إعراب القرآن - ج ٣

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٠

والوتر. (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يتحدّث بخبرهم ويتعجّب منه ويعتبر به (فَبُعْداً) مصدر أي أبعدهم الله جلّ وعزّ من ثواب الآخرة.

(وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) ويقال : بالكسر والفتح ، ويقال في معناها رباوة (١) ، وقرأ بها ابن أبي إسحاق ويقال : رباوة (٢) ورباوة (٣) بالفتح والكسر. وأحسن ما قيل فيه ما قاله ابن عباس رحمه‌الله. قال : نبئت أنها دمشق لأن قوله نبئت يدلّ على أنه توقيف.

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) نعت لأي. (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) قال الحسن : أي من الحلال ويدلّ على هذا ما رواه أبو حازم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبا وإنّ الله أمر الأنبياء بما أمر به المؤمنين» فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ١٧٢] وقال : «يا أيّها الرّسل كلوا من الطّيّبات».

(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) في هذا ثلاثة أوجه من القراءات : قرأ المدنيون وأبو عمرو (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) (٤) بفتح الهمزة ونصب أمة واحدة ، وقرأ الكوفيون بكسر الهمزة ونصب أمة واحدة أيضا ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) برفع كلّ شيء ففي فتح الهمزة ثلاثة أقوال : فقول البصريين أن المعنى :

ولأنّ وحذفت اللام ، وأن في موضع نصب ، وقول الكسائي وهو أحد قولي الفراء (٥) أنّ في موضع خفض نسقا على «ما تعملون» أي إني بما تعملون عليم وبأنّ هذه أمتكم ، والقول الثالث قول الفراء (٦) : إنّها في موضع نصب على إضمار فعل ، والتقدير :

واعلموا أنّ هذه أمتكم وكسر الهمزة عنده على الاستئناف ، وعند الكسائي أنها نسق على أني بما تعملون عليم. (أُمَّةً واحِدَةً) نصب على الحال. والرفع من ثلاثة أوجه :

على إضمار مبتدأ ، وعلى البدل ، وعلى خبر بعد خبر.

(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) نصب على الحال ، والمعنى مثل زبر. (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي كلّ فريق يظنّ أنه على الحق ، فهو فرح بما هو عليه وعليه أن يبيّن الحق لأنّه

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٧ ، ومختصر ابن خالويه ٩٨.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٧ ، ومختصر ابن خالويه ٩٨.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٧ ، ومختصر ابن خالويه ٩٨.

(٤) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٤٤٦.

(٥) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٣٧.

(٦) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٣٧.

٨١

ظاهر. وقيل : كلّ حزب بما لديهم فرحون أي بما هم فيه من اللذات وطلب الرئاسة.

(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) أي فيما غطّى عليهم من حبّ الدنيا والتواني عن الموت وعن أمر الآخرة. وقيل : في غمرتهم أي فيما غمرهم من الجهل. قال أبو إسحاق : (حَتَّى حِينٍ) إلى حين ما يأتيهم ما وعدوا به من العذاب.

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) «ما» بمعنى الذي ، وفي خبر أن ثلاثة أقوال : منها أنه محذوف ، وقال أبو إسحاق : المعنى نسارع لهم به ، وحذفت به ، وقال هشام قولا دقيقا قال : «ما» هي الخيرات ، وليس في الكلام حذف ؛ لأن معنى في الخيرات فيه ، وهذا قول بعيد ومثله: إنّ زيدا تكلّم عمرو في زيد ، والأجود تكلّم عمرو فيه ، وقد أجاز مثله سيبويه ، وأنشد : [الخفيف]

٣٠٥ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (١)

ومن قرأ يسارع لهم في الخيرات (٢) ففي قراءته ثلاثة أوجه : أحدها على حذف به ، ويجوز أن يكون التقدير يسارع الأمداد ، ويجوز أن يكون «لهم» اسم ما لم يسمّ فاعله.

خبر أن.

(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي في عمل الخيرات أي الطاعات. قال أبو إسحاق : يسارعون أبلغ من يسرعون. (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أحسن ما قيل فيه أنهم يسبقون إلى أوقاتها ، ودلّ أنّ الصلاة في أول الوقت أفضل ، وكلّ من تقدّم في شيء فقد سابق إليه ، وكلّ من تأخر عنه فقد سبقه وفاته.

(وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) قيل : يعني به الكتاب الذي كتب فيه أعمال الخلق عند الملائكة محتفظ به.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٧٠).

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٩.

٨٢

(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) قال أبو إسحاق : أي بل قلوبهم في عماية من هذا وقيل : بل قلوبهم في غمرة من هذا الكتاب الذي ينطق بالحق وأعمالهم فيه محصاة.

وهذه قراءة حسنة مشاكلة لأول القصّة لأن في القصة ذكر نكوصهم على أعقابهم فيشبه هذا أنهم هجروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكتاب. وقال الكسائي : (تَهْجُرُونَ) تهذون. قال أبو جعفر : يقال : هجر المحموم إذا غلب على عقله فهذي ، فيكون معنى الآية ـ والله أعلم ـ أنكم تتكلّمون في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لا يضرّه وبما ليس فيه فأنتم كمن يهذي.

ويقال : ما زال ذاك إهجيراه وهجيراه أي عادته كأنه يهذي به حتى صار له عادة.

(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا) هذا تستعمله العرب على معنى التوقيف والتقبيح ، فيقولون الخير أحبّ إليك أم الشرّ ، أي قد اخترت الشرّ.

أهل التفسير مجاهد وأبو صالح وغيرهما يقولون : «الحقّ» هاهنا الله جلّ وعزّ. وتقديره في العربية : ولو اتّبع صاحب الحقّ ، وقد قيل : هو مجاز أي لو وافق الحقّ أهواءهم فجعل موافقته اتّباعا مجازا أي لو كانوا يكفرون بالرسل ويعصون الله جلّ وعزّ ثم لا يعاقبون ولا يجازون على ذلك إمّا عجزا وإمّا جهلا لفسدت السموات والأرض. وقيل : المعنى لو كان الحقّ فيما يقولون من اتخاذ آلهة مع الله لتنافست الآلهة وأراد بعضهم ما لا يريد بعض فاضطرب التدبير ، وفسدت السموات والأرض ، وإذا فسدتا فسد من فيهما.

قال الأخفش : الخرج واحد إلّا أنّ اختلاف الكلام أحسن. وقال أبو حاتم : الخرج الجعل والخراج العطاء ، وقول محمد بن يزيد : الخرج المصدر ، والخراج الاسم ، والمعنى أم تسألهم رزقا ، فرزق ربّك خير وهو خير الرازقين أي ليس أحد يرزق مثل رزقه ولا ينعم مثل إنعامه.

أي إلى دين مستقيم ، والصراط في اللغة الطريق فسمّي الدين طريقا ؛ لأنه يؤدي إلى الجنة أي فهو طريق إليها.

٨٣

قيل : هل مثل الأول أي عن الدين ، وقيل : إنهم عن طريق الجنة لعادلون حتى يصيروا إلى النار.

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) أي لو رددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحنّاهم. (لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ) قال السّدّي : أي في معصيتهم. (يَعْمَهُونَ). قال الأخفش : يترددون.

(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) قال الضحاك : أي بالجوع.

(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) قال عكرمة : هو باب من أبواب جهنم عليه من الخزنة أربعمائة ألف ، سود وجوههم ؛ كالحدأ أنيابهم ، قد قلعت الرحمة من قلوبهم إذا بلغوه فتحه الله عليهم.

قل ... لله وقل ... الله (١) قد ذكرناه بما لا يحتاج إلى زيادة.

(عالِمِ الْغَيْبِ) ، قراءة أهل المدينة وأهل الكوفة على إضمار مبتدأ ، وقراءة أبي عمرو (عالِمِ الْغَيْبِ) (٢) بالخفض على النعت لله جلّ وعزّ وأكثر النحويين الكوفيين والبصريين يذهبون إلى أن الرفع أولى. فحجّة البصريين أنّ قبله رأس آية وقد تمّ الكلام فالابتداء أحسن ، وحجّة الكوفيين منهم الفراء (٣) أن الرفع أولى قال : لأنه لو كان مخفوضا لكان بالواو فكان يكون عالم الغيب وتعالى ، فلما كان «فتعالى» كان الرفع أولى.

قال أبو إسحاق : ويجوز «ربّ» بضم الباء ، ويجوز «ربّي» بإسكان الياء وفتحها.

و «إنّ» هاهنا للشرط و «ما» زائدة للتوكيد فلمّا زيدت «ما» حسن دخول النون للتوكيد ،

__________________

(١) يشير إلى الآيات ٨٥ ، و ٨٧ و ٨٩ من السورة.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٨٦.

(٣) انظر معاني الفراء ١٢١.

٨٤

وجواب الشرط (فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني عنهم.

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال الحسن البصري : والله لا يصيبها أحد حتّى يكظم غيظا ويصبر على مكروه.

قال عبد الله بن مسعود : وبعضهم يرفعه همزه الموتة. والموتة : ضرب من الجنون. وجمعت همزة وهي ساكنة على همزات فرقا بين الاسم والنعت.

وقد يكون القول في النفس قال جلّ وعزّ : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ) [المجادلة : ٨] فأمّا قوله : (ارْجِعُونِ) وهو يخاطب ربّه جلّ وعزّ ولم يقل : ارجعني ففيه قولان للنّحويّين : أحدهما أنّ العرب تتعارف أن الجبار إذا أخبر عن نفسه قال :

لنفعلنّ ولنرجعنّ فإذا خوطب كانت مخاطبته مخاطبة الجميع فيقال له : برّونا وأرجعونا فجاءت هذه الآية بهذا ، والقول الآخر : إن معنى ارجعون على جهة التكرير ارجعن ارجعن ارجعن ، وهكذا قال المازني في قوله جلّ وعزّ : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) [ق : ٢٤] قال معناه ألق ألق.

(وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) البرزخ في اللغة كل حاجز بين شيئين فالبرزخ بين الدنيا والآخرة كما روي أن رجلا قال بحضرة الشعبي : رحم الله فلانا قد صار من أهل الآخرة قال : لم يصر من أهل الآخرة ولكن صار من أهل البرزخ ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة. وأضفت يوما إلى يبعثون لأنه ظرف زمان ، والمراد بالإضافة المصدر ، وقال أبو إسحاق : حقيقته الحكاية.

في معناه قولان : أحدهما قول ابن عباس : أنهم في وقت لا يتساءلون. ويوم في اللغة بمعنى وقت معروف. والقول الآخر أبين من هذا : يكون معنى (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) أنّهم لا يتفاخرون بالأنساب يوم القيامة ، ولا يتساءلون بها كما كانوا في الدنيا يفعلون.

٨٥

(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) ويقال : «تنفح» في معنا إلّا أن «تلفح» أبلغ بأسا. (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) ابتداء وخبر ، ويجوز النصب في غير القرآن على الحال. والكالح في كلام العرب الذي قد تشمّرت شفتاه وبدت أسنانه كما ترى رؤوس الغنم. وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم التوقيف بمعنى هذا قال : «تحرق واحدهم النار فتقلص شفته العليا حتّى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتّى تبلغ سرّته» (١).

(قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ الكوفيون إلا عاصما شقاوتنا (٢) وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن. ويقال : شقا وشقاء بالقصر والمدّ. وأحسن ما قيل في معناه والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها ، كما قال جلّ وعزّ : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النساء : ١٠] لأن ذلك يؤديهم إلى النار (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) أي كنا في فعلنا ضالين عن الهدى. وليس هذا اعتذارا منهم إنّما هو إقرار ويدل على ذلك (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ).

(قالَ اخْسَؤُا فِيها) والمصدر خسء في اللازم والمتعدّي على فعل.

(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا) قال مجاهد : هم بلال وخبّاب وصهيب وفلان وفلان من ضعفاء المسلمين ، كان أبو جهل وأصحابه يهزئون بهم.

(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) بالكسر والضم. وفرق أبو عمرو بينهما فجعل المكسورة من جهة التهزّؤ ، والمضمومة من جهة السّخرة. ولا يعرف هذا التفريق الخليل وسيبويه رحمهما‌الله ، ولا الكسائي ولا الفراء (٣). قال الكسائي : هما لغتان بمعنى واحد كما

__________________

(١) أخرجه الترمذي في سننه ، صفة الجنة ١٠ / ٥٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٨٩ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٤٤٨.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٤٣.

٨٦

يقال : عصيّ وعصيّ ، وقال محمد بن يزيد : إنّما يؤخذ التفريق بين المعاني عن العرب ، فأما التأويل فلا يكون. والكسر في «سخريّ» في المعنيين جميعا وفي عصيّ أكثر ؛ لأن الضمة تستثقل في مثل هذا.

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ) وقل كم لبثتم معنيان مختلفان لا يجوز أن يقال أحدهما أجود من الآخر (عَدَدَ سِنِينَ) بفتح النون على أنه جمع مسلم ، ومن العرب من يخفضها وينوّنها.

(قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وليس في هذا ما ينفي عذاب القبر لأنه لا بدّ من خمدة قبل البعث.

(رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) كمن نعت العرش لارتفاعه وأنّ الأيدي لا تناله.

(وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) مبتدأ وخبره. والاسم عند البصريين «أن» والتاء للخطاب.

والاحتجاج لأبي عمرو في تفريقه بين سخري وسخريّ أن يكون خبّر بمذهبه في القراءة فقط. فأمّا «لبتّم» بالإدغام فلقرب التاء من الثاء ، وكذا فاتّختّموهم (١) مدغم لقرب الذال من التاء ، ومن لم يدغم فيهما فلأن التاء اسم فكأنها منفصلة والمخرجان مختلفان. وقال مجاهد : العادّون (٢) الملائكة لأنهم يحصون ذلك. وقرأ الأعمش عددا سنين (٣) ونصب عددا على البيان في القراءتين جميعا «وكم» في موضع نصب بلبثتم.

__________________

(١) انظر الآية ١١٠ من السورة.

(٢) انظر الآية ١١٣ من السورة.

(٣) انظر الآية ١١٢.

٨٧

٢٤

شرح إعراب سورة النور

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها) بمعنى هذه سورة ، وقرأ عيسى بن عمر (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) (١) بالنصب بمعنى أنزلنا سورة. ويجوز أن يكون المعنى : اتل سورة أنزلناها (وَفَرَضْناها) أي وفرضنا فيها من الحلال والحرام «وفرضناها» فيه ثلاثة أقوال : قال أبو عمرو فصلناها ، وقيل : هو على التكثير لكثرة ما فيها من الفرائض ، والقول الثالث قال الفراء (٢) : إنّه بمعنى فرضناها عليكم وعلى من بعدكم.

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) وقرأ عيسى بن عمر (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) (٣) بالنصب. وهو اختيار الخليل وسيبويه (٤) رحمهما‌الله لأن الأمر بالفعل أولى ، وسائر النحويين على خلافهما ، واستدلّ محمد بن يزيد على خلافهما بقول الله جلّ وعزّ :

(وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) [النساء : ١٦] ، والحجة للرفع أنه ليس يقصد به اثنان ـ بأعيانهما ـ زنيا فينصب ، فلما كان مبهما وجب الرفع فيه من ثلاثة أوجه : مذهب سيبويه أن المعنى : وفيما فرض عليكم الزانية والزاني ، وقيل بما عاد عليه. (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) ورأفة لأن فعالة في الخصال كثير ، نحو القباحة ، وفعلة على الأصل.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٢ ، ومختصر ابن خالويه ١٠٠ ، وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي حيوة ومحبوب عن أبي عمرو وأم الدرداء أيضا.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٤٤.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ١٠٠.

(٤) انظر الكتاب ١ / ١٩٦.

٨٨

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) قد ذكرنا معناه وأن الوجه فيه أن يكون منسوخا وحرّم ذلك أن ينكح الرجل زانية والمرأة زانيا.

وقرأ أبو زرعة (١) بن عمرو بن جرير (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) (٢) وفيه ثلاثة أوجه : يكون «شهداء» في موضع جرّ على النعت لأربعة ، ويكون في موضع نصب بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء. والوجه الثالث أن يكون حالا من النكرة. (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) في موضع نصب على الاستثناء ، ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل. والمعنى : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) على البدل والنصب على الاستثناء وعلى خبر يكون (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) (٣) بالنصب قراءة أهل المدينة وأبي عمرو ، وقراءة الكوفيين (أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) (٤) بالرفع على الابتداء ، والخبر : أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حدّ القاذف أربع شهادات ، كما تقول : صلاة الظهر أربع ركعات ، والنصب لأن معنى شهادة أن شهد ، فالتقدير : فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات ، أو فالأمر أن يشهد أحدهم أربع شهادات.

(وَالْخامِسَةُ) رفع بالابتداء ، والخبر «أنّ» وصلتها ومعنى المخفّفة كمعنى الثقيلة ؛ لأن معناها أنه. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة (والخامسة أنّ) (٥) بالنصب بمعنى ويشهد الشهادة الخامسة.

__________________

(١) أبو زرعة بن عمرو بن جرير البجلي الكوفي ، روى عن أبي هريرة ، وهو من التابعين الثقات ترجمته في : غاية النهاية ١ / ٦٠٢.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ١٠٠.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٩ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٤٥٢.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٩ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٤٥٢.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٩ ، ومعاني الفراء ٢ / ٢٤٧.

٨٩

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) رفع بالابتداء عند سيبويه ، والخبر محذوف ولا يظهره العرب (وَرَحْمَتُهُ) عطف عليه. (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) عطف عليه أيضا. وحذف جواب لو لا لأنه قد ذكر مثله بعد. قال الله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ)

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) اسم إنّ. (عُصْبَةٌ) خبرها ، ويجوز النصب في «عصبة» على الحال ، ويكون الخبر (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) وقرأ حميد الأعرج ويعقوب (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) (١) بضم الكاف. قال الفراء (٢) : وهو وجه جيد لأن العرب تقول :

فلان أولى عظم كذا وكذا أي أكثره. قال أبو جعفر : والذي جاء به لا حجّة فيه لأنه قد يكون الشيء بمعنى الشيء ، والحركة فيها مختلفة. والأشهر في كلام العرب في مثل هذا الكبر والكبر في النسب ويقال : الولاء للكبر.

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) أي بإخوانهم. (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) فأوجب الله جلّ وعزّ على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا أو يذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ، ويكذّبوه ، وتواعد من ترك ذلك ومن نقله.

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) والأصل تتلقونه أي يأخذه بعضكم عن بعض ، ويقبله بعضكم من بعض ، ومثله (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [البقرة : ٣٧] وعن عائشة رضي الله عنها أنها قرأت (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) (٣) وإسناده صحيح ، ولا يعرف له مخرج إلّا من حديث ابن عمر الجمحي والمعنيان صحيحان لأنهم قد تلقّوه وو لقوه. والأصل : تولقونه فحذفت الواو اتباعا ليلق ، يقال : ولق يلق إذا أسرع في الكذب ، واشتقاقه من الولق ، وهو الخفّة والسرعة.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٤٧ ، والبحر المحيط ٦ / ٤٠٢.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٤٧.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ١٠٠.

٩٠

(يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا) في موضع نصب.

فتواعدهم الله جلّ وعزّ على إرادة الفسق أي إذاعة الفاحشة في الذين آمنوا (وَاللهُ يَعْلَمُ) أي يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه ، ويعلم كل شيء.

هو من ذوات الواو وإن كان قد كتب بالياء. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رحمه‌الله في قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) قال : ما اهتدى أحد من الخلائق لشيء ينفع به نفسه أو ينفي به ما يدفعه عن نفسه.

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) حذفت الياء للجزم ، قرأ يزيد بن القعقاع وزيد بن أسلم. ولا يتألّ أولوا الفضل (١) حذفت الألف للجزم. والمعنى واحد ، كما تقول : فلان يتكسّب ويكتسب.

من أحسن ما قيل في هذا أنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى ، والتقدير : الذين يرمون الأنفس المحصنات فدخل في هذا المذكّر والمؤنّث. وكذا : في الذين يرمون ، إلّا أنه غلّب المذكّر على المؤنّث.

وقرأ مجاهد (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) (٢) يرفع الحقّ على أنه نعت لله جلّ وعزّ. قال أبو عبيد : ولو لا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع ، ليكون نعتا لله جلّ

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٠٤ ، ومختصر ابن خالويه ١٠١.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٠٥.

٩١

وعزّ ، ويكون موافقا لقراءة أبيّ ، وذلك أن جرير بن حازم قال : رأيت في مصحف أبيّ ليوفيهم الله الحقّ دينهم (١) وهذا الكلام من أبي عبيد غير مرضيّ لأنه احتجّ لما هو مخالف للسواد الأعظم ، ولا حجة فيه أيضا لأنه لو صحّ هذا أنّ في مصحف أبيّ كذلك جاز أن تكون القراءة : يومئذ يوفّيهم الله الحقّ دينهم يكون دينهم بدلا من الحق على أن قراءة العامة (دِينَهُمُ الْحَقَ) يكون «الحقّ» نعتا لدينهم والمعنى حسن لأنّ الله جل وعز قد ذكر المسيئين فاعلم أنه يجازيهم بالحق ، كما قال جلّ وعزّ : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ : ١٧] لأن مجازاة الله جلّ وعزّ للكافر والمسيء بالحقّ والعدل ، ومجازاته للمحسنين بالفضل والإحسان.

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) قد ذكرنا فيه أقوالا : فمن أحسن ما قيل فيه :

أنّ المعنى الزناة للزناة على ما كان التعبّد مبرئا.

(لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) قال عكرمة : أي حتى تستأذنوا وحقيقته في اللّغة تستعملوا مشتقّ من آنست الشيء أي استعملته. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي من الدخول بغير استئذان لما فيه من التّهمة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي تنتبهون على ما لكم فيه الصّلاح.

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) «من» هاهنا لبيان الجنس وكذا (يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٠٥ ، ومختصر ابن خالويه ١٠١.

٩٢

وظهر التضعيف في الثاني ، لأن لام الفعل من الثاني ساكنة ومن الأول متحركة وهما في موضع جزم جوابا. والتقدير عند المازني : قل للمؤمنين غضّوا يغضّوا (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) قال أبو العالية : أي حتى لا يراها أحد ، وقال غيره : فحرّم الله على المسلمين أيضا أن يدخلوا حمّاما بغير مئزر ، وأجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجل ، وأن المرأة كلّها عورة إلّا وجهها ويديها فإنّهم اختلفوا فيهما ، وقال أكثر العلماء في الرجل : من سرته إلى ركبته عورة لا يجوز أن ترى. (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) اسم إن وخبرها. (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) ويجوز وليضربن بكسر اللام وهو الأصل وحذفت الكسرة لثقلها. ويضربن في موضع جزم بالأمر إلّا أنه مبنيّ على حال وحدة اتباعا للماضي عند سيبويه. والمعنى : وليلصقن خمرهنّ وهنّ المقانع على جيوبهنّ لئلا تبدو صدورهنّ أو أعناقهنّ. والصحيح من قراءة الكوفيين (عَلى جُيُوبِهِنَ) (١) كما يقرءون (بُيُوتاً) والنحويون القدماء لا يجيزون هذه القراءة ، ويقولون : بيت وبيوت كفلس وفلوس. وقال أبو إسحاق : هي تجوز على أن تبدل من الضمة كسرة. فأما ما روي عن حمزة من الجمع بين الضمّ والكسر فمحال لا يقدر أحد أن ينطق به إلّا على الإيماء إلى ما لا يجوز. (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) وقرأ يزيد بن القعقاع وعاصم وابن عامر أو التابعين غير (٢) بنصب غير على الاستثناء. قال أبو حاتم : على الحال والخفض على النعت ، وإن كان الأول معرفة لأنه ليس بمقصود قصده ، وإن شئت قلت : هو بدل ونظيره (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] في الخفض والنصب جميعا (أَوِ الطِّفْلِ) بمعنى الأطفال ، والدليل على ذلك نعته بالذين (الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ) وحكى الفراء أنّ لغة قيس «عورات» بفتح الواو ، وهذا هو القياس لأنه ليس بنعت ، كما تقول : جفنة وجفنات إلّا أن التسكين أجود في عورات وما أشبهه لأن الواو إذا تحرّكت وتحرّك ما قبلها قلبت ألفا ، ولو فعل هذا لذهب المعنى وحكى الكسائي (أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) (٣) بضم الهاء وهذه لغة شاذّة لا وجه لها لأن ها للتنبيه.

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) جمع أيّم والأيّم عند أهل اللغة من لا زوج لها كانت بكرا أم ثيّبا. حكى ذلك أبو عمرو بن العلاء والكسائي وغيرهما. وذلك بيّن في قوله جلّ وعزّ : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) فلم يبح ثيّبا دون بكر. وحديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الأيّم أحقّ

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٣١ ، والبحر المحيط ٦ / ٤١٣.

(٢) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٤٥٥.

(٣) وهذه قراءة ابن عامر ، انظر البحر المحيط ٦ / ٤١٤ ، وتيسير الداني ١٣١.

٩٣

بنفسها» (١) من هذا بعينه. وجمع أيّم أيامى وأيايم وإيام مثل جيّد وجياد ، وجمع أمة في التكسير إماء وآم ، وفي النصب رأيت آميا وإموان مثل أخ وإخوان ، لأن الأصل في أمة أموة وفي المسلّم أموات. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : حكى هشام أميات. قال : وهذا خطأ لأنها من ذوات الواو. وقرأ الحسن والصّالحين من عبيدكم (٢) و «عبيد» اسم للجمع ، وليس بجمع مستتبّ ، والجمع المستتبّ أعبد وعباد ، ونظير عبيد في أنه اسم للجمع قولهم : معبوداء وعبدّى. قال الفراء (٣) : ويجوز والصالحين من عبادكم وإماءكم بالنصب يردّه على الصّالحين. (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) شرط وجوابه. قيل : يغنهم بالتزويج وهذا صحيح في اللغة لأن فقيرا إنما يعرف بالإضافة فيقال : فقير إلى الطّعام ، وفقير إلى اللباس ، وفقير إلى التزويج.

(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) في موضع رفع بالابتداء وفي موضع نصب عند الخليل وسيبويه على إضمار فعلا لأن بعده أمرا.

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبتدأ وخبره. وتقديره : الله ذو نور السّموات والأرض مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢]. (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) مبتدأ وخبره أيضا.

وقد ذكرنا معناه ، وقد روى شمر بن عطية (٤) عن كعب في قول الله جلّ وعزّ (مَثَلُ نُورِهِ)

__________________

(١) أخرجه الترمذي في سننه ٥ / ٢٥ ، وابن ماجة في سننه باب ١١ حديث ١٨٧٠ ، والدارمي في سننه ٢ / ١٣٨ ، ومالك في الموطّأ باب ٢ الحديث رقم ٤.

(٢) وهذه قراءة مجاهد أيضا ، بالياء مكان الألف وفتح العين ، انظر البحر المحيط ٦ / ٤١٥ ، ومختصر ابن خالويه ١٠٢.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٥١.

(٤) شمر بن عطية : روى عن أبي وائل وزرّ ، وعنه الأعمش وقيس بن الربيع ، وكان عثمانيا غاليا ، ترجمته في ميزان الاعتدال ٢ / ٢٨٠.

٩٤

قال : نوره محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال أبو جعفر : لأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تبيانه للناس بمنزلة النور الذي يضيء لهم. قال كعب : (كَمِشْكاةٍ) ، ككوّة فيها مصباح قال : (الْمِصْباحُ) قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فِي زُجاجَةٍ) قال : (الزُّجاجَةُ) صدره (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) لصدره ثم رجع إلى المصباح الذي هو في القلب فقال : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال لم تصبها شمس المشرق ولا شمس المغرب. (شَرْقِيَّةٍ) نعت لزيتونة. (وَلا) ليست تحول بين النعت والمنعوت (وَلا غَرْبِيَّةٍ) عطف. (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) قال كعب :

يكاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستبين لمن يراه أنّه نبيّ وإن لم ينطق لما جعل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدلائل ، كما يكاد هذا الزيت يضيء ولو لم تمسّه نار. وقد قرئ دري (١) على أربعة أوجه :

قرأ الحسن وأهل الحرمين (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) بضم الدال وتشديد الياء إلّا أن سعيد ابن المسيّب قرأ هو وأبو رجاء العطارديّ ونصر بن عاصم وقتادة (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) بفتح الدال وتشديد الياء وقرأ أبو عمرو والكسائي كأنّها كوكب درء بكسر الدال والهمز ، وقرأ حمزة كأنّها كوكب درّيء بضم الدال والهمز. فهذه أربع قراءات ، وحكى الفراء (٢) أنّه يقال : درّي بكسر الدال وتشديد الياء بغير همز. قال أبو جعفر :

القراءة الأولى بيّنة نسب الكوكب إلى الدّرّ. فإن قال قائل : فالكوكب نورا من الدّرّ قيل له: إنما المعنى أنّ هذا الكوكب فضله على الكواكب كفضل الدّرّ على سائر الحبّ.

والقراءة الثانية بهذا المعنى فأبدل من الضمّة فتحة لأن النسب باب تغيير. والقراءة الثالثة أبي عمرو والكسائي ضعّفها أبو عبيد تضعيفا شديدا لأنه تأولها من درأت أي دفعت أي كوكب يجري من الأفق إلى الأفق فإن كان التأويل على ما تأوّله لم يكن في الكلام فائدة ولا كان لهذا الكوكب مزيّة على أكثر الكواكب. ألا ترى أنّه لا يقال : جاءني إنسان من بني آدم ، ولا ينبغي أن يتأوّل لمثل أبي عمرو والكسائي رحمهما‌الله مع محلّهما وجلالهما هذا التأويل البعيد ، ولكن التأويل لهما على ما روي عن محمد بن يزيد أن معناهما في ذلك كوكب مندفع بالنور كما يقال : اندرأ الحريق ، أي اندفع ، وهذا تأويل صحيح لهذه القراءة. وحكى الأخفش سعيد بن مسعدة أنه يقال : درأ الكوكب بضوئه إذا امتدّ ضوءه وعلا. فأما قراءة حمزة فأهل اللغة جميعا إلا أقلّهم يقولون : هي لحن لا يجوز لأنه ليس في كلام العرب اسم على فعّيل ، وقد اعترض أبو عبيد في هذا فاحتج لحمزة فقال : ليس هو فعّل إنما هو فعّول مثل سبّوح أبدل من الواو ياء كما قالوا : عتيّ. قال أبو جعفر وهذا الاعتراض والاحتجاج من أعظم الغلط وأشدّه

__________________

(١) انظر القراءات جميعها في البحر المحيط ٦ / ٤١٩ ، ومعاني الفراء ٢ / ٢٥٢ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٤٥٥.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٥٢.

٩٥

لأن هذا لا يجوز البتّة ، ولو جاز ما قال لقيل في سبّوح : سبّيح ، وهذا لا يقوله أحد.

وليس عتيّ من هذا ، والفرق بينهما واضح بيّن لأنه ليس يخلو عتيّ من إحدى جهتين :

إما أن يكون جمع عات فيكون البدل فيه لازما لأن الجمع باب تغيير والواو لا تكون ظرفا في الأسماء وقبلها ضمة ، فلما كان قبل هذه ساكن وقبل الساكن ضمة والساكن ليس بحاجز حصين أبدل من الضم كسرة وقلبت الواو ياء ، وإن كان عتى واحدا كان بالواو أولى وكان قبلها لأنها طرف والواو في فعول ليست طرفا ولا يجوز قلبها. ومن احتجّ لحمزة بشيء مشبه قال : قد جاء مرّيق وهو فعّيل ، والحق في هذا أن مرّيقا عجميّ ، والذي حكى الفراء ـ من كسر الدال جائز على أن تبدل من الضمة كسرة.

(يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) قرئ على أربعة أوجه (١) : قرأ الحسن وأبو عبد الرحمن السلمي ومجاهد وأبو جعفر وأبو عمرو بن العلاء توقّد من شجرة بفتح الدال يجعله فعلا ماضيا ، وقرأ شيبة ونافع (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) وهاتان القراءتان متقاربتان لأنهما جميعا للمصباح ، وهو أشبه بهذا الوصف لأنه الذي يبين ويضيء ، وإنما الزجاجة وعاء له ، فتوقّد فعل ماض من توقّد يتوقّد ويوقد فعل مستقبل من أوقد يوقد ، وقرأ نصر ابن عاصم توقّد والأصل على قراءته تتوقّد وحذف إحدى التاءين لأن الأخرى تدلّ عليها. وقرأ الكوفيون توقد (٢) وهاتان القراءتان على تأنيث الزجاجة (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) على تأنيث النار ، وزعم أبو عبيد أنه لا يعرف إلّا هذه القراءة. وحكى أبو حاتم أنّ السّديّ روى عن أبي مالك عن ابن عباس أنه قرأ ولو لم يمسسه نار (٣) بالياء.

قال محمد بن يزيد : التذكير على أنه تأنيث غير حقيقي ، وكذا سبيل الموات عنده.

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) قد ذكرناه (٤). وقيل المعنى صلّوا في بيوت. وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (٥) ، وكذا يروى عن الحسن ، وقد ذكر سيبويه مثل هذا ، وأنشد : [الطويل]

٣٠٦ ـ ليبك يزيد ضارع لخصومة (٦)

والتقدير : يسبّح له فيها رجال على إضمار هذا الفعل ؛ لأنه لما قال : يسبّح دلّ

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٢٠ ، ومعاني الفراء ٢ / ٢٥٢ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد.

(٢) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٢٠ ، ومختصر ابن خالويه ١٠٢.

(٤) انظر إعراب الآية ٣٠ من هذه السورة.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٢١ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٤٥٦.

(٦) مرّ الشاهد رقم (١٣٢).

٩٦

على أن ثمّ مسبّحين وعلى هذا تقول : ضرب زيد عمرو. ولمّا أن قلت : ضرب زيد.

دلّ على أنّ له ضاربا فذكرته وأضمرت له فعلا.

(وَإِقامِ الصَّلاةِ) ويقال : أقام الصلاة إقامة ، والأصل إقوامة فقلبت حركة الواو على القاف فانقلبت الواو ألفا وبعدها ألف وهما ساكنتان فحذفت إحداهما وأثبت الهاء لئلّا تحذفها فيجحف فلما أضفت قام المضاف إليه مقام الهاء فجاز حذفها ، فإن لم تضف لم يجز حذفها ، ألا ترى أنك تقول : وعد عدة ، فلا يجوز حذف الهاء لأنك قد حذفت واوا لأن الأصل وعدة فإن أضفت جاز حذف الهاء ، وأنشد الفراء : [البسيط]

٣٠٧ ـ إنّ الخليط أجدّوا البين فانجردوا

وأخلفوك عد الأمر الّذي وعدوا (١)

يريد عدة فحذف الهاء لمّا أضاف. (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) قد ذكرناه. وقيل : معناه تتقلّب قلوب الفجّار على النار ، وقيل تتقلّب أي تنضج مرّة وتلفحها النار مرة.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) ابتداء (أَعْمالُهُمْ) ابتداء ثان ، ويجوز أن يكون بدلا من الذين ويكون الخبر (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) فإن خففت الهمزة قلت الظّمآن.

(ظُلُماتٌ) على إضمار مبتدأ ومن قرأ ظلمات (٢) جعلها بدلا من ظلمات الأولى ، ويقال : «ظلمات» لخفّة الفتحة و «ظلمات» لنقل الضمة.

(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ). تأوّله أبو إسحاق على أنه في الدّنيا أي من لم يجعل الله له هداية إلى الإسلام لم يهتد ، وتأوله غيره على أنه في الآخرة أي من لم يجعل الله له نورا في القيامة لم يهتد إلى الجنّة.

__________________

(١) الشاهد للفضل بن عباس في شرح التصريح ٢ / ٣٩٦ ، وشرح شواهد الشافية ٦٤ ، ولسان العرب (غلب) ، و (خلط) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٧٢ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٥ / ٢٤١ ، وأوضح المسالك ٤ / ٤٠٧ ، والخصائص ٣ / ١٧١ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣٠٤ ، وشرح عمدة الحافظ ٤٨٦ ، ولسان العرب (وعد) و (خلط).

(٢) انظر تيسير الداني ١٣٤ ، والبحر المحيط ٦ / ٤٢٤.

٩٧

عطفا على «من». قال أبو إسحاق : ويجوز «والطير» بمعنى مع الطير ، ولم يقرأ به. قال أبو جعفر : وسمعته يجيز قمت وزيدا ، بمعنى مع زيد. قال : وهو أجود من الرفع. قال : فإن قلت : قمت أنا وزيد ، كان الأجود الرفع ، ويجوز النصب. (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) يجوز أن يكون المعنى : كلّ قد علم الله صلاته وتسبيحه. ومن هذه الجهة يجوز نصب كلّ عند البصريين والكوفيين. قال أبو إسحاق : والصلاة للناس والتسبيح لغيرهم ولهم ، ويجوز أن يكون المعنى : كلّ قد علم صلاة نفسه وتسبيحه.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) يقال : «بين» لا يقع إلّا لاثنين فصاعدا فكيف جاء بينه؟ فالجواب أن بينه هاهنا لجماعة السحاب ، كما تقول : الشجر حسن ، وقد جلست بينه. وفيه قول آخر : وهو ، أن يكون السحاب واحدا فجاز أن يقال : بينه لأنه مشتمل على قطع كثيرة كما قال الشاعر : [الطويل]

٣٠٨ ـ قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل (١)

فأوقع بينا على الدخول وهو واحد لاشتماله على مواضع. هذا قول النحويين ، إلا الأصمعي فإنه زعم أن هذا لا يجوز وكان يرويه «بين الدّخول وحومل» ، قرأ ابن عباس والضحاك (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) (٢) وخلل : واحد خلال مثل جمل وجمال ، وهو واحد يدلّ على جمع. (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) من قال : إنّ المعنى من جبال برد فيها ، فبرد عنده في موضع خفض هكذا يقول الفراء (٣) ، كما تقول : الإنسان من لحم ودم ، والإنسان لحم ودم ، ويجب أن يكون على قوله : المعنى من جبال برد فيها بتنوين الجبال ، لأنه قال: الجبال هي البرد. فأما على قول البصريين

__________________

(١) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ٨ ، والأزهيّة ٢٤٤ ، وجمهرة اللغة ٥٦٧ ، والجنى الداني ٦٣ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٤٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٦٣ ، ولسان العرب (آ) ، ومجالس ثعلب ١٢٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٢٩ ، وبلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٦٥٦ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣٥٩ ، وجمهرة اللغة ٥٨٠ ، والدرر ٦ / ٨٢ ، ورصف المباني ٣٥٣ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤١٧ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٢ / ٣١٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٢٦.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٥٦.

٩٨

فيكون من برد في موضع نصب ، ويجوز الخفض كما تقول : مررت بخاتم حديدا وبخاتم حديد ، الخفض على البدل والنصب عند سيبويه على الحال ، وعند أبي العبّاس على البيان.

ومن قال : المعنى من مقدار جبال فمن برد عنده في موضع نصب لا غير. قال الفراء (١) :

كما تقول عندي بيتان تبنا ، ومثله عنده (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) [المائدة : ٩٥]. ومن قال :

إنّ «من» زائدة فيهما فهما عنده في موضع نصب لا غير. وقرأ أبو جعفر : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (٢) بضم الياء ، وزعم أبو حاتم أن هذا لحن ، وهو قول أستاذه الأخفش يقول : دخل بالمدخل ولا يجيز هاهنا أدخل ، ويزعم أن الباء تعاقب الألف ، وهذا هو القول البين. فأما أن يكون خطأ لا يجوز ولا يحمل عليه فقد زعم جماعة أن الباء تزاد واحتجوا بقول الله جلّ وعزّ : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) [الحجّ : ٢٥] وإن كان غير هذا القول أولى منه ، وهو ما حكاه لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد. قال : تكون الباء متعلقة بالمصدر إذ كان الفعل دالا عليه ومأخوذا منه فعلى هذا يكون التقدير ذهابه بالأبصار أو إذهابه وكذا : أدخل بالمدخل السّجن الدار ، جائز على هذا.

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) مجاز أي يقلب هذا إلى هذا وهذا إلى هذا فإذا زال أحدهما ودخل الآخر كان بمنزلة ما قلب إليه.

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم وسائر الكوفيين يقرءون خالق كلّ دابّة (٣) والمعنيان صحيحان. أخبر الله جلّ وعزّ بخبرين ولا ينبغي أن يقال في هذا أحد القراءتين أصحّ من الأخرى لأنهما يدلّان على معنيين ، ولكن إن قال قائل : «خلق» في هذا أكثر لأنه ليس بشيء مخصوص ، وإنما يقال : خالق على العموم ، كما قال جلّ وعزّ : (الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) [الحشر : ٢٤] وفي الخصوص (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ١] ، وكذا (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [الأعراف : ١٨٩] فكذا يجب (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ). والدابّة كلّ ما دبّ على الأرض من الحيوان يقال : دبّ ، وهو داب ، والهاء للمبالغة. وقيل : يعني بالماء هاهنا المنيّ كما قال : (مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦] وقيل : لمّا كان خلق الأرض

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٥٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٠ ، يذهب بضمّ الياء.

(٣) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٤٥٧.

٩٩

من ماء جاء هذا هكذا. وقيل : أصل خلق النار والنور من الماء. (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) ومن مشى على أكثر من أربع فهو يمشي على أربع ، وغلب ما يعقل لمّا اجتمع مع ما لا يعقل ؛ لأنه المخاطب والمتعبّد.

(مُذْعِنِينَ) في موضع الحال.

(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا) فأنكر الله عليهم ذلك لما أظهر من البراهين فقال : (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

وقرأ الحسن (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) (١) جعله اسم كان والخبر (أَنْ يَقُولُوا).

(قُلْ لا تُقْسِمُوا) نهاهم عن الحلف لأنّ عزمهم كان على غير ذلك فهم آثمون إذا حلفوا. (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) على إضمار لتكن طاعة ، ويجوز أن يكون المعنى : طاعة أولى بكم.

قال أبو إسحاق : يجوز طاعة بالنصب يعني على المصدر.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) في موضع جزم بالشرط ، والأصل تتولّوا فحذفت إحدى التاءين لدلالة الأخرى ، وحذفت النون للجزم ، والجواب في الفاء وما بعدها.

فكان في هذه الآية دلالة عن نبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الله أنجز ذلك الوعد ، وكان

__________________

(١) قول : بالرفع ، وهي قراءة عليّ وابن أبي إسحاق أيضا ، انظر البحر المحيط ٦ / ٤٢٩.

١٠٠