل الله .. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون على دين الله ، وما تلقى المسيح من ربه .. فلينظروا أي دين هم عليه بعد هذا الدين؟ .. وقد وصف الذين يحكمون بغير ما أنزل الله بثلاثة أوصاف .. الظالمون .. الكافرون .. الفاسقون .. فجمعوا الشر من جميع أطرافه.

____________________________________

الآية : (٤٨)

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٤٨)

____________________________________

التفسير : بعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى ، التوراة وما أنزل فيها من شريعة ، والإنجيل وما حمل من آيات الله ، وبعد أن دعا أصحاب التوراة والإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيهما ، وأن يقيموهما على ما نزلا به من الحق والهدى ـ بعد ذلك ذكر الله ـ سبحانه ـ القرآن الكريم ، والنبىّ الذي تلقاه من ربه.

فقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) .. وفى هذا أمور :

١ ـ توجيه الخطاب للنبىّ من الله سبحانه وتعالى ، وفى هذا تكريم للنبى الكريم ، وتشريف لمقامه العظيم ، وقربه من ربه جلّ وعلا ..

٣٧٣

٢ ـ العدول عن ذكر القرآن ؛ وتسميته بالكتاب ، إشارة إلى أنه الأصل الذي ترجع إليه الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء من قبل ، والتي هى جميعها كتاب واحد.

٣ ـ فى وصف الكتاب بالحق ـ مع أن نزوله من عند الله ، يخلع عليه هذه الصفة من غير وصف ـ هو توكيد لما يحمل من الحق ، وصيانة لهذا الحق من أن يقع تحت تحريف أو تبديل ، إذ كان منزلا بيد الله .. (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) .. إنه غرس من غرس الله ، ولن يتعرض هذا الغرس الإلهى لأية آفة من الآفات التي تعرّض لها غيره .. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

وفى قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) أمور أيضا :

١ ـ أن هذا الكتاب مصدق لما بين يديه من الكتاب .. والكتاب الأول هو القرآن ، والكتاب الثاني هو جميع الكتب السابقة ، أي هو مستول عليها ، ومشتمل على أصولها ، التي تنضبط عليه ، وترجع عند تأويلها إليه ..

وقوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) هو خطاب للنبى أن يحكم بين المحتكمين إليه من اليهود والنصارى ، بما أنزل الله ، وأن يكون القرآن الذي بين يديه هو عمدة الأحكام ، يرجع إليه ، وتضبط أحكام الكتب السابقة على أحكامه ، فما وافقه منها أخذ به ، وما خالفه اعتبر محرفا ومبدلا ، ليس من كتاب الله ، ولا من شريعة الله.

وقوله سبحانه : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) هو تنبيه للنبىّ ألّا يمدّ بصره إلى تحريفات أهل الكتاب ، وإلى الشرائع التي أحدثوها .. وحسبه ما بين يديه من الحق الذي يجده فى القرآن الكريم.

٣٧٤

وقوله سبحانه : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) هو بيان للحكمة فى تعدد الشرائع السماوية ، وتعدد الكتب التي جاءت بها ، والرسل الذين حملوها .. إذ كان لكل أمة زمانها ومكانها ، وللزمان والمكان ، أثره فى الأمم ، وفى اختلاف مناهجها فى الحياة ، وأساليبها فى العمل .. فكان أن حمل رسل الله إلى كل أمة قبسا من شريعة الله ، مقدورا بقدرها ، محسوبا بحسابها ، وما يلائم طبيعتها ، وظروف زمانها ومكانها .. وهى جميعها (أي الشرائع) تستقى من شريعة واحدة ، وتورد أتباعها على مورد من مواردها .. وفى قوله تعالى : (شِرْعَةً) ما يشير إلى أنها مقطع من مقاطع الشريعة العامة ، التي جاء بها القرآن الكريم ، وأن تلك الشرعة ما هى إلا مورد ترده الأمة على نهر الشريعة العامة ، فتستقى منه ، وتحمل بقدر ما تحتمل ..

وفى قوله تعالى : (وَمِنْهاجاً) إشارة أخرى إلى اختلاف الأمم والشعوب ، وأنها لا يمكن أن ترد موردا واحدا ، على الشريعة العامة ، وأن تحشر حشرا على مورد واحد منها .. لاختلاف الطبيعة ، واللغة ، وغيرها مما يجعل لكل أمة وجهها الذي تظهر به فى. الحياة ، فاقتضت حكمة الحكيم العليم أن يقيم كل أمة على مورد من شريعته.

وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي لو أراد الله سبحانه أن يجعل الناس أمة واحدة ، تلتقى على مشاعر واحدة ، ولغة واحدة ، لفعل ، فما لمشيئته من معقّب ، أو معترض ، ولكنه سبحانه حكيم عليم ، اقتضت حكمته ، وشاءت إرادته أن يجعل الناس أمما وشعوبا ، كما جعلهم أفرادا ، وكما جعلهم ذكرا وأنثى ..

وقوله سبحانه : (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ولكنه سبحانه وتعالى لم يجعلكم أمة واحدة ، كما لم يجعلكم كائنا واحدا ، ليكون لكل أمة حسابها ،

٣٧٥

كما يكون لكل فرد حسابه ، وفى مجال العمل والخير والحق تتسابق الأمم ، كما يتسابق الأفراد.

وقوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) والاستباق : هو السبق والإدراك .. أي أدركوا الخيرات التي دعيتم إليها فى كتب الله التي بين أيديكم وبادروا إلى تحصيلها ، قبل أن تفلت منكم ، فلا يبقى فى أيديكم إلا الحسرة ، وإلا الندم ، وسوء العاقبة.

وقوله سبحانه : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) تحذير لهؤلاء المختلفين فى كتب الله ، المحرفين لها ، وأنهم سيرجعون إلى الله يوما ، وسيحاسبون على ما كان منهم من عبث بالشرائع التي فى أيديهم ، وحملها على ما تشتهى أنفسهم .. فما جرى منها مع أهوائهم قبلوه ، وما لم يجر منها على ما يشتهون ؛ حرفوه وبدّلوه .. ولهذه الأفعال المنكرة ، جزاؤها المرصود لأصحابها.

____________________________________

الآية : (٤٩)

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) (٤٩)

____________________________________

التفسير : قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) دعوة أخرى للنبى الكريم أن يلتزم فى حكمه بين أهل الكتاب ما أنزل الله إليه ، وألا يلتفت إلى ما تمليه أهواؤهم ، وما يسوقون إلى النبي من كيد ومكر ، ليفتنوه ، ويفتنوا

٣٧٦

المؤمنين معه .. (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) وذلك بالأخذ ببعض الأحكام التي يقولون ـ كذبا ـ أن شريعة التوراة جاءت بها ، وهى جلد المحصن الزاني ، وليس الرجم كما جاءت به التوراة.

وقوله سبحانه : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أي فإن حكمت بين هؤلاء اليهود بما أنزل الله إليك ، وأبوا أن ينزلوا على هذا الحكم وأن يأخذوا به ، فإن عقاب الله راصد لهم ، يأخذهم ببعض ما اكتسبوا .. ولو أخذهم بكل ما اكتسبوا لخسف بهم الأرض ، أو لأطبق عليهم السماء ، ولكنه سبحانه رحيم إذ يؤدّبهم بهذا العقاب ، الذي هو قليل من كثير ، مما كانوا أهلا لأن ينزل بهم.

وقوله سبحانه : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) .. الناس هنا هم اليهود ، وعدم ذكرهم هو إبعاد لهم من هذا الشرف بأن يكونوا محمل كلمة من كلمات الله ، حتى فى مقام الهوان والعذاب ، فما أشقى هؤلاء الأشقياء ، وما أبخس صفقتهم بين عباد الله ، وما أرذل منزلتهم بين الناس.

____________________________________

الآية : (٥٠)

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٥٠)

____________________________________

التفسير : فى هذا الاستفهام إنكار على أهل الكتاب هذا الموقف الذي يقفونه من شرع الله ، وأنهم لا يأخذون منه إلا ما يستجيب لأهوائهم ، فهم ـ والحال كذلك ـ يريدون أن يتحللوا من كل شرع ، ويفلتوا من كل قانون ، شأن الحياة الجاهلية التي تحكمها الأهواء ، وتسيّرها النزعات الذاتية السائدة فيها ، حيث لا مرجع إلى شرع أو قانون.

٣٧٧

وقوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) هو تسفيه لأهل الكتاب ، وفضح لجهلهم وضلالهم ، إذ يعدلون عن شرع الله ، ويخرجون عن حكمه ، إلى شريعة الجاهلية ، وأحكام السفاهة والضلال .. وذلك من حماقة عقولهم ، وسفه أحلامهم ، إذ أنه لا يعرف فرق ما بين أحكام الله ، وأحكام غير الله ، إلا من أخلى قلبه من نزعات الهوى ، وصفّى مشاعره من وساوس النفاق ، ونظر إلى الله بقلب سليم ، فعرفه حق معرفته ، وقدره حقّ قدره ، ورأى أن هدى الله هو الهدى ، وأن من اتبع غير سبيله ضل وهلك ، ومن سلك سبيله رشد وسعد.

____________________________________

الآيتان : (٥١ ـ ٥٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) (٥٣)

____________________________________

التفسير : الأولياء : جمع ولىّ ، والولي هو النصير ، والظهير ، والمعين ..

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) هو للنهى عن موالاة اليهود والنصارى ، وليس دعوة إلى عداوة أو قطيعة ،

٣٧٨

وإنما هو نهى عن مناصرتهم ومعاضدتهم ، والوقوف إلى جانبهم ، وهم على موقفهم من الإسلام ومحاربتهم له ، فذلك خيانة للمسلمين ، وعدوان على الإسلام .. إذ كيف يكونون هم حربا على الإسلام ، ثم يكون فى المسلمين من هو على ولاء لهم ، ومودة معهم؟

وقوله تعالى : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي أن اليهود أولياء لليهود ، والنصارى أولياء للنصارى .. وهذا أوّل ما فيه أن يجعل المسلمين أولياء للمسلمين ، فلا يكون ولاء المسلم ، ومناصرته ومناصحته ، لغير المسلمين ، فإذا لم يكن هذا الولاء ، وتلك المناصحة من المسلم للمسلمين فلا أقّلّ من أن يقف عند هذا الحدّ السلبي ـ وهو موقف آثم ـ فلا يتحول إلى جبهة معادية للإسلام وأهله ، فيكون لها مساندا مناصحا .. إن ذلك ـ كما قلنا ـ نفاق ظاهر ، وكفر خفى! وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) هو بيان للوصف الذي يكون عليه من يجعل ولاءه لغير المسلمين من أهل الكتاب المحادّين لله ورسوله ، المحاربين للإسلام والمسلمين ، وهو أنه من هؤلاء الظالمين ، المعتدين على حق دينه ، وحق أتباع دينه ، بخذلانهما ، ومناصرة أعدائهما .. والظلم هنا شبيه بالظلم فى قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .. لأن المسلم الذي يوالى أهل الكتاب ، ويترك موالاة المؤمنين قد حكم بغير ما أنزل الله واتبع ما يرضى هواه ، ويحقق نفعا ذاتيا له ، على حساب دينه.

قوله سبحانه : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) ..

(الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم المنافقون ، الذين ستروا نفاقهم بالدخول فى الإسلام ، والانضواء تحت لواء المسلمين ، ليتخذوا من الإسلام تجارة يتجرون بها فى سوق السحت والاختلاس .. وهذا لا يكون إلا من قلب مريض ، يستقبل كل ضلال ، دون أن يغصّ به ، أو يزورّ عنه ..

٣٧٩

والمسارعة فيهم أي فى أهل الكتاب : الانغماس فيهم ، ولهذا جاء اللفظ القرآنى بتعدية الفعل سارع بحرف الجرّ «فى» ، بدلا من تعديته بحرف الجر «إلى» الذي يتعدى به هذا الفعل غالبا .. كقوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (١٣٣) آل عمران.

وفى تعدية الفعل بحرف الجر «فى» ما يكشف عن أن هؤلاء المنافقين ينغمسون فى أهل الكتاب ، ويدخلون فيهم دخولا كاملا ، حيث يحتويهم ظرف واحد ، إذ هم كيان واحد يألف بعضه بعضا.

وفى قوله تعالى : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ) تشهير بهؤلاء المنافقين ، وفضح لهم ، وأنهم وإن لبسوا كل أثواب التخفّى ، لا يلبث أمرهم أن ينفضح وينكشف ، وأنهم بمرأى من النبي والمؤمنين ، ولهذا جاء الفعل «ترى» وكأنه يشير إليهم ، ويحدّد موقفهم الذي هم فيه فى الجبهة الأخرى ، جبهة أهل الكتاب .. وهكذا المنافق دائما ، إن لم يلتفت إليه أحد ، دلّ هو الناس عليه ، بكثرة التفاته إليهم وحذره منهم ، وصدق المثل الذي يقول : «يكاد المريب يقول خذونى!»

وقوله تعالى : (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) هو ترجمة لهذه التصوّرات المريضة ، التي يعيش فيها المنافقون .. فهم أبدا على خوف وقلق ، لا يسكنون إلى أمر ، ولا يقيمون على رأى ، بل تراهم وأعينهم تدور هنا وهناك ، يريدون أن يجمعوا بين الشيء ونقيضه ، حتى إذا فاتهم هذا لم يفتهم ذاك .. فهم مع المؤمنين ، يخشون أن تكون الكرّة لأهل الكتاب .. وهم مع أهل الكتاب يخشون أن تكون الدولة للمؤمنين .. ولهذا فهم يلبسون الإيمان ظاهرا ، ثم يوادّون أهل الكتاب باطنا .. وبهذا ـ كما تصور لهم نفوسهم المريضة ـ يحمون أنفسهم من أىّ أذى يصيبهم من أية جبهة غلبت ، إذ سرعان ما يتحولون إلى الجبهة الأخرى التي كانوا قد احتفظوا بمكان لهم فيها ..

٣٨٠