التّفسير القرآني للقرآن - ج ٣

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٣

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) هذا ، دعوة إلى الكسب ، وإلى السعى الجادّ فى وجوه الرزق. دعوة للرجال وللنساء معا ..

فالعمل ، والعمل وحده ، هو وسيلة الرزق الطبيعية ، ومن لا يعمل ، فقد تمنّى على الله الأمانى ، وفرض على الناس أن يعملوا ، وهو متدثر بثوب الكسل والخمول ، لينال من ثمرة عملهم ، ويعيش من عرق جبينهم ، وهذا عدوان على المجتمع ، كما هو عدوان على نفسه وظلم لها ، إذ رضى أن يكون عالة على الناس ، وكائنا غريبا يعيش فيهم ، كما تعيش الحشرات .. وفى ذلك إهدار لآدميته ، وتضييع لكرامته!!

وليس أبرّ بالإنسانية ، وأرعى لكرامتها ، من دعوة الإسلام تلك ، إلى العمل والكسب ، حتى المرأة ، لم يعفها الإسلام من العمل إذا لم يكن من ورائها زوج ، أو ولد ، أو أخ .. يقوم بمطالبها ، ويسد حاجتها ..

وفى قوله تعالى : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) تأكيد للدعوة إلى العمل ، والسعى فى طلب الرزق ، والأخذ بأسبابه من وجوهه المشروعة ، فإذا كان ذلك ، كان للإنسان أن يسأل الله العون والتوفيق ، فما الرزق الذي يرزقه العاملون إلّا من فضل الله .. أما أن ينصرف الإنسان عن العمل ، ولا يأخذ بأسباب الرزق ، ثم يدعو الله أن يرزقه ، فقد ضلّ الطريق إلى الله ، وقطع بينه وبين ربّه الأسباب.

ولمحة مشرقة نلمحها فى قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) وهذه اللمحة تكشف لنا عما فى كلمة «نصيب» من معطيات ، تملأ القلب جلالا وروعة.

فقد جاءت كلمة «نصيب» مخالفة لما نتوقع فى هذا المقام .. حيث يأخذ الإنسان كلّ ما اكسب ، لا نصيبا مما اكسب ، إذ أنه كسبه كله ليده ..

٤١

فكيف تجىء كلمة «نصيب» هنا؟ وما حكمة مجيئها؟

والجواب ، وهو بعض ما نستلهمه منها .. هو :

أولا : أنه إذا كان العامل يأخذه ليده كل ثمرة عمله ، فذلك هو حقّه .. ولكن إذا صار هذا الحق ملكا له ، فإن ملكيته له غير خالصة ، إذ أن فى هذه الثمرة ، أو فى هذا المال حقوقا للغير .. لذوى القربى ، واليتامى ، والمساكين وابن السبيل .. ثم قبل هذا كلّه حق الله ، وهو الزكاة!

فما يكسبه المرء من عمله ليس خالصا له ، وإنما له نصيب فيه ، كما لله ولعباد الله نصيب فيه أيضا ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ* لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (٢٤ ـ ٢٥ : المعارج)

وهذا ما ينبغى أن يقع فى شعور صاحب المال ، وأن يتصرف فى ماله بمقتضى هذا الشعور .. وإلا كان معتديا على حقّ الله ، وحق عباد الله ..

وثانيا : أنه إذا أدى صاحب المال حق الله وحق الفقراء والمساكين فى ما له ، كان له الحق فى أن ينفرد بنصيبه هو ، وأن ينال به ما أحل الله من طيبات ..

وهذا شعور ينبغى أن يستشعره الفقراء حيال الأغنياء ، الذين يؤدون ما فى أموالهم من حقوق ، وعلى هذا ، يجب ألا ينظر الفقراء إلى الأغنياء ، وما ينالون من نعم الله ، نظرة حسد ، أو حنق .. وإلا كانوا ظالمين معتدين!! فإن من حق العامل أن يذوق ثمرة عمله ، وألا يحول بينه وبينها من لا ثمرة لهم ، ممن لا يعملون ، والله سبحانه يقول : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ). وما العلم إلا ثمرة من ثمار العمل.

ذلك هو حكم الله فى عباده ، يأخذهم به فى الدنيا ، وينزلهم عليه فى الآخرة!.

٤٢

____________________________________

الآية : (٣٣)

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (٣٣)

____________________________________

التفسير : بيّن الله سبحانه وتعالى فى الآية السابقة : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) ـ ما للعامل من حق فى أن يجنى ثمرة عمله ، وأن ينعم بنصيبه منها ، بعد أن يؤدى ما لله وما للعباد عليها من حقوق ، وذلك ليستحثّ الذين لا يعملون على العمل ، وعلى ألّا ينظروا إلى ما فى يد العاملين من ثمرات أعمالهم.

ولم يقف القرآن الكريم عند هذا ، من إقرار حق العامل فى ثمرة عمله ، بل جعل لقرابة هذا العامل ، وذوى رحمه ، متعلّقا بهذه الثمرة ، يرثونها بعد موته .. فهم أولى الناس به ، وهو أحرص الناس على نفعهم ، وسوق الخير إليهم ..

ولهذا جاء قوله تعالى فى هذه الآية : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) مقررا هذا الحق للورثة فى قريبهم الذي ترك خيرا من بعده.

والمعنى : ولكل من الرجال والنساء الذين أشار إليهم سبحانه وتعالى بقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) .. لكل من هؤلاء الرجال والنساء جعلنا لهم موالى ـ أي ورثة ـ يرثونهم ، فيما خلّفوا وراءهم من مال ومتاع ، وهذا ما أشار إليه سبحانه فى آيات المواريث أول هذه السورة : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً).

والمولى يطلق على معان كثيرة ، منها : القريب ، والناصر ، والمعين ، والسيد ،

٤٣

والعبد .. والمراد به هنا أقارب المرء وعصبته الذين يرثونه.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) إشارة إلى من تربطهم بالمرء رابطة غير رابطة القرابة والدم ، ممن يتبناهم الإنسان ، أو يدخلهم فى حياته مدخل الأهل والأقارب ، إذ شدّ يمينه بهم ، واحتسبهم بعضا منه فى خيره وشرّه ـ هؤلاء قد يرون أن لهم حقّا فيما ترك المورّث ، الذي كانوا منه ، وكان منهم ، وقد جاء صدر الآية الكريمة قاصرا ما ترك المورّث على قرابته ، وهم مواليه : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) ـ وفى هذا ما يصدم مشاعرهم ، ويفجعهم فى آمالهم ، التي كانوا يعيشون بها مع هذا الذي عقدت أيمانهم معه.

ولهذا جاء قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) وما نصيبهم وقد ذهب الورثة بالميراث كلّه؟

وإنهم لا بد أن يكون لهم نصيب فيما ترك صاحبهم .. وتقدير هذا النصيب متروك للورثة ، يؤدونه لهم ، على أي وجه ، وعلى أية صورة!

ليكن مالا يطيبون به خاطرهم ..

أو ليكن مودّة ، وحبّا ، ومخالطة ..

أو ليكن مناصرة ، ومعاونة فى الشدائد ..

أو غير ذلك مما كان الميت يعاشرهم عليه ويؤثرهم به ..

ولهذا جاء قوله تعالى : (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) خطابا للموالى ، الذي ورثوا مال مورثهم ، بأن يعطوا هؤلاء الذين أضافهم مورّثهم إليه ـ شيئا مما كان يعود عليهم به هذا المورث ، من مال ، أو مودة ، أو نحو هذا ..

ولنا فى هذا المقام أن نستحضر قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا

٤٤

الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٨ : النساء) ، ففى هذا تطييب لتلك النفوس التي حضرت القسمة .. وهؤلاء الذين خالطهم المورث واختلط بهم ، هم ممن حضروا القسمة ، فإن لم يحسبوا فى حساب الورثة ، فليكونوا فى حساب ذوى القربى ممن لا ميراث لهم.

هذا ما أجمع عليه المفسّرون فى تفسير قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) ولكن الفهم الذي أستريح إليه ، هو أن المراد بالذين عقدت أيمانكم ، هم الأزواج والزوجات ، إذ كان لهم نصيب مفروض فى الميراث ، مثل ما فرض لموالى الإنسان وعصبته ، ولكن كلمة «الموالي» لم تشملهن ، فكان قوله تعالى (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) بيانا لحقّ الزوجين فى ميراث كل منهما لصاحبه .. وليس هناك عقد يمين أوثق من العقد الذي عقده الله بين الزوجين ..

____________________________________

الآيتان : (٣٤ ـ ٣٥)

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) (٣٥)

____________________________________

التفسير : كما فضل الله النّاس بعضهم على بعض ، لحكمة أرادها وتقدير

٤٥

قدّره ، كذلك فضل الله الرجال على النساء .. إذ كانوا فرعى شجرة الإنسانية .. فرع الذكورة ، وفرع الأنوثة ..

وهذا الفضل لا يعطى للرجال حقّ التسلط والقهر للنساه .. فهما معا يكملان الكائن الإنسانى الصالح للحياة ، وواحد منهما لا حياة له ، ولا بقاء ، فى هذه الدنيا .. فكل منهما يناظر الآخر ويكمله .. وهذا لا يمنع من أن يكون أحدهما أولا ، والآخر ثانيا ، كما كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى .. ولو كانا على درجة واحدة ، لكانا كائنا واحدا .. ذكرا ، أو أنثى! وهذا ـ كما قلنا ـ ما لا تقوم عليه حياة الكائنات الحية ، ومنها ـ بل ومن أولها ـ الإنسان! وليس بعيب المرأة أو يذرى من قدرها أن تكون العدد الثاني فى العددين : واحد ، وواحد ، ليكون مجموعهما اثنين ، كما يقول سبحانه وتعالى : (خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) (٨ : النبأ).

فقوامة الرجل على المرأة فى قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ،) هى قوامة وظيفية ، يقتضيها نظام الحياة ، الذي جمع بينهما ، ولو لم يكن للرجل حقّ القوامة ، للزم أن يكون للمرأة هذا الحق .. إذ أنه لا بد أن يكون أحدهما أولا والآخر ثانيا ..

وقوله تعالى : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) يكشف عن المزايا التي من أجلها كان الرجل قوّاما على المرأة ، ولم تكن المرأة قوّامه على الرجل ..

فقد خصّ الله الرجل بمزايا تجعله أقدر على قيادة الركب الذي ينتظمه والمرأة معا ، وينتظم معهما ما يثمران من بنين وبنات.

وهذه المزايا التي أعطت الرجل حقّ القوامة على المرأة ـ لم تقررها الشريعة إلا بعد أن نضجت فى بوتقة التجربة الإنسانية ، على مدى الحياة التي

٤٦

اجتمع فيها الرجل والمرأة ، منذ كان الناس ، وكان الرجال والنساء! وما قررته الشريعة ليس إلا اعترافا بواقع ، وتصويرا لأمر مشهود ، وليس إنشاء لوضع جديد بين الرجل والمرأة.

فالرجل أقوى من المرأة عموما ، وأقدر على السعى فى وجوه الحياة ، وكفالة حاجات المرأة والأولاد ..

وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) فالرجل ـ فى أي زمان ومكان ـ مطالب عرفا ووضعا وشرعا بالإنفاق على زوجه وولده ..

فإذا أخلت المرأة للرجل مكان القوامة ، وأسلمته زمامها ، فما ذلك إلا لأن يد الرجل أقوى على الإمساك بهذا الزمام ، وأقدر على الوفاء بما تقتضيه تلك القوامة من أعباء!

وكما أن بين الرجال والنساء درجة فى التفاضل ، كذلك بين النساء درجة أو درجات فى الفضل ، فليس كل النساء على سواء ، فى الخلق وحسن العشرة.

(فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ).

فهذا هو الوجه الطيب المشرق من النساء .. صالحات ، قانتات ، حافظات للغيب بما حفظ الله .. وهذا ما يشير إليه النبي الكريم فى قوله : «خير النساء امرأت إذا نظرت إليها سرّتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك فى نفسها ومالك».

وهناك الوجه الآخر من النساء .. مكفهرّ .. غائم ، يرمى بالرعد والبرق.

ومثل هذا الجوّ المضطرب ، يفسد حياة الرجل ، وحياة الأسرة كلها معه.

ومن حكمة الحكيم العليم ألّا يعجل بالعقوبة حتى يأخذ صاحبها بالنصح ، وبالوعد ، وبالوعيد ، فإن ارعوى الغاوىء عن غيّه ، ورجع الضالّ عن ضلاله ، فلنفسه ابتغى الخير ، وليده جمع ما جمع منه.

٤٧

ولهذا دعا الله سبحانه وتعالى الرجال الذين يبتلون بالمرأة المعوجّة ، ألا يعجلوا بالخلاص منها ، فقد يكون داؤها عارضا ، وقد يكون فى بعض الدواء ما يذهب بدائها ..

(وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ..) .. إنها مراحل ثلاث ، يقطعها الرجل مع المرأة التي لا يتّسق خطوها مع خطوه ، ولا ينتظم شأنها مع شأنه ..

العظة أولا ، وإسداء النصح ، بالكلمة اللينة .. وقد تقبل المرأة هذا الدواء ، ويكون فيه شفاؤها ، وإصلاح أمرها .. وهذا علاج نفسىّ.

ثم تجىء المرحلة الثانية لمن لم تنفعها الموعظة ، ولم تؤثّر فيها الكلمة الطيبة .. وهى الهجر فى المضاجع!.

وهذا عقاب بدني ونفسى معا ..

فإذا كان فى ذلك شفاؤها من دائها ، عاد إليها الزوج بصفحه ومودته ورحمته ..

وإلا كانت المرحلة الثالثة .. وهى الضرب! وهو عقاب بدني خالص .. وينبغى أن يكون هذا الضرب أولا وأخيرا تحت شعور التأديب والإصلاح ، كما يؤدّب الأب صغاره .. فإن مال إلى التشفّي والانتقام كان عدوانا (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

وفى قوله تعالى : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) رسم للطريق القويم لهذه المرحلة ، وضبط لحدودها ..

وفى قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) تذكير للرجال بما لله من سلطان ، فى علوّه وكبريائه ، وأنهم إذا بسطوا أيديهم بالبغي ومجاوزة الحدّ ، كانت يد الله مبسوطة عليهم بالعقاب والانتقام!

٤٨

وفى قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) .. هو بيان للمرحلة الرابعة ، التي يقطعها الزوج مع الزوجة المستعصية على العلاج.

وذلك أنه إذا انتهت المراحل الثلاث ، دون أن ينصلح أمر المرأة ، أصبح الأمر بين الزوجين مؤذنا بالفراق ، الذي يحسم ما نشأ بينهما من اختلاف وفرقة ..

ويجىء التدبير السماوي قبل عملية البتر هذه ، فيستدعى اثنين من أهل الخير ، أحدهما من قبل الزوجة ، والآخر من جهة الزوج ، ليكون لهما نظر وراء نظر كل من المرأة والرجل ، وليدرسا أسباب الخلاف بينهما ، وليتعرفا على موطن الداء لهذا الخلاف .. وقد يريان الداء ، ويجدان له الدواء .. وبهذا يعدل عن عملية البتر هذه ، ويعود للحياة الزوجية صفاؤها وإشراقها .. وإلا كان البتر هو الدواء لهذا الداء ..

وفى قوله تعالى : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) إيقاظ لمشاعر الخير والإحسان فى الحكمين ، ليكونا رسولى سلام ، فى هذه السفارة التي ندبهما الله سبحانه وتعالى لها .. فإنهما إن ابتغيا الخير ، وأرادا الإصلاح ، كان لهما من الله عون وتوفيق ، فيلتقيان على ما يصلح أمر الزوجين ويمسك عليهما ذلك الرباط الوثيق الذي وثقه الله بينهما.

وانظر فى رعاية الله سبحانه وتعالى لرباط الزوجية ، وتقديره لها .. وكيف جاءت الشريعة الإسلامية بأكثر من دواء ، لما يدبّ بين الزوجين من خلاف .. حتى فى الأحوال التي يستفحل فيها الداء ، ويكون اليأس أقرب من الأمل فى شفائه!

وانظر كيف يقع «الطلاق» بعد هذه المرحلة الطويلة ، من احتمال الداء

٤٩

واستنفاد كل وسائل العلاج .. إنه لم يقع إلا حين لم يكن من وقوعه بدّ ، وإلا حين كانت الحياة الزوجية بعد هذا نقمة وبلاء ، على الرجل والمرأة معا.

فالذين يحسمون الحياة الزوجية ويقطعون حبلها ، لأول بادرة ، وبكلمة واحدة .. لم يلتزموا شرع الله ، ولم يأخذوا به .. بل هم معتدون آثمون.

والذين يأخذون على الإسلام هذه الظواهر المريضة التي يرونها فيما يقع من صور الطلاق ، على هذا الوجه المجافى للشرع .. ظلمة مفترون!

____________________________________

الآيات : (٣٦ ـ ٣٩)

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) (٣٩)

____________________________________

التفسير : الآيات السابقة كانت حديثا إلى الناس ، فيما يتصل بذات أنفسهم ، من شئون المال ، والزواج ، وما يقع بين الناس من ظلم وعدوان ، حين تتعارض مصالحهم ، وتختلف آراؤهم ، وأرزاقهم .. فيكون فيهم الغنىّ والفقير ، ومن يملك الكثير مما يتجاوز حدود حاجته ، ومن يملك القليل الذي لا يشبع جوعته ..

٥٠

وإذ لفت الله النّاس فى تلك الآيات إلى الطريق القويم ، الذي ينبغى أن يلتزموه ، ويقيموا خطوهم عليه ، حتى لا يقع بينهم صدام ، ينتهى إلى تقطيع الأرحام ، وسفك الدماء ـ فكان من تدبير الحكيم العليم ، أن يدعوهم إليه ، وأن يستحثهم إلى عبادته وطاعته. حتى تمتلىء قلوبهم إيمانا به ، وخشية له ، وتوقيرا لأوامره ونواهيه ، وبهذا يكون لما وصّاهم به سبحانه من البر بأنفسهم ، والعدل فيما بينهم ، والتراحم بين أغنيائهم وفقرائهم ، وأقويائهم وضعفائهم ـ يكون لهذا مكانه من قلوبهم ، وأثره فى تصرفاتهم ، وفى سلامة نوازعهم ، واستقامة سلوكهم.

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً).

فإذا أخذ العبد نفسه بطاعة الله ؛ ووجه إليه وجهه خالصا ، قانتا ، خاشعا ، غير ملتفت إلى سواه ، ولا ناظر إلى غيره ـ وجد لخشية الله سطوة تملك عليه أهواءه ، ولجلاله خشية يستحى معها أن يصرف وجهه عن الله ، ويسلم يده لنزواته ونزعاته .. وبهذا يجد لوصايا الله مكانا متمكنا من نفسه ، يعصمه من أن ينحرف ، أو يزلّ.

والدعوة إلى عبادة الله دعوة عامة ، تتوجه إلى عباده جميعا ،. فهم جميعا مدعوّون إلى رحابه ، لينالوا رضاه ، وينعموا برحمته .. وليس لأحد أن يحجز أحدا عن الله ، أو يصدّه عن سبيله ، بحجّة أن دعوة الله قاصرة عليه ، أو على قومه ، وبنى جنسه .. فذلك عدوان على الله ، وكفر به ، فوق أنه عدوان على الناس ومصادرة لحق مشروع لهم ..

فالطريق إلى الله مفتوح لكل إنسان ، يفتح قلبه لله ، ويوجه وجهه إليه .. وأنه إذا كان لأحد أن يحول بين إنسان وبين غاياته التي يتغيّاها فى الحياة ، أو أن يسلبه شيئا ملكه واستحوذ عليه ، فليس فى مستطاع أحد أن يحول بين

٥١

الإنسان وربّه ، أو أن يمدّ يده إلى الإيمان الذي سكن قلبه فينتزعه منه ، فذلك لا سلطان لأحد عليه ، وإنما أمر ذلك كله إلى الإنسان نفسه ، وإلى ما فى قلبه من إيمان .. إن شاء أمسك هذا الإيمان ، وإن شاء أرسله!

فإذا آمن الإنسان بالله ، وتعبّد لله .. كان عبدا ربّانيا ، يجيب دعوته ، ويمتثل أمره ..

وفى قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أمر من أمر الله ، ووصاة من وصاياه ، بل هو الأمر الأول ، والوصاة الأولى ، بعد الأمر بالإيمان به ، والوصاة بعبادته وطاعته .. فالإحسان إلى الوالدين حقّ من حقوقهما على المولودين ، إذ كان لهما أثر فى وجود الأبناء ، وفى البلوغ بهم مبلغ الحياة.

وقوله سبحانه : (وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

يبين به الله سبحانه أصحاب الحقوق الواجبة على الإنسان نحوهم ، إمّا لصلة قرابة تجمعهم إليه ، وتجعلهم بعضا منه ، أو تجعله بعضا منهم .. وإما لصلة إنسانية عامة ، تلك الصلة التي تقوم على أساس أن الفرد عضو فى الجسد الاجتماعى كلّه ، وأن كل عضو سليم فى هذا الجسد من واجبه أن يحمل بعض أعباء الأعضاء المريضة فيه ، شأن الجسد حين تضعف فيه حاسة ، أو تعجز عن العمل ، فتتولى أقرب الحواس إليها ، وأشكلها بها ، أداء وظيفتها بوجه أو بآخر حتى يستقيم للجسد أمره ..

فذوو القربى .. هم من الإنسان وهو منهم .. ولهم على الإنسان أكثر من حق .. حق القرابة ، وحق الإنسانية.

٥٢

واليتامى والمساكين .. أعضاء ضعيفة فى الجسد الاجتماعى .. ولهم على الإنسان حق ، هو حقّ بعض الجسد على بعض.

والجار ذو القربى ، له حق القرابة ، وحق الجوار ، وحق الإنسان على الإنسان.

والجار الجنب له حقان : حق الجوار ، وحق الإنسانية ..

والصاحب بالجنب ، هو الصديق المرافق ، الذي يجده الإنسان إلى جنبه فى شدته ورخائه .. وهذا له حق الصداقة مع حق الإنسانية.

وابن السبيل .. هو المسافر الذي يقطع الطريق بغير مركب أو زاد .. وسمّى ابن السبيل ، وأضيف إليه ، لأنه لا أهل له ، ولا رفيق ، غير الطريق الذي ركبه فى سفره .. فهو غريب ، ضعيف .. له حق الضعيف على القوى ، وحق الإنسان على الإنسان!.

وما ملكت أيمانكم .. وهم الأرقاء ، الذين ملك غيرهم وجودهم كله ، فهم أضعف الضعفاء .. وحقهم على أصحابهم أولا ، ثم حقهم على المجتمع كله ثانيا ..

فهؤلاء جميعا هم أصحاب حقوق على الإنسانية كلها .. يتقاضونها أولا ممن هم أقرب إليهم ، وأولى بهم ، من أهل ، وأقارب ، وجيران ، وأصحاب ، وسادة.

فكل إنسان فى المجتمع الإنسانى مدعوّ ـ فى شريعة الإسلام ـ إلى أداء حقوق لمجتمعه ، يبدأ فيها بأبويه ، ثم بذوي قرابته ، ثم باليتامى والمساكين ، ثم بالجيران من ذوى قرابته ، ثم بالجيران ممن لا قرابة لهم ، ثم الأصدقاء ، ثم أبناء السبيل ، ثم الأرقاء .. فإن فضل عنده فضل من عطاء ، فليضعه حيث يشاء ، فيما ينفع الناس ويعينهم.

وفى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) تعقيب على

٥٣

هذه الدعوة إلى البر والإحسان ، والتواصل بين الناس ..

وفى هذا التعقيب إشارة إلى أنه لا يتقبل هذه الدعوة الكريمة ، ولا يفى بها إلّا من استشعر قلبه الأخوة ، فوصل نفسه بالناس ، واختلط بهم ، وتحسس مواقع الآلام ، ومواطن العلل فيهم .. وذلك لا يكون إلا من إنسان آمن بأنه ابن هذه الإنسانية ، وأن الناس جميعا شركاء له فى هذا النسب ..

أما من عزل نفسه عن الناس ، وغرّه بذاته الغرور ، وملكه العجب ، واستبدّ به الكبر ، بما آتاه الله ، من مال ، أو صحة ، أو علم ، فرأى أنه من عالم غير عالم الناس ، ومن طينة غير طينتهم ـ فإنه لا يأخذ منهم ولا يعطى ، ولا يمدّ إلى أحد يدا ، ولا يقبل أن يمد إليه أحد يدا .. إن المسافة بينهم وبينه بعيدة .. إنهم أرض وهو سماء .. وأين الأرض وأين السماء؟

ولهذا كان قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) كاشفا عن هذا الصنف المتعالي المتغطرس من الناس ، ذلك الصنف الذي لو وجد إنسانا تتعلق حياته على قطرة ماء لما التفت إليه ، ولما مد يده نحوه بتلك القطرة ، ولو كانت الأنهار تجرى من تحته!

وفى هذا التعقيب إشارة إلى اليهود ، إذ هم الذين عزلوا أنفسهم عن المجتمع الإنسانى ، وعدّوا أنفسهم خلقا آخر غير خلق الناس ـ ونسبوا أنفسهم إلى الله نسبة لا يشاركهم فيها غيرهم ، فقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وسمّوا شعبهم شعب الله المختار!

وفى قوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ما يكشف عن تلك الإشارة التي ضمّت عليها كلمات الله فى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) ..

٥٤

فهؤلاء المختالون الفخورون ، الذين يبغضهم الله ، هم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.

فقد بخل اليهود بما عندهم من علم الكتاب ، وضنّوا به ، فلم يقم منهم داعية يدعو إلى دين الله ، ويبشر به بين العباد ، من غير اليهود .. فكتموا دين الله ، وبخلوا به ، مع أنه يزداد على الإنفاق والإعطاء نورا إلى نور ، وألقا إلى ألق!

بل وأكثر من هذا ، فإنهم تواصوا بالبخل ، ودعا بعضهم بعضا إليه .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٧٦ : البقرة).

وكما بخلوا بما عندهم من علم الكتاب ، بخلوا بما فى أيديهم من مال ، بل إن بخلهم بالمال كان مضرب المثل فى الدنيا كلها ، إذ لا يعرف شعب من الشعوب استبدّ به هذا الداء مثل اليهود ..

وفى قوله تعالى : (يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) إشارة صريحة بعد تلك الإشارتين المضمرتين إلى اليهود ، وما بخلوا به .. فقد كتموا ما أتاهم الله من فضله من كتاب ، فيه هدى ورحمة للعالمين .. ولم يقفوا عند هذا ، بل كتموا الدلائل والبشريات التي عرفوها فى كتابهم هذا ، عن النبي محمد ، وقد كانت تلك الدلائل وهذه البشريات مصباحا يضىء لهم الطريق إلى الدّين الجديد ، قبل أن تلوح شعاعات فجره الوليد .. ولكنهم آثروا أن يمسكوا هذه الدلائل بين أيديهم ، وأن يكتموا النّاس أمرها ، وأن يترصّدوا مطلع النبيّ الجديد ، ليسبقوا إليه ، ويستحوزوا عليه ، ويستخلصوه لهم من دون الناس .. فكان أن حرمهم الله هذا الخير ، وأورد الناس جميعا موارده. غير اليهود!!

٥٥

وهكذا كان الجزاء عدلا وفاقا. مكروا فمكر الله بهم ، وأرادوا حرمان الناس ، فحرمهم الله.

وفى قوله تعالى : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) خطاب عام بالجزاء الذي سيلقاه كل كافر ، وهو العذاب المهين ، وأول من يقع عليه هذا الجزاء هم اليهود ، الذين كفروا بمحمد وبما فى يده من كتاب الله الذي فى أيديهم خبره .. فهم المواجهون بهذا الخطاب ، الذي يتناولهم أولا ، ويمتد إلى غيرهم من الكافرين ثانيا ..

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) .. هو عطف على قوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) .. فهذا الصنف من الناس كصنف اليهود الذين غضب الله عليهم وأعدّ لهم عذابا مهينا.

فإذا كان اليهود قد بخلوا أثرة وشحّا ، فهؤلاء أنفقوا مباهاة ورياء.

وإذا كان اليهود كفروا بالله واليوم الآخر عن علم ، فهؤلاء كفروا بالله واليوم الآخر عن كبر وحمق ..

وهؤلاء وأولئك قد استقادوا للشيطان ووضعوا أيديهم فى يده ، وصحبوه إلى حيث يريد ، ولن يريد لهم الشيطان إلا الضلال ، ولن يوقعهم إلا فى الهلاك.

وقوله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) هو استنكار لموقفهم الذي وقفوه من الهدى والخير ، ودعوة مجدّدة لهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والإنفاق مما رزقهم الله .. فالله من ورائهم محيط ، يحصى عليهم أعمالهم من خير أو شر ، ويجزيهم على الخير خيرا وزيادة ، وبالشر شرا ، ويعفو عن كثير.

٥٦

____________________________________

الآيات : (٤٠ ـ ٤٢)

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٤٢)

____________________________________

التفسير : هذا حكم الله بين عباده ، لا يظلمهم مثقال ذرة ، بل يوفّون حسابهم عليها ، فإن كانت سيئة حوسبوا بقدرها ، وإن كانت حسنة جوزوا بأضعافها .. فهذا من فضل الله ورحمته بعباده ، السيئة سيئة ، والحسنة حسنات .. عشرة أو عشرات ، أو مئات .. والله يضاعف لمن يشاء : (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً).

وفى قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) عرض ليوم القيامة ، وما يلقى الناس فيه ، جزاء ما عملوا من خير أو شر.

والشهيد : هو الشاهد الذي تطلب شهادته فى أمر هو عليم به.

والأنبياء هم شهداء على أقوامهم ، فيما كان منهم من قبول أو إعراض ـ والنبي الكريم هو شهيد على أمته .. يؤدى الشهادة فيهم بين يدى الله ، ثم يكون حكم الله فيهم ، بمقتضى ما شهد به النبىّ ، والذي لا يشهد إلا بالحق الذي يعلمه الله.

وفى هذا اليوم ، الذي يدعى فيه الشهداء ، وتسمع فيه شهادتهم .. يخزى

٥٧

الكافرون ، ويبلسون ، بما قدمت أيديهم ، ويودّون لو كانوا ترابا فى التراب .. ولكن لا مفر لهم ، وقد أحاطت بهم خطيئاتهم ، وجاءت شهادة الرسل مسجلة عليهم آثامهم ، ثم استنطقهم الله فنطقوا ، وشهدت عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ..

____________________________________

الآية : (٤٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤٣)

____________________________________

[الصلاة وشارب الخمر]

يكاد يجمع المفسّرون والفقهاء ، على أن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) من المنسوخ ، وأن بقية الآية محكم لم ينسخ!

ونحن على رأينا من أنه ليس فى القرآن نسخ ، وأن كلّ آية متلوّة فيه ، عاملة غير معطلة ..

ولكن ماذا يقول القائلون بالنسخ فى آية متماسكة النظم ، متلاحمة البناء كهذه الآية: ينسخ بعضها ، ويبقى بعضها من غير نسخ؟

ثم ماذا يقولون فى فعل مسلط على أمرين بحكم واحد ، ثم يسقط أحد

٥٨

الأمرين ويبقى الآخر؟ فأية قوة خارقة تدخل على هذا الفعل ، فتفلت من سلطانه أحد الأمرين وتستبقى الآخر ..؟

استمع إلى قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ .. وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ).

فإن النهى عن مقاربة الصلاة تسلّط على حالين ، حال السكر ، وحال الجنابة .. وقد نصب قوله تعالى : (وَلا جُنُباً) بالعطف على قوله سبحانه : (وَأَنْتُمْ سُكارى) الذي هو جملة حالية فى محل نصب.

فكيف ينسخ النهى عن مقاربة الصلاة حال السكر ، ولا ينسخ النهى عن مقاربتها حال الجنابة ، والفعل مسلط عليهما معا؟

وندع هذا ، ففيه مجال للقول والجدل ..

ونسأل : هل إذا أمر المسلمون بأمر إلهى ، استجابوا له ، واستقاموا عليه والتزموه؟ ..

المفروض هو هذا ، والمطلوب هو هذا أيضا ..

ولكن المفروض شىء ، والواقع شىء .. والمطلوب شىء ، والوفاء به شىء آخر ..

إن من شأن الناس ألا يكونوا على حال واحدة أبدا .. ففيهم المطيع ، وفيهم العاصي ، ومنهم المستقيم ، وكثير منهم المعوجّ .. (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) (٢ : التغابن) ..

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (١٠٣ : يوسف).

٥٩

هكذا هم الناس .. بل هكذا هو الإنسان .. يستقيم وينحرف ، ويطيع ويعصى. ومن أجل هذا قام شرع الله ، وقامت حدود الله ، وكان الثواب ، وكان العقاب!

فالمسلمون إذا نهوا عن الخمر ، مثلا ، كان واجبا عليهم أن يمتثلوا أمر الله ، وأن ينتهوا عما نهوا عنه .. ولكن الواجب ـ كما قلنا ـ شىء ، والوفاء به شىء آخر ..

وقد شرب كثير من المسلمين الخمر ، حتى فى الصدر الأول للإسلام ، وفى عهد الخلافة الراشدة .. وقصة أبى محجن الثقفي المجاهد فى جيش سعد بن أبى وقاص معروفة .. فقد ضبط متلبسا بشربها ، وأقام عليه سعد الحدّ أكثر من مرة .. ثم حبسه ، ووضع القيد فى رجله .. ثم التحم المسلمون مع الروم فى معركة كاد يهزم فيها المسلمون ، وعند ما رأى أبو محجن من محبسه أن الدائرة ستدور على المسلمين ، احتال حتى خرج من محبسه وفك من قيوده ، وركب فرس سعد ، وقاتل قتالا مستبسلا عرفه له كل من شهد المعركة ، وإن لم يعرف شخصه .. وانتهت الموقعة بانتصار المسلمين ، كما انتهت بانتهاء أبى محجن عن شرب الخمر!!

والأمر لا يحتاج فى هذا إلى شواهد .. فإن هذا المنكر ـ أي الخمر ـ لم يعتزله المسلمون جميعا ، بل كان منهم فى كل عصر ، وفى كل بلد ، من يشرب الخمر وتأخذه سكرتها ، ويغشاه خمارها ، حتى لا يكاد يفيق!

ونعم ، الخمر كبيرة ، بل وكبيرة الكبائر .. آثم من يلمّ بها ، أو يعاقرها! هذا حكم لا خلاف فيه بين المسلمين ..

ولكن ما حكم من يشرب الخمر من المسلمين ، ثم يريد أن يؤدّى «الصلاة»؟ أتحرم عليه الصلاة ، ويحال بينه وبينها!

٦٠