التّفسير القرآني للقرآن - ج ٣

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٣

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

إن المروءة ـ قبل الدّين ـ تقضى بأن يخفّ أهل النجدة والنخوة ، إلى استنفاذ هؤلاء المستضعفين ، الذين تسلطت عليهم الذئاب ، وعلقت بهم شباك الضّالين الظالمين ..

فكيف إذا كان هؤلاء الضعاف المستضعفون ، إنما يلقون ما يلقون من عنت وإرهاق ، لأنهم آمنوا بالله ، واستجابوا لرسول الله؟

إن كل مسلم مطالب ـ ديانة ومروءة ـ أن يجاهد لخلاصهم ، وأن يستشهد فى سبيل الحق الذي استمسكوا به ، وأوذوا بسببه ، فهم ـ والأمر كذلك ـ فى الجبهة المقاتلة مع المؤمنين ، ولزام على كل مؤمن أن يدفع الضرّ عنهم ، وأن يردّ يد البغي المتسلطة عليهم ..

وفى قوله تعالى : (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) إشارة مضيئة ، تكشف عن جماعة المجاهدين الذين ندبهم الله لاستنفاذ هؤلاء المستضعفين .. إن هؤلاء المجاهدين هم جند الله الذين بعثهم من لدنه ، ليكونوا أولياء ونصراء لهؤلاء الضعفاء .. إنهم استجابة لدعوة هؤلاء المظلومين ، حين وجهوا وجوههم إلى الله ضارعين قائلين : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً).

____________________________________

الآية : (٧٦)

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (٧٦)

____________________________________

التفسير : وإذ ندب الله سبحانه من عباده من يتولّون الدفاع عن المستضعفين ، ويجاهدون فى سبيل الله من أجل خلاصهم من يد البغي والعدوان ، وإذ استجاب

١٠١

المجاهدون لما ندبهم الله له ـ فإنهم بهذا قد حققوا معنى الإيمان الذي رضوا به ، واتخذوه دينا .. فالمؤمن ـ إن صحّ إيمانه ـ كان دائما أبدا فى جبهة الحق ، ينتصر له ، ويقاتل فى سبيله: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) .. لأنهم أعطوا ولاءهم كلّه لله.

وليس كذلك سبيل الكافرين .. إنهم أولياء الباطل ، وأتباع الضلال .. ولذلك فهم يقاتلون ـ حين يقاتلون ـ لحساب الباطل ، وتحت راية الطاغوت ..

والطاغوت .. هو مجمع كل شر ، وملتقى كل فساد .. إنه الشيطان ، كما فسّرته الآية فى قوله تعالى : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) ..

وفى قوله تعالى : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) تثبيت لأقدام المجاهدين فى سبيل الله ، وتطمين لقلوبهم ، وتلويح لهم ببشائر النصر على عدوّهم .. لأنهم على الحق ، وفى سبيل الحق يقاتلون ، والعدو على طريق الباطل ، وتحت راية الباطل يقاتل .. والله سبحانه هو الحقّ ، وهو مع الحق ، وجند الحق ، فالنصر لا يتخلف أبدا عمن يقاتلون فى سبيل الله .. (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٢٢ : الحديد).

____________________________________

الآية : (٧٧)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٧٧).

____________________________________

١٠٢

التفسير : قبل أن يكتب الله القتال على المؤمنين ـ جهادا فى سبيل الله ، وحماية لدعوة الحق التي فى أيديهم ـ كانت تكاليف الإسلام محدودة ، ليس فيها ما يشق على النفس ، إذ لم تكن دعوة الله لهم تتجاوز اجتناب المحرمات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، كما يقول تعالى : (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ..

وإنه حين كتب الله القتال على المؤمنين ، استقبله المؤمنون الذين صدق إيمانهم بصدور منشرحة ، ونفوس راضية ، وعدّوا ذلك نعمة من نعم الله بهم ، وفضلا من أفضاله عليهم ، إذ أتاح لهم فرصة مسعدة للعمل على مرضاته ، والفوز بمنزلة المجاهدين ، والشهداء عنده ..

أما الذين فى قلوبهم ضعف أو مرض .. فقد فزعوا لهذا الأمر ، وطلع عليهم من جهته شبح الموت يمدّ يديه الرهيبتين لانتزاع أرواحهم! إن حرصهم على الحياة ، وحبّهم للدنيا ، قد مثّل لهم الموت شيئا مهولا فظيعا ، لأنه يقطعهم عن الحياة التي تعّلقوا بها ، وسكروا من خمرها .. ورأوا فيما فرض الله عليهم من قتال أمرا لا يطاق ، فقالوا ـ وكأنهم ينكرون على الله أن يكلفهم ما كلفهم به ـ : (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ؟).

إنهم يهربون من حمل تلك المسئولية ، ويدافعون الأيام بالتسويف .. إنهم يتمنّون على الله أن يؤخر هذا الأمر ـ أمر القتال ـ إلى غد .. وذلك الغد لن يلتقوا به أبدا .. إنه كلما جاء حسبوه يومهم ، وانتظروا ما بعده غدا لهم .. وهكذا .. لا يلتقون بالغد أبدا ، ولهذا جاء قوله تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) ناعيا عليهم هذا التعلّق الشديد بالحياة الدنيا ، والحرص القوىّ على متاعها .. ولو أنهم

١٠٣

عقلوا لعرفوا أن متاع هذه الحياة الدنيا قليل ، وإلى زوال ، وأن الآخرة خير وأبقى ، فمن ربح الدنيا وخسر الآخرة فذلك هو الخسران ، المبين ، ومن خسر الدنيا وربح الآخرة ، فذلك هو الفوز العظيم.

وفى قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) تعجّب واستنكار معا ، من هؤلاء الذين وقفوا هذا الموقف المتخاذل من الدعوة إلى القتال .. إنهم ـ وتلك حالهم ـ مثار للعجب والتعجب ، وفيهم عبرة لمن يعتبر!

وقد ذكر الله سبحانه هذا الموقف المتخاذل ، من بعض النفوس المريضة ، وشنّع عليه ، وأخذ باللائمة أهله .. فقال تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (٢٠ : محمد).

____________________________________

الآيات : (٧٨ ـ ٧٩ ـ ٨٠)

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (٨٠)

____________________________________

١٠٤

التفسير : هؤلاء الذين يفزعون من الموت ، ويخشون التعرض له فى مواقف الجهاد فى سبيل الله ـ ماذا يعصمهم من الموت؟ وإلى أين تمضى بهم الحياة؟ أليس الموت هو خاتمة المطاف لكل حىّ وإن طال أجله وامتدّ عمره؟ إذن فالموت الذي يهرب منهم هؤلاء الجبناء هو ملاقيهم يوما ، أينما كانوا .. ولو كانوا فى بروج مشيدة .. فهم إن لم يموتوا بضربة سيف أو طعنة رمح فى ميدان القتال ، ماتوا حتف أنوفهم وهم فى بيوتهم وبين أهليهم .. فإن فرّوا من الموت ، فإنما يفرّون إلى الموت!!

وقوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) هو تنديد لهؤلاء الجبناء الفارّين من وجه الموت ، وفضح لموقفهم المنحرف من الرسول. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) .. وتلك قوله حق (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) وتلك رمية باطل وضلال ، فما فيما جاءهم به الرسول ودعاهم إليه ، إلّا الخير الخالص ، لو أنهم استقاموا على الطريق الذي أقامهم عليه.

وقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) هو الردّ المفحم على تلك التهمة الظالمة التي توجّه بها هؤلاء السفهاء إلى النبىّ .. إنه لا يملك شيئا ، الأمر كله بيد الله .. فما أصابهم من خير أو شرّ فذلك بقدر مقدور قدّره الله ، وأجراه على عباده .. وما كان لأحد أن يغيّر أو يبدل شيئا مما قضى الله به!

وقوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) تسفيه لتلك العقول الضالة التي يعيش بها هؤلاء المنحرفون الضالون .. إنهم لا يكادون يفقهون حديثا .. ولو كان لهم شىء من فقه الحديث ، لكان لهم فيما جاءهم به النبي من كلمات الله ، تبصرة وهدى ، ولكن أنّى للعمى أن يبصروا ، وللصم أن يسمعوا؟ (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً).

١٠٥

وقوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) هو استكمال للصورة التي يتحدّد بها موقف الإنسان من الكسب ، ومدى مسئوليته فيما يعمل من خير أو شر ، ومن حسن أو قبيح ..

فقد بيّن الله فى قوله سبحانه : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أن كل شىء يقع فى هذا الوجود هو بتقديره ، وعن علمه ، وبإرادته .. (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥٩ : الأنعام).

وهذا ـ على إطلاقه ـ يعنى أن الإنسان لا كسب له ، وإنما هو وما يقع منه من أعمال ، ليس إلا مظهرا لإرادة الله ، وإعلانا لما قضت به مشيئته!

وهذا يعنى أيضا أن الإنسان غير مسئول عن غيّه أو رشاده ، وكفره ، أو إيمانه ، إذ لا إرادة له ، مع تلك الإرادة الإلهية الغالبة ، ولا مشيئة مع تلك المشيئة العلوية القاهرة!

ولكن واقع الإنسان ينبىء عن أنه ذو إرادة ، وذو مشيئة ، وأنه يريد ، ويشاء .. وأنه يقف بين طريقى الخير والشر ، فيريد هذا الطريق أو ذاك ، حسب تقديره ، ويرتضى الكفر أو الإيمان ، حسب مشيئته .. ليس هناك قوة ظاهرة تحمله على أي الأمرين ، وإنما ذلك إلى إرادته ومشيئته.

وإذن فهناك معادلتان يراد التوفيق بينهما :

معادلة تقول : الخير والشر جميعا من عند الله .. (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) .. والمعادلة الأخرى تقول : الخير من عند الله ، والشر من عمل الإنسان .. (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) والحق أنه مع النظر والتأمل نجد أنه ليس هناك معادلتان ، بل هما معادلة

١٠٦

واحدة ، وأن قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) هى نفس ما تضمنه قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وأنه إذا كان الله تعالى قد أضاف الخير إلى نفسه ، وأضاف الشرّ إلى الإنسان ، فما ذلك إلا إعمالا لإرادة الإنسان ، وإيقاظا لوجوده ، وإلا فإن الأمر كله لله ، وليس للإنسان منه شىء ، وأن على الإنسان فى مواجهته للحياة ، أن يستقلّ بإرادته ، وألا يضيفها إلى الله .. فإن حصّل بتلك الإرادة خيرا حمد الله عليه ، وشكر له أن وفقه وهداه ، وإن حصّل شرّا نظر إلى نفسه ، فألقى باللائمة عليها ، وصحح موقفه الذي أورده موارد الشر .. وذلك على الأقل ـ وإن لم يزحزح الإنسان عما أراد الله له ـ يجعل الشرّ أمرا بغيضا حتى عند أهله الذين ساقهم قدرهم إليه .. وذلك أضعف الإيمان فى مواجهة الشرّ ..

وبهذا يستقيم للإنسانية فى مجموعها رأى فى الخير وفى الشر ، فتحتفى بالخير وترضى عنه ، وتبغض الشر وتنفر منه .. وبهذا يتوازن ميزان الحياة .. فيكون فيها الخير والشر ، والأخيار والأشرار .. الأمر الذي لا تكون الحياة حياة إلا بهما ، ولا يكون الناس ناسا إلّا معهما جميعا!!

وإذا استقام فى الإنسانية أن الخير طيّب محبوب ، وأن الشرّ خبيث مكره ، فإنه مطلوب من الإنسان ـ كل إنسان ـ أن يسعى جاهدا إلى تحصيل الخير والاستزادة منه ، وأن ينفر جاهدا من الشرّ والتخفف منه .. وألا يستولى عليه فى حاليه هذين أي شعور بأنه مهما جدّ وجهد فلن يبلغ من جدّه واجتهاده إلا ما قدّره الله له .. ، وكتبه عليه .. فذلك ـ وإن يكن الحقّ كلّ الحق ـ أمر غير مكشوف له ، وأن عليه أن يعمل للخير ، وأن يجدّ فى تحصيله ، وأن يدع المصير الذي هو صائر إليه ، لتقدير الله وحكمه .. (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).

وقوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) تحديد لمهمة الرسول ، وأنه

١٠٧

ليس مسئولا عن ضلال الضالّين ، وعناد المعاندين ، إن عليه إلا البلاغ .. (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) يشهد بما كان من الرسول من تبليغ رسالة ربه ، فمن قبلها ، فقد نجا وسعد ، ومن أعرض عنها ، فقد هلك وشقى ..

إن دعوة الرسول ليست لحسابه ، وإنما هى لله ، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله ، ومن تولى ، فما على الرسول شىء من تولّيه ، وإنما حسابه على الله!

____________________________________

الآيات : (٨١ ـ ٨٣)

(وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (٨٣)

____________________________________

التفسير : هؤلاء الذين يقفون هذا الموقف المتخاذل ، من التكاليف التي تقتضيهم بذلا وتضحية ، هم منافقون قولا ، كما هم منافقون عملا .. ذلك أنهم إذا كانوا يظهرون فى وقت النفير للجهاد ، أنهم ماضون مع المجاهدين ، وأنهم يهيئون أنفسهم للجهاد ويعدّون العدة له ، ثم ينكشف الأمر عن أنهم كانوا يدافعون الأيام بالتسويف والمماطلة ، حتى تنتهى المعركة ، ويعود المجاهدون! ـ فإذا كان ذلك شأنهم فى العمل ، فكذلك كان أمرهم فى القول .. إذا سمعوا دعوة إلى الجهاد قالوا : «طاعة» ، وأظهروا للرسول الاستجابة

١٠٨

والامتثال ، لما يدعوا إليه .. فإذا زايلوا مجلس الرسول ، وخلوا إلى أنفسهم «بيّت طائفة منهم غير الذي تقول» وأنكروا على أنفسهم هذا القول الذي قالوه من قبل ، وأقاموا أمرهم على خلافه .. فلا استجابة ولا طاعة .. ولكن عصيان ومخالفة ..

وفى قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) ازدراء لهؤلاء القوم ، وتحقير لهم ، وذلك بالحديث عنهم بضمير الغائب ، لأنهم ليسوا أهلا لأن يشرفوا بخطاب ربّ العالمين .. ثم كان الحديث عنهم بالضمير المبهم ، دون ذكرهم والكشف عن ذواتهم ، امتهانا لهم ، واستخفافا بشأنهم ، حتى لكأنهم أهون من أن يتعرف عليهم ، وأضأل من أن تظهر لهم ذاتية مميزة لهم ..

وفى قوله تعالى : (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ) إشارة أخرى إلى ضمور ذواتهم ، وضئولة شأنهم .. وأنهم فى مجلس الرسول ، وبين أهل هذا المجلس ، شخوص ضامرة ، وشخصيات باهتة ، يندسون بين الناس ، فى حذر ، وفى خفية ، حتى لا تأخذهم العيون ، ولا تفضح مستورهم النظرات .. هكذا شأن المنافقين ، يعيشون دائما وراء ستار من الحذر ، والتلصص ، ولا يغشون المجالس إلّا فى حرص شديد على ألا تأخذهم العيون ، ولا ترتقع إليهم الأبصار ..

وفى التعبير بقوله تعالى : (بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ) تصوير معجز لحال هؤلاء المنافقين ، الذين كانوا فى مجلس الرسول أشباحا لا تكاد ترى ، حتى إذا خرجوا من مجلس الرسول ، تطاولت أعناقهم ، وشمخت أنوفهم ، وانتفضت أجسامهم ، فإذا هم أشبه بالطواويس خيلاء وإعجابا! يستعرضون الناس ، ويعرضون على أنظارهم هذا الوجه الجديد منهم ، وكأنهم بذلك يستوفون

١٠٩

حظهم من بروز الشخصية ، ذلك الحظ الذي فاتهم ، وهم يلبسون الوجه الآخر ، وجه الضمور والانزواء ، الذي يعيشون به أكثر مما يعيشون ..

وقوله تعالى : (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) تهديد لجماعة المنافقين ، ووعيد لهم بالحساب العسير والعذاب الأليم ، إذ سجل الله عليهم كل ما عملوا من سوء ، وهو سبحانه الذي سيتولى حسابهم ، ومجازاتهم ..

قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) إلفات لجماعات المنافقين والضالين إلى مافاتهم من خير عظيم ، حين لم يقفوا عند آيات الله ، ولم يتدبّروها ، ويصححوا موقفهم منها ، وذلك بالنظر فيها ، نظرا يرتاد مواقع الخير ، وينشد مطالع الهدى ..

إنهم لو فعلوا ذلك ، وأخلوا أنفسهم من تلك المشاعر الخبيثة المستولية عليهم ، لرأوا وجه الحق سافرا فى آيات الله وكلماته ، ولأحذوا طريقهم إلى الله مستقيما ، فآمنوا بالله ، وبرسوله ، وبهذا الكتاب الذي أنزل على رسوله ..

فإن نظرة مخلصة إلى كتاب الله ، تصل العقول به ، وتفتح القلوب له ، لما فى كل آية وكل كلمة منه ، من أمارات مشرقة ، تحدّث بأن هذا الكلام هو كلام الله ، وأن هذا الكتاب هو كتاب الله!! وأقرب تلك الأمارات وأظهرها أن هذا الكتاب قائم على أسلوب واحد ، ومنهج واحد ، ومستوى واحد .. وذلك أنه على امتداده ، وسعته ، وتشعّب الموضوعات التي تناولها ، والقضايا التي عرضها ، والأحكام التي أصدرها ـ هو فى ذلك كلّه على درجة واحدة من البلاغة والبيان ، وعلى كلمة سواء فيما يأمر به وينهى عنه .. ولو كان هذا القرآن من عند غير الله ، لاختلف أسلوبه ، وتناقضت أحكامه ، وتضاربت قضاياه .. شأن كل عمل بشرىّ ، لا يسلم أبدا من مواطن القوة والضعف فيه ..

قوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ)

١١٠

هو جانب من جوانب الصورة التي عرض الله فيها هؤلاء المنافقين ، وإنهم لأصحاب ثرثرة ولغو ، كلما وقعت لآذانهم كلمة طاروا بها ، وألقوا بها إلى كل أذن ، دون أن يتبينوا ما يسمعون ، أو يعرفوا وجهه .. إن اللغو وتقليب وجوه الكلام هو تجارتهم الرابحة ، وبضاعتهم الرابحة .. لا يتكلفون له جهدا ، ولا يخشون من ورائه سوءا .. فما هو إلا أحاديث تروى ، وأخبار تتناقل ، لا يدرى أحد مصدرها ، ولا يعرف من هو صاحبها .. وعلى هذا الغذاء الخبيث يعيش المنافقون ، ومن هذا الجوّ المغبّر يتنفسون ..

فهم يثرثرون بكل ما يسمعون من خير أو شر : (إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) أي نطقوا به ، وصحبوه معهم إلى كل مكان .. فليس يرضيهم أن يذيعوا هذه الأحاديث فى الناس ، وإنما هم وراء هذه الأحاديث المذاعة يدفعونها بين أيديهم ، ويشهدون آثارها فى الناس .. وهذه ما يشير إليه النظم فى قوله تعالى (أَذاعُوا بِهِ) وهو غير ما يراد بالفعل «أذاعوه» الذي يضيف إليهم إذاعة الأحاديث وتنقلها بعد أن يدفعوا بها الدفعة الأولى .. أما قوله تعالى : (أَذاعُوا بِهِ) فإنه يجعلهم يدورون مع هذه الأحاديث حيثما دارت.

وقوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) هو توبيخ لهم على هذه الخفّة وذلك الطيش اللذين يحملانهم على هذا الجري اللاهث بكل كلمة يسمعونها ، أو وراء كل كلمة أو شائعة ، تقال هنا أو هناك .. إنهم لو عقلوا ، أو كانوا على بصيرة من أمرهم ، لراجعوا أنفسهم عند كل خبر يلقى إليهم ، وعند كل شائعة ترد على أسماعهم ، فإن التبس عليهم شىء ، أو اختلط عليهم أمر ، ردّوه إلى الرسول ، فكشف لهم وجه الحق منه ، ووقف بهم على موارده الصحيحة ، وأراهم الطريق القويم الذي يلقونه فيه .. فإن لم يكن لهم إلى الرسول سبيل ، كان فى أولى الأمر منهم ، وفى

١١١

القادة والراشدين بينهم ، من يضبط موارد هذه الأخبار ومصادرها ، ويعزل غثّها عن ثمينها ، وباطلها عن حقها ـ إنهم لو فعلوا ذلك لكان خيرا لهم وأقوم ، ولأراحوا أنفسهم وأراحوا الناس من هذا الهرج والمرج ، الذي يثيرونه فيهم بهذه الأخبار المشوشة المضطربة!

وهذا لا شك دستور قويم لاستقرار المجتمع ، وضمان أمنه وسلامته ، من كلمات السوء التي تتدسس إليه من أفواه ثرثارة ، ترمى بالكلام بلا حساب ولا تقدير ..

إن الكلمة ليست مجرد لفظة يلفظها الإنسان من فمه ، ولكنها أشباح متنقلة فى الناس .. تتجسد ، وتتشكل ، وتظهر فى صور مختلفة ، من تصورات الناس وأعمالهم ، وخاصة فى أوقات الشدائد والأزمات التي تمر بالمجتمع ، حيث الهياج والقلق والاضطراب ، الذي يغشى الناس ، ويطلع عليهم فى يقظتهم ونومهم على السواء.

وقوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) تنبيه للمسلمين إلى الخطر الذي يتهددهم من وراء هذه الوسوسات التي تندسّ إليهم ، من مفتريات الأحاديث وأباطيلها ، وأن ذلك جميعه من واردات الشيطان ، الذي يسوّل لتلك النفوس المريضة باللغو ، ويغريها بالثرثرة ، ويركب بها مركب السوء ، فتذيع فى الناس ، البلبلة والاضطراب ، وتفتح لهم أبواب الفتنة والضلال ..

ولولا فضل الله وما يحرس به المؤمنين من عظاته ، وتنبيهاته لهم ، وتحذيرهم من المزالق والعثرات ، لضلّوا وغووا ، إلا قليلا منهم ، ممن استعصم بعقله ، واحتكم إلى رأيه ، واستصفى لنفسه المورد الطيب الذي يرده ..

١١٢

فهؤلاء القليلون هم الأمناء على أنفسهم ، وهم أوتاد المجتمع ، والحراس على فطرة الإنسان وكرامته ..

____________________________________

الآية : (٨٤)

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) (٨٤)

____________________________________

التفسير : وإنه ليس بعد هذا التنديد بالمنافقين ، والمرجفين بالناس ، وتحذير المؤمنين منهم ، وإجلاء هذا الدخان المنعقد فى سماء المجتمع من شائعات السوء ـ إلا أن يأخذ النبي طريقه الذي هو سائر فيه ، بعد تلك الوقفة ، التي نظّم فيها صفوفه ، وعزل عنها هذا المرض المندسّ بينها ، من المنافقين والمثبطين ..

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) فهذا هو طريق النبىّ .. القتال فى سبيل الله ؛ والاتجاه إليه بكل قوته ، والعمل فيه جهد طاقته .. ولا عليه أن يتخاذل المتخاذلون ، ويبطّىء المبطّئون .. إنه لا يكلّف إلا ما يملك ، وهو لا يملك إلّا نفسه.

وقوله تعالى : (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) هو استدعاء سماوىّ للمؤمنين الذين صدقوا إيمانهم أن يكونوا مع النبىّ ، وأن يأخذوا طريقه الذي أخذه .. وفى هذا ما فيه من تكريم لهم ، ورفع لقدرهم.

وقوله سبحانه : (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هو رجاء يتعلق به النبىّ والمجاهدون معه .. فالنبىّ والمؤمنون الذين يجاهدون معه

١١٣

على رجاء من عون الله لهم ، ونصرهم على أعدائهم .. وأن هؤلاء الأعداء إن كانوا أولى قوة وأولى بأس شديد ، فالنبىّ والمسلمون يشدّون رجاءهم إلى قوة فوق هذه القوة ، وإلى بأس أعظم من هذا البأس .. قوة الله ، وبأس الله .. (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً).

____________________________________

الآية : (٨٥)

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) (٨٥)

____________________________________

التفسير : فى الآيات السابقة كان الحديث عن الجماعة الإسلامية ، وعن أعراض النفاق التي تظهر فى بعض منها ، ممن دخلوا فى الإسلام ، واتخذوه جنّة لهم ، وقد كشف الله مواقف هؤلاء المنافقين ، ورصد حركاتهم ، وأرى النبىّ والمسلمين ما كانوا يخفونه فيما بينهم.

وفى هذه الآية يلتقى المؤمنون والمنافقون فى موقف الحساب ، حيث يواجه بعضهم بعضا ، وحيث يذهب كل منهم بما استحق من جزاء.

وقوله تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) هو عرض لفريق المؤمنين ، الذين سيسوّى حسابهم على حسب ما عملوا من خير ، وما قدموا من إحسان.

والتعبير عن العمل «بالشفاعة» هنا للدلالة على أنه عمل من نوع خاص ، عمل يتصل بالإنسان وبما يقع بينه وبين غيره من الناس ، من تصرفات ، حسنة أو سيئة .. فلا يدخل فى هذا العمل ما كان خاصا بذات الإنسان ، وما يأخذ به (م ٥٤ ـ التفسير القرآنى ـ ج ٥)

١١٤

نفسه من طاعات وعبادات ، محسنا أو مقصّرا ، أو بما بينه وبين الله من معتقد ، صالحا أو فاسدا ..

فالشفع فى اللغة : الزوج من كل شىء ، وفى كل شىء .. وهو يقابل الوتر الذي هو الفرد ..

والشفاعة الحسنة ، هى الإحسان إلى الغير ، بالقول أو بالعمل ..

والشفاعة السيئة ، هى الإساءة إلى الغير بالقول أو بالعمل ..

وصاحب الشفاعة الحسنة له «نصيب منها» أي أنه حين يبذل من نفسه للغير ، ما يبذل من خير وإحسان ، فإنه له نصيبا من هذا الخير وذلك الإحسان .. فهو وإن يكن ما بذله قد خرج من سلطانه ، وصار إلى غيره ، فإنه سيعود إليه شىء منه ، بصورة ما ، من صور الخير والإحسان .. فقد يلقاه صاحبه الذي أحسن إليه بإحسان كإحسانه ، وإن اختلف شكلا وقدرا .. فإن حرم المحسن العوض ممن أحسن إليه لم يحرم لذّة الإحسان ، التي تشيع فى نفسه الرضا ، وفى قلبه الفرحة .. فإن حرم هذه اللذة ـ وهيهات ـ فإنه لن يحرم أبدا ثواب الله الذي أعدّه للمحسنين ، إذ يقول سبحانه : (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦ : يوسف).

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه

لا يذهب العرف بين الله والنّاس

كذلك صاحب الشفاعة السيئة ، له «كفل منها» أي نصيب يعود إليه مما عمل من سوء .. يجىء إليه ممن أساء إليهم ، أو من نخسة ضميره ، فى حال من أحوال صحوه ويقظته .. فإن لم يكن لضميره صحوة أو يقظة ـ وهيهات ـ فهناك القصاص العادل ، يأخذه الله به ، يوم الفصل بين العباد ..

وقد فرّق القرآن بين عائد الشفاعة الحسنة ، وعائد الشفاعة السيئة .. فسمّى

١١٥

عائد الشفاعة الحسنة «نصيبا» وسمى عائد الشفاعة السيئة «كفلا».

فما السرّ فى هذا؟

نقول ـ والله أعلم ـ إن عائد الشفاعة الحسنة هو خير وبركة ، يصيب صاحبها ، وأنه إذ يقدّمها إحسانا وبرّا ، فإن له من هذا البرّ والإحسان نصيبا.

وكذلك صاحب الشفاعة السيئة ، إنه إذ يقدم الشرّ والسوء ، سيجنى من ثمر ما زرع شرّا وسوءا!

والتعبير عن عائد الخير بالنصيب هو التعبير المطلوب لغة وواقعا ، لأن النصيب هنا ، فى اللغة : الحظ والقدر المتاح للإنسان من أي شىء ، خيرا ، كان أو شرا.

وقد عدل القرآن عن استعمال كلمة «النصيب ، فى عائد الشفاعة السيئة هنا ، إلى كلمة «كفل» التي تأتى بمعنى الضامن ، والكفيل ، الذي يضمن المدين الغارم ، ويكفل الوفاء بالدّين ، إذا عجز المدين عنه.

فالشفاعة السيئة دين ثقيل ، يستنفد كل ما يملك صاحب هذه الشفاعة من خير ، وهو والحال كذلك فى حاجة إلى ضامن أو كفيل .. ولا ضامن أو كفيل يجرؤ على كفالة هذا المفلس وضماته .. وإذ كان لا بد من ضامن أو كفيل ، فكافله وضامنه ، هو عائد هذا الشر الذي غرس .. فإذا طولب بقضاء دينه وهو مفلس عاجز عن قضائه ، أخذ هذا العائد وفاء لبعض ما عليه ، وإذا هو شر إلى شرّ ، وبلاء إلى بلاء!!

____________________________________

الآية : (٨٦ ـ ٨٧)

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى

١١٦

كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) (٨٧)

____________________________________

التفسير : التحيّة التي يتبادلها الناس فيما بينهم ، هى مفتاح يفتح مغالق القلوب فيهم ، وأشعة دافئة تذيب الثلج وتدفع الضباب الذي بينهم .. ولهذا كانت عرفا ملتزما فى مختلف الأمم ، والشعوب ، على مدى الأزمان ..

وهى فى الإسلام ، خير يتهاداه الناس ، وبرّ يلقى به بعضهم بعضا .. من قبض يده عن بذله ، أو كفّها عن أخذه ، فقد فاته حظه من هذا الخير ، وحرم نصيبه من هذا البرّ ..

وقد أخذ الإسلام المسلمين بهذا الأدب الإنسانى ، وجعله شعيرة من شعائر الإسلام ، وأوجب على من بدأه أحد يتحية ، أن يتقبلها بقبول حسن ، وأن يردّها بتحية مثلها ، أو خير منها .. إذ كان الذي بدأ بالتحية ، قد بدأ بفضل وإحسان ، ورد التحية بمثلها قضاء لقرض حسن ، فلا حمد لمن أدّى ما اقترض .. والحق يقتضيه أن يشكر لمقرضه ، ويثنى عليه .. ومن حق البادئ بالتحية أن يردّ عليه بأحسن مما بدأ به ..

والله سبحانه وتعالى يقول : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) .. ومقابلة الإحسان بالإحسان ليست جزاء له ، وإنما هى وفاء له ، والجزاء يكون بمقابلة الإحسان بما هو أحسن من هذا الإحسان ..

والتحية الطيبة بين المسلمين هى من الشفاعة الحسنة التي أشارت إليها الآية السابقة .. وهى وجه من وجوه تلك الشفاعة ..

وتحية الإسلام ، هى كلمة : «السّلام» مشتقة من الإسلام ، يلقى بها

١١٧

الإنسان أخاه قائلا : «السلام عليكم» فيلقاه أخوه بها قائلا : «وعليكم السلام ورحمة الله» .. وفى هذا الجوّ الذي تتردد فى جنباته كلمات السلام ، تفىء النفوس إلى السّلم ، وتهفو إلى العافية ، وتستروح روح المودة والإخاء ..

وإذ يأخذ المسلمون أنفسهم بهذا الأدب الإسلامى ، وإذ تشيع بينهم هذه الكلمة الطيبة الرائعة ، وإذ ينطق بها من نطق عن وعى ويقظة ، وإذ يتلقاها من تلقّى عن إدراك وفهم ، فإنك لن تجد فى مجتمع يتخذ هذه الكلمة شعارا ودثارا ـ قلبا يحمل بغضة ، أو صدرا ينطوى على عداوة ، وإنه لا شى إلا المودة والحب والسلام ..

وإذا كان الإسلام قد آثر كلمة «السّلام» لما يشعّ منها من المعاني الكريمة الطيبة ، التي تقتل جراثيم العداوة والبغضة ، فإنه ـ مع هذا ـ يتقبل أية تحية طيبة يتبادلها الناس ، ويتوسمون فيها سمات الخير والإحسان .. ولهذا جاء قوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) غير مقيد التحية بقيد مخصوص ، ولا واقف بها على صورة خاصة ، ليتيح للناس من التحايا ما يغذى عواطف الأخوة والمودة بينهم ، سواء أكانت تلك التحية لفظة ملفوظة ، أو حركة معبّرة ، أو إشارة دالة ، أو إماءة موحية .. إذ لا يعنى الإسلام من هذا إلا الأثر المترتب عليه ، ولا يعنيه شىء ممّا يظهر فيه من صور وأشكال. وإن كانت كلمة السلام هى تحية الإسلام ، وشارة المسلمين.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) إشارة إلى أن هذه التحية حق من الحقوق الواجب بذلها ، كما أنها حق من الحقوق الواجب أداؤها إلى أصحابها .. وأداؤها يكون بقبولها ، وردّها بأحسن منها! وأن الله سبحانه حسيب على كل شىء .. يضبطه ، ويجازى عليه!

ومع أن التحية مجرد كلمات قليلة متبادلة بين الناس والناس ، لا يتكلف لها

١١٨

الناس جهدا ، ولا ينفقون فى سبيلها مالا إلّا أن كثيرا من الناس يضنّون بها ، ويمسكون ألسنتهم عنها ، ولا يعدّونها معاملة كريمة يتعاملون مع الناس بها ، أخذا أو إعطاء!! وذلك لا يكون إلا عن نفس مريضة ، وطبع لئيم .. إذ أنه ليس فى باب الإحسان مثل التحيّة ، فى خفّة محملها ، وقلة مئونتها ، مع كثرة محصولها ، وطيب ثمرها .. وليس فى الناس أخسر صفقة ، وأنكد حظّا ممن لا يحصّل هذا الخير الكثير ، الذي يجىء إليه صفوا عفوا .. من غير ثمن!!

وقوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) هو تعقيب على تلك الدعوة الكريمة التي دعا الله المسلمين إليها ، وهى تبادل الإحسان والمعروف بينهم ، ولو بالكلمة الطيبة ، وهى التحية ..

وفى هذا التعقيب ، يتجلّى الله سبحانه وتعالى متفردا بألوهيته ، لا يملك أحد مع الله شىء .. وهو بهذا التفرد قائم على عباده ، يجمعهم إليه يوم القيامة ، ليجزى كل نفس بما كسبت .. ذلك أمر لا شك فيه ، قد أخبرنا الله به فى كتبه ، وعلى لسان أنبيائه .. (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) ..

____________________________________

الآية : (٨٨)

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (٨٨)

____________________________________

التفسير : النفاق أخبث نبتة وأشأمها ، تنبت فى كيان المجتمع ، وتغتال أيّة رقعة من أرضه ..

١١٩

والمنافقون هم أخبث داء وأقتله ، إذا تسلّطوا على مجتمع ، وأوجدوا لأنفسهم مكانا فيه ..

ولقد ابتلى المسلمون ـ شأنهم شأن كل مجتمع ـ بالنفاق وبالمنافقين ، الذين كانوا عدوا خفيا ، يظاهر العدوّ الظاهر ، الذي يلقاه المسلمون فى ميدان القتال!

وإذا كانت سيوف المسلمين قد عرفت طريقها إلى رقاب المشركين والكافرين ، وأخذت بحقّها منهم ، فإن أمر المسلمين مع المنافقين كان على خلاف .. حيث يظهر فيهم المنافق بأكثر من وجه ، فلا يدرون على أي وجه يتعاملون معه ، ولا على أي وجه يأخذونه .. فهو مسلم فى ظاهره .. مشرك ، أو كافر ، فى باطنه ..!

وإذا أتيح للمسلمين أن يروا من المنافق هذا الظاهر الذي يعيش فيه معهم ، فمن لهم بأن يروا منه هذا الباطن الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب؟

وهنا موطن الحدس ، والتأويل ، ومكمن الخطر والحرج!!

وفى عهد النبوة كشف الله سبحانه للنبى وللمسلمين عن كثير من المنافقين ، وفضح لهم باطنهم ، وعرضهم على الملأ عرضا فاضحا ، بأعيانهم ، وأسمائهم .. فلم يكن أمرهم بعد هذا خافيا على أحد .. ولكن مع هذا ظل بعض المسلمين مترددا فى كثير منهم ، لما يبدو على ظاهرهم من سراب خادع ، من الصلاح الزائف ، والتقوى ، الكاذبة ..

فجاء قوله تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ)؟ قاضيا على هذا التردد ، قاطعا كل شك .. فلا ينبغى بعد هذا أن يكون المؤمنون على رأيين فى المنافقين ، وإنما هو رأى واحد لا خلاف عليه .. وهو أن هؤلاء المنافقين ، منافقون ،

١٢٠