إعراب القرآن - ج ٣

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٠

(لا يَحِلُّ لَكَ) وزعم أنه لو كان لجميع النساء لكان بالتاء أجود. وقال أبو جعفر : وهذا غلط بين وكيف يقال : اجتمعت القراء على الياء ، وقد قرأ أبو عمرو بالتاء (١) بلا اختلاف عنه وإذا كان لجماعة النساء كان بالياء جائزا حسنا. وسمعت علي بن سليمان يقول :

سمعت محمد بن يزيد يقول : من قرأ لا تحل لك النساء قدره بمعنى جماعة النساء ، ومن قرأ بالياء قدّره بمعنى جميع النساء. والفراء يقدره إذا كان بالياء لا يحلّ لك شيء من النساء فحمل التذكير على هذا (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) في موضع رفع على البدل من النساء ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء. (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) في موضع رفع عطفا على النساء أي لا يحلّ لك النساء التبدل بهن ، ومن قال : إن الآية لا يجوز فإنما أجاز ذلك لأنها في معنى النهي ، وإن كان لفظهما لفظ الأخبار لا يجوز أن تنسخ.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) «إن» في موضع نصب على معنى إلّا بأن يؤذن لكم ، ويكون استثناء ليس من الأول (إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) نصب على الحال أي لا تدخلوا في هذه الحال ، ولا يجوز في غير الخفض على النعت للطعام ؛ لأنه لو كان نعتا لم يكن بد من إظهار الفاعلين وكان يكون (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) أنتم ، ونظير هذا من النحو : هذا رجل مع رجل ملازم له ، وإن شئت قلت : هذا رجل ملازم له هو ، ومررت برجل معه صقر صائد به ، وإن شئت قلت : صائد به هو.

(وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا) الفاء في جواب إذا لازمة لما فيها من معنى المجازاة. (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) في موضع نصب عطفا على غير. ويجوز أن يكون خفضا عطفا على ما بعد غير (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) قال أبو إسحاق : ويقال : يستحي بياء واحدة تحذف الياء تخفيفا. قال أبو جعفر : وقد ذكرت هذا في السورة التي تذكر فيها البقرة (٢). (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) في موضع رفع اسم كان. (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا) معطوف عليه.

__________________

(١) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٣ ، وتيسير الداني ١٤٥.

(٢) انظر آية ٢٦ من سورة البقرة.

٢٢١

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ) عطف وحكي «وملائكته» بالرفع وأجاز الكسائي على هذا : إنّ زيدا وعمرو منطلقان. ومنع هذا جميع النحويين غيره. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : الآية لا تشبه ما أجازه لأنك لو قلت : إنّ زيدا وعمرو منطلقان ، أعملت في منطلقين شيئين وهذا محال ، والتقدير في الآية : إنّ الله جلّ وعزّ يصلّي على النبي وملائكته يصلّون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم حذفت من الأول لدلالة الثاني. والذي قال حسن. ولقد قال بعض أهل النظر في قراءة من قرأ (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ) بالنصب مثال ما قال علي بن سليمان في الرفع قال : لأن يصلون إنما هو للملائكة خاصة لأنه لا يجوز أن يجتمع ضمير لغير الله جلّ وعزّ مع الله إجلالا له وتعظيما ، ولقد قال رجل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما شاء الله وشئت ، وأنكر ذلك وعلمه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له: قل ما شاء الله ثم شئت.

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ الَّذِينَ) في موضع نصب وما بعده صلته ، وهو يقع لكل غائب مذكر وأخواته «من» و «ما» و «أي» ومؤنثه «التي» فإذا قلت : رأيت من في الدار ، كان للآدميّين خاصة ، وإذا قلت : رأيت الذي في الدار ، كان مبهما للآدميين وغيرهم ، وإذا قلت : رأيت ما في الدار ، كان لما لا يعقل خاصة ولنعت ما يعقل لو قال قائل : ما عندك؟ فقلت : كريم ، كان حسنا. قال محمد بن يزيد : ولو قلت : رجل ، كان جائزا ؛ لأنه داخل في الأجناس ، ولا يجوز أن تقول : زيد ولا عمرو إلّا أن من وما يكونان في الاستفهام والجزاء بغير صلة لأنك لو وصلتهما في الاستفهام كنت مستفهما عما تعرفه ، والجزاء مبهم لا يختص شيئا دون شيء ؛ فلهذا لم تجز فيه الصلة ، و «يؤذون» مهموز لأنه من آذى والأصل بين مهموز مثل آمن فإن خففت الهمزة أبدلت منها واوا فقلت : يوذون لأنه لا سبيل إلى أن يجعلها بين بين لأنها ساكنة.

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) في موضع رفع بالابتداء ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على العطف.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) واحدها زوج. يقال للمرأة : زوج وزوجة ، والفصيح

٢٢٢

الكثير بغير هاء وبها جاء كل ما في القرآن ولا يجوز أن تجمع زوجة على أزواج ، إنما أزواج جمع زوج مثل حوض وأحواض والأصل زوج مثل فلس وأفلس واستثقلوا الحركة في الواو ، وقد جاء في فعل أفعال فردّوه إليه فقالوا أزواج وأحواض وللكثير حياض وزياج ، وفي قولهم : زوج بغير هاء قولان : أحدهما أن تأنيثه تأنيث صيغة مثل عقرب وعناق ، وليس بجار على الفعل فيلزمه الهاء ، والجاري على الفعل متزوّجة ، والقول الآخر أن العرب تقول لكل مقترنين : زوجان. يقال للخفّين : زوجان ، وكذا النعلان والمقرضان (١) والمقصان. قال الله جلّ وعزّ (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [هود : ٤٠] وقال جلّ وعزّ (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) [ص : ٥٨]. (وَبَناتِكَ) جمع مسلم ، وهو جمع بنة مثل هنة وهنات والمحذوف منه ياء ، وقد قال بعض النحويين :

المحذوف منه واو واستدلّ بقولهم البنوّة. قال أبو جعفر : وهذا لعمري مما تقع فيه المغالطة لأنه ليس فيه دليل لأنهم قد قالوا : الفتوّة وهو من ذوات الياء يدلك على ذلك قوله جلّ وعزّ (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) [يوسف : ٣٦]. قال أبو جعفر : وأحسن ما سمعت فيه قول أبي إسحاق قال : هو عندي مشتقّ من بنى يبني. (وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ) قيل :

نساء جمع جواب للأمر ، والأمر محذوف والتقدير عند المازني : قل لهنّ أدنين يدنين (مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) عن ابن مسعود وابن عباس الجلباب : الرداء. قال محمد بن يزيد :

الجلباب كل ما ستر من ثوب أو ملحفة أي يرخين على وجوههن منه. (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) أي يعرفن بالستر والصيانة.

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد ، كما روى سفيان بن سعيد بن منصور عن أبي رزين قال :

المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة هم شيء واحد يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء ، وعن ابن عباس (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال فجور وشك ، قال : لئن لم ينتهوا عن أذى النبي وعن أذى النساء وفي هذه الآية للعلماء غير قول فمنها أنه لم ينتهوا وأن الله جل وعز قد أغراه بهم لأنه قد قال جلّ وعزّ (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) [التوبة : ٨٤] وأنه أمره بلعنهم فهذا هو الإغراء فهذا قول ، وقال أبو العباس محمد بن يزيد : قد أغراه بهم في الآية التي تلي هذه مع

__________________

(١) أخرجه أبو داود في سننه ـ المناسك ، الحديث رقم (١٨٤٧) ، ومسلم في صحيحه ب ٩ رقم ٧٩ ، والطبراني في المعجم الكبير ١٧ / ٣٢٩.

٢٢٣

اتصال الكلام بها ، وهو قوله جلّ وعزّ (أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم أي هذا حكمهم وهذا أمرهم أن يؤخذوا ويقتلوا إذ كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف. وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خمس يقتلن في الحرم» (١) فهذا فيه معنى الأمر كالآية سواء. وهذا من أحسن ما قيل وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خمس يقتلن في الحرم». (لَنُغْرِيَنَّكَ) لام القسم واليمين واقعة عليها وأدخلت اللام في إن توطئة لها (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) فكان الأمر كما قال جلّ وعزّ لأنهم لم يكونوا إلا أقلاء فهذا أحد جوابي الفراء(٢) ، وهو الأولى عنده أي إلا في حال قتلهم ، والجواب الآخر أن يكون المعنى : إلّا وقتا قليلا.

(مَلْعُونِينَ) هذا تمام الكلام عند محمد بن يزيد ، وهو منصوب على الحال أي ثم لا يجاورونك إلا أقلاء. عن بعض النحويين أنه قال يكون المعنى أينما أخذوا ملعونين ، وهذا خطأ لا يعمل ما كان مع المجازاة فيما قبله.

(سُنَّةَ اللهِ) نصب على المصدر أي سنّ الله جلّ وعزّ فيمن أرجف بالأنبياء وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل.

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) فأنّث لأن السعير بمعنى النار. (خالِدِينَ فِيها أَبَداً).

(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) وحكى الفراء (٣) «يوم تقلّب» بمعنى تتقلّب. ويوم نقلّب وجوههم في النار (يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) هذه الألف تقع في الفواصل لتتفق فيوقف عليها ولا يوصل بها.

وقرأ الحسن إنّا أطعنا ساداتنا بكسر التاء لأنه جمع مسلّم لسادة ، وكان في هذا زجر عن التقليد.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٥٠.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٥٠.

(٣) انظر تيسير الداني ١٤٥ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٣ والبحر المحيط ٧ / ٢٤٢.

٢٢٤

وقرأ عاصم وابن عامر (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) و (كثيرا) (١) في هذا أشبه كما قال جلّ وعزّ (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة : ١٥٩] وهذا اللعن كثير.

(وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) خبر كان. ولو قلت : كان عبد الله عندنا جالسا ، كان في نصبه وجهان : يكون خبر كان ويكون على الحال. والوجيه عند العرب العظيم القدر ، الرفيع المنزلة ، ويروى أنه كان إذا سأل الله شيئا أعطاه إياه.

قال الحكم بن أبان عن عكرمة «قولوا قولا سديدا» قال : لا إله إلا الله وما أشبهها من الصدق والصواب. قال أبو جعفر : الاسم من هذا السّداد بفتح السين وقد استدّ فلان ، القياس من فعله سدّ والأصل سدد. فأما السّداد بكسر السين فما غطّي به الشيء ، وهو سداد من عوز.

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) قد ذكرناه. ومن حسن ما قيل في معناه أنّ معنى عرضنا أظهرنا كما تقول : عرضت الجارية على البيع ، والمعنى: أنّا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السموات وأهل الأرض من الملائكة والجنّ والإنسان فأبين أن يحملنها أي أن يحملن وزرها ، كما قال جلّ وعزّ (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] «وحملها الإنسان» قال الحسن يراد به الكافر والمنافق ، قال : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً) لنفسه (جَهُولاً) بربّه فيكون على هذا الجواب مجازا ، مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ، وفيه جواب آخر على أن يكون حقيقة أنه عرض على السموات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب أي أظهر لهن ذلك فلم يحملن وزرها وأطعن فيما أمرن به وما سخّرن له ، وحملها الإنسان على ما مر من الجواب الذي تقدم.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٥ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٣.

٢٢٥

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) أي بالحجج القائمة عليهم من عرض الأمانة عليهم ، وهي إظهار ما أظهر لهم من الوعيد. قال عبد الله بن مسعود :

الأمانة : الصلاة والصيام وغسل الجناية ، وعن أبيّ بن كعب قال : من الأمانة أنّ المرأة اؤتمنت على فرجها. وفي حديث مرفوع «الأمانة الصلاة» (١) إن شئت قلت صليت ، وإن شئت قلت لم أصلّ وكذا الصيام وغسل الجنابة. وقرأ الحسن ويتوب الله (٢)

بالرفع يقطعه من الأول أي يتوب عليهم بكل حال. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) خبر بعد خبر لكان ، ويجوز أن يكون نعتا لغفور ، ويجوز أن يكون حالا من المضمر.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٢٢ / ٢٣.

(٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٤٤ ، مختصر ابن خالويه ١٢١.

٢٢٦

٣٤

شرح إعراب سورة سبأ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِي) في موضع خفض على النعت أو البدل ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ ، وأن يكون في موضع نصب بمعنى أعني. وحكى سيبويه : الحمد لله أهل الحمد بالنصب والرفع والخفض. (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) مبتدأ وخبره.

(يَعْلَمُ) في موضع نصب على الحال ، ويجوز أن يكون مستأنفا.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي) قسم ، والجواب (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) وقرأ أهل المدينة عالم الغيب (١) بالرفع لأن جواب القسم قد تقدّم فحسن الرفع بالابتداء والخبر ما بعده ، ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ ، ويجوز النصب بمعنى أعني ، وقرأ أبو عمرو وعاصم (عالِمِ الْغَيْبِ) على النعت ، وقرأ سائر الكوفيين علّام الغيب (٢) بالخفض على النعت أيضا ، فعالم يكون للقليل والكثير وعلّام للكثير لا غير ، والمستعمل والأشبه في مثل هذا : عالم الغيب فإن قلت : علام الغيوب كان علّام أشبه. وقرأ يحيى بن وثاب والكسائي لا يعزب (٣) بكسر الزاي ، يقال : عزب يعزب

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٦ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٦.

(٢) وهذه قراءة ابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي ، انظر البحر المحيط ٧ / ٢٤٨.

(٣) انظر تيسير الداني ١٤٦ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٦.

٢٢٧

ويعزب. قال الفراء (١) : والكسر أحبّ إليّ ، وهي قراءة الأعمش. (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ) بالفتح تعطفهما على «ذرّة» ، وقراءة العامة بالرفع على العطف على مثقال.

(لِيَجْزِيَ) منصوب بلام كي ، والتقدير لتأتينّكم ليجزي.

وقرأ طلحة وعيسى (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) (٢) بالرفع على النعت لعذاب.

(وَيَرَى) في موضع نصب معطوف على ليجزي ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه مستأنف (الَّذِينَ) في موضع رفع بيرى. (أُوتُوا الْعِلْمَ) خبر ما لم يسمّى فاعله ، (الَّذِي) في موضع نصب على أنه مفعول أول ليرى (هُوَ الْحَقَ) مفعول ثان «وهو» فاصلة والكوفيون يقولون : عماد ، ويجوز الرفع على أن يكون «هو» مبتدأ و «الحقّ» خبره والنصب أكثر فيما كانت فيه الألف واللام عند جميع النحويين ، وكذا ما كان نكرة لا تدخله الألف واللام فيشبه المعرفة فإن كان الخبر اسما معروفا نحو قولك : كان أخوك هو زيد. وزعم الفراء (٣) أن الاختيار فيه الرفع وكذا : كان أبو محمد هو عمرو.

وعلّه في اختياره الرفع أنه لما لم يكن فيه ألف ولام أشبه النكرة في قوله : كان زيد هو جالس ، لأن هذا لا يجوز فيه إلا الرفع.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) وإن شئت أدغمت اللام في النون لقربها منها (يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) والمعنى : يقول لكم «وإذا» في موضع نصب ، والعامل فيها مزّقتم ، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ينبئكم لأنه ليس يخبرهم ذلك الوقت ، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد أنّ لأنه لا يعمل فيما قبله ، وأجاز أبو إسحاق أن يكون العامل فيها محذوفا ، والتقدير : إذا مزّقتم كلّ ممزّق بعثتم.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٥١.

(٢) انظر تيسير الداني ١٤٦.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٥٢.

٢٢٨

(أَفْتَرى) لمّا دخلت ألف الاستفهام واستغنيت عن ألف الوصل فحذفتها وكان فتح ألف الاستفهام فرقا بينها وبين ألف الوصل.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) مفعولان : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) أي رجّعي الحنين فكانت الجبال تجيبه إذا تلا الزبور ، وهو من آب يؤوب إذا رجع. (وَالطَّيْرَ) (١) بالرفع قراءة الأعرج وأبي عبد الرحمن ، والرفع من جهتين : إحداهما على العطف على جبال ، والأخرى على العطف على المضمر الذي في أوّبي ، وحسن ذلك ، لأن بعده «معه» ، والنصب عند أبي عمرو بن العلاء بمعنى وسخّرنا له الطير ، وقال الكسائي : هو معطوف على فضلا أي آتيناه الطير ، وعند سيبويه (٢) معطوف على الموضع أي : نادينا الجبال والطير ، ويجوز أن يكون مفعولا معه ، كما تقول : استوى الماء والخشبة : أي مع الخشبة. قال أبو جعفر : سمعت أبا إسحاق يجيز قمت وزيدا. (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) قيل :

إنه أول من سخّر له الحديد ، وقيل أعطي من القوة أنه كان يثني الحديد ـ والله جلّ وعزّ أعلم بذلك ـ وقال الحسن : وكان داود صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأخذ الحديد فيكون في يده مثل العجين فيعمل منه الدروع.

(أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) لأبي إسحاق فيه جوابان : أحدهما أن تكون «أن» بمعنى أي مفسّرة تؤدّي عن معنى : قلنا له اعمل ، والجواب الآخر أن يكون في موضع نصب أي وألنّا له الحديد لها ووصلت أن بلفظ الأمر (سابِغاتٍ) في موضع نصب وأقيمت الصفة مقام الموصوف أي : اعمل دروعا سابغات والدروع مؤنثة إذا كانت للحرب ، ودرع المرأة مذكر. (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) قال ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : قدر المسمار لا يكون دقيقا فيسلس ولا غليظا فيفصمها.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) جعله الكسائي نسقا على (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) وقال : المعنى : وألنّا لسليمان الرّيح ، وقال أبو إسحاق : التقدير : وسخّرنا لسليمان الريح : وقرأ عاصم (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) (٣) بالرفع بالابتداء أو بالاستقرار أي لسليمان الريح ثابتة وفيه ذلك

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٥٣.

(٢) انظر الكتاب ٢ / ١٨٨.

(٣) انظر تيسير الداني ١٤٦ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٧.

٢٢٩

المعنى ، فإن قال قائل : إذا قلت : أعطيت زيدا دينارا ولعمرو درهم ، فرفعت لم يكن فيه كمعنى الأول ، وجاز أن يكون لم تعطه الدرهم قيل : الأمر كذا الآية على خلاف هذا من المعنى قد علم أنه لم يسخّرها أحد غير الله جلّ وعزّ (غُدُوُّها شَهْرٌ) أي مسيرة شهر ، وكذا (وَرَواحُها شَهْرٌ) وروى الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان سليمان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جلس نصبت حواليه أربعمائة ألف كرسيّ ثم جلس رؤساء الإنس مما يليه ، وجلس سفلة الإنس مما يليهم ، وجلس رؤساء الجنّ مما يلي سفلة الإنس وجلس سفلة الجن مما يليهم ، وموكل بكلّ كرسي طائر يعمل بعينه ثم تقلّهم الريح والطير تظلّهم من الشمس ، فيغدو من بيت المقدس إلى إصطخر فيقيل بها ثم يروح من إصطخر فيبيت في بيت المقدس ثمّ قرأ ابن عباس (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ. وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) «من» في وضع نصب بمعنى وسخرنا ، ويجوز أن يكون في موضع رفع كما تقدّم في الريح. (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) شرط وجوابه. و (مِنَ) في موضع رفع بالابتداء وهو تام.

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) لم ينصرفا لأن هذا الجمع ليس له نظير في الواحد ، ولا يجمع كما يجمع غيره من الجموع. والمحراب في اللغة كلّ موضع مرتفع وقيل للذي يصلّي إليه : محراب ، لأنه يجب أن يرفّع ويعظّم ، وقال الضحاك : «من محاريب» أي من مساجد وتماثيل ، قال : صور فقال قوم : عمل الصور جائز لهذه الآية ولما أخبر الله جلّ وعزّ عن المسيح صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال قوم : قد صحّ النهي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها والتوعّد لمن عملها أو اتخذها فنسخصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا ما كان مباحا قبله ، وكانت في ذلك الحكمة لأنه بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصّور تعبد ، وكان الأصلح إزالتها. (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) الأولى أن يكون بالياء ، ومن حذف الياء قال : سبيل الألف واللام أن يدخلا في النكرة فلا يغيّرها عن حالها فلما كان يقال : «جواب» ودخلت الألف واللام أقرّ على حاله بحذف الياء وواحد الجوابي جابية وهي القدر العظيمة والحوض الكبير الذي يجبى إليه الشيء أن يجمع ، ومنه جبيت الخراج وجبيت الجراد أي جعلت كساء فجمعته فيه ، إلا أنّ ليثا روى عن مجاهد قال :

الجوابي جمع جوبة. قال أبو جعفر : الجوبة الحفرة الكبيرة تكون في الجبل يجتمع فيها ماء المطر (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) قال سعيد بن جبير : هي قدور النحاس تكون بفارس. قال الضحاك: هي قدور كانت تعمل من حجارة الجبال. (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) أي يقال لهم.

(آلَ داوُدَ) نداء مضاف ونصب شكر عند أبي إسحاق من جهتين : إحداهما اعملوا للشكر أي لتشكروا الله جلّ وعزّ ، والأخرى أن يكون التقدير : اشكروا شكرا. (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ

٢٣٠

الشَّكُورُ) مبتدأ وخبره. والشكور على التكثير لا غير ، وشاكر يقع للقليل والكثير ، والشكر لا يكون إلا في شيء بعينه ، والحمد أعمّ منه.

(مِنْسَأَتَهُ) (١) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو ، وقرأها الكوفيون بالهمز واشتقاقها يدلّ على أنها مهموزة لأنها مشتقة من نسأته أي أخّرته ودفعته فقيل لها : منسأة لأنه يدفع بها الشيء ويؤخّر. قال مجاهد وعكرمة : هي العصا فمن قرأ (منساته) أبدل من الهمزة ألفا ، فإن قال قائل : الإبدال من الهمزة قبيح إنما يجوز في الشعر على بعد وشذوذ وأبو عمرو بن العلاء لا يغيب عنه مثل هذا ولا سيما وأهل المدينة على هذه القراءة فالجواب عن هذا أن العرب استعملت في هذه الكلمة البدل ونطقوا بها هكذا كما يقع البدل في غير هذا ولا يقاس عليه حتى قال أبو عمرو : ولست أدري ممّ هي؟ إلّا أنها غير مهموزة. وهذا كلام العلماء لأن ما كان مهموزا قد يترك همزة وما لم يكن مهموزا لم يجز همزه بوجه. (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) موته وقال غيره : المعنى : تبيّن أمر الجن مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وقيل : المعنى تبيّنت الجن للإنس : وفي التفسير بالأسانيد الصحاح تفسير المعنى ، وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : أقام سليمان بن داود صلّى الله عليهما حولا لا يعلم بموته وهو متّكئ على عصاه والجنّ متصرّفة فيما كان أمرها به ثم سقط بعد حول. وقرأ ابن عباس فلما خرّ تبيّنت الإنس أن لو كان الجنّ يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (٢) قال أبو جعفر : وهذه القراءة عن ابن عباس على سبيل التفسير. فأما. (أَنْ) فموضعها موضع رفع على البدل من الجن أي تبيّن أن لو كان الجنّ يعلمون الغيب ، وهذا بدل الاشتمال ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى اللام.

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) بالصرف والتنوين على أنه اسم للحيّ ، وهو في الأصل اسم رجل جاء بذلك التوقيف عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ أبو عمرو (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) (٣) بغير صرف

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٦ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٧ ، نافع وأبو عمرو بألف ساكنة بدلا من الهمزة ، وابن ذكوان بهمزة ساكنة ، والباقون بهمزة مفتوحة.

(٢) انظر المحتسب ٢ / ١٨٨ ، والبحر المحيط ٧ / ٢٥٧.

(٣) انظر تيسير الداني ١٤٦.

٢٣١

جعله اسما للقبيلة ، وهو اختيار أبي عبيد واستدلّ على أنه اسم قبيلة أن بعده (فِي مَسْكَنِهِمْ) ولو كان كما كان لكان في مساكنها. (آيَةٌ) اسم كان أي علامة دالّة على قدرة الله جل وعزّ وانعامه على عباده أنه جعل لأهل سبأ جنتين عن يمين وشمال ومما اجتمع من مطر بين جبلين في وجهه مسنّاة قال يحيى بن سليمان الجعفي : المسنّاة هي التي يسمّيها أهل مصر الجسر فكانوا يفتحونها إذا شاؤوا فإذا رويت جنّتهم سدّوها (جَنَّتانِ) بدل من الآية ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ ، ويجوز أن تنصب «آية» على أنها خبر كان ، ويجوز أن تنصب جنتين على الخبر أيضا في غير القرآن.

والتقدير : قيل لهم : كلوا من رزق ربّكم واشكروا له. قال الفراء : تمّ الكلام. (بَلْدَةٌ) بالرفع على إضمار مبتدأ أي هذه بلدة (وَرَبٌ) على إضمار مبتدأ أيضا. (غَفُورٌ) من نعته. فأما في مساكنهم (١) فهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم وأبي عمرو. وقرأ إبراهيم النخعي وحمزة (فِي مَسْكَنِهِمْ) وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي (فِي مَسْكَنِهِمْ) (٢) بكسر الكاف. قال أبو جعفر : «مساكن» في هذا أبين لأنه يجمع اللفظ والمعنى فإذا قلت : مسكنهم كان فيه تقديران : أحدهما أن يكون واحدا يؤدّي عن جميع ، والآخر أن يكون مصدرا لا يثنّى ولا يجمع ، كما قال جلّ وعزّ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ) [البقرة : ٧] فجاء السمع مفردا ، وكذا (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) [القمر : ٥٥] ومن قال : مسكن بكسر الكاف جعله مثل مسجد ، وهو خارج عن القياس لا يوجد مثله إلّا سماعا.

(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) قال عمرو بن شرحبيل : «العرم» المسنّاة ، وقال محمد بن يزيد : العرم كلّ حاجز بين شيئين ، وهو الذي يسمّى السّكر وهو جمع عرمة (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) وقرأ أبو عمرو (ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) (٣) بغير تنوين مضافا. قال أهل التفسير والخليل رحمه‌الله : «الخمط» : الأراك وقال محمد بن يزيد : الخمط : كلّ ما تغيّر إلى ما لا يشتهى واللبن خمط إذا حمض. والأولى عنده في القراءة (ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) بالتنوين على أنه نعت لأكل أو بدل منه لأن الأكل هو الخمط بعينه عنده فأما الإضافة فباب جوازها أن يكون تقديرها ذواتي أكل حموضة أو أكل مرارة (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) قال الفراء : هو السّمر.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٦ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٨ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٥٧.

(٢) انظر تيسير الداني ١٤٦ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٨ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٥٧.

(٣) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٨ ، وتيسير الداني ١٤٦.

٢٣٢

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) قال أبو إسحاق : «ذلك» في موضع نصب أي جزيناهم ذلك. وهل يجازى إلا الكفور (١) قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ الكوفيون إلا عاصما (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (٢) وهذا عند أبي عبيد أولى لأن قبله «جزيناهم» ولم يقل جوزوا. قال أبو جعفر : الأمر في هذا واسع ، والمعنى فيه بين لو قال قائل : خلق الله جلّ وعزّ آدم من طين ، وقال آخر : خلق آدم من طين لكان المعنى واحدا. وفي الآية سؤال لا أعلم في السورة أشدّ منه يقال : ما معنى وهل يجازى إلّا الكفور ولم يذكر أصحاب المعاصي غير الكفار؟ وقد تكلم العلماء في هذا فقال قوم :

ليس يجازى بمثل هذا الجزاء الذي هو الاصطلام والهلاك إلّا من كفر. فأما قطرب فجوابه على هذه الآية على خلاف لأنه جعلها في أهل المعاصي غير الكفار وجرى على مذهبه وقوله من كفر بالنعم فعمل الكبائر. وأولى ما قيل في هذه الآية وأجل ما روي فيه أنّ الحسن قال : مثلا بمثل. وروى أيوب عن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من حوسب هلك» فقلت يا نبيّ الله : فأين قوله جلّ وعزّ (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) [الانشقاق : ٨] قال : «إنما ذلك العرض ومن نوقش الحساب هلك» (٣). قال أبو جعفر : وهذا إسناد صحيح ، وشرحه أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير ، ويبين لك هذا قوله جلّ وعزّ في الأولى (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) وفي الثاني «وهل يجازى» فمعنى «يجازى» يكافأ بما عمل ، ومعنى «جزيناهم» وفيناهم فهذا حقيقة اللغة وإن كان جازى يقع بمعنى جزى مجازا.

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) قال أبو العباس : الظاهرة المرتفعة. (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي جعلناه بمقدار يسيرون ويبيتون في قرية. قال الفراء : (٤) (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم فهذا التقدير.

(سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً) ظرفان (آمِنِينَ) على الحال.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٧ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٩ ، حفص وحمزة والكسائي بالنون وكسر الزاي ، والباقون بالياء وفتح الزاي والرفع.

(٢) انظر تيسير الداني ١٤٧ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٩ ، حفص وحمزة والكسائي بالنون وكسر الزاي ، والباقون بالياء وفتح الزاي والرفع.

(٣) أخرجه الترمذي في سننه ـ صفة القيامة ٩ / ٢٥٨.

(٤) انظر معاني الفراء ٣٤١.

٢٣٣

(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) فيه ستة أوجه من القراءات (١) قرأ الحسن وأبو رجاء وأبو مالك وأبو جعفر وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) ، وقرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمرو ربّنا بعد بين أسفارنا وقرأ محمد ابن الحنفية ويروى عن ابن عباس وأبي صالح ربّنا باعد بين أسفارنا ، وقرأ يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر وتروى عن ابن عباس ربّنا بعّد بين أسفارنا ، وقرأ سعيد بن أبي الحسن وهو أخو الحسن البصري فقالوا ربّنا بعد بين أسفارنا. فهذه خمس قراءات. وروى الفراء وأبو إسحاق السادسة ربّنا بعد بين أسفارنا قال أبو جعفر : القراءة الأولى ربّنا نصب على أنه نداء مضاف وهو منصوب على أنه مفعول به لأن معناه ناديت ودعوت ، وكذلك القراءة الثانية و «باعد» و «بعّد» واحد في المعنى ، كما تقول : قارب وقرّب ، والمعنى على ما روى محمد بن ثور عن معمر عن قتادة قال : كانوا آمنين يخرجون إلى أسفارهم ولا يتزوّدون يبيتون في قرية ويقيلون في قرية فبطروا النعمة فقالوا : ربّنا بعد بين أسفارنا فعاقبهم الله جلّ وعزّ.

والقراءة الثالثة «ربّنا» رفع بالابتداء و «باعد» فعل ماض في موضع الخبر ، وكذا الرابعة ، وقد فسّرها ابن عباس قال : شكوا أن ربّهم باعد بين أسفارهم. القراءة الخامسة ربّنا بعد بين أسفارنا. «ربّنا» نداء مضاف ثم أخبروا بعد ذلك فقالوا «بعد بين أسفارنا» ورفع «بين» بالفعل أي بعد ما يتصل بأسفارنا. والقراءة السادسة مثل هذه إلا أنها تنصب «بين» على أنه ظرف ، وتقديره في العربية : بعد سيرنا بين أسفارنا. وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال : إحداها أجود من الأخرى ، لا يقال ذلك في الأخبار إذا اختلفت معانيها ولكن خبّر عنهم أنهم دعوا أن يبعّد بين أسفارهم بطر وأشرا ، وخبّر أنهم لمّا فعل بهم ذلك خبّروا به وشكوا ، كما قال ابن عباس (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي بكفرهم (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أي يتحدّث بهم بأخبارهم ، وتقديره في العربية ذوي أحاديث. (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي لمّا لحقهم ما لحقهم تفرّقوا وتمزّقوا. قال الشعبي :

فلحقت الأنصار بيثرب. وغسان بالشام ، وأسد بعمان ، وخزاعة بتهامة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) «صبّار» تكثير صابر ، والصابر الذي يصبر عن المعاصي يمدح بهذا الاسم وإن أردت أنه صبر على المعصية لم يستعمل فيه إلا صابر عن كذا قال جلّ وعزّ (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠].

__________________

(١) انظر القراءات المختلفة في تيسير الداني ١٤٧ ، والبحر المحيط ٧ / ٢٦٢ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٩ ، والمحتسب ٢ / ١٨٩.

٢٣٤

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) فيه أربع أوجه من القراءات : قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر يروى عن مجاهد (وَلَقَدْ صَدَّقَ) (١) بالتخفيف. (عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ) بالرفع. (ظَنَّهُ) بالنصب. وقرأ ابن عباس ويحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي (صَدَّقَ) بالتشديد ، وقرأ أبو الهجهاج : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه (٢) بنصب إبليس ورفع ظنه ، قال أبو حاتم : لا وجه لهذه القراءة عندي والله جلّ وعزّ أعلم. قال أبو جعفر : وقد أجاز هذه القراءة الفراء وذكرها أبو إسحاق ، وقال :

المعنى : صدّق ظنّ إبليس إبليس بما اتّبعوه ، والقراءة الرابعة (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) (٣) برفع إبليس وظنّه. والقراءة الأولى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) معناها في ظنّه. قال أبو إسحاق : هو منصوب على المصدر ، والقراءة الثانية (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) بنصب «ظنه» بوقوع الفعل عليه. قال مجاهد : ظنّ ظنّا فكان كما ظن فصدّق ظنّه ، وعن ابن عباس قال : إبليس خلق آدم من طين فهو ضعيف وأنا من نار فلأحتنكنّ ذرّيّته إلّا قليلا فكان كما قال. وقال الحسن : ما ضربهم بسوط ولا بعصا ، وإنما ظنّ ظنّا فكان كما ظنّ بوسوسته. (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) نصب بالاستثناء ، وفيه قولان : أحدهما أنه يراد به بعض المؤمنين فأما ابن عباس فعنه أنه قال : هم المؤمنون كلّهم.

(مِنْ) زائدة للتوكيد. وأهل التفسير يقولون السلطان الحجّة. (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ) وقد علم الله جلّ وعزّ ذلك غيبا ، وهذا علم الشهادة الذي تجب به الحجّة هذا قول أكثر أهل اللغة ، وهو عند بعضهم مجاز أي ليكون هذا علمه جازى عليه ، وقول ثالث ، وهو مذهب الفراء يكون المعنى : إلّا لنعلم ذلك عندكم ، كما قال : (أَيْنَ شُرَكائِيَ) [النحل : ٢٧]. أي على قولكم وعندكم.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) في الكلام حذف ، والمعنى : قل ادعوا الّذين زعمتم أنّهم آلهة لكم من دون الله لينفعوكم أو ليدفعوا عنكم ما قضاه الله جلّ وعزّ

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٧ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٩.

(٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٦٣.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ١٢١.

٢٣٥

عليكم فإنّهم لا يملكون ذلك و (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) قال الضحاك والسدي أي من معين.

(أَذِنَ) (١) وأذن بمعنى واحد كما مرّ في وهل يجازى [سبأ : ١٧] و «من» هاهنا للشافعين ، ويجوز أن تكون للمشفوع لهم ، وزعم أبو إسحاق أنها للشافعين أشبه بالمعنى ، قال : لأن بعده (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) فيكون هذا للملائكة صلوات الله عليهم. وفي هذا خمس قراءات قراءة العامة (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) (٢) ، وعن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) (٣) بفتح الفاء والزاي فهاتان القراءتان بمعنى واحد أي فزّع الله جلّ وعزّ عن قلوبهم أي كشف عنها الفزع أي تعدّاها الفزع ، وكذا يقول سيبويه (٤) في قول العرب : رميت عن القوس أي تعدّى رميي القوس ، وقد ذكرنا معناه. وروى هيثم عن عوف عن الحسن أنه قرأ حتى إذا فرّغ عن قلوبهم (٥) بضم الفاء وبراء غير معجمة وبعدها غين معجمة وكذا قرأ أبو مجلز. وروى مطر الوراق عن الحسن حتى إذا فزّع عن قلوبهم (٦) وهاتان القراءتان يؤول معناهما إلى معنى الأولين لأن المعنى : حتّى إذا فرّغ عن قلوبهم الفزع أزيل عن قلوبهم إلّا أن مجاهدا قال في تفسير هذه الآية على ما رواه عنه ورقاء عن أبي نجيح :

إنها في يوم القيامة. قال : إذا كشف الغطاء. وروى أيّوب وحميد الطويل عن الحسن حتّى إذا فرغ عن قلوبهم بضمّ الفاء وبراء مخففة غير معجمة وبعدها غين معجمة فهذه الروايات عن الحسن مستقيمات الطرق لا مطعن في واحد رواها ، وكلّها صحاح عنه (قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) «ماذا» في موضع نصب بقال ويجوز أن يكون «ما» في موضع رفع بالابتداء و «ذا» في موضع الخبر ، ومعناه معنى الذي (قالُوا الْحَقَ) على أن «ماذا» في موضع نصب أي قال الحق ، ويجوز رفع «الحقّ» على أن ما في موضع رفع. (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ابتداء وخبر. و «العليّ» الجبار المتعالي ، و «الكبير» السيّد المقصود.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٧ ، وأذن بضم الهمزة قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي والباقين بفتحها.

(٢) انظر تيسير الداني ١٤٧ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٣٠.

(٣) انظر الكتاب ٤ / ٣٤٨.

(٤) انظر الكتاب ٤ / ٣٤٨.

(٥) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٦٦ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٦١.

(٦) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٦٦ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٦١.

٢٣٦

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ مَنْ) في موضع رفع بالابتداء ، وهي اسم تام لأنها للاستفهام و (يَرْزُقُكُمْ) في موضع الخبر ويجوز إدغام القاف في الكاف فتقلب القاف كافا (وَإِنَّا) والأصل وإنّنا فحذفت النون تخفيفا (أَوْ إِيَّاكُمْ) معطوف على اسم «إنّ» ولو عطف على الموضع لكان أو أنتم ويكون (لَعَلى هُدىً) للأول لا غير لو قلت : أو أنتم فإذا قلت : أو إيّاكم كان للثاني أولى وحذفت من الأول ، ويجوز أن يكون للأول وهو اختيار أبي العباس ، قال : ومعناه معنى قول المستنصر بصاحبه على صحّة الوعيد واستظهار بالحجّة الواضحة أحدنا كاذب وقد عرف المعنى ، وكما تقول : أنا أفعل كذا وتفعل أنت كذا وأحدنا مخطئ وقد عرف أنه هو المخطئ ، وهكذا (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) تكون (أَرُونِيَ) هاهنا من رؤية القلب أي عرّفوني هذه الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء لله جلّ وعزّ هل شاركته في خلق شيء فبيّنوا ما هو وإلّا فلم تعبدونها؟ ويجوز أن يكون من رؤية البصر فيكون «شركاء» حالا. قال أبو إسحاق : والمعنى : أروني الذين ألحقتموهم به شركاء ثم حذف لأنه في الصلة. قال : ثم قال جلّ وعزّ (كَلَّا) ردع وتنبيه أي ارتدعوا عن هذا القول ، وتنبهوا على ضلالكم.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً) نصب على الحال. قال أبو إسحاق : والمعنى :

أرسلناك جامعا للناس لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل إلى العرب والعجم.

وأجاز النحويون (لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ) (١) على أنه بدل من ميعاد ، وأجازوا ميعاد يوما لا تستأخرون عنه (٢) على أن يكون ظرفا وتكون الهاء تعود على يوم ولا يجوز الإضافة كما تقول : إنّ يوما زيد فيه أمير عبد الله فيه وزير ، بتنوين يوم لا غير فإن حذفت فيه جار حذف التنوين ونصبت عبد الله على أنه اسم إنّ ، ويجوز (مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ) (٣) بغير تنوين في يوم على أن يكون الهاء التي في «عنه» تعود على ميعاد لا على يوم.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٧٠ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٧٠ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٦.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ١٢٢.

٢٣٧

قال سعيد عن قتادة : (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب والأنبياء عليهم‌السلام.

(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ الظَّالِمُونَ) بالابتداء مرفوعون ، و (مَوْقُوفُونَ) خبره ، والجملة في موضع خفض بالإضافة ، ولا يجوز أن تنصب «موقوفون» على الحال ؛ لأن إذ ظرف زمان فلا تكون خبرا عن الجثث ، وجواب «لو» محذوف لعلم السامع. (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي يجاوبه واللغة الفصيحة هذه يقال : رجعت زيدا. (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) هذه اللغة الفصيحة ومن العرب من يقول : لولاكم حكاها سيبويه (١) ويكون «لو لا» تخفض المضمر وترفع المظهر بعدها بالابتداء وتحذف خبره ، ومحمد بن زيد يقول : لا يجوز «لولاكم» لأن المضمر عقب المظهر فلما كان المظهر مرفوعا بإجماع وجب أن يكون المضمر أيضا مرفوعا.

(بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أي أنتم اخترتم الكفر ولم يكن لنا عليكم سبيل إلّا أن دعوناكم فاستجبتم لنا.

(بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) قال الأخفش : أي هذا مكر الليل والنهار. قال أبو جعفر :

والمعنى والله جلّ وعزّ أعلم ، مكركم في اللّيل والنهار أي مشارتكم إيانا ودعاؤكم لنا إلى الكفر الذي حملنا على هذا. قال محمد بن يزيد : أي بل مكركم الليل والنهار كما تقول العرب : نهاره صائم ، وليله قائم ، وأنشد : [الطويل]

٣٤٦ ـ لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى

ونمت وما ليل المطيّ بنائم (٢)

 __________________

(١) انظر الكتاب ٢ / ٣٩٥.

(٢) الشاهد لجرير في ديوانه ٩٩٣ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٦٥ ، ولسان العرب (ريح) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٨ / ٦٠ ، والصاحبي في فقه اللغة ٢٢٢ ، والمحتسب ٢ / ١٨٤ ، والمقتضب ٣ / ١٠٥.

٢٣٨

وأنشد سيبويه : [الرجز]

٣٤٧ ـ فنام ليلي وتجلّى همّي (١)

أي نمت فيه ، وروى جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) قال ممرّ اللّيل والنّهار عليهم فغفلوا ، وقرأ راشد (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (٢) بالنصب كما يقال : رأيته مقدم الحاج ، وإنما يجوز هذا فيما يعرف ، ولو قلت : رأيته مقدم زيد لم يجز (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) قال : ويقال : نديد وأنشد :

[الوافر]

٣٤٨ ـ أتيما تجعلون إليّ ندّا

وما تيم لذي حسب نديد (٣)

(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) في معناه قولان : أحدهما أن معنى أسروا أظهروا وأنه من الأضداد ، كما قال : [الطويل]

٣٤٩ ـ تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا

عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي (٤)

وقد روي يشرّون. وقيل وأسرّوا الندامة تبيّنت الندامة في أسرار وجوههم.

وقيل : الندامة لا تظهر وإنما تكون في القلب وإنما يظهر ما يتولّد عنها.

(إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) قال سعيد عن قتادة : مترفوها جبابرتها ورؤوسها وقادة الشر.

أحسن ما قيل في هذا قاله الحسن ، قال : يخير له والمعنى على قوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن الله جلّ وعزّ إنما يبسط الرزق لمن يشاء ، ويقدر على المحنة ويفعل بهم الذي هو خير لهم.

__________________

(١) الرجز لرؤبة في ديوانه ١٤٢ ، والمحتسب ٢ / ١٨٤ وبلا نسبة في خزانة الأدب ٨ / ٢٠٢ ، والمقتضب ٣ / ١٠٥.

(٢) وهذه قراءة ابن جبير وطلحة أيضا ، انظر البحر المحيط ٧ / ٢٧١ ، ومختصر ابن خالويه ١٢٢.

(٣) مرّ الشاهد رقم (٢٣٧).

(٤) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص ١٣ ، وجمهرة اللغة ٧٣٦ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٣٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٥١ ، ولسان العرب (شرر) ، ومغني اللبيب ١ / ٢٦٥ ، وبلا نسبة في رصف المباني ٢٩٢.

٢٣٩

(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) قال الأخفش : أي أزلافا. وهو اسم المصدر وزعم الفراء (١) أن التي تكون للأموال والأولاد جميعا ، وله قول آخر ، وهو مذهب أبي إسحاق ، يكون المعنى وما أموالكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ثم حذف ، وأنشد الفراء : [الخفيف]

٣٥٠ ـ نحن بما عندنا وأنت بما عندك

راض والرّأي مختلف (٢)

وأنشد : [الكامل]

٣٥١ ـ إنّي ضمنت بما أتاني ما جنى

وأبي وكان وكنت غير غدور (٣)

ويجوز في غير القرآن باللتين وباللاتي وباللواتي وبالذين للأولاد خاصة. (إِلَّا مَنْ آمَنَ) في موضع نصب بالاستثناء. وزعم أبو إسحاق أنه في موضع نصب على البدل من الكاف والميم التي في «تقربكم» وهذا القول كأنه غلط لأن الكاف والميم للمخاطب فلا يجوز البدل ، ولو جاز هذا لجاز : رأيتك زيدا. وقول أبي إسحاق هذا هو قول الفراء (٤) إلّا أن الفراء لا يقول : بدل لأنه ليس من لفظ الكوفيين ولكن قوله يؤول إلى ذلك وزعم أن مثله (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٩] يكون منصوبا عنده بينفع وأجاز الفراء (٥) أن يكون «من» في قوله جلّ وعزّ (بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ) في موضع رفع بمعنى ما هو إلّا من آمن كذا قال ، ولست أحصل معناه.

(فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) وأجاز النحويون أولئك لهم جزاء الضعف (٦) يكون بدلا من جزاء أو على إضمار مبتدأ ، وأجازوا «أولئك لهم جزاء الضّعف» بمعنى أولئك لهم أن نجزيهم الضعف ، وأجازوا أولئك لهم جزاء الضعف (٧). قال أبو إسحاق :

والمعنى : أولئك لهم الضعف جزاء أي في حال مجازاتهم. (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) (٨) وعن الحسن في الغرفات (٩) إسكان الراء ، وعن الأعمش وحمزة في الغرفة (١٠). قال أبو جعفر : «الغرفات» جمع غرفة على جمع التسليم إلّا أن الراء ضمت فرقا بين الاسم والنعت ، ومن قال : غرفات حذف الضمة لثقلها ، ومن قال :

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٣٦.

(٢) مرّ الشاهد رقم (١٨٥).

(٣) الشاهد للفرزدق في الكتاب ١ / ١٢٦ ، والردّ على النحاة ١٠٠ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٢٦ ، ولسان العرب (قعد) وتفسير الطبري ٢٦ / ١٥٨ ، وبلا نسبة في معاني الفراء ١ / ٤٣٤ ، وهو غير موجود في ديوان الفرزدق.

(٤) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٦٣.

(٥) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٦٣.

(٦) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٧٣.

(٧) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٦٤.

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٧٣.

(٩) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٧٣ ، ومختصر ابن خالويه ١٢٢ ، وتيسير الداني ١٤٧.

(١٠) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٥٣٠.

٢٤٠