إعراب القرآن - ج ٣

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٠

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) مبتدأ وخبر. قال أبو إسحاق : المخاطبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطبة لأمته ، والمعنى : ولو ترون ، ومذهب أبي العباس غير هذا ، وأن يكون المعنى : يا محمد قل للمجرم ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم لندمت على ما كان منك وحذف جواب «لو» والقول.

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) مفعولان قيل : في معناه قولان : أحدهما أن سياق الكلام يدلّ على أنه في الآخرة أي لو شئنا لرددناهم إلى الدنيا والمحنة كما سألوا (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي حقّ القول منّي لأعذبنّ من عصاني بعذاب جهنّم وعلم الله جلّ وعزّ أنّه لو ردّهم لعادوا كما قال (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨].

(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) في معناه قولان : أحدهما أنه من النسيان الذي لا ذكر معه أي لم تعملوا لهذا اليوم فكنتم بمنزلة الناسين ، والآخر أن نسيتم بمعنى تركتم ، وكذا (إِنَّا نَسِيناكُمْ) واحتجّ محمد بن يزيد بقوله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) [طه : ١١٥] قال : والدليل على أنه بمعنى ترك أنّ الله جلّ وعزّ أخبر عن إبليس أنه قال له : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) [الأعراف : ٢٠] فلو كان آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناسيا لكان قد ذكّره : وأنشد : [البسيط]

٣٤٠ ـ كأنّه خارجا من جنب صفحته

سفّود شرب نسوه عند مفتأد (١)

أي تركوه ولو كان من النسيان لكانوا قد عملوا به مرّة.

__________________

(١) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ص ١٩ ، والأشباه والنظائر ٦ / ٢٤٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ١٨٥ ، والخصائص ٢ / ٢٧٥ ، ولسان العرب (فأد) ، وتهذيب اللغة ١٤ / ١٩٦ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٢١١ ، وكتاب العين ٨ / ٨.

٢٠١

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) أي إنما يؤمن بالعلامات والبراهين والحجج الذين إذا ذكّروا بها خضعوا لله وسبّحوا بحمده. (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادته ولا الانقياد لما أبانه.

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) في موضع نصب على الحال أو رفع لأنه فعل مستقبل ولم يتبيّن فيه الإعراب لأنه فعل مقصور. ومعنى مقصور أنه قصر منه الإعراب ومعنى منقوص أنه نقص منه الإعراب. (يَدْعُونَ) في موضع نصب على الحال (خَوْفاً) مفعول من أجله ، ويجوز أن يكون مصدرا. (وَطَمَعاً) مثله أي خوفا من العذاب وطمعا في الثواب. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) تكون «ما» بمعنى الذي وتكون مصدرا ، وفي كلا الوجهين يجب أن تكون منفصلة من «من».

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) ويقرأ ما أخفي لهم (١) بإسكان الياء على أنه فعل مستقبل. وفي قراءة عبد الله ما نخفي (٢) بالنون ، قال أبو إسحاق : ويقرأ ما أخفي لهم بمعنى ما أخفى الله لهم فإن جعلت «ما» بمعنى الذي كانت في موضع نصب على الوجوه كلّها ، وإن جعلتها بمعنى أي وقرأت بقراءة المدنيين كانت في موضع رفع وإن قرأت بغيرها كانت في موضع نصب.

(جَزاءً) مفعول من أجله أو مصدر.

لأن لفظ «من» تؤدّي عن الجماعة فلهذا قال : لا يستوون. هذا قول كثير من النحويين ، وقال بعضهم : يستوون لاثنين إلّا أنّ الاثنين جمع ، لأنه واحد جمع مع آخر. والحديث يدلّ على هذا القول لأنه عن ابن عباس رحمه‌الله وغيره قال : نزلت (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، (كَمَنْ كانَ فاسِقاً) في الوليد بن عقبة بن أبي معيط (٣).

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٤ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥١٦.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٣٢ ، والبحر المحيط ٧ / ١٩٧.

(٣) انظر البحر المحيط ٧ / ١٩٨.

٢٠٢

(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في موضع رفع بالابتداء فوصفه الله جلّ وعزّ بالإيمان ، وخبر الابتداء (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) والمعنى : فله ولنظرائه فعلى هذا جاء الجمع ، وكذا (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما) ظرف.

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ) لام قسم. (مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) أي الأقرب ، وأكثر أهل التفسير على أنها المصيبات في الدنيا.

(وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لنفسه. (مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) أي بحججه وعلاماته. (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) بترك القبول فاعلم أنه ينتقم منه ، فقال جلّ وعزّ : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ).

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) مفعولان. (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) قد ذكرناه ، وقد قيل : إن معناه فلا تكن في شكّ من تلقي موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكتاب بالقبول ، وعن الحسن أنه قال في معناه : ولقد آتينا موسى الكتاب فأوذي وكذّب فلا تكن في شكّ من أنه سيلقاك ما لقيه من التكذيب والأذى. وهو قول غريب إلّا أنه من رواية عمرو بن عبيد.

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) والكوفيون يقرءون أمّة وهو لحن عند جميع النحويين ، لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة وهو من دقيق النحو ، وشرحه أن الأصل أأممة ثم ألقيت حركة الميم الأولى على الهمزة ، وأدغمت الميم في الميم وخفّفت الهمزة الثانية لئلا تجتمع همزتان ، والجمع بين همزتين في حرفين بعيد فأما في حرف واحد فلا يجوز البتة إلّا بتخفيف آدم وآخر وهذا آدم من هذا (لَمَّا صَبَرُوا) (١) لصبرهم و (لَمَّا صَبَرُوا) أي حين صبروا جعلناهم أئمة.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٤ ومعاني الفراء ٢ / ٣٣٢ ، والبحر المحيط ٧ / ٢٠٠ ، وهذه قراءة عبد الله وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي ، والجمهور بفتح الميم وشدّ الميم.

٢٠٣

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وقتادة أو لمن نهد لهم (١) بالنون فهذه قراءة بيّنة. والقراءة الأولى بالياء فيها إشكال لأنه يقال : الفعل لا يخلو من فاعل فأين الفاعل ليهد فتكلّم النحويون في هذا فقال الفراء (٢) : «كم» في موضع رفع بيهد.

وهذا نقض لأصول النحويين في قولهم : إنّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ولا في كم بوجه أعني ما قبلها. ومذهب أبي العباس أنّ يهد يدلّ على الهدى فالمعنى أو لم يهد لهم الهدى ، وقيل : المعنى أو لم يهد الله لهم فيكون معنى الياء ومعنى النون واحدا ، وقال أبو إسحاق : كم في موضع نصب بأهلكنا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) في موضع نصب بأنّ. (أَفَلا يَسْمَعُونَ) بمعنى أفلا يقبلون مثل : سمع الله لمن حمده.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : هي أرض اليمن ، وقال سفيان وحدّثني معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : هي أبين (٣) ، وقال الحكم بن أبان عن عكرمة «إلى الأرض الجرز» قال :

هي الظّمأى ، وقال جويبر عن الضحاك (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) قال : الميتة العطشى ، وقال الفراء (٤) : هي التي لا نبات فيها ، وقال الأصمعي : الأرض الجرز التي لا تنبت شيئا. قال محمد بن يزيد : يبعد أن تكون إلّا أرضا بعينها لدخول الألف واللام إلّا أنه يجوز على قول ما قال ابن عباس والضحاك. قال أبو جعفر : الإسناد عن ابن عباس صحيح لا مطعن فيه ، وهذا إنما هو نعت ، والنعت للمعرفة يكون بالألف واللام. وهو مشتق من قولهم : رجل جروز إذا كان لا يبقي شيئا إلّا أكله. وحكى الفراء (٥) وغيره أنه يقال : أرض جرز وجرز وجرز ، وكذلك بخل ورعب ورهب في الأربعة أربع لغات (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) يكون معطوفا على نسوق ، أو منقطعا مما قبله (تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ) في موضع نصب على النعت. (وَأَنْفُسُهُمْ) أي ويأكلون منه. والنفس في كلام العرب

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٠٠ ، ومختصر ابن خالويه ١١٨.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٣٣.

(٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٠٠ (وقال ابن عباس : هي أرض أبين من اليمن ، وهي أرض تشرب بسيول لا تمطر).

(٤) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٣٣.

(٥) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٣٣.

٢٠٤

على ضربين : أحدهما أنه يراد بها الانفصال ، والآخر أنه يراد بها جملة الشيء وحقيقته قال جلّ وعزّ (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦] أي تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم. (أَفَلا يُبْصِرُونَ) يكون (ألا) للتنبيه.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ) «متى» في موضع رفع ويجوز أن تكون في موضع نصب على الظرف. قال الفراء (١) : يعني فتح مكة ، وأولى من هذا ما قاله مجاهد قال :

يعني يوم القيامة. قال أبو جعفر : ويوم فتح مكة قد نفع من آمن إيمانه. ويروى أن المؤمنين قالوا : سيحكم الله جلّ وعزّ بيننا يوم القيامة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء ، فقال الكفار على التهزي : متى هذا الفتح أي هذا الحكم؟ ويقال : للحاكم فاتح وفتّاح ؛ لأن الأشياء تتفتح على يديه وتنفصل ، وفي القرآن (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٨٩].

(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ) على الظرف وأجاز الفراء الرفع.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) قيل : معناه أعرض عن سفههم ولا تجبهم إلا بما أمرت به.

(وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي انتظر يوم الفتح يوم يحكم الله لك عليهم ، فإن قال قائل: فكيف ينظرون يوم القيامة وهم لا يؤمنون به ففي هذا جوابان : أحدهما أن يكون المعنى أنهم ينتظرون الموت ، وهو من أسباب القيامة فيكون هذا مجازا ، والآخر أن فيهم من يشكّ ومنهم من يوقن بالقيامة فيكون هذا لهذين الصنفين والله جلّ وعزّ أعلم.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٣٣.

٢٠٥

٣٣

شرح إعراب سورة الأحزاب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ضممت أيا لأنه نداء مفرد والتنبيه لازم لها والنبي نعت لأيّ عند النحويين إلّا الأخفش فإنه يقول : إنه صلة لأي ، وهو خطأ عند أكثر النحويين لأن الصلة لا تكون إلّا جملة والاحتيال له فيما قال : إنه لما كان نعتا لازما سماه صلة فهكذا الكوفيون يسمون نعت النكرة صلة لها ، وأجاز بعض النحويين (١) النصب ، (اتَّقِ اللهَ) حذفت الياء لأنه أمر. (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) أي لا تطعهم فيما نهيت عنه ولا تمل إليهم ، ودلّ بقوله جلّ وعزّ : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) على أنه إنما كان يميل إليهم استدعاء لهم إلى الإسلام أي لو علم الله جلّ وعزّ أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنه لأنه حكيم.

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) أي من اجتنابهم.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي في الخوف من ضررهم. (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي كافيا لك مما تخافه منهم «وكيلا» نصب على البيان أو على الحال.

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) «من» زائدة للتوكيد ، وشبه هذا بالأول أنّه لم

__________________

(١) انظر أسرار العربية ص ٢٢٩.

٢٠٦

يجعل للإنسان قلبين قلبا يخلص به لله جلّ وعزّ وقلبا يميل به إلى أعدائه. (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ) (١) (مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) مفعولان وهو مشتق من الظهر لأن الظهر موضع الركوب. وكانت العرب تطلق بالظّهار. (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة. وفي الحديث أن خديجة رضي الله عنها وهبته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء أبوه حارثة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : خذ مني فداه فقال له : أنا أخيّره فإن أراد أن يقيم عندي أقام ، وإن اختارك فخذه فاختار المقام فأعتقه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : «هو ابني يرثني وأرثه» (٢) ، ثم أنزل الله جلّ وعزّ (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) أي ادعوهم لآبائهم. قال ابن عمر : ما كنا ندعوه إلّا زيد بن محمد فنسب كلّ دعيّ إلى أبيه.

(ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) ابتداء وخبره أي هو قول بلا حقيقة. (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) أي القول الحقّ نعت لمصدر ، ويجوز أن يكون مفعولا.

(فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فهم إخوانكم (وَمَوالِيكُمْ) عطف عليه.

(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) قول قتادة هو أن ينسب الرجل إلى غير أبيه ، وهو يرى أنه أبوه. قال أبو جعفر : وقد قيل : إنّ هذا مجمل أي وليس عليكم جناح في شيء أخطأتم به ، وكانت فتيا عطاء على هذا إذا حلف رجل ألّا يفارق غريمه حتى يستوفي منه حقّه فأخذ منه ما يرى أنه جيد من دنانير فوجدها زجاجا أنه لا شيء عليه ، وكذا عنده إذا حلف أنه لا يسلّم على فلان فسلّم عليه وهو لا يعرفه أنه لا يحنث ؛ لأنه لم يعمد لذلك. (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) «ما» في موضع خفض ردّا على «ما» التي مع أخطأتم ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ ، والتقدير : ولكن الذي تؤاخذون به ما تعمدت قلوبكم.

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) في معناه قولان : أحدهما النبي أولى بالمؤمنين من بعضهم لبعض مثل (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] ، والآخر أنه إذا أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) انظر القراءات التسعة في البحر المحيط ٧ / ٢٠٧ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥١٩.

(٢) انظر زاد المسير ٦ / ٣٥١ ، وابن كثير ٣ / ٤٦٨ ، والقرطبي ١٤ / ٧٩.

٢٠٧

بشيء ودعت النفس إلى غيره كان أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى. وفي الحديث «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا أو ضياعا فعليّ» (١).

(وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي في الحرمة ولا يحلّ لهم تزوّجهنّ. (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) مبتدأ و (بَعْضُهُمْ) مبتدأ ثان أو بدل (أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) يكون التقدير وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين ، ويجوز أن يكون المعنى : أولى من المؤمنين والمهاجرين. (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) في موضع نصب استثناء ليس من الأول. قال محمد ابن الحنفية رحمة الله عليه : نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني. (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي مكتوبا في نسق كالسطر. ويقال :

سطر والجمع أسطار ، ومن قال سطر قال : أسطر وسطور يصلح لهما جميعا إلّا أنه بالمسكّن أولى وأكثر.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) قال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم قال : على قومهم وعن أبيّ بن كعب قال : هو مثل (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الأعراف : ١٧٢] الآية ، قال : فأخذ ميثاقهم وعلى الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ منهم النور كأنه السّرج ثم أخذ ميثاق النبيين خاصة للرسالة قال : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) الآية قال :

«ومن نوح» ولم يقل : ونوح لأن المظهر إذا عطف على المضمر المخفوض أعيد الحرف تقول : مررت به وبزيد (وَإِبْراهِيمَ) عطف مظهر على مظهر فلم يعد الحرف وكذا (وَمُوسى وَعِيسَى).

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) قد ذكرناه.

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) وفي الحديث «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» (٢) وكان في هذه الريح أعظم الآيات والدلالات للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الله جلّ وعزّ أرسل على أعدائه ريحا

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في سننه ـ الصدقات ـ باب ٣ الحديث رقم (٢٤١٧) ، والترمذي في سننه ـ الجنائز ٤ / ٢٩١.

(٢) انظر المعجم لونسنك ٦ / ٤٦٠.

٢٠٨

شديدة البرد فقطعت خيامهم وشغلتهم ببردها ، والمؤمنون حذاءهم لم يلحقهم منها شيء.

(وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) والكوفيون يقرءونها بغير ألف ، وذلك مخالف للمصحف وإن كان حسنا في العربية. وأولى الأشياء في هذا أن يوقف عليه بالألف ولا يوصل لأنه إن وصل بالألف كان لاحنا ، وإن وصل بغير ألف كان مخالفا للمصحف ، وإذا وقف بالألف كان متّبعا للسواد موافقا للإعراب ؛ لأن العرب تثبت هذه الألف في القوافي وتثبتها في الفواصل ليتّفق الكلام.

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) أي في ذلك الوقت اختبر المؤمنون. واللام زائدة للتوكيد ، وإن كانت مكسورة والكاف للخطاب. (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) ، ويقال : زلزال في المضاعف خاصة وغير المضاعف لا يجوز فيه الفتح. ويقال : دحرجته دحراجا.

(وَإِذْ) في موضع نصب بمعنى واذكر ، وكذا (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ) قال أبو عبيدة (١) : يثرب اسم أرض والمدينة منها. (لا مُقامَ لَكُمْ) (٢) أي مكان يقيمون فيه ، وأنشد : [الوافر]

٣٤١ ـ فأيّي ما وأيّك كان شرّا

فسيق إلى المقامة لا يراها (٣)

وقرأ أبو عبد الرحمن والأعرج (لا مُقامَ لَكُمْ) يكون مصدرا من قام يقيم أو موضعا يقيمون فيه أو يقامون (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) وقراءة أبي رجاء وتروى عن ابن عباس (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) (٤) وهذا اسم الفاعل من عور يعور عورة ويجوز أن يكون مصدرا أي ذات عورة ويجوز أن يكون في موضع اسم الفاعل على السعة كما تقول : رجل عدل ، أي عادل ويقال : أعور

__________________

(١) انظر مجاز القرآن ١ / ١٣٤.

(٢) انظر تيسير الداني ١٤٥ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٠ ، وقراءة حفص بضمّ الميم والباقون بفتحها.

(٣) مرّ الشاهد رقم ١٢٠.

(٤) انظر البحر المحيط ٧ / ٢١٢.

٢٠٩

المكان إذا تبيّنت فيه عورة وأعور الفارس إذا تبيّن منه موضع خلل. (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) أي ليس قصدهم ما قالوا وإنما قصدهم للفرار.

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها) وهي البيوت أو المدينة. ثمّ سئلوا الفتنة لأتوها هذه قراءة أهل الحرمين ، وقراءة أهل البصرة وأهل الكوفة (لَآتَوْها) (١) وهو اختيار أبي عبيد ، واحتجّ بحديث (٢) الجماعة الذين فيهم بلال أنهم أعطوا الفتنة من أنفسهم غير بلال. قال أبو جعفر : الحديث في أمر بلال لا يشبه الآية ، لأن الله جلّ وعزّ خبّر عن هؤلاء بهذا الخبر وبلال وأصحابه إنما أكرهوا ، وفي هذه الآية : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها) أي لو دخل عليهم الكفار لجاءوهم ، وهذا خلاف ما عاهدوا الله عليه وفي القصّة (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) فهذا يدلّ على «لأتوها» مقصورا.

(وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) أي كان العذاب يأخذهم أو يهلكون.

(وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) وفي بعض الروايات وإذا لا تمتّعوا تنصب بإذن ، والرفع بمعنى لا تمتّعون إذن فتكون إذن ملغاة ، ويجوز إعمالها فهذا حكمها إذا كان قبلها الواو أو الفاء ، فإن كانت مبتدأة نصبت بها فقلت : إذن أكرمكم. وروى سيبويه (٣) عن بعض أصحاب الخليل عن الخليل رحمه‌الله أنّ «أن» معها مضمرة وسماعه منه النصب بها فإن توسّطت لم يجز أن تنصب عند البصريين تقول : أنا إذن أكرمك ، وكنت إذن أكرمك ، وإنّي إذن أكرمك. الفراء (٤) ينصب هنا أعني في «إنّ» خاصة ، وأنشد : [الرجز]

٣٤٢ ـ إنّي إذا أهلك أو أطيرا (٥)

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ١٤ / ١٤٩.

(٣) انظر الكتاب ٣ / ١٤.

(٤) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٣٨.

(٥) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (شطر) وتهذيب اللغة ١١ / ٣٠٨ ، وتاج العروس (شطر) ، ومقاييس اللغة ٣ / ١٨٧ ، ومجمل اللغة ٣ / ١٨٥ ، وأساس البلاغة (شطر) ، والإنصاف ١ / ١٧٧ ، وأوضح المسالك ٤ / ١٦٦ ، والجنى الداني ٣٦٢ ، وخزانة الأدب ٨ / ٤٥٦ ، والدرر ٤ : ٧٢ ، ورصف المباني ٦٦ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٥٤ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٣٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٧٠ ، وشرح المفصل ٧ / ١٧ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٢ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٨٣ ، والمقرّب ١ / ٢٦١ ، وهمع الهوامع ٢ / ٧. وقبله : «لا تدعني فيهم شطيرا»

٢١٠

والشعر منصوب وعلته في «إنّ» أنها لا تنصرف.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) أي المتعرّضين لأن يصدّوا الناس عن النبي. مشتقّ من عاقني عن كذا أي صرفني عنه ، وعوّق على التكثير. (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) على لغة أهل الحجاز وغيرهم يقول : هلمّوا للجماعة وهلمّي للمرأة ؛ لأن الأصل ها التي للتنبيه ضمّت إليها «لمّ» ثم حذفت الألف استخفافا ، وبنيت على الفتح ولم يجز فيها الكسر ولا الضم لأنها لا تتصرّف. ومعنى «هلمّ» أقبل.

(أَشِحَّةً) نصب على الحال. قال أبو إسحاق : ونصبه عند الفراء (١) من أربع جهات : إحداهما أن يكون على الذمّ ، ويجوز عنده أن يكون نصبا يعوّقون أشحّة ، ويجوز عنده أن يكون التقدير : والقائلين أشحّة ، ويجوز عنده ولا يأتون البأس إلّا قليلا يأتونه أشحّة أي أشحّة على الفقراء بالغنيمة جبناء. قال أبو جعفر : لا يجوز أن يكون العامل فيه المعوّقين ولا القائلين لئلّا يفرّق بين الصلة والموصول (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) وصفهم بالجبن ، وكذا سبيل الجبان ينظر يمينا وشمالا محدّدا بصره وربّما غشي عليه (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) وحكى الفراء صلقوكم (٢) بالصاد. وخطيب مسلاق ومصلاق إذا كان بليغا. (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) أي وإن كان ظاهرهم الإيمان فليسوا بمؤمنين لأن المنافق كافر على الحقيقة وصفهم الله جلّ وعزّ بالكفر. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي يقول الحقّ.

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي لجبنهم. وقرأ طلحة وإن يأت الأحزاب يودّوا لو أنهم بدّا (٣) في الأعراب يقال : باد وبدّا بالقصر مثل غاز وغزّى ويمدّ مثل صائم وصوّام. وقرأ الحسن وعاصم الجحدري يسّاءلون عن أنبائكم (٤) والأصل يتساءلون

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٣٨.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٣٩ ، والبحر المحيط ٧ / ٢١٥.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ١١٩.

(٤) انظر البحر المحيط ٧ / ٢١٥ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٣٩.

٢١١

ثم أدغم. (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) نعت لمصدر أو لظرف.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ) (١) (حَسَنَةٌ) أي في خروجه إلى الخندق وصبره ، وقرأ عاصم (أُسْوَةٌ) بضم الهمزة. والكسر أكثر في كلام العرب والجمع فيهما جميعا واحد عند الفراء ، والعلّة عنده في الضمّ على لغة من كسر في الواحد الفرق من ذوات الواو وذوات الياء فيقولون : كسوة وكسى ، ولحية ولحي. (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) لا يجوز عند النحويين الحذّاق أن يكتب «يرجو» إلّا بغير ألف إذا كان لواحد ؛ لأن العلّة التي في الجمع ليست في الواحد. (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) أي ذكرا كثيرا.

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) ومن العرب من يقول : راء على القلب. (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) إن جعلت «ما» بمعنى الذي فالهاء محذوفة ، وإن جعلتها (٢) مصدرا لم يحتج إلى عائد. (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) قال الفراء : وما زادهم النظر إلى الأحزاب. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : رأى يدلّ على الرؤية ، وتأنيث الرؤية غير حقيقي. والمعنى : وما زادهم الرؤية ، مثل من كذب كان شرّا له.

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ) رفع بالابتداء ، وصلح الابتداء بالنكرة لأن «صدقوا» في موضع النعت. قال أبو إسحاق : «ما» في موضع نصب. قال أبو جعفر : يقال : صدقت العهد أي وفيت به. (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) «من» في موضع رفع بالابتداء ، وقد ذكرنا معناه.

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا) قال محمد بن عمرو عن أبيه عن جدّه عن

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ٢١ / ١٤٩.

٢١٢

عائشة رضي الله عنها قالت في قوله : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) أبو سفيان وعيينة ابن برد ، رجع أبو سفيان إلى تهامة وعيينة إلى نجد. (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بأن أرسل عليهم الريح حتى رجعوا فرجعت بنو قريظة إلى صياصيهم. قال أبو جعفر :

فكفي أمر بني قريظة بالرعب حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ رحمة الله عليه فحكم بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم. (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا) أي لا يردّ أمره (عَزِيزاً) لا يغلب.

وبيّن هذا في بني قريظة قال جلّ ثناؤه (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) قال محمد بن يزيد : أصل الصيصية ما يمتنع به فالحصن صيصية ويقال لقرون البقر : صياص لامتناعها. وكذا يقال في شوكة الديك قال : ويقال الشوكة الحائك صيصية تشبيها بها ، وأنشد : [الطويل]

٣٤٣ ـ كوقع الصّياصي في النّسيج الممدّد (١)

(فَرِيقاً) نصب بتقتلون. و (فَرِيقاً) نصب بتأسرون ، وحكى الفراء (٢) «تأسرون» بضم السين.

(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً) لأن المهاجرين لم تكن لهم بالمدينة دور.

(فَتَعالَيْنَ) نون المؤنّث فيه وهي لا تحذف لأنه مبنيّ ولو حذفت لأشكل. قال الخليلرحمه‌الله : الأصل في تعال : ارتفع ثم كثر استعمالهم حتى قيل للمتعالي : تعال أي أنزل.

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً) قراءة أهل الحرمين والحسن وأبي عمرو

__________________

(١) الشاهد لدريد بن الصمة في ديوانه ٦٣ ، ولسان العرب (نوش) و (صيص) ، و (شيق) و (صيا) ، وكتاب العين ٧ / ١٧٦ ، وتهذيب اللغة ١٢ / ٢٦٦ ، وتاج العروس (صيص) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٢٤٢ ، والمخصص ١٢ / ٢٦٠.

وصدره : «غداة دعاني والمرماح ينشنه»

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٤١.

٢١٣

وعاصم ، وقرأ سائر الكوفيين ويعمل صالحا (١) وأبو عبيد يميل إلى هذه القراءة لأنه عطف على الأول. وقد أجمعوا على الأول بالياء فقرؤوا «ومن يقنت». قال أبو جعفر :

الثاني مخالف للأول ؛ لأن الأول محمول على اللفظ وليس قبله ما يتبعه ، والثاني قب له منكن وهذه النون للتأنيث فتعمل بالتاء أولى لأنه يلي مؤنثا وإن كان بالياء جائزا حسنا ، وبعده (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) بالتأنيث في السواد وكذا (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) أهل التفسير على أن الرزق الكريم هاهنا الجنة.

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ) ولم يقل : كواحدة لأنّ «أحدا» نفي عام يقع للمذكّر والمؤنّث ، والجميع على لفظ واحد. (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) في موضع جزم بالنهي إلّا أنه مبني كما بني الماضي ، هذا مذهب سيبويه (٢) ، وقال أبو العباس محمد بن يزيد حكاه لنا علي بن سليمان عنه ، ولا أعلمه في شيء من كتبه ، قال : إذا اعتلّ الشيء من جهتين وهو اسم منع الصرف فإذا اعتلّ من ثلاث جهات بني لأنه ليس بعد ترك الصرف إلا البناء فهذا الفعل معتلّ من ثلاث جهات : منها أن الفعل أثقل من الاسم وهو جمع ، والجمع أثقل من الواحد وهو للمؤنّث ، والمؤنّث أثقل من المذكر ، وهذا القول عند أبي إسحاق خطأ ، وقال : يلزمه ألّا يصرف فرعون إذا سمّي به امرأة لأن فيه ثلاث علل. (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) منصوب لأنه جواب النهي ، وقد بيّنّاه بأكثر من هذا ، وحكى أبو حاتم أن الأعرج قرأ (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (٣) بفتح الياء وكسر الميم. قال أبو جعفر : أحسب هذا غلطا وأن يكون قرأ (فَيَطْمَعَ الَّذِي) (٤)

بفتح الميم وكسر العين يعطفه على «يخضعن» وهذا وجه جيد حسن ، ويجوز «فيطمع» الذي بمعنى فيطمع الخضوع أو القول (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) هذه قراءة أبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي ، وقرأ أهل

__________________

(١) انظر تفسير الداني ١٤٥ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢١.

(٢) انظر الكتاب ١ / ٤٥.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ١١٩ ، والبحر المحيط ٧ / ٢٢٢.

(٤) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٢٢.

٢١٤

المدينة وعاصم (وَقَرْنَ) (١) بفتح القاف. و «قرن» بكسر القاف فيه تقديران : أما مذهب الفراء (٢) وأبي عبيد فإنه من الوقار ويقال : وقر يقر وقورا إذا ثبت في منزله ، والقول الآخر أن يكون من قرّ في المكان يقرّ بكسر القاف ، فيكون الأصل وقررن حذفت الراء الأولى استثقالا للتضعيف وألقيت حركتها على القاف فصار وقرن كما يقال : ظلت أفعل بكسر الظاء. فأما و «قرن» فقد تكلم فيه جماعة من أهل العربية فزعم أبو حاتم أنه لا مذهب له في كلام العرب ، وزعم أبو عبيد أن أشياخه كانوا ينكرونه من كلام العرب.

قال أبو جعفر : أما في قول أبي عبيد إنّ أشياخه أنكروه ، ذكر هذا في «كتاب القراءات» فإنه قد حكى في «الغريب المصنّف» (٣) نقض هذا. حكي عن الكسائي أنّ أهل الحجاز يقولون : قررت في المكان أقرّ. والكسائي من أجلّ مشايخه ، ولغة أهل الحجاز هي اللغة القديمة الفصيحة. وأما قول أبي حاتم : أنه لا مذهب له فقد خولف فيه ، وفيه مذهبان أحدهما ما حكاه الكسائي ، والآخر ما سمعت علي بن سليمان يقوله ، قال : هو من قررت به عينا أقرّ. فالمعنى : واقررن به عينا في بيوتكن ، وهذا وجه حسن إلّا أن الحديث يدلّ على أنه من الأول كما روي أن عمار قال لعائشة رضي الله عنهما : إنّ الله جلّ وعزّ أمرك أن تقرّي في منزلك ، فقالت : يا أبا اليقظان ما زلت قوّالا بالحقّ ، فقال : الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك. (وَلا تَبَرَّجْنَ) قال أبو العباس : حقيقة التبرّج إظهار الزينة وإظهار ما ستره أحسن ، وهو مأخوذ من السعة يقال : في أسنانه تبرّج إذا كانت متفرّقة. قال : و «الجاهلية الأولى» كما تقول : الجاهلية الجهلاء ، قال : وكانت النساء في الجاهلية الجهلاء يظهرون ما يقبح إظهاره حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخلمها فينفرد خلمها بما فوق الإزار إلى الأعلى. وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى الأسفل ، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل. (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) قال أبو إسحاق : قيل : يراد به نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل يراد به نساؤه وأهله الذين هم أهل بيته. قال أبو جعفر : والحديث في هذا مشهور عن أم سلمة وأبي سعيد الخدري أن هذا نزل في عليّ وفاطمة والحسن والحسين (٤) رضي الله عنهم ، وكان عليهم كساء ، وقوله «عنكم» يدلّ على أنه ليس للنساء خاصة. قال أبو إسحاق : (أَهْلَ الْبَيْتِ) نصب على المدح ، قال : وإن شئت على النداء. قال : ويجوز الرفع والخفض.

قال أبو جعفر : إن خفضت على أنه بدل من الكاف والميم لم يجز عند محمد بن يزيد ، قال : لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب ، لأنهما لا يحتاجان إلى تبيين. (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) مصدر فيه معنى التوكيد حوّلت المخاطبة على الحديث المروي إلى أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال جلّ وعزّ : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ).

__________________

(١) انظر البحر المحيط : ٧ / ٢٢٣.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٤٢.

(٣) انظر الغريب المصنّف ص ٢٦١.

(٤) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٢٤ ، وتفسير الطبري ٢٢ / ٦.

٢١٥

خفّفت النون الأولى لأنها بمنزلة واو المذكر ، تقول في المذكر واذكروا ، وثقّلت في الثاني لأنهما بمنزلة الميم والواو في قولك : في بيوتكم إلّا أن الواو يجوز حذفها لثقلها ، وأنّ قبلها ميما يدلّ عليها. (مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) أكثر أهل التفسير على أنّ الحكمة هاهنا السّنة وبعضهم يقول : هي من الآيات.

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ) اسم إن. (وَالْمُسْلِماتِ) عطف عليه ، ويجوز رفعهن عند البصريين. فأما الفراء فلا يجيزه إلّا فيما لا يتبيّن فيه الإعراب. (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) التقدير والحافظاتها ثم حذف ، ويجوز على هذا : ضربني وضربت زيد ، فإن لم تحذف قلت : وضربته ومثله : ونخلع ونترك من يفجرك ، وإن لم تحذف قلت :

وتتركه. وحكى سيبويه (١) : متى ظننت أو قلت زيدا منطلقا ، فإن لم تحذف قلت : متى ظننت أو قلت هو زيدا منطلقا ، وإن شئت قلت متى ظننت أو قلته زيدا منطلقا. فهذا كلّه على إعمال الأول ، فإن أعملت الثاني قلت: متى ظننت أو قلت زيد منطلق. هذه اللغة الجيدة ، وإن شئت قلت : متى ظننت أو قلت زيدا منطلقا ، على إعمال الثاني وتكون قلت عاملة كظننت. (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) مثله قال مجاهد : لا يكون ذاكرا الله كثيرا جلّ وعزّ قائما وجالسا ومضطجعا. وقال أبو سعيد الخدري : من أيقظ أهله بالليل فصلّيا أربع ركعات كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) قال الحسن : ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله بأمر ورسوله بأمر أن يعصياه ، وقرأ الكوفيون (٢) (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) وهو اختيار أبي عبيد لأنه قد فرق بين المؤنّث وبين فعله. قال أبو جعفر : القراءة بالياء جائزة فأما أن تكون مقدّمة على التاء فلأن اللفظ مؤنث فتأنيث فعله حسن ، والتذكير على أنّ (الْخِيَرَةُ) بمعنى التخيّر.

__________________

(١) انظر الكتاب ١ / ١٧٨.

(٢) انظر تيسير الداني ١٤٥.

٢١٦

(وَإِذْ تَقُولُ) في موضع نصب وهي غير معربة لأنها لا تتمكّن. (لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِوَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) قال بعض العلماء : لم يكن هذا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه ، وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلّا أن غيره أحسن منه وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتن الناس.

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) «من» زائدة للتوكيد (سُنَّةَ اللهِ) مصدر لأن قبله ما هو بمعنى سنّ ذلك.

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) قال أبو إسحاق : (الَّذِينَ) في موضع جرّ على النعت لقوله : (الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) قال :

ويجوز أن يكون في موضع رفع ، قال : ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح.

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) وقد كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولاد منهم إبراهيم والقاسم والطّيب ، والحسن والحسين رضي الله عنهم ولدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أن عيسى عليه‌السلام من ولد آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففي هذا جوابان : أحدهما ، وهو قول أبي إسحاق ، أن المعنى ما كان محمد أبا أحد ممن تبنّاه ولكنه أبو أمته في التبجيل والتعظيم ، وإنّ نساءه رضي الله عنهن عليهم حرام ، وجواب آخر يكون هذا على الحقيقة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وقت نزلت فيه هذه الآية لم يكن أبا أحد من الرجال ، ومن ذكرنا من إبراهيم والقاسم والطيّب ماتوا صبيانا. (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) قال الأخفش والفراء (١) : أي ولكن كان رسول الله وأجاز (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) بالرفع على إضمار مبتدأ ، وزعم الفراء (٢) أنه قد قرئ به ، وقرأ الحسن والشعبي وعاصم (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (٣) بفتح التاء أي آخر النبيين ، كما قرأ علقمة بن قيس خاتمه مسك [المطففين : ٢٦] أي آخره ، وخاتم من ختم فهو خاتم وفي قراءة عبد الله (٤) ولكنّ نبيا ختم النّبيّين ويقال للذي يلبس خاتم

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٤٤.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٤٤.

(٣) انظر تيسير الداني ١٤٥.

(٤) انظر مختصر ابن خالويه ٢٢٠ ، والبحر المحيط ٧ / ٢٢٨.

٢١٧

وخاتم وخيتام وخاتام. (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) خبر كان والتقدير : عليم بكلّ شيء.

قال محمد بن يزيد : الأصيل العشيّ وجمعه أصائل والأصل بمعنى الأصيل وجمعه آصال ، وقال غيره : أصل جمع أصيل كرغيف ورغف.

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) الأصل في الصلاة عند أهل اللغة الدعاء كما قال الأعشى : [البسيط]

٣٤٤ ـ عليك مثل الّذي صلّيت فاغتمضي

يوما فإنّ لجنب المرء مضطجعا (١)

أي الزمي مثل الدعاء الذي دعوت لي به لأن قبله :

٣٤٥ ـ تقول بنتي وقد قرّبت مرتحلا

يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا (٢)

ويروى : عليك مثل الذي صلّيت ، أي عليك مثل دعائك. وسمّيت الصلاة صلاة لما فيها من الدعاء ولهذا وغيره يقول فقهاء أهل المدينة يدعو في صلاته بما أراد ، إلّا أن محمد بن يزيد زعم أن أصل الصلاة : الترحّم ، وأخرجها كلّها من باب واحد ، والصلاة من الله رحمته عباده ، ومن الملائكة رقّة لهم واستدعاء الرحمة من الله جلّ وعزّ إيّاهم ، والصلاة من الناس لطلب الرحمة من الله جلّ وعزّ بأداء الفرض أو النفل. إلا أن في الحديث أن بني إسرائيل سألوا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصلي ربّك جلّ وعزّ فأعظم ذلك فأوحى جلّ وعزّ إليه أنّ صلاتي أي رحمتي سبقت غضبي. (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) قال الضحاك : «الظلمات» الكفر و «النور» الإيمان ، ويجوز «الظّلمات» تبدل من الضمة فتحة لخفّة الفتحة إلا أن الكسائي كان يقول : ظلمات جمع ظلم ، وظلم جمع ظلمة ، ومن قال : ظلمات حذف الضمة لثقلها.

(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) مبتدأ وخبر. وأجل ما روي فيه أن البراء بن عازب قال :

تحيّتهم يوم يلقونه سلام يسلّم ملك الموت على المؤمنين عند قبض روحه لا يقبض روحه حتى يسلم عليه ، وتأوله أبو إسحاق على أن هذا في الجنّة ، واستشهد بقوله :

__________________

(١) الشاهد للأعشى في ديوانه ١٥١ ، ولسان العرب (ضجع) ، و (صلا) ، وتهذيب اللغة ١٢ / ٢٣٦ ، وتاج العروس (ضجع).

(٢) الشاهد للأعشى في ديوانه ١٥١ ، ومقاييس اللغة ٣ / ٣٠٠ ، وتاج العروس (شفع).

٢١٨

(تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) وفرق محمد بن يزيد بين التحية والسّلام ، فقال : التحيّة تكون لكلّ دعاء والسلام فخصوص ، ومنه (يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) [الفرقان : ٧٥].

نصب على الحال. قال سعيد عن قتادة : (شاهِداً) على أمته بالبلاغ (وَمُبَشِّراً) بالجنة (وَنَذِيراً) من النار.

(وَداعِياً إِلَى اللهِ) أي إلى شهادة أن لا إله إلّا الله ، (بِإِذْنِهِ) قال : بأمره. (وَسِراجاً مُنِيراً) قال : كتاب الله جلّ وعزّ. قال أبو جعفر : التقدير على قوله وداعيا إلى توحيد الله جلّ وعزّ وذا سراج أي ذا كتاب بين ، وأجاز أبو إسحاق أن يكون بمعنى وتاليا كتابا.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ) والباء تحذف من مثل هذا ، ولا يجوز دخول اللام في الخبر.

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ) تأوّله أبو إسحاق بمعنى : دع الأذى الذي يؤذونك به أي لإنجازهم عليه حتى تؤمر فيهم بشيء. وتأوّله غيره لا تؤذهم وكان هذا عنده من قبل أن يؤمر بالقتال.

(فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) «من» زائدة للتوكيد. (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً) عطف أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة. (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) قال أبو إسحاق : إن وهبت نفسها للنبيّ حلّت له.

وقرأ الحسن أن وهبت بفتح الهمزة ، و «إن» في موضع نصب. قال أبو إسحاق : فهي لأن وهبت ، وقال غيره : إنّ وهبت بدل الاشتمال من امرأة (خالِصَةً) نصب على الحال.

(قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) قال قتادة الذي فرض جلّ

٢١٩

وعزّ عليهم في أزواجهم أنه لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدلين وصداق ، وأن لا يتزوج الرجل أكثر من أربع ، وقال غيره : يدلّ على هذا (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) [النور : ٣٢] ،

(وَلا تَعْضُلُوهُنَ) [النساء : ١٩] (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٣٢] مع ما يقوّي ذلك الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) فالذي فرض فيه ألّا يحلّ من النساء إلّا سبي من لا ذمة له (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) أي لا تتعدّ هذا ، وقيل : هو راجع على قوله : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) وما بعده.

ترجئ من تشاء منهنّ بالهمزة من أرجأت الأمر إذا أخّرته. ويقرأ (تُرْجِي) (١) بغير همز. وقد تكلم النحويون في الحيلة له فقال بعضهم : هي لغة وإن كانت ليست بالفصيحة ، ومنهم من قال : على بدل الهمزة على لغة من قال : قريت. قال أبو جعفر :

وسمعت علي بن سليمان يقول : الصحيح من قول سيبويه أنه لا يجيز بدل الهمزة لأن أبا زيد قال له : من العرب من يقول في قرأت قريت مثل رميت فقال سيبويه : كيف يقولون في المستقبل؟ قال : يقولون يقرأه قال له سيبويه : كان يجب أن يقولوا : يقرى مثل رميت أرمي. قال أبو الحسن : وهذا من كلام سيبويه يدلّ على أنه لا يجوز عنده ، قال : وسمعت محمد بن يزيد يقول : هو من رجا يرجو مشتق ، يقال : رجا وأرجيته أي جعلته يرجو. (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) قد ذكرناه (٢). وقيل فيه : ذلك أقرب ألّا يحزن إذا لم تجتمع أحداهن مع الأخرى ، وتعاين الأثرة والميل. (وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) على توكيد المضمر أي ويرضين كلّهن ، وأجاز أبو حاتم وأبو إسحاق (وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) على التوكيد للمضمر الذي في «آتيتهنّ» ، والفراء (٣) لا يجيزه لأن المعنى ليس عليه إذ كان المعنى وترضى كلّ واحدة منهن ، وليس المعنى بما أتيتهن كلّهن. قال أبو جعفر : والذي قال حسن.

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) قال الفراء (٤) : اجتمعت القراء على القراءة بالياء

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ١٢٠ ، والبحر المحيط ٧ / ٢٣٤.

(٢) انظر إعراب الآية ٣٣ ـ الأحزاب.

والبحر المحيط ٧ / ٢٣٥.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٤٣٦.

(٤) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٤٦.

٢٢٠