التّفسير القرآني للقرآن - ج ٣

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٣

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

وكفر الكافرين .. له ما فى السماوات والأرض .. (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٩٣ : مريم). وقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي يعلم المفسد من المصلح ، وما تخفى الصدور من نفاق وكفر ، وما تحمل القلوب من هدى وإيمان .. وهو حكيم اقتضت حكمته أن يجزى كلّ عامل بما عمل .. من خير أو شر.

____________________________________

الآيات : (١٧١ ـ ١٧٣)

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٧٣)

____________________________________

التفسير : الغلوّ : المبالغة فى الشيء ، ومجاوزة الحدّ به ، والخروج حدّ الاعتدال فيه .. سواء كان ذلك فى الدين ، أو فى غيره.

والاستنكاف : الاستكبار ، واستنكف أن يفعل كذا : أي أبى أن يفعله استكبارا.

٢٨١

وهاتان الآيتان تخاطبان أتباع المسيح من أهل الكتاب ، وتكشفان لهم عن موقفهم الخاطئ منه ، وفهمهم المغلوط له ..

وقوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) أي لا تميلوا بدينكم إلى جانب الغلوّ والمبالغة فى نظرتكم إلى الأشياء ، وتقديركم لها ، والمراد بهذا هو موقف أتباع المسيح منه ، وتأليههم له ، على حين أن اليهود قد غالوا من جانب آخر فنزلوا بالمسيح إلى درجة المشعوذين ، والمجدفين على الله ، والواقعين تحت لعنته!

وقوله سبحانه : (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) أي لا تقولوا فى الله ، وفيما ينبغى له من صفات الكمال ، إلا الحقّ ..

وإنه ليس من الحق فى شىء أن يلبس الله سبحانه وتعالى هذا الثوب البشرى الذي كان عليه المسيح ، وأن يولد من رحم امرأة ، ثم يساق قسرا إلى الصلب ، ثم يدفن مع الموتى!

(إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) فهو (أولا) رسول الله .. ورسول الله غير الله.

وهو (ثانيا) كلمة الله ألقاها إلى مريم .. وكلمة الله غير الله .. فكل شىء خلقه الله بكلمته «كن» فكان .. كما يقول سبحانه : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٠ : النحل)

وهو (ثالثا) روح من عند الله .. ونفخة منه .. كالنفخة التي كان منها آدم ، وكالروح التي كان منها الملائكة.

ومن كان هذا شأنه فهو ليس إلها .. لأنه من صنعة إله .. إذ هو مضاف إلى الله .. رسول الله .. وكلمة الله .. وروح من الله.

٢٨٢

وقوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي فآمنوا بالله إيمانا قائما على تنزيه الله أن يكون على صورة خلق من خلقه .. وآمنوا برسله ، ومنهم عيسى .. فالله هو الله ربّ العالمين ، وعيسى هو رسول الله رب العالمين .. فآمنوا بالله ، وآمنوا برسل الله ..!

قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) هو تخطئة لهذه الكلمة الخاطئة التي يقولها من يرى الله ثلاثة آلهه : الآب ، والابن ، وروح القدس .. أو هو الأب ، والابن ، والأمّ ..

وقوله سبحانه : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) هو توجيه إلى قولة الحق ، وإلى طريق الحق ، بعد العدول عن قولة الزور ، وطريق الضلال ..

وقوله تعالى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ).

هذا هو الوصف الحق لله تعالى : (إِلهٌ واحِدٌ) تنزّه أن يكون له ولد ، لأنه سبحانه غنى عن العالمين (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) .. فما حاجته إلى الولد إذا احتاج الناس إلى الأولاد؟

وقوله سبحانه : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) إشارة إلى أن التوجه إلى الله وحده ، هو المعتصم الذي ينبغى أن يعتصم به الإنسان .. فليس بعد قدرة الله قدرة ، ولا مع سلطان الله سلطان .. (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (٣ : الطلاق).

وقوله سبحانه : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) هو بيان لما بين الله وبين عباده من حدود .. فالله هو الله ، والعباد هم العباد .. ولن يستنكف أي مخلوق من مخلوقات الله أن يدين له بالعبودية والولاء .. لا المسيح ولا غير المسيح ..

وإذا كان المسيح هو روح من الله. فإنه قد تلبّس بالجسد .. أما الملائكة

٢٨٣

فإنهم روح من الله لم يتلبس بجسد .. فهم ـ والحال كذلك ـ أولى من المسيح بأن ينازعوا الله فى ألوهيته .. ولكنهم هم خلق من خلق الله ، وعباد من عباده .. لا يستكبرون عن عبادته!

فالقول بألوهية المسيح ـ من هذه الجهة ـ منقوض ، إذ كان الملائكة أعلى درجة منه ، وأبعد مدى فى هذا الباب الذي دخل منه المسيح إلها مع الله ، أو إلها من دون الله!

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) أي ومن يستكبر عن عبادة الله ، ويتأبّى أن يكون عبدا له ، فإنه سيحشر مع من يحشرهم الله يوم القيامة ، وسيلقى الجزاء المناسب له! (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

____________________________________

الآيات : (١٧٤ ـ ١٧٥)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (١٧٥)

____________________________________

التفسير : بعد أن كشف الله سبحانه وتعالى ما عليه أهل الكتاب من عمى وضلال ، ومن غلوّ فى جانب ، وتقصير من جوانب أخرى ـ جاء هذا النداء الكريم ، من قبل الحق ، دعوة عامة للناس جميعا ، أن ينظروا فى أنفسهم ، وأن يدعوا هذا الضلال الذي هم فيه ، وأن يتلفتوا إلى هذا الرسول الكريم ، الذي هو برهان مبين ، وحجة مشرقة لا يزبغ عنها إلّا ضالّ ، ولا يجحد بها

٢٨٤

إلا هالك ، فإنها تحمل بين يديها ، هذا النور السماوي ، الذي فيه تبصرة لأولى الألباب ، وهدى للمتقين!

ووصف الرسول الكريم بأنه برهان من عند الله ، لما يحمل من الأمارات الدالة على أنه رسول رب العالمين ـ تحدثت به التوراة وتحدث به الإنجيل ، وعرف أهل الكتاب من اليهود والنصارى صفته ، فجاء على الوصف الذي يعرفونه .. ثم جحدوه وأنكروه .. فهو حجة قائمة عليهم ، ودينونة معلقة فى أعناقهم.

وقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ ..) هو بيان للآثار المترتبة على هذه الدعوة الكريمة من ربّ كريم .. فمن استجاب لها ، وأقبل على الله مؤمنا ، مخلصا له الإيمان به وحده ، فهو فى رحمته وفضله ، وهو على نور من ربّه وهدى ، لا يضلّ ولا يزيغ .. ومن كان هذا شأنه ، وتلك سبيله ، فالجنة مأواه ، والنعيم نزله ..

ومن صدّ عن سبيل الله ، وحادّ الله ورسوله ، فهو بعيد من رحمة الله ، بعيد عن طريقه .. ومن كانت تلك صفته ، فالجحيم مستقرّه ، والنار مثواه! وقد ذكر القرآن الكريم الجانب المثمر من تلك الدعوة الكريمة ، وعرض أهل الإيمان ، وما يلقون من فضل وإحسان .. تشويقا للنفوس إلى هذا المتّجه الكريم ، وبعثا للهمم والعزائم إلى أخذ حظها من هذا الخير المبسوط .. فتلك هى سبيل العقلاء ، وهذا هو مبتغى الراشدين من عباد الله.

أما السبيل الآخر ـ سبيل الغواة والضالين ـ فلم يذكره القرآن هنا ، ولم يجعله وجها مقابلا لتلك الصورة المشرقة ، إزراء به وبأهله ، وحجبا للعيون أن تصطدم بهذه الصورة الكريهة ، التي ينبغى أن ينصرف عنها كل عاقل ، وأن يتجنبها كل رشيد!

٢٨٥

____________________________________

الآية : (١٧٦)

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٧٦)

____________________________________

التفسير : هذه الآية مكملة لآيات المواريث التي وردت فى أوائل هذه السورة .. وقد جاء فى هذه الآيات شىء عن توريث «الكلالة»! وهو من لا عصبة له تتلّقى ميراثه .. فقال تعالى : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ)!

والمراد بالأخوة هنا ، الأخوة لأم!

وفى هذه الآية التي نحن بين يديها ، بيان لموقف الأخت ، أو الأختين ، من أبى المورث وأمه ، أو من أبيه ..

فإن كان للمورّث الكلالة. «أخت» فلها نصف ما ترك .. وإن كان له أختان أو أكثر فلهما أو لهن الثلثان ..

وفى قوله تعالى : (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) أي انها إذ كانت لا ولد لها ولا والد .. فالأخ فى تلك الحال هو عصبتها ، وهو يتلقى ميراثها بعد أن يأخذ الزوج ـ إن كان لها زوج ـ فرضه وهو النصف.

وقوله تعالى : (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)

٢٨٦

أي فإن كان ورثة المرأة التي لا ولد لها ولا والد إخوة من رجال ، ونساء ، اقتسموا ميراثها بينهم ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، وذلك بعد الفرض المفروض للزوج ، إن كان لها زوج.

وواضح من هذا أن «الكلالة» فى الآية الكريمة لا تتناول هنا إلا الرجل فى صورة الأخ الشقيق أو لأب ـ حين يتوفى وليس له ولد أو والد.

أما المرأة فى صورة الأخت الشقيقة أو لأب ، فهى ليست كلالة ، لأن لها عاصب يرثها وهو الأخ ، وقد ذكرت هنا استكمالا للصورة التي تقع بينها وبين إخوتها ، حين تكون وارثة ، ثم حين تكون موروثة!

وقوله تعالى (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) هذا البيان الذي بينه الله لكم فى هذه الآية ، وفى غيرها من آيات القرآن الكريم ، هو إرشاد وهداية لكم من الضلال ، حين ترجعون إلى ما تقضون به إلى غير بيان من الله!

وقوله سبحانه (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هو بيان لسعة علم الله ، وأن ما يقضى به هو الحق ، وما بيّنه هو البيان الحق ، الذي ليس وراءه بيان! فالتزموه ، واستقيموا عليه ، ليكون فى ذلك خيركم ورشدكم ، وصلاح أمركم!

٢٨٧

سورة المائدة

نزولها : هى مدنيّة بالإجماع ، إلا قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فإنها نزلت يوم عرفة فى الموقف ، فى حجة الوداع ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم راكب على ناقته «العضباء» فسقطت الناقة على ركبتها من ثقل الوحى.

عدد آياتها : مائة وعشرون آية .. وقيل مائة واثنتان وعشرون آية ..

عدد كلماتها : ألفان وثمان مائة وأربع آيات.

عدد حروفها : أحد عشر ألفا وتسع مائة وثلاثة وثلاثون حرفا.

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الآية : (١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) (١)

____________________________________

التفسير : «أوفوا بالعقود» يقال : وفى بالعقد ، وأوفى به ، إذا أداه على الوجه الذي التزم به.

و «العقود» جمع عقد ، وهى المواثيق التي تبرم بين طرفين ، على خلاف العهد الذي قد يكون من الإنسان ، بالعهد يقطعه على نفسه!

و «البهيمة» الحيوان من ذوات الأربع ، برّيّا أو بحريّا .. وقيل هى كل ذى روح غير الإنسان ، حيث تبهم عليها الأمور.

٢٨٨

و «الأنعام» : البهائم التي يتألفها الإنسان ، وينتفع بها فى وجوه كثيرة بيّن الله بعضها فى قوله : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) (٥ ـ ٦ ـ ٧ : النحل)

وبدء السورة بهذه الآية الكريمة التي تدعو إلى الوفاء بالعقود هو مناسب للسورة التي قبلها «سورة النساء» ، لما تضمنته من أحكام اليتامى ، والمواريث ، والزّواج ، والتيمم ، والجهاد ، وغيرها ، وكلها عقود ومواثيق بين الله وبين عباده الذين آمنوا به .. ثم إن هذا البدء مناسب لما سيجيئ بعد هذا ـ فى هذه السورة ـ من أحكام ، بدئت بتلك التي تتصل ببهيمة الأنعام ، وما أحلّ من لحومها ..

وقوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) هو بيان لحلّ الأنعام ، من بين البهائم .. ثم إن هذه الأنعام ليست كلها مما أحلت لحومها .. ولهذا جاء قوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) استثناء مقيّدا لهذا الإطلاق الذي تضمنه قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ).

وقوله سبحانه : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) هو قيد على هذا القيد وهو أن جميع الأنعام حرّم صيدها ، على الحاج وهو محرم بالحج. ومن هذه الأنعام الظباء ، وبقر الوحش ، وغيرها مما يصاد للأكل ، كالأرانب ، والطيور ..

فالمحرم لا يحلّ له صيد أي حيوان ، سواء للأكل أو لغيره ، وذلك

٢٨٩

صيانة لنفسه من العدوان ، على إنسان أو حيوان ، فى تلك الحال التي دخل بها ـ محرما ـ إلى حمى الله ، ملتمسا العافية لنفسه .. ولن تكمل له هذه العافية فى نفسه ، حتى يكون هو نفسه سلاما خالصا مع الناس والحيوان السارح فى ملكوت الله!

وقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) هو دفع لكل اعتراض يقوم فى نفس لم تأخذ حظها كاملا من الإيمان .. فالله ـ سبحانه ـ له الخلق والأمر .. يحكم لا معقّب لحكمه .. (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ) (٧٣ : الأنعام). فهذا هو حكم الله ، والله يحكم ما يريد.

____________________________________

الآية : (٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢)

____________________________________

التفسير : وإذ ذكرت الآية السابقة المحرم للحجّ ، وحرمة الصيد عليه ، وهو فى فترة الإحرام ، ناسب أن يذكر مع هذا ما ينبغى على المحرم أن يلتزمه من حدود الله ، والوفاء بالعقود والمواثيق التي أوجبها عليه إيمانه بالله ..

وقوله تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ

٢٩٠

وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ..)

هو بيان لهذه الحدود التي ينبغى للمحرم أن يلتزمها ، ويقف عندها .. ومنها ألا يتحلل من شعائر الله .. والشعائر جمع شعيرة ، وهى ما جعل شعارا ، ومعلما من معالم الحج ، من مواقف الحج ، ومرامى الجمار ، والمطاف ، والمسعى وكذلك ما كان منها فعلا من أفعال الحج كالإحرام والطواف والسعى ، والوقوف بعرفة ، ورمى الجمار ، والحلق ، والنحر ..

فهذه حدود يجب أن يلتزمها الحاجّ ، ويؤديها على وجهها ، ولا يغيّر من مكانها ، أو صفتها .. وإلا كان محلّا لشعائر الله ، مخالفا حكمه فيها ..

ومنها : الشهر الحرام ، ورعاية حرمته ..

ومنها الهدى ، وهو ما يساق إلى البيت ، ويهدى إليه من شاء ، أو بقر ، أو إبل .. تقربا إلى الله .. فهذا الهدى له حرمته ، وعلى الحاج أن يرعى له هذه الحرمة ، وألا يمدّ إليه يدا بأذى ، أو عدوان .. لأنه موجّه إلى الله ، ومساق إلى بيت الله ، والعدوان عليه عدوان على الله!

ومنها : القلائد : جمع قلادة ، وهى ما يقلّد به الهدى ، كعلامة له ، تدل على أنه مهدى إلى الله .. وفى تحريم العدوان على قلادة الهدى ، مبالغة فى تأثيم العدوان على الهدى نفسه!

ومنها : الذين يؤمّون البيت الحرام ، ويقصدونه ، فهم ضيوف الله ، وعمّار بيته ، والعدوان عليهم اجتراء على الله ، وعدوان على حماه ، ومن هم فى حماه.

فهذه حرمات ، هى مواثيق موثّقة مع الله ، والعدوان عليها نقض لتلك المواثيق ، وتحلّل منها .. وليس لأحد حرمة إذا تحلل من مواثيق الله ،

٢٩١

وعمل على نقضها. فلينتظر انتقام الله لحرماته!

وقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) هو إطلاق لهذا القيد الذي قيّد به الحاج وهو فى إحرام الحج .. فإذا أتم الحجّ ، وتحلل من إحرامه أبيح له ما كان مباحا من قبل ، وهو إطلاق يده فى صيد ما يشاء من حيوان أو طير!

وقوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) هو تذكير للمسلمين .. وهم فى تلك الحال التي راضوا فيها أنفسهم على التزام حدود الله والوفاء بمواثيقه ـ تذكير لهم بالاستقامة على هذا الطريق القويم الذي ساروا عليه ، وهو أن يلتزموا العدل مع من كان إليهم عدوان منهم .. فالتزام العدل هو ميثاق أخذه الله على المؤمنين ، يلتزمونه مع أوليائهم وأعدائهم جميعا ..

وقوله تعالى (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي ولا يحملنكم على ارتكاب الجرم ، وهو الظلم .. والشنآن : البغض والعداوة ..

والمعنى : ولا يدعوكم ما بينكم وبين غيركم من عداوة وبغضاء ، إذ صدوكم عن المسجد الحرام ، وحالوا بينكم وبينه ـ لا يدعوكم هذا إلى أن تركبوا ما ركبوا من ظلم وعدوان ، بل خذوهم بالعدل ، وخذوا حقكم منهم دون ظلم أو بغى!

وقوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي العدل هو الذي ينبغى أن يكون سبيلكم مع هذا الذي حملكم بفعله على بغضكم له ، لأنكم بهذا إنما تقيمون ميزان الحق ، وتحفظون ميثاق الله معكم ، وذلك هو الذي يدخلكم مداخل التقوى ، ويقيمكم مقام المتقين.

وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) هو تأكيد للاستقامة

٢٩٢

على العدل الذي أمر الله به ، وتحذير من انتقامه ممن تعدّى حدوده ، ونقض مواثيقه.

____________________________________

الآية : (٣)

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣)

____________________________________

التفسير : هذه الآية هى بيان لما جاء فى قوله تعالى فى الآية الأولى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) فهذا الذي يتلى على المؤمنين فى هذه الآية ، هو البيان الشارح لهذا الاستثناء!

فهذه المحرمات هى استثناء من قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) وهى : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير.

فالميتة مما تعافه النفوس ، حتى إن بعض الحيوانات لا تأكل الميتة ولو هلكت جوعا ، كالأسد مثلا .. وكذلك الدم الذي تستقذره النفوس الطيبة ، وكذلك الشأن فى لحم الخنزير ، الذي حرّمته الشرائع السماوية كلها ، للشبه الكبير الذي بينه وبين السباع ، والكلاب!.

٢٩٣

والتوراة التي هى شريعة اليهود ـ كما هى شريعة المسيحيين ـ تحرّم الخنزير ، وقد التزم اليهود بهذا التحريم ، وكذلك أتباع المسيح مدة حياته معهم ، وشطرا كبيرا من عهد الحواريين بعده ..

ولكن حين انتقلت الدعوة المسيحية إلى الوثنيين فى أوربّا ، وكان لحم الخنزير من طعامهم ، واقتناؤه وتربيته مصدر ثروة لهم ـ أباح لهم المبشرون بدعوة المسيح أن يأكلوا لحم الخنزير ، حتى يقرّبوهم من دعوة المسيح ، ويجذبوهم إليها ..

ففى التوراة : «والخنزير لا تأكل .. يشقّ الظلف لكنه لا يجترّ .. فهو نجس لكم» (تثنية ١٤ : ٨).

فهذا حكم ملزم لأتباع هذه الشريعة ، والتوراة هى شريعة اليهود والمسيحيين ، كما قلنا ، ولكن هكذا تلعب الأهواء حتى بشرائع السماء!!

ولا ندرى كيف يخالف المسيحيون نصّا صريحا من كتابهم المقدس ، يقرءونه ويتعبدون به؟ ولا ندرى كيف يظلّ هذا النصّ الصريح فى الكتاب المقدس قائما بين أعينهم ، ثم يخالفونه عن عمد وإصرار!.

وأكثر من هذا .. عملية الختان .. إنها شريعة التوراة ، حيث تقول : «قال الله لإبراهيم : هذا هو عهدى الذي تحفظونه بينى وبينك وبين نسلك من بعدك : يختن منكم كل ذكر ، فتختنون فى لحم غرلتكم ، فيكون علامة عهد بينى وبينكم ... وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن فى لحم غرلته فقطع تلك النفس من شعبها .. إنه نكث عهدى» (تكوين ١٧ : ٩).

ولقد ختن المسيح نفسه ، عملا بتلك الشريعة ، ولكن حين انتقلت الدعوة المسيحية إلى الوثنيين من الرومان واليونان الذين لم يقبلوا الختان رفع عنهم هذا الحكم ، كما رفع عن المسيحيين جميعا ..

٢٩٤

يقول «لوقا» صاحب الإنجيل المعروف باسمه ، فى رسالة بعث بها الرسل المبشرون بالمسيحية إلى أهل أنطاكية وسورية وكيليكية ، الذين دخلوا فى المسيحية ، ثم رجعوا عنها ، حين قيل لهم إنكم لن تقبلوا عند الله إذا لم تخنتوا ـ فى هذه الرسالة يقول لوقا : «قد سمعنا أن أناسا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال ، مقلقين أنفسكم ، وقائلين أن تختنوا وتحفظوا الناموس ، الذين نحن لم نأمرهم ـ رأينا وقد صرنا بنفس واحدة أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبنا برنابا بولس .. رجلين قد بذلا أنفسهما لأجل ربنا المسيح ، فقد أرسلنا يهوذا وسيلا (١) ، وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاها ، لأنه قد رأى الروح القدس ، ونحن ، لا نضع عليكم ثقلا أكثر من هذه الأشياء الواجبة : أن تمتنعوا عن الذبح للأصنام ، وعن الدم ، والمخنوق والزنا» (أعمال الرسل ١٥ : ٢٤ ـ ٢٨).

وهكذا سقط «الختان» من الشريعة المسيحية ، بل لقد أصبح الختان سبّة يعرّض بها دعاة المسيحية فى مواجهة المختونين ، ويقولون : إنهم غير مختونى القلوب ، وإن ختنوا بالأجسام!!.

ومما حرمه الله تعالى على المسلمين : (ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) أي ما ذكر عند ذبحه اسم غير اسم الله ، فهو ـ والحال كذلك ـ متلبس بالرجس ، مشوب بالخبث .. وما كان لمؤمن أن يدخل إلى معدته رجسا أو خبثا ، كما لا يدخل إلى معتقده شركا أو كفرا ..

«والمنخنقة» وهى التي تموت خنقا من الحيوان .. إنها فى حكم التي تموت حتف أنفها ، فى تعفف النفس الطيبة عنها ..

«والموقوذة» وهى التي ضربت ضربا قضى عليها .. هى فى حكم الميتة كذلك

__________________

(١) يهوذا وسيلا هما الرجلان اللذان اختارهما الرسل لهذه المهمة.

٢٩٥

«والمتردّية» وهى التي ماتت نتيجة سقوطها من علوّ ..

«والنطيحة» وهى التي ماتت بنطح حيوان آخر لها ..

«وما أكل السبع» أي ما وقع فريسة لحيوان مفترس ..

وقوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي هذه الحيوانات التي وقعت تحت هذه الأحداث من خنق ، أو وقذ ، أو تردّ ، أو نطح ، أو افتراس سبع ـ هذه الحيوانات محرم طعامها والأكل منها إذا هى ماتت قبل أن يلحقها من يذكيها ، أي يطهرها بالذبح ، وهى حية بعد ، تجرى الحياة فى كيانها كله .. وإلا كان ذبحها غير مطهر لها ، وغير مبيح للأكل منها ..

قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ).

والنّصب : الحجارة المنصوبة للذبح عليها تقربا للأوثان ..

فالحيوان المذبوح هذه الذّبحة قد تدنس لحمه بهذا الرجس ، فكان حراما على المؤمن أن يطعم منه.

وقوله تعالى : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) وهو بيان لنوع آخر مما حرم على المسلمين أكل لحمه من الحيوان .. وهو الحيوان الذي يذبح ، ثم يقسّم لحمه بالأزلام ، وهى القداح ، يقتسم بها الجماعة الحيوان المذبوح بينهم ، وهذا ضرب من ضروب الميسر ، وإذ حرم الله الميسر فقد حرّم ما يثمره الميسر من ثمر خبيث .. وقد وصفه الله سبحانه بقوله : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) أي هذا العمل فى اقتسام لحم الحيوان ، فسق ، وخروج عن أمر الله ، وعدوان على حرماته. قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

٢٩٦

يبدو هذا المقطع من الآية الكريمة ، وكأنه غريب عنها ، إذ هو معترض بين أولها وآخرها ، حيث يقول الله تعالى بعد هذا المقطع : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) :.

وبالنظر فى وجه الآية الكريمة يبدو التجانس واضحا بين مقاطعها جميعا ، بحيث تتلاحم معانيها ، كما تتناغم كلماتها ، فتؤلف صورة ، هى آية من آيات الله ، ومعجزة من معجزات كتابه الكريم.

ففى قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ..) الآية .. تذكير للمؤمنين بفضل الله عليهم فيما بيّن لهم من أمر دينهم ، وفيما شرع لهم من أحكام ، هى دستور لحياة كريمة طيبة ، ومنهج لتربية أمة أراد الله لها الكرامة والعزة ، وجعلها خير أمة أخرجت للناس ..

فإذا ذكر المسلمون ذلك ، وهم يتلقون أحكام هذا الدستور ، ومادّة ذلك المنهج ، كان ذك أشرح لصدورهم ، وأرضى لنفوسهم ، وأدعى إلى تمسكهم بدين الله ، واستقامتهم على شريعته ..

ومن تمام نعمة الله على المؤمنين أن يسوق إليهم هذه البشريات ، وهو يزودهم بهذا الزاد الطيب من أحكام دينهم ، وأصول شريعتهم .. فقد أصبحوا بمأمن من الكفار والمشركين والمنافقين من أن يفسدوا عليهم دينهم ، وأن يفتنوهم فيه ، إذ بلغ الإسلام غايته ، وأخذ مكانه من القلوب ، وانضوى إلى رايته من ينصره ويحمى حماه ، (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) .. هكذا صار موقف الكافرين من الإسلام .. اليأس من أن يقفوا له ، أو يصرفوا الناس عن طريقه .. وعلى هذا فليقف المسلمون للكافرين وقفة التحدّى والرّدع إن هم حاولوا أن ينالوا منهم نيلا .. (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ)

وفى قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي

٢٩٧

وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) هو نشيد النصر الأكبر ، والفتح المبين للمسلمين ، بعد هذا الجهاد المضنى ، والبلاء العظيم ، الذي احتملوه فى مسيرتهم على طريق الدعوة الإسلامية ، منذ فجرها ، إلى استواء شمسها .. فقد كمل الدين ، وتمت النعمة ، ولبس المسلمون ثوب الإسلام الذي رضيه الله لهم دينا ..

قال الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجرىّ فى كتابه «الشريعة» : «إن الله عزوجل بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس كافة ليقروا بتوحيده ، فيقولوا : «لا إله إلا الله محمد رسول الله» فكان من قال ، هذا مؤمنا من قلبه ناطقا بلسانه ، أجزأه أي (كفاه) ومن مات على هذا ، فإلى الجنة .. فلما آمنوا بذلك وأخلصوا توحيدهم ، فرض عليهم الصلاة بمكّة ، فصدقوا بذلك ، وآمنوا ، وصلّوا.

«ثم فرض عليهم الهجرة ، فهاجروا وفارقوا الأهل والأوطان.

«ثم فرض عليهم بالمدينة الصيام ، فآمنوا ، وصدقوا ، وصاموا شهر رمضان.

«ثم فرض عليهم الزكاة ، فآمنوا ، وصدقوا ، وأدوا ذلك كما أمروا.

«ثم فرض عليهم الجهاد ، فجاهدوا البعيد والقريب ، وصبروا وصدّقوا.

«ثم فرض عليهم الحج فحجّوا وآمنوا به.

«فلما آمنوا بهذه الفرائض ، وعملوا بها تصديقا بقلوبهم وقولا بألسنتهم ، وعملا بجوارحهم ، قال الله عزوجل : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ..

«فإن احتج محتج بالأحاديث التي رويت : «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» .. قيل له : إن هذا كان قبل نزول الفرائض».

وعن ابن عباس رضى الله عنهما ، قال : كان المشركون والمسلمون يحجّون

٢٩٨

جميعا .. فلما نزلت «براءة» نفى المشركون عن البيت الحرام ، وحج المسلمون لا يشاركهم فى البيت الحرام أحد من المشركين ، وكان ذلك من تمام النعمة ـ لمّا كان ذلك ـ نزل قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

وفى إضافة الدين إلى المسلمين «دينكم» وهو فى الحقيقة دين الله ـ إذ يقول سبحانه : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ـ فى هذا ما يشعر بأن الأمة التي اختارها الله تعالى لحمل هذا الدين ، وتبليغ رسالته ، هى أهل لحمل هذه الأمانة العظيمة ، كما أنها مستحقة لتكون فى هذا المقام الكريم التي تقوم فيه مقام الأنبياء والمرسلين فى القيام على دين الله ..

وقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هو رفع لهذا الحظر الذي ضربه الله سبحانه وتعالى على هذه المحرمات ، وذلك فى حال المخمصة والاضطرار ..

والمخمصة : هى الجوع المتّصل ، الذي قد يؤدى إلى التلف .. فإنّ حفظ النفس من التلف ، من الأمور التي جاءت الشرائع السماوية لتقريرها ، والوصاة بها .. والله سبحانه وتعالى يقول : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (١٩٥ : البقرة).

وقوله تعالى : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) أي غير مائل إلى إثم وراغب فيه .. والمراد بالإثم هنا ، هو عين هذه المحرمات ، لأن أكلها فى غير اضطرار هو إثم ، فعبّر عنها القرآن بالإثم تقبيحا لها وتنفيرا منها.

والمعنى : أن من وقع فى مخمصة ، أي جوع شديد ، وخاف على نفسه أن يهلك جوعا ، ولم يكن ثمة سبيل إلى طعام غير هذا الطعام الخبيث ، فليأخذ منه بقدر

٢٩٩

ما يحفظ عليه حياته ، وألا يقبل عليه إقبال المشتهى له ، المستطيب لأكله ..

وفى قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إشارة مضيئة تكشف عن أن إباحة هذه المحرمات فى حال الاضطرار لا ينفى عنها خبثها ، ولا يرفع الإثم المتلبس بها .. ولكن رحمة الله ومغفرته هما اللتان تمحوان عن المضطر خبثها ، وإثمها .. وفى هذا ما فيه من صرف النفس عن هذه الخبائث ، وتجنبها ، ومحاذرة إلفها .. إذ كان إثمها يعلق بكل من يدخل فى جوفه شيئا منها ، مضطرا ، أو غير مضطر .. إلا أن المضطر يعود إليه الله سبحانه وتعالى برحمته ومغفرته ، فيغسل ما علق به من درن!

____________________________________

الآية : (٤)

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤)

____________________________________

التفسير : السّائلون هنا هم المؤمنون .. والمراد بهم جماعات منهم ، قد سألوا النبىّ تلميحا أو تصريحا : (ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ؟) وكأنه قد وقع فى نفوسهم من عرض هذه المحرمات فى صورة مفصّلة أن فى ذلك تضييقا عليهم ، وأن ما حرّم عليهم أكثر مما أحلّ لهم .. فجاء قوله تعالى عن هذا السؤال المسئول ، أو الذي سيسأل ـ جاء قوله تعالى : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) جوابا شافيا لكل وسواس ، كاشفا لكل شبهة ، فى إيجاز معجز ، تخشع القلوب لجلاله ، وتخضع الأعناق لروعته ..

٣٠٠