إعراب القرآن - ج ٣

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٠

(مِنَ) في موضع رفع بالابتداء ، ويجادل على اللفظ ، ويجوز في غير القرآن يجادلون على المعنى. (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) يقال : مريد ومارد للمتجاوز في الشرّ القويّ فيه ، وصخرة مرداء أي ملساء ، ومنه قيل : أمرد.

(كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) (أن) في موضع رفع (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) عطف عليه ومذهب سيبويه أنّ «أنّ» الثانية مكررة للتوكيد ، وأن المعنى : كتب عليه أنه من تولّاه يضلّه. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : التقدير : كتب عليه أنه من تولّاه فالواجب أن يضلّه بفتح الهمز ، ومن زعم أنّ «أنّ» في موضع رفع بالابتداء فقد أخطأ ، لأنّ سيبويه منع أن يبتدأ بأنّ المفتوحة ، وأجاز سيبويه (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) بكسر الهمزة لأن الفاء جواب للشرط فسبيل ما بعدها أن يكون مبتدأ ، والابتداء بأن يكون مكسورا. (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) مجاز لمّا كان يأمره بما يؤديه إلى النار قام ذلك مقام الهداية إليها.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) وحكى النحويون : من البعث ، وأجاز الكوفيون في كلّ ما كان ثانية حرفا من حروف الحلق أن تسكّن وتفتح نحو نعل ، ونعل وبخل وبخل. قال أبو إسحاق : هذا خطأ وإنما يرجع في هذا إلى اللغة فيقال : لفلان عليّ وعد ولا يقال : وعد ، ولا فرق بين حروف الحلق وغيرها في هذا ، وإنما هذا مثل قدر وقدر. قال أبو عبيد : العلقة الدمّ إذا اشتدّت حمرته. قال الكسائي : ويجوز (مُخَلَّقَةٍ) (١) بالنصب (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) على الفعل والقطع. (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أي لنبيّن لكم قدرتنا على تصويرنا ما نشاء. وروى أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ) (٢) (فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) بالنصب. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً).

قال أبو حاتم : النصب على العطف. قال أبو إسحاق : (وَنُقِرُّ) (٣) بالرفع لا غير ؛ لأنه

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٢١٥ ، نصب على الحال.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٧.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٧.

٦١

ليس المعنى فعلنا ذلك لنقرّ في الأرحام ما نشاء لأن الله جل وعز لم يخلق الأنام ليقرّ في الأرحام ما نشاء ، وإنّما خلقهم ليدلّهم على الرشد والصلاح. قال : وطفل بمعنى أطفال قال : ودلّ على ذلك لفظ الجميع قال : وفيه معنى ويخرج كلّ واحد منكم طفلا.

ومن قرأ (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) (١) فمعناه عنده يستوفي أجله. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي إلى الكبر ؛ لأنه لا يرجو قوّة ولا طول عمر فهو في أرذل العمر (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) مذهب الفراء (٢) لكي لا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئا. (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) قال الكسائي : يقال : بهج بهجة وبهاجة.

موضع «ذلك» رفع بمعنى الأمر ذلك. قال أبو إسحاق : يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى فعل الله ذلك لأنه الحق.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) في موضع رفع بالابتداء.

(ثانِيَ عِطْفِهِ) نصب على الحال. ويتأوّل على معنيين : أحدهما أنه روي عن ابن عباس أنه قال : هو النّضر بن الحارث لوى عنقه مرحا وتعظّما ، والمعنى الآخر ، وهو قول الفراء (٣) : إن التقدير : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ثاني عطفه أي معرضا عن الذكر.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) قال أبو إسحاق : «ذلك» في موضع رفع بالابتداء وخبره (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ. وَأَنَّ اللهَ) في موضع خفض عطفا على الأول ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على معنى «والأمر أنّ الله ليس بظلام للعبيد». قال : ويجوز الكسر «وإنّ الله».

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) في موضع رفع بالابتداء ، والتمام (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٢٨ ، ومختصر ابن خالويه ٩٤.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٢١٦.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٢١٦.

٦٢

على قراءة من قرأ (خَسِرَ) (١) وقرأ مجاهد وحميد خاسر الدنيا والآخرة (٢) نصبا على الحال خسر الدنيا بذمّ الله جل وعز إياه وأمره بلعنه وأن لا حظّ له في غنيمة ولا ثناء وخسر الآخرة بأن لا ثواب له فيها.

(ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) قال الفراء : أي الطويل.

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) قد ذكرنا فيه أقوالا : منها قول الكسائي إن اللام في غير موضعها ، وإن التقدير يدعو من لضرّه أقرب من نفعه. قال أبو جعفر : وليس للام من التصرف ما يوجب أن يجوز فيها تقديم وتأخير. وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال : في الكلام حذف ، والمعنى : يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه إلها. قال : وأحسب هذا القول غلط على محمد بن يزيد ؛ لأنه لا معنى له لأنّ ما بعد اللام مبتدأ فلا يجوز نصب إله ، وما أحسب مذهب محمد بن يزيد إلّا قول الأخفش سعيد ، وهو أحسن ما قيل في الآية عندي ، والله أعلم. قال : «يدعو» بمعنى يقول و «من» مبتدأ وخبره محذوف ، والمعنى : يقول لمن ضرّه أقرب من نفعه إلهه ، ولو كانت اللام مكسورة لكان المعنى يدعو إلى من ضرّه أقرب من نفعه. وقال الله جلّ وعزّ : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة : ٥] أي إليها. (لَبِئْسَ الْمَوْلى) في موضع رفع ببئس. وقد شرحنا مثل هذا (٣).

قد تكلّم النحويون في معنى هذه الآية وفي بيان ما أشكل منها. فمن أحسن ما قيل فيها أنّ المعنى : من كان يظنّ أن لن ينصر الله جلّ وعزّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه يتهيّأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه ، فليمدد بسب إلى السماء أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) أي ثم ليقطع النصر إن تهيّأ له (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) وحيلته ما يغيظه من نصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيّأ له الكيد والحيلة بأن يفعل

__________________

(١) هذه قراءة الجمهور ، انظر البحر المحيط ٦ / ٣٣٠.

(٢) وهذه قراءة الأعرج وابن محيصن وقعنب والجحدري وابن مقسم أيضا ، انظر البحر المحيط ٦ / ٣٣٠ ، والمحتسب ٢ / ٧٥.

(٣) مرّ في إعراب الآية ١٥١ ، آل عمران.

٦٣

مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر. وقرأ أهل الكوفة بإسكان اللام. وهذا بعيد في العربية ؛ لأن ثمّ ليست مثل الواو والفاء لأنها يوقف عليها وتنفرد.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) خبر «إن». (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) قال الفراء (١) ولا يجوز في الكلام : إنّ زيدا إنّ أخاه منطلق ، فزعم أنه إنما جاز في الآية لأن في الكلام معنى المجازاة أي من آمن ، ومن تهوّد ، أو تنصّر ، أو صبأ ، ففصل ما بينهم وحسابهم على الله عزوجل ، وردّ أبو إسحاق على الفراء هذا واستقبح قوله : إنّ زيدا إنّ أخاه منطلق. قال : لأنه لا فرق بين زيد وبين الذي ، «وإنّ» تدخل على كل مبتدأ فتقول : إنّ زيدا هو منطلق ، ثم تأتي بإنّ فتقول: إنّ زيدا إنّه منطلق.

معطوفة على «من» وكذا (وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ثم قال جلّ وعزّ : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) وهذا مشكل من الإعراب. فيقال : كيف لم ينصب ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل مثل (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [الإنسان : ٣١] فزعم الكسائي والفراء (٢) أنه لو نصب لكان حسنا. ولكن اختير الرفع لأنّ المعنى : وكثير أبى السجود ، وفي رفعه قول آخر ، يكون معطوفا على الأول داخلا في السجود ؛ لأن السجود هاهنا إنّما هو الانقياد لتدبير الله جل وعز من ضعف وقوّة وصحّة وسقم وحسن وقبح ، وهذا يدخل فيه كل شيء. وحكى الكسائي والأخفش والفراء (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) (٣) أي من إكرام.

قرأ ابن كثير وشبل (هذانِ خَصْمانِ) بتشديد النون ، وفي ذلك قولان : أحدهما أن تشديدها عوض مما حذف من هذين ، والآخر على أنها غير ساقطة في الإضافة. وتأوّل

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٢١٨.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٢١٩.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٣٤.

٦٤

الفراء (١) (٢) الخصمين على أنهما فريقان أهل دينين ، وزعم أنّ الخصم الواحد المسلمون ، والآخر اليهود والنصارى ، اختصموا في دين ربهم. قال : فقال : اختصموا لأنهم جميع.

قال : ولو قال اختصما لجاز. قال أبو جعفر : وهذا تأويل من لا دربة له بالحديث ، ولا بكتب أهل التفسير ، لأن الحديث في هذه الآية مشهور رواه سفيان الثوري وغيره عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما إنّ هذه الآية نزلت في حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة ، وهكذا روى أبو عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس (٣).

(يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) رفع بفعل ما لم يسمّ فاعله. (وَالْجُلُودُ) عطف على «ما». قال الكسائي. يقال : صهرته أنضجته. والكوفيون يقولون : معنى والجلود :

وجلودهم.

قال أبو إسحاق ويقرأ ويحلون (٤) فيها من أساور من ذهب على قولك : حلي يحلى إذا صار ذا حلي ، قال : (وَلُؤْلُؤاً) بمعنى ويحلّون لؤلؤا ، قال : و «لؤلؤ» بمعنى :

ومن لؤلؤ. قال : ويجوز أن يكون ذلك خلطا منهما.

(وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) فيه ثلاثة أوجه : يكون في اللغة على العموم ، وقيل : الطيب من القول البشارات الحسنة ، وقيل : هو قولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤].

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) اسم «إنّ» و (كَفَرُوا) صلته (وَيَصُدُّونَ) عطف على الذين كفروا. فإن قيل : كيف يعطف مستقبل على ماض؟ ففيه ثلاثة أوجه : منها أن يكون عطف جملة على جملة ، ومنها أن يكون في موضع الحال ، كما تقول : كلّمت زيدا

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٢٧.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٢١٩.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٣٤.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٣٥ ، ومختصر ابن خالويه ٩٤ ، والمحتسب ٢ / ٧٧.

٦٥

وهو جالس ، وقال أبو إسحاق : هو معطوف على المعنى لأن المعنى إنّ الكافرين والصادين عن المسجد الحرام. وفي خبر «إنّ» ثلاثة أوجه : أصحّها أن يكون محذوفا ، ويكون المعنى : إنّ الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله هلكوا ، وقيل : المعنى : إنّ الذين كفروا يصدّون عن سبيل الله والواو مقحمة. قال أبو جعفر : في كتابي عن أبي إسحاق قال : وجائز أن يكون ، وهو وجه الخبر (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ). قال أبو جعفر : هذا غلط ، ولست أعرف ما الوجه فيه ؛ لأنه جاء بخبر إنّ جزما ، وأيضا فإنه جواب الشرط ، ولو كان خبرا لبقي الشرط بلا جواب ولا سيما والفعل الذي للشرط مستقبل فلا بد له من جواب.

(الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) (١). فيه ثلاثة أوجه من القراءات : قراءة العامة برفع سواء والعاكف والبادي ، وعن أبي الأسود الدؤلي أنه قرأ سواء العاكف فيه والبادي بنصب سواء ورفع العاكف والبادي ، وتروى هذه القراءة عن الأعمش باختلاف عنه ، والوجه الثالث (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً) (٢) منصوبة منونة.

(الْعاكِفُ) فيه بالخفض. فالقراءة الأولى فيها ثلاثة أوجه : يكون الذي جعلناه للناس من تمام الكلام ثم تقول سواء فترفعه بالابتداء ، وخبره العاكف فيه والبادي ، والوجه الثاني أن ترفع سواء على خبر العاكف ، وتنوي به التأخير أي العاكف فيه والبادي سواء ، والوجه الثالث أن تكون الهاء التي في جعلناه مفعولا أول ، وسواء العاكف فيه والبادي في موضع المفعول الثاني ، كما تقول : ظننت زيدا أبوه خارج ، ومن هذا الوجه تخرج قراءة من قرأ بالنصب «سواء» يجعله مفعولا ثانيا ، ويكون العاكف فيه رفعا إلّا أن الاختيار في مثل هذا عند سيبويه الرفع ؛ لأنه ليس جاريا على الفعل ، والقراءة الثالثة على أن ينصب «سواء» لأنه مفعول ثان ويخفض «العاكف» لأنه نعت للناس ، والتقدير :

الذي جعلناه للناس العاكف فيه والبادي سواء (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) شرط ؛ وجوابه (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ). وروى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) قال : الشرك. وقال عطاء : الشرك والقتل. وقد ذكرنا هذه الآية.

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) في دخول اللام ثلاثة أوجه : لأنه يقال : بوّأت زيدا منزلا ، فأخذ الثلاثة الأوجه أن تحمله على معنى جعلنا لإبراهيم مكان البيت

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٣٦ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٤٣٥.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٣٦ ، وهي قراءة الأعمش وحفص.

٦٦

مبوّءا ، والوجه الثاني أن تكون اللام متعلقة بالمصدر مثل «ومن يرد فيه بإلحاد» ، والوجه الثالث أن تكون اللام زائدة ، وهذا قول الفراء (١). قال : مثل (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) في «أن» ثلاثة أوجه : قال الكسائي : في المعنى «بأنّ لا» ، والوجه الثاني أن تكون «أن» بمعنى أي مثل (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) [ص : ٦] ، والوجه الثالث تكون «أن» زائدة لتوكيد مثل (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) [يوسف : ٦٩] وفي قوله : (لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) وفي (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) وما بينهما من المخاطبة ثلاثة أوجه كلّها عن العلماء : فأما قول المتقدّمين فإنّ هذا كلّه مخاطبة لإبراهيم عليه‌السلام. كما روى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال لإبراهيم عليه‌السلام : (أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) فجعل لا يمرّ بقوم إلّا قال : إنه قد بني لكم بيت فحجوه فأجابه كل شيء من صخرة وشجرة وغيرها بلبّيك اللهمّ لبّيك. وروى حماد بن سلمة عن أبي عاصم الغنويّ عن أبي الطفيل قال:

قال ابن عباس : أتدري ما كان أصل التلبية؟ قلت : لا ، قال : لمّا أمر إبراهيم عليه‌السلام أن يؤذّن في الناس بالحجّ خفضت الجبال رؤوسها له ، ورفعت له القرى ، فنادى في الناس بالحجّ فأجابه كلّ شيء بلبيّك اللهمّ لبّيك ، فهذا وجه. وقيل : (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) لإبراهيم عليه‌السلام. وتمّ الكلام. ثم خاطب الله جلّ وعزّ محمدا عليه‌السلام فقال : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) أي أعلمهم أن عليهم الحجّ ، والوجه الثالث أنّ هذا كله مخاطبة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا قول أهل النظر ؛ لأن القرآن أنزل على النبيّ عليه‌السلام فكلّ ما فيه من المخاطبة فهي له إلّا أن يدلّ دليل قاطع على غير ذلك ، وهاهنا دليل آخر يدلّ على أنّ المخاطبة للنبيّ عليه‌السلام وهو «أنّ لا تشرك» بالتاء ، وهذا مخاطبة لمشاهد ، وإبراهيم عليه‌السلام غائب. فالمعنى على هذا وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله جلّ وعزّ ، وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده فلا تشرك بي شيئا ، وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ، وأذن في الناس بالحجّ. قيل : المعنى أعلمهم أنك تحجّ حجّة الوداع ليحجّوا (يَأْتُوكَ رِجالاً) نصب على الحال. (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ) فيه ثلاثة أوجه : «يأتين» لأن معنى ضامر معنى ضوامر ، فنعته بيأتين ، وفي بعض القراءات يأتون (٢) يكون للناس.

قال الفراء : ويجوز يأتي على اللفظ.

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) وقرأ أهل الكوفة بإسكان باللام (٣) ، وهو وجه بعيد في

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٢٣.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٩٥ ، وهي قراءة ابن مسعود.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٢٤.

٦٧

العربية لأن ثمّ يوقف عليها ، ولا يجوز أن يبتدأ بساكن وجوازه على بعد «ثمّ» عاطفة كالواو والفاء وفتحت الميم من ثمّ لالتقاء الساكنين ، ولا يجوز ضمّها ولا كسرها ؛ لأنها لا تنصرف. والتقدير في العربية : ثم ليقضوا أجل تفثهم ، مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) فيه ثلاثة أوجه : كسر اللام على الأصل ، وإسكانها لثقل الكسرة ، والوجه الثالث أن عاصما قرأ (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) (١).

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) أي الأمر ذلك من الفروض والمعنى ومن يعظم عنده فعل الحرام تعظيما لله جلّ وعزّ وخوفا منه. (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) ابتداء وخبر. (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) في موضع نصب على الاستثناء. (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (من) عند النحويين لبيان الجنس إلّا أنّ الأخفش زعم أنها للتبعيض أي : فاجتنبوا الرجس الذي هو من الأوثان أي عبادتها. وهو قول غريب حسن.

(حُنَفاءَ) نصب على الحال وكذا (غَيْرَ مُشْرِكِينَ. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) أي هو يوم القيامة لا يملك لنفسه نفعا ، ولا يدفع عن نفسه عذابا بمنزلة من خرّ من السماء فهو لا يقدر أن يدفع عن نفسه ما هو فيه (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) أي تقطّعه بمخالبها ، ولا يمكن دفعها عن نفسه. وفي «تخطفه» ثلاثة أوجه سوى هذا. قرأ الأعرج (فَتَخْطَفُهُ) (٢) بفتح التاء والخاء وتشديد الطاء ، وقرأ أبو رجاء (فَتَخْطَفُهُ) (٣) بفتح التاء وكسر الخاء وتشديد الطاء ، وتروى هذه القراءة عن الحسن ، والوجه الثالث يروى عن الحسن (فَتَخْطَفُهُ) بكسر التاء والخاء وتشديد الطاء. فقراءة الأعرج الأصل فيها فتختطفه ثم أدغم التاء في الطاء وألقى حركة التاء على الخاء. وقراءة أبي رجاء على أنه كسر الخاء لالتقاء الساكنين ، والقراءة الآخرة على هذا إلّا أنه كسر التاء على لغة من قال : أنت تضرب. والسحيق : البعيد.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٣٩ ، وهي قراءة شعبة أيضا ، والجمهور مخفّفا.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٠ ، وهي قراءة نافع أيضا.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٠ ، وهي قراءة الحسن والأعمش أيضا.

٦٨

(ذلِكَ) فيه ثلاثة أوجه : يكون في موضع رفع بالابتداء أي ذلك أمر الله جل وعزّ ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر مبتدأ محذوف ، ويجوز أن يكون في موضع نصب أي اتّبعوا ذلك من أمر الله جلّ وعزّ في الحجّ. (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) أحسن ما قيل فيه أن المعنى ومن يعظّم ما أمر به في الحجّ. سمّي شعائر ؛ لأن الله جلّ وعزّ أشعر به أي أعلم به وتعظيمه إيّاه أن لا يعصي الله جلّ وعزّ فيه (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) أي من تقوى الإنسان ربّه بقلبه ، وهو مجاز.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم وقرأ الكوفيون إلّا عاصما (مَنْسَكاً) (١) بكسر السين. قال : وفي كتابي عن أبي إسحاق منسك بفتح السين مصدر بمعنى النّسك والنّسوك ، ومنسك أي مكان نسك مثل مجلس. قال أبو جعفر : وهذا غلط قبيح إنما يكون هذا في فعل يفعل نحو جلس يجلس والمصدر مجلس والموضع مجلس فأما فعل يفعل فلا يكون منه مفعل اسما للمكان ، ولا مصدرا إلّا أن يسمع شيء فيؤدّى على ما سمع ، على أن الكثير من كلام العرب منسك ، وهو القياس ، والباب ، ومنسك يقع في كلام العرب على ثلاثة أوجه : يكون مصدرا ، ولظرف الزمان ، ولظرف المكان. قال الفراء (٢) المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير أو شرّ. وقيل : مناسك الحج لترداد الناس إليها. (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي لا تذكروا على ذبائحكم اسم غيره (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) عن أهل التفسير فيه ثلاثة أقوال :

قال عمرو بن أوس : المخبت الذي لا يظلم وإذا أظلم لم ينتصر. وقال الوليد بن عبد الله : المخبتون : المخلصون لله جلّ وعزّ. وقال مجاهد : هم المطمئنّون بأمر الله جلّ وعزّ. قال أبو جعفر: الخبت من الأرض : المكان المطمئنّ المنخفض ، فاشتقاقه من هذا.

(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أن يعصوه فيعاقبوا. (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) أي يصبرون على الشدائد في الطاعة والنهي عن المنكر (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) فيه ثلاثة أوجه :

(وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) بالخفض على الإضافة وتحذف النون منها ، ويجوز النصب مع

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤١ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٤٣٦.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٣٠.

٦٩

حذف النون لأن الألف واللام بمعنى الذي ، هذا قول سيبويه (١). وقال أحمد بن يحيى : جاز النصب مع حذف النون يجريه مجرى الواحد ؛ لأنك في الواحد تنصبه فتقول : هو الآخذ درهما ، والوجه الثالث في الكلام والمقيمين الصّلاة على الأصل.

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ) منصوبة بإضمار فعل مثل الثاني ، وقرأ ابن أبي إسحاق والبدن(٢) بضم الباء والدال ، وكذا روي عن عيسى والحسن وأبي جعفر. وحكى الفراء أنه يقال للواحدة بدنة وبدن. قال أبو جعفر : فبدن وبدن مثل وثن ووثن ، وبدن يقال : إنه جمع الجمع أي بدنة وبدان وبدن. فإن قال قائل : فلم صار بدنة وبدن أفصح ، وخشبة وخشب أفصح ، والوزن واحد؟ فالجواب أنّ بدنة في الأصل نعت من البدانة ، وهي السمن ، وخشية ليست بنعت والنعت أولى بالتسكين ، وما ليس بنعت أولى بالحركة. ألا ترى إلى قولهم : خذلة وخذلات ، وحلوة وحلوات ، وجفنة وجفنات ، وظلمة وظلمات. (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) فيه ثلاثة أوجه قد قرئ بها :

قراءة العامة (صَوافَ) ، وعن الحسن والأعرج صوافي فإذا (٣) جمع صافية ، الخالصة. وعن عبد الله بن مسعود صوافن (٤) جمع صافنة. قال الفراء (٥) : الصافنة القائمة ، وحكى غيره أنها القائمة على ثلاث ، وحكى أبو عبيدة أن الصافنة التي قد جمعت رجليها ورفعت سنبكها ، وقال أبو عمر الجرمي : الصافن عرق في مقدّم الرجل فإذا ضرب على الفرس رفع رجليه (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) قال مقسم عن ابن عباس قال : فإذا وقعت على جنوبها.

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها) على تذكير الجمع ، ويقال على تأنيث الجماعة (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى) لأن التّقوى والتّقى واحد ، ويناله على لفظ التقوى. (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) أي الذين أحسنوا في أداء ما عليهم.

__________________

(١) انظر الكتاب ١ / ٢٤٣.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٩٥ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٤٢.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٢ ، ومعاني الفرّاء ٢ / ٢٢٦. ومختصر ابن خالويه ٩٥.

(٤) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٢٦.

(٥) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٢٦.

٧٠

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) فيه ثلاثة أوجه من القراءات : هذه التي ذكرناها قراءة أهل المدينة ، وقرأ أبو عمرو وعاصم (أُذِنَ) (١) كما قرأ أهل المدينة وقرأ يقاتلون بكسر التاء ، وقرأ الكوفيون إلّا عاصما أذن (٢) بفتح الهمزة والذين يقاتلون بكسر التاء والمعاني في هذا متقاربة لأنهم قد قاتلوا وقوتلوا إلّا أن قراءة أهل المدينة في هذا أصحّ معنى ، وأبين من وجهين : أحدهما أنه قد صحّ عن ابن عباس أنها أول آية نزلت في القتال. قال أبو جعفر : كما حدّثنا أبو الحسن محمد بن محمد قال : حدّثنا محمد بن حمّاد الطهرانيّ قال : أخبرنا عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن مسلم عن سعيد عن ابن عباس أنه يقرأها (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) وقال : هي أول آية أنزلت في القتال.

قال الطهراني : لا أدري كيف القراءة فإذا كانت أول آية أنزلت في القتال فهم لم يقاتلوا بعد. فيبعد أن يكون (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) وكان يقاتلون بيّنا ، والجهة الأخرى أن بعده «بأنّهم ظلموا» ، وبعده (الَّذِينَ أُخْرِجُوا) فوجب أيضا أن يكون «يقاتلون» بأنهم ظلموا ولأنهم ظلموا واحد ، كما تقول : جزيته ببغيه ولبغيه. قال أبو إسحاق : ولا يجوز : وأنّ الله على نصرهم لقدير. بفتح الهمزة لأن إنّ إذا كانت معها اللام لم يجز فتحها.

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) في موضع خفض بدلا من الذين. (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) في موضع نصب على مذهب سيبويه استثناء ليس من الأول ، وقال الفراء (٣) : يجوز أن تكون «أن» في موضع خفض يقدّرها مردودة على الباء ، وهو قول أبي إسحاق ، والمعنى عنده : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلّا بأن يقولوا : ربّنا الله أي أخرجوا بتوحيدهم. أخرجهم أهل الأوثان. (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) روي عن أبي الدّرداء أنه قال: لو لا أنّ الله جلّ وعزّ يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد ، وبمن يغزو عمن لا يغزو لأراهم العذاب ، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : لو لا أن الله جلّ وعزّ يدفع بأخذ الحقوق بالشهادات (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ) ولم ينصرف ، صوامع ومساجد ، لأنهما جمعان ، وهما نهاية الجموع فثقلا فمنعا الصّرف. وكذلك كل جمع ثالث حروفه ألف وبعد الألف حرفان أو ثلاثة. وقوله جلّ وعزّ (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) الذي يجب في كلام العرب على حقيقة النظر

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٦ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٤٣٧.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٢٧.

٧١

أن يكون يذكر فيها اسم الله عائدا على المساجد لا على غيرها لأن الضمير يليها ، ويجوز أن يكون يعود على صوامع وما بعدها. ويكون المعنى : في وقت شرائعهم وإقامتهم الحدود والحقّ.

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) قال أبو إسحاق : (الَّذِينَ) في موضع نصب ردا على «من» يعني في «ولينصرنّ الله من ينصره» ، وقال غيره : «الذين» في موضع خفض ردّا على قوله (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) ، ويكون (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) لأربعة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يمكّن في الأرض غيرهم من الذين قيل فيهم : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وبهذه الآية يحتجّ في إمامة أبي بكر وعمر وغيرها من الآي. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا (١) ما في (وَثَمُودُ) من الصّرف وتركه.

(وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) قال الضحاك : أي متروكة ، وقرأ الجحدري (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) (٢) وإن المعنى واحد ، وفي هذا أعظم الموعظة. وعظهم الله جلّ وعزّ بقوم قد أهلكوا وبقيت آثارهم يعرفونها. قال الأصمعي : سألت نافع بن أبي نعيم أتهمز البئر والذئب فقال : إذا كانت العرب تهمزها فأهمزها ، وأكثر الروايات عن نافع بهمزهما إلّا ورشا فإنّ روايته عنه بغير همز فيهما ، والأصل الهمز. قال أحمد بن يحيى : الذئب مشتقّ من تذاءبت الريح ، إذا جاءت من وجوه كثيرة ، وكذلك الذئب. قال أبو جعفر : فإذا حذفت الهمزة ، وهي ساكنة لم يكن بعد السكون إلّا قلبها إلى ما أشبه ما قبلها. والفراء يذهب إلى أن «وبئر» معطوفة على عروضها ، وأبو إسحاق يذهب إلى أنها معطوفة من «قرية» أي ومن بئر ، ثم قال : «أخذتها وإلى المصير». قال أبو إسحاق : أي بالعذاب ، ثم حذف ؛ لأن قبله ما يدلّ عليه (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ).

هذه آية مشكلة من جهتين : إحداهما أن قوما يرون أن الأنبياء فيهم مرسلون وغير

__________________

(١) مرّ في إعراب الآية ٧٣ من سورة الأعراف.

(٢) وهذه قراءة الحسن وجماعة أيضا ، مخفّفة ، انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٨ ، ومختصر ابن خالويه ٩٦.

٧٢

مرسلين ، صلوات الله عليهم أجمعين. وغيرهم يذهب إلى أنه لا يجوز أن يقال : نبيّ حتى يكون مرسلا. والدليل على صحة هذا قوله جلّ وعزّ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) فأوجب للنبيّ الرسالة. وإنّ معنى نبيّ أنبأ عن الله جلّ وعزّ ، ومعنى أنبأ عن الله جلّ وعزّ هو الإرسال بعينه. والجهة الأخرى التي فيها الإشكال الحديث المروي. قال أبو جعفر : وقد ذكرناه بإسناده وهو أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : «أفرأيتم اللات والعزّى فإنّ شفاعتهم ترتجى» (١) وسها كذا في رواية الزّهري ، وفي رواية غيره «فإنهن الغرانيق العلى». قال أبو جعفر : وهذا يجب أن يوقف على معناه من جهة الدين لطعن من طعن فيه من الملحدين. فأول ذلك أنّ الحديث ليس بمتصل الإسناد ، ولو اتّصل إسناده وصحّ لكان المعنى فيه صحيحا. فأما معنى «وسها» فإنّ معناه وأسقط. ويكون تقديره (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) وتمّ الكلام ، ثمّ أسقط والغرانيق العلى ، يعني الملائكة فإن شفاعتهم ، يعود الضمير على الملائكة. فأمّا من روى «فإنّهنّ الغرانيق العلى» ففي روايته أجوبة عنها أن يكون القول محذوفا كما تستعمل العرب في أشياء كثيرة ، ويجوز أن يكون بغير حذف ، ويكون توبيخا ؛ لأن قبله أفرأيتم فيكون هذا احتجاجا عليهم. فإن كان في الصلاة فقد كان الكلام مباحا في الصلاة ، ويجوز أن يكون الضمير للملائكة كما يضمر ما يعرف معناه فينسخ الله جلّ وعزّ ذلك لما فيه من الصلاح. والذي فيه من الصلاح إزالة التمويه أن يموّه على قوم فيقال لهم : هذا الضمير للّات والعزّى ، فأنزل الله جلّ وعزّ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) وفي الآية قولان آخران : أحدهما أن يكون المعنى لمّا تلا (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) قال رجل ألقى الشيطان على لسانه : فإنهنّ الغرانيق العلى ، والقول الآخر أنّ علي بن أبي طلحة روى عن ابن عباس في قوله الله جلّ وعزّ :

(إِلَّا إِذا تَمَنَّى) قال : إذا تحدّث ألقى الرداءة الشيطان في أمنيته ، قال : في حديثه (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) قال : فيبطل الله ما يلقي الشيطان. وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجلّه. وقد قال أحمد بن محمد بن حنبل : بمصر صحيفة في التّفسير رواها عليّ بن أبي طلحة لو رحل فيها رجل إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا.

والمعنى عليه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حدّث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة ، فيقول له : لو سألت الله جلّ وعزّ أن يغنّمك كذا ليتّسع المسلمون ، ويعلم الله جلّ وعزّ الصّلاح في غير ذلك فيبطل ما يلقي الشيطان ، كما قال ابن عباس وحكى الكسائي والفراء (٢) جميعا تمنّى إذا حدّث نفسه. وهذا هو المعروف في اللغة. وقد حكيا أيضا تمنّى إذا تلا ، وروي ذلك عن الضحاك.

__________________

(١) انظر تفسير القرطبي ١٢ / ٨٠.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٢٩.

٧٣

وحكى أبو عبد الرحمن السلمي (فِي مِرْيَةٍ) بضم الميم والكسر أعرف (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) قال محمد بن يزيد : هو مصدر في موضع الحال (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) سمّي يوم القيامة عقيما لأنّه ليس يعقب بعده يوما مثله.

فتصبح ليس بجواب وإنما هو خبر عند الخليل رحمه‌الله. قال الخليل : المعنى انتبه أنزل من السماء ماءا فكان كذا وكذا كما قال : [الطويل]

٣٠٤ ـ ألم تسأل الرّبع القوّاء فينطق

وهل تخيرنك اليوم بيداء سملق (١)

وقال الفراء (٢) : «ألم تر» خبر ، كما تقول في الكلام : اعلم أنّ الله تبارك وتعالى ينزل من السماء ماءا فتصبح الأرض مخضرة.

(وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) وسخر الفلك ، ويجوز أن يكون المعنى وأنّ الفلك ، ويجوز الرفع على الابتداء (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ) في موضع نصب أي ويمسك السماء كراهة أن تقع على الأرض.

(قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) فيها ثلاثة أوجه : الرفع بمعنى هو النار أو هي

__________________

(١) الشاهد لجميل بثينة في ديوانه ١٣٧ ، والأغاني ٨ / ١٤٦ ، وخزانة الأدب ٨ / ٥٢٤ ، والدرر ٤ / ٨١ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٠١ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٤٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٧٤ ، وشرح المفصّل ٧ / ٣٦ ، ولسان العرب (سملق) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٠٣ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ١٨٥ ، والجنى الداني ص ٧٦ ، والدرر ٦ / ٨٦ ، والردّ على النحاة ص ١٢٧ ، والكتاب ٣ / ٣٧ ، ورصف المباني ص ٣٧٨ ، ولسان العرب (حدب) ومغني اللبيب ١ / ١٦٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ١١.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٢٩.

٧٤

النار ، والخفض على البدل ، والنصب فيه ثلاثة أوجه : يكون بمعنى أعني ، وعلى إضمار فعل مثل الثاني ، ويكون محمولا على المعنى أي أعرّفكم بشرّ من ذلكم النار.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) أحسن ما قيل فيه أنّ المعنى ضرب لله جلّ وعزّ مما يعبد من دونه مثل.

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) قال أبو إسحاق : قيل : إن هذا منسوخ. قال : وكذا (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] قال أبو جعفر : وهذا مما لا يجوز أن يقع فيه نسخ ، لأنه واجب على الإنسان ، كما روى حيوة بن شريح عن أبي هاني الخولاني عن عمرو بن مالك عن فضالة بن عبيد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المجاهد من جاهد نفسه لله جلّ وعزّ» (١) ، وكما روى أبو طالب عن أبي أسامة أنّ رجلا سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي الجهاد أفضل عند الجمرة الأولى؟ فلم يجبه ثم سأله عند الجمرة الثانية فلم يجبه ، ثم سأله عند جمرة العقبة فقال عليه السلام : أين السائل؟ فقال : أنا ذا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلمة عدل عند سلطان جائر» (٢). (هُوَ اجْتَباكُمْ) فدلّ بهذا على فضل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى الردّ على من يتنقّصهم ؛ لأنه جلّ وعز اختارهم لنصرة نبيّه عليه‌السلام. (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) في موضع نصب و (من) زائدة للتوكيد. (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) قال الفراء (٣) : أي كملّة أبيكم ، فإذا ألقيت الكاف نصبت أي وسّع عليكم كملّة أبيكم. قال :

وإن شئت نصبت على الأمر. قال أبو إسحاق : المعنى اتّبعوا ملّة أبيكم. قال : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) يجوز أن يكون لإبراهيم عليه‌السلام أي سماكم المسلمين فيما تقدّم

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في سننه الحديث (٤٠١١) ، وأبو داود في سننه الحديث (٤٣٤٤) ، والترمذي في سننه ٩ / ١٩.

(٢) أخرجه الترمذي في سننه ٩ / ١٩ ، وابن ماجة في سننه حديث (٤٠١١).

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٣١.

٧٥

(وَفِي هذا) أي وفي حكمه أنّ من اتّبع محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم موحد فقد سمّاكم المسلمين. قال أبو جعفر: هذا القول مخالف لقول العلماء الأئمة. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو سمّاكم المسلمين ، قال : الله جلّ وعزّ ، وكذا روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس. وروى ابن نجيح عن مجاهد في قوله جلّ وعزّ : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) قال : سمّاكم المسلمين من قبل الكتب والذكر ، وفي هذا القرآن. (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) أي بتبليغه إياكم.

وبإجابتكم إياه (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بتبليغكم إياهم وبما ترون منهم وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) قيل : أي امتنعوا بما أعطاكم من القوة وانبساط اليد من المعاصي.

(هُوَ مَوْلاكُمْ) أي وليّ نعمكم ، ووليّ ما تحتاجون إليه في حياتكم. ولهذا كره أن يقال للإنسان : يا مولاي من هذه الجهة ، ويقول : هذا عبدي ، أو أمتي. قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

ولكن ليقل فتاي أو فتاتي. (فَنِعْمَ الْمَوْلى) أي فنعم الوليّ لكم لأنه يريد بكم الخير (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لمن أطاعه.

٧٦

٢٣

شرح إعراب سورة المؤمنين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ومن قرأ (قد أفلح) ألقى حركة الهمزة على الدال وحذف الهمزة لأن الدال كانت ساكنة ، وإذا خفّفت الهمزة قربت من الساكنين ، فحذفت الهمزة لهذا ثم ألقيت حركتها على الدال.

(الَّذِينَ) في موضع رفعت نعت للمؤمنين (هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) مبتدأ وخبره داخلون في الصلة ، وكذلك ما بعده.

قال الضحاك : اللّغو الشرك. قال أبو جعفر : اللّغو في اللغة ما يجب أن يلغى أي يطرح. ومن أحسن ما قيل فيه قول الحسن : إنها المعاصي كلّها. فهذا قول جامع يدخل فيه قول من قال : هو الشرك. وقول من قال : هو الغناء. كما روى مالك بن أنس عن محمد بن المنذر أنّ الله جلّ وعزّ يقول يوم القيامة : أين الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشياطين ، أدخلوهم في رياض المسك ثم يقول للملائكة : أسمعوهم حمدي وثنائي ، وأخبرهم أن (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

فمدح الله جلّ وعزّ ومن أخرج من ماله الزكاة وإن لم يخرج منه غيرها. فكأن الذين يكنزون الذهب والفضة هم الذين لا يخرجون الزكاة.

٧٧

قال الفراء (١) : أي إلّا من أزواجهم اللاتي أحلّ الله جلّ وعزّ لهم الأربع لا تجاوز. (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) في موضع خفض معطوفة على أزواجهم و «ما» مصدر.

وقد أخبر جلّ وعزّ أنه لا يحبّ المعتدين ، وإذا لم يحبّهم أبغضهم وعاداهم لا واسطة في ذلك.

وقرأ المكّيّون (لأمانتهم) (٢) على واحدة. قال أبو جعفر : أمانة مصدر يؤدي عن الواحد والجمع ، فإذا أردت اختلاف الأنواع جاز الجمع والتوحيد إلّا أن الجمع هاهنا حسن ؛ لأن الله جل وعز قد ائتمن العباد على أشياء كثيرة منها الوضوء وغسل الجنابة والصلاة والصيام وغيرهن. فأما احتجاج أبي عبيد في اختياره لأماناتهم بقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨] فمردود لا يشبهه هذا ؛ لأن الأمانات هاهنا هو الشيء بعينه بمنزلة الودائع ، وليس مثل ذلك. ألا ترى أن بعده (وَعَهْدِهِمْ) ولم يقل وعهودهم فالجمع والتوحيد جائزان.

(أُولئِكَ) مبتدأ «هم» مبتدأ ثان ، وإن شئت كانت فاصلة. (الْوارِثُونَ) على أن قوله «هم» فاصلة خبر «أولئك» ، وعلى القول الآخر خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر «أولئك» وروى الزّهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنّة ثم قرأ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (٣) إلى عشر آيات. قال أبو جعفر : معنى «من أقامهنّ» من قام عليهنّ ولم يخالف ما فيهنّ ، وأدّاه ، كما تقول : فلان يقوم بعمله ، ثم نزل بعد هذه الآيات فرض الصوم والحجّ فدخل معهن.

والذين قرءوا «لأماناتهم» قرءوا (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) إلّا عاصما فإنه قرأ فخلقنا المضغة عظما (٤) فكسونا العظام لحما ، وكذا قرأ الأعرج وقتادة وعبد الله بن عامر. والقراءة الأولى حسنة بيّنة لأن المضغة تفترق فتكون عظاما

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٣١.

(٢) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٤٤٤ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٦٧.

(٣) أخرجه الترمذي في سننه ـ التفسير ١٢ / ٣٥.

(٤) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٤٤٤.

٧٨

فالجمع في هذا أبين والتوحيد جائز يكون يؤدي عن الجمع ، وقال أبو إسحاق في العلة في جوازه لأنه قد علم أن الإنسان ذو عظام ، واختار أبو عبيد الجمع واحتجّ بقول الله جلّ وعزّ : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) [البقرة : ٢٥٩] أي لأنهم قد أجمعوا على هذا. وهذا التشبيه غلط لأن المضغة لمّا كانت تفترق عظاما كان كلّ جزء منها عظما فكل واحد منها يؤدي عن صاحبه فليس كذا «وانظر إلى العظام» لأن هذا إشارة إلى جمع ، فإن ذكرت واحدا كانت الإشارة إلى واحد. (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) مجاز ، و (خَلْقاً) مصدر لأنّ معنى أنشأناه خلقناه ، واحد الطرائق طريقة.

(وَشَجَرَةً) معطوف على (جَنَّاتٍ) [آية : ١٩] ، وأجاز الفراء الرفع (١) لأنه لم يظهر الفعل بمعنى «وثمّ شجرة» (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) بفتح السين قراءة الك وفيين على وزن فعلاء. وفعلاء في الكلام كثير يمتنع من الصرف في المعرفة والنكرة ؛ لأن في آخرها ألف التأنيث وألف التأنيث ملازمة لما هي فيه ، وليس في الكلام فعلاء ولكن من قرأ (سيناء) (٢) بكسر السين جعله فعلالا ، ومنعه من الصرف على أنه للبقعة وقال الأخفش : هو اسم عجمي. وقد ذكرنا (٣) تنبت وتنبت.

مصدر ، ومنزلا بفتح الميم بمعنى اجعل لي منزلا. قال أبو إسحاق : ومن قرأ (مُنْزَلاً) (٤) بفتح الميم والزاي جعله مصدرا من نزل نزولا منزلا.

وزعم الفراء (٥) أن معنى (وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) على حذف «منه» أي ويشرب مما تشربون منه. وذا لا يجوز عند البصريين فلا يحتاج إلى حذف البتّة لأن «ما» إذا كانت مصدرا لم تحتج إلى عائد فإن جعلتها بمعنى الّذي وحذفت المفعول ، ولم يحتج إلى إضمار من. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) (٦) بما لا يحتاج إلى زيادة.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٣٣.

(٢) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٤٤٤ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٧١.

(٣) انظر إعراب الآية ٣٧ ، آل عمران.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٢.

(٥) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٣٤.

(٦) مرّ في إعراب الآية ١٥٧ ـ آل عمران.

٧٩

قرئت على ثلاثة أوجه. قرأ أهل الحرمين وأهل الكوفة (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) مفتوحة غير منوّنة إلّا أبا جعفر فإنه قرأ (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) (١) مكسورة غير منونة ، وقرأ عيسى بن عمر (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) (٢) مكسورة منونة. فهذه ثلاثة قراءات. قال أبو جعفر ويجوز (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) (٣) مفتوحة منوّنة. قال الكسائي : وناس من العرب كثير يقولون : أيهات (٤) يعني أنهم يبدلون من الهاء همزة ، ويجوز فيها ما جاز في هيهات من اللغات. قال أبو جعفر : من قال هيهات هيهات لما توعدون وقف بالهاء عند سيبويه والكسائي (٥) لا غير لأنها واحدة ، وبنيت على الفتح وموضعها رفع ؛ لأن المعنى البعد ؛ لأنها لم يشتقّ منها فعل فهي بمنزلة الحروف فاختير لها الفتح لأنّ فيها هاء التأنيث فهي بمنزلة اسم ضمّ إلى اسم كخمسة عشر ، وزعم الفراء أن الوقف عليها بالياء ومن كسر وقف بالتاء عند الجماعة نوّن أو لم ينوّن ؛ لأنها جمع كبيضات ، واحدها هيهة كبيضة ونصب الجميع كخفضه. والتنوين فيه قولان : أحدهما أن التنوين في جمع المؤنّث لازم ، والآخر أن فرق بين المعرفة والنكرة ، ولهذا حذف من حذف على أنه جعلها معرفة ، ويقال : هيهات لما قلت ، وهيهات ما قلت أي البعد لما قلت ، والبعيد ما قلت.

(قالَ عَمَّا قَلِيلٍ) ما زائدة مؤكّدة عند البصريين.

(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) فيه ثلاثة أوجه : قرأ الكوفيون ونافع والحسن وابن محيصن (تَتْرا) (٦) بغير تنوين ، وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر والأعرج (تَتْرا) (٧) منوّنة ويجوز (تَتْرا) (٨) بكسر التاء الأولى موضعها نصب على المصدر لأن معنى «ثم أرسلنا» ثم واترنا ، ويجوز أن يكون موضع الحال أي مواترين. قال الأصمعي : واترت كتبي عليه أتبعت بعضها بعضا إلّا أن بين كلّ واحد منها وبين الآخر مهلة ، وقال غيره من أهل اللغة : المواترة التتابع بلا مهلة. قال أبو جعفر : من قرأ تترى بلا تنوين وجعلها فعلى مثل سكرى ، ومن نون جعل الألف للنصب كما تقول : رأيت زيدا يا هذا ، والتاء في القراءتين جميعا مبدلة من واو كما يقال : تالله والله. وهو من واترت واشتقاقه من الوتر

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٤ ، ومعاني ٢ / ٢٣٥ ، مختصر ابن خالويه ٩٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٤ ، ومعاني ٢ / ٢٣٥ ، مختصر ابن خالويه ٩٧.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٤ ، ومعاني ٢ / ٢٣٥ ، مختصر ابن خالويه ٩٧.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٤ ، ومعاني ٢ / ٢٣٥ ، مختصر ابن خالويه ٩٧.

(٥) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٣٦.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٦ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٤٤٦.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٦ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٤٤٦.

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٦ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٤٤٦.

٨٠