إعراب القرآن - ج ٣

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٠

ويجوز أن يكون «هم» الثاني بدلا من الأول كما تقول : رأيته إياه ، وفي الكلام أيضا معنى التوكيد.

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) اللام للتوكيد ، والتقدير : لكافرون بلقاء ربّهم على التقديم والتأخير وعلى هذا تقول : إنّ زيدا في الدار لجالس ، ولو قلت : إنّ زيدا لفي الدار لجالس ، لجاز ، فإن قلت : إنّ زيدا جالس لفي الدار. لم يجز لأن اللام إنما يؤتى بها توكيدا لاسم إنّ وخبرها ، فإذا جئت بهما لم يجز إن تأتي بها وكذا إن قلت : إنّ زيدا لجالس لفي الدار لم يجز.

(وَأَثارُوا الْأَرْضَ) لأن أهل مكة لم يكونوا أصحاب حرب.

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ) (١) اسم كان وذكرت لأن تأنيثها غير حقيقي. (السُّواى) خبر كان ومن نصب (عاقِبَةَ) جعل «السّوأى» اسم كان ، وروي عن الأعمش أنه يقرأ ثمّ كان عاقبة الذين أساؤا السّوء (٢) برفع السوء. (أَنْ كَذَّبُوا) في موضع نصب ، والمعنى : لأن كذّبوا.

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (يبلس) (٣) بفتح اللام والمعروف في اللغة أبلس الرجل. إذا سكت وانقطعت حجّته ولم يؤمّل أن تكون له حجة ، وقريب منه تحيّر ، كما قال الراجز :

٣٣٦ ـ قال : نعم أعرفه وأبلسا (٤)

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤١ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٠٦.

(٢) انظر البحر المحيط : ٧ / ١٦٠.

(٣) انظر البحر المحيط ٧ / ١٦٠ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٢٣.

(٤) الرجز للعجاج في ديوانه ١ / ١٨٥ ، ولسان العرب (بلس) والتنبيه والإيضاح ٢ / ٢٦٢ ، وتهذيب اللغة ١٢ / ٤٤٢ ، وتاج العروس (بلس) و (عجنس) و (كرس) و (وكف) ، وجمهرة اللغة ٧١٩ ، وأساس البلاغة (بجس) ، وبلا نسبة في لسان العرب (صلب) ، ومقاييس اللغة ٥ / ١٦٩ ، والمخصّص ١ / ١٢٦ ، وتاج العروس (صلب) ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٥٣. وقبله : «يا صاح هل تعرف رسما مكرسا»

١٨١

وقد زعم بعض النحويين أنّ «إبليس» مشتقّ من هذا وأنه أبلس أي انقطعت حجّته ، ولو كان كما قال لوجب أن ينصرف وهو في القرآن غير منصرف فاحتجّ بعضهم بأنه اسم ثقل لأنه لم يسمّ به غيره.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) قيل : يعني بشركائهم ما عبدوه من دون الله جلّ وعزّ. (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) قالوا : ليسوا بآلهة.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) سمعت أبا إسحاق يقول : معنى «أمّا» دع ما كنّا فيه وخذ في غيره ، وكذا قال سيبويه : إنّ معناها مهما يكن من شيء أي مهما يكن من شيء فخذ في غير ما كنّا فيه. (الَّذِينَ آمَنُوا) في موضع رفع بالابتداء (فَهُمْ) ابتداء ثان وما بعده خبر عنه والجملة خبر «الذين». قال الضحاك : (فِي رَوْضَةٍ) في جنة. والرياض الجنات. وقال أبو عبيدة : الروضة ما كان في تسفّل فإن كان مرتفعا فهو ترعة ، وقال غيره :

أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في موضع مرتفع غليظ ، كما قال الأعشى : [البسيط]

٣٣٧ ـ ما روضة من رياض الحزن معشبة (١)

إلّا أنه لا يقال : لها روضة إلّا إذا كان فيها نبت فإن لم يكن فيها نبت وكانت مرتفعة فهي ترعة وقد قيل في الترعة غير هذا. قال الضحّاك : «يحبرون» يكرمون.

حكى الكسائي حبرته أي أكرمته ونعمته. قال أبو جعفر : سمعت علي بن سليمان يقول : هو مشتق من قولهم : على أسنانه حبرة أي أثر فيحبرون أي يتبيّن عليهم أثر النعيم ، الحبر مشتقّ من هذا.

أهل التفسير على أنّ هذا في الصلوات. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : حقيقته عندي فسبّحوا الله في الصلوات لأن التسبيح يكون في الصلاة ، وعن

__________________

(١) الشاهد للأعشى في ديوانه ١٠٧ ، ولسان العرب (تدع) ، و (هطل) ، و (حزن) ، وتهذيب اللغة ٢ / ٢٦٦ ، وتاج العروس (حزن) ، وعجزه : «خضراء جاد عليها مسبل هطل»

١٨٢

عكرمة أنه قرأ فسبحان الله حينا تمسون وحينا تصبحون (١) وهو منصوب على الظرف ، والمعنى : حينا تمسون فيه وحينا تصبحون حتى يعود على حين من نعمته شيء ، ومثله في القرآن (يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [البقرة : ٤٨] قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول: حروف الخفض لا تحذف ولكن تقدّر فيه الهاء فقط.

(وَلَهُ الْحَمْدُ) ويجوز النصب على المصدر.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أَنْ) في موضع رفع بالابتداء ، وكذا (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها. وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) روي عن ابن عباس المودّة حبّ الرجل امرأته ، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها سوء.

بيّن جلّ وعزّ آياته الدالة عليه بخلق السّموات والأرض واختلاف اللسان في الفم واختلاف اللغات واختلاف الألوان والصور على كثرة الناس فما تكاد ترى أحدا إلا وأنت تفرق بينه وبين الآخر ، فهذا من أدلّ دليل على المدبّر والباري ؛ لأن من صنع شيئا غيره لم يكن فيه هذا التفريق.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أي تقوم بلا عمد بقدرته ، وجعله أمرا مجازا كما يقال : هذا أمر عظيم.

وفي معنى (يَسْمَعُونَ) قولان : يقبلون مثل قوله : سمع الله لمن حمده ، والآخر

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ١٦٢ ، ومختصر ابن خالويه ١١٦.

١٨٣

أنّ منهم من كان إذا تلي القرآن وهو حاضر سدّ أذنيه لئلّا يسمع فلمّا بيّن جلّ وعزّ الدلالة عليه قال : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) أي الذي فعل هذه الأشياء قادر على أن يبعثكم ، وأجمع القراء على فتح التاء هاهنا في «تخرجون» واختلفوا في التي في «الأعراف» فقرأ أهل المدينة (وَمِنْها تُخْرَجُونَ) [الأعراف : ٢٥] ، وقرأ أهل العراق بالفتح ، وإليه يميل أبو عبيد والمعنيان متقاربان إلّا أن أهل المدينة فرقوا بينهما لنسق الكلام ، فنسق الكلام في التي في «الأعراف» بالضم أشبه إذ كان الموت ليس من فعلهم ، فكذا الإخراج والفتح في سورة الروم أشبه بنسق الكلام أي إذا دعاكم خرجتم أي أطعتم فالفعل بهم أشبه.

قال أبو الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلّ قنوت في القرآن فهو طاعة» (١) قال أبو جعفر : المعنى كلّ من في السّموات والأرض له مطيعون طاعة انقيادهم على ما شاء من صحّة وسقم وغنى وفقر ، وليست هذه الطاعة التي يجازون عليها.

(وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) وقد ذكرناه. (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي ما أراده جلّ وعزّ كان ، وقال الخليل رحمه‌الله : المثل الصفة.

(شُرَكاءَ) في موضع رفع و (مِنْ) زائدة للتوكيد. (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) مبتدأ وخبر وليست سواء هاهنا التي تكون ظرفا. (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) نصب بالفعل والكاف والميم في موضع خفض ، وهي أيضا في موضع رفع في التأويل كما تقول : عجبت من ضربكم عمرا. ويجوز من ضربكم عمرو لأن المصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول به ، وتقول : عجبت من وقع أنيابه بعضها على بعض ، وإن شئت رفعت لأن أنيابه في موضع رفع في التأويل إلّا أن الرفع في الظاهر قبيح عند الكوفيين ، فإن قلت : عجبت من وقعها بعضها على بعض ، حسن الرفع عند الجميع (كَذلِكَ) الكاف في موضع نصب ، والتقدير : نفصّل الآيات تفصيلا كذلك.

__________________

(١) انظر تفسير القرطبي ١٤ / ٢٠ ، و ١٥ / ٢٣٩.

١٨٤

(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ) جمع هوى لأنّ أصله فعل.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) أي اجعل جهتك للدين. (حَنِيفاً) على الحال. قال الضحاك : «حنيفا» مسلما حاجا. قال و (فِطْرَتَ اللهِ) دين الله. قال أبو إسحاق : «فطرة الله» نصب بمعنى اتّبع فطرة الله ، قال : لأن معنى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) اتبع الدين واتبع فطرة الله. قال محمد بن جرير : «فطرة» مصدر من معنى فأقم وجهك ؛ لأن معنى ذلك فطر الله الناس على ذلك فطرة. وقد ذكرنا فطرة الله بأكثر من هذا في «المعاني» ، والحديث «كل مولود يولد على الفطرة» ، وقول الفقهاء فيه. وقد قيل : معناه يولد على الخلقة التي تعرفونها ، وقيل : معنى فطرة الله التي فطر الناس عليها أي اتّبعوا دين الله الذي خلق الناس له. وسمّيت الفطرة دينا لأن الناس يخلقون له قال جلّ وعزّ (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] واحتجّ قائل بقوله جلّ وعزّ : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧].

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) منصوب على الحال. قال محمد بن يزيد : لأن معنى «فأقم وجهك» : وفأقيموا وجوهكم. وهو قول أبي إسحاق واحتج بقوله جلّ وعزّ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١] ، وقال الفراء (١) : المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين ورد أبو العباس قول من قال : التقدير لا يعلمون منيبين لأن معنى منيبين راجعون فكيف لا يعلمون راجعين ، وأيضا فإن بعده (وَاتَّقُوهُ) وإنما معناه فأقيموا وجوهكم واتّقوه (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) تأولته عائشة رضي الله عنها وأبو هريرة وأبو أمامة رحمهما‌الله على أنه لأهل القبلة ، وقال الربيع بن أنس : الذين فرقوا دينهم أهل الكتاب. وفارقوا دينهم تركوا دينهم الذي يجب أن يتبعوه ، وهو التوحيد. (وَكانُوا شِيَعاً) أي فرقا. (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) قيل : هم فرحون لأنهم لم يتبيّنوا الحق

__________________

(١) مرّ في إعراب الآية ٩ : مريم.

١٨٥

وعليهم أن يتبيّنوه ، وقيل : هذا قبل أن تظهر البراهين ، وقول ثالث أنّ العاصي لله جلّ وعزّ قد يكون فرحا بمعصيته ، وكذلك الشيطان ، وقطّاع الطريق وغيرهم ، والله أعلم.

وزعم الفراء (١) أنه يجوز أن يكون التمام «ولا تكونوا من المشركين» ويكون المعنى «من الذين فارقوا دينهم» (وَكانُوا شِيَعاً) على الاستئناف ، وأنه يجوز أن يكون متصلا بما قبله ، قال أبو جعفر : إذا كان متصلا بما قبله فهو عند البصريين على البدل بإعادة الحرف كما قال جلّ وعزّ : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف : ٧٥] ولو كان بلا حرف لجاز.

(دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) على الحال ، وعن ابن عباس أي مقبلين إليه بكلّ قلوبهم.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) لام كي ، وقيل : هي لام أمر فيه معنى التهديد ، كما قال جلّ وعزّ (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] وكما تقول (٢) : كلّم فلانا حتى نرى ما يلحقك منّي وكذا (فَتَمَتَّعُوا) ، ودلّ على ذلك (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) استفهام فيه معنى التوقيف. قال الضحّاك : «سلطانا» أي كتابا ، وزعم الفراء أن العرب تؤنّث السلطان ، وتقول : قضت به عليك السلطان. فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح ، وبه جاء القرآن ، والتأنيث جائز عندهم ؛ لأنه بمعنى الحجّة. وقولنا سلطان معناه صاحب سلطان أي صاحب الحجّة ؛ إلّا أن محمد بن يزيد قال غير هذا فيما حكى لنا عنه علي بن سليمان قال : سلطان جمع سليط كما تقول : رغيف ورغفان ، فتذكيره على معنى الجميع وتأنيثه على معنى الجماعة.

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) التقدير عند سيبويه قنطوا فلهذا كان جواب الشرط.

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) تأوله مجاهد وقتادة على أنه قريب الرجل ، وجعلا صلة

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٢٥.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٢٥.

١٨٦

الرحم فرضا من الله جلّ وعزّ حتى قال مجاهد : لا يقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة ، وقيل : ذو القربى القربى بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحقّه مبيّن في قوله جلّ وعزّ : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) [الأنفال : ٤١] ، «وابن السبيل» الضيف فجعل الضيافة فرضا ، (فَأُولئِكَ) مبتدأ و (هُمُ) مبتدأ ثان (الْمُضْعِفُونَ) خبر الثاني والجملة خبر الأول ، وفي معنى المضعفين قولان : أحدهما تضاعف لهم الحسنات والآخر أنه قد أضعف لهم الخير والنعيم أي هم أصحاب أضعاف ، كما يقال :

فلان مقو أي له أصحاب أقوياء ، ويقال : فلان رديء مردئ أي هو رديء في نفسه وأصحابه أردياء.

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) في معناه قولان : أحدهما ظهر الجدب في البر أي في البوادي وقرأها : وفي البحر أي في مدن البحر مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي ظهر قلّة الغيث وغلاء السعر بما كسبت أيدي الناس من المعاصي لنذيقهم عقاب بعض الذي عملوا ثم حذف. والقول الآخر : أنّ معنى (ظَهَرَ الْفَسادُ) ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم فهذا هو الفساد على الحقيقة. والأول مجاز إلّا أنه على الجواب الثاني يكون في الكلام حذف واختصار دلّ عليه ما بعده.

ويكون المعنى ظهرت المعاصي في البر والبحر فحبس الله عنهم الغيث وأغلى سعرهم ليذيقهم عقاب بعض ما عملوا (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وروى داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس «لعلهم يرجعون» لعلهم يتوبون. فأما قوله جلّ وعزّ : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ) فقد ذكرنا قول العلماء فيه أنه أن يهدي الرجل إلى الرجل الهدية يريد عليها المكافأة ولا يريد الثواب فذلك مباح إلّا أنه لا يثاب عليه لأنه لم يقصد به ثواب الله جلّ وعزّ غير أنّ الضحاك قال : نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك خاصة بقوله جلّ وعزّ : (لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر : ٦] وقد قيل : معنى وما آتيتم من ربا هو الربا الذي لا يحلّ ، وقال قائل هذا القول : معنى فلا يربو عند الله فلا يحكم به لآخذه لأنه ليس له وإنما هو للمأخوذ منه. وتثنية الربا ربوان ، كذا قول سيبويه (١) ، ولا يجوز عند أصحابه غيره. وسمعت أبا إسحاق يقول : وذكر قول الكوفيين ـ لا يكفيهم في قولهم ربيان أن يخطئوا في الخطّ فيكتبوا الربا بالياء حتى يخطئوا في التثنية واستعظم هذا ، وقد قال الله جلّ وعزّ : (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) ، فهذا

__________________

(١) انظر الكتاب ٣ / ٤٢٨.

١٨٧

أبين أنه من ذوات الواو ، وأن القول كما قال أبو إسحاق.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي لا يردّه الله جلّ وعزّ عنهم فإذا لم يردّه لم يتهيّأ لأحد دفعه ، ويجوز عند غير سيبويه (١) «لا مردّ له» وذلك عند سيبويه بعيد إلّا أن يكون في الكلام عطف. (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) الأصل يتصدّعون أدغمت التاء في الصاد لقربها منها ، ويقال : تصدّع القوم ، إذا تفرقوا ومنه اشتق الصّداع لأنه يفرق شعب الرأس.

(وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا) خبر كان. (نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) اسمها ، ولو كان في غير القرآن لجاز رفع حقّ ونصب نصر ، لأن حقّا ، وإن كان نكرة ، فبعده علينا ، ولجاز رفعهما على أن تضمر في كان والخبر في الجملة. وفي الحديث : «من ردّ عن عرض صاحبه ردّ الله عنه نار جهنّم ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)» (٢).

(وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) جمع كسفة وهي القطعة ، وفي قراءة الحسن وأبي جعفر وعبد الرحمن الأعرج. كسفا (٣) بإسكان السين ، وهو أيضا جمع كسفة كما يقال : سدرة وسدر ، وعلى هذه القراءة يكون المضمر الذي بعده عائدا عليه أي فترى الودق يخرج من خلال الكسف لأن كلّ جمع بينه وبين واحده «الهاء» لا غير ، التذكير فيه حسن ، ومن قرأ كسفا فالمضمر عنده عائد على الحساب ، وفي قراءة الضحاك فترى الودق يخرج من خلله (٤) ويجوز أن يكون خلال جمع خلل.

__________________

(١) انظر الكتاب ١ / ١٠٤.

(٢) أخرجه أحمد في مسنده ٦ / ٤٥٠ ، والترمذي في سننه رقم (١٩٣١) ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٣ / ٥١٧ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦ / ٢٨٤.

(٣) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٥٠٨. وتيسير الداني ١٤٢.

(٤) انظر إعراب الآية ١٢ من سورة الروم.

١٨٨

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) قد ذكرناه ، وكان أبو إسحاق يذهب إلى أنه على التوكيد ، ويقول : إنّ قول قطرب التقدير من قبل التنزيل خطأ لأن المطر لا ينفك من التنزيل ، وأنشد : [الطويل]

٣٣٨ ـ مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أغاليها مرّ الرّياح النّواسم (١)

فأنّث المرّ ، لأنّ الرياح لا تنفكّ منه ، ولأن المعنى تسفّهت أعاليها الرياح ، فكذا معنى : «من قبل أن ينزل عليهم المطر» من قبل المطر. ويقال : آثر وإثر. (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ) لا يجوز فيه الإدغام لئلا يجمع فيه ساكنان.

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) قيل : التقدير فرأوا الزرع مصفرّا ، وقيل : فرأوا السحاب ، وقيل فرأوا الريح ، وذكّرت الريح لأنها للمرسل منها ، وقال محمد بن يزيد لا يمتنع تذكير كلّ مؤنث غير حقيقي نحو أعجبني الدار ، وما أشبهه (لَظَلُّوا) قال الخليل رحمه‌الله : معناه ليظلّنّ. قال أبو إسحاق : وجاز هذا لأن في الكلام معنى المجازاة.

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) جعلوا بمنزلة الموتى والصمّ ، لأنهم لا ينتفعون بما يسمعون. (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) قال الفراء (٢) : ويجوز من ضلالتهم بمعنى وما أنت بمانعهم من ضلالتهم ، وعن بمعنى وما أنت بصارفهم عن ضلالتهم.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) قال عطية عن ابن عمر رحمه‌الله قال : قرأت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ضعف» فقال لي (مِنْ ضَعْفٍ) (٣) وقرأ عيسى بن عمر (مِنْ ضَعْفٍ) ، وقرأ الكوفيون (مِنْ ضَعْفٍ) وهو المصدر ، وأجاز النحويون منهم من ضعف ، وكذا كلّ ما كان فيه حرف من حروف الحلق ثانيا أو ثالثا. قال أبو إسحاق :

تأويله الله الذي خلقكم من النطفة التي حالكم معها الضعف ثم جعل من بعد الضعف الشبيبة.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم ١٤١.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٢٦.

(٣) انظر تيسير الداني ١٤٢.

١٨٩

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) وليس في هذا ردّ لعذاب القبر إذ كان قد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير طريق أنه تعوّذ منه ، وأمر أن يتعوّذ منه. من ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود قال : سمع صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّ حبيبة تقول : اللهمّ أمتعني بزوجي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال لها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سألت الله في آجال مضروبة وأرزاق مقسومة ولكن سليه أن يعيذك من عذاب جهنّم أو عذاب القبر» (١) في أحاديث مشهورة. وفي معنى (ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) قولان : أولهما أنّه يريد لا بدّ من خمدة قبل يوم القيامة ولحق الفناء الذي كتب على الخلق من رحم ومن عذّب فعلى هذا قالوا ما لبثنا غير ساعة لأنهم لم يعملوا مقدار ذلك ، والقول الآخر أنهم يعنون في الدنيا لزوالها وانقطاعها وإن كانوا قد أقسموا على غيب وعلى غير ما يدرون قال الله جلّ وعزّ (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي كذلك كانوا يكذبون في الدنيا ، وقد زعم جماعة من أهل النظر أن القيامة لا يجوز أن يكون فيها كذب لما هم فيه ، والقرآن يدل على غير ذلك. قال الله جلّ وعزّ : (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) وقال جلّ ثناؤه (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة : ١٨].

وردّ عليهم المؤمنون فقالوا : (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) قال أبو إسحاق: أي في اللّوح المحفوظ وحكى يعقوب عن بعض القراء «إلى يوم البعث» (٢)

فهذا ما فيه حرف من حروف الحلق.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) لمّا ردّ عليهم المؤمنون سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا فلم يعذروا (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ولا حالهم حال من يستعتب فيرجع.

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه ـ القدر ـ ٣٢ ، ٣٣.

(٢) انظر المحتسب ٢ / ١٦٦.

١٩٠

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يدلّهم على ما يحتاجون إليه.

(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) في موضع جزم بالنهي فأكّد بالنون الثقيلة فبني على الفتح ، كما يبنى الشيئان إذا ضمّ أحدهما إلى الآخر (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) في موضع رفع ، ومن العرب من يقول الذّون في موضع الرفع.

١٩١

٣١

شرح إعراب سورة لقمان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم تِلْكَ) في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي هذه تلك ، ويقال : تيك.

(آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) بدل من «تلك».

(هُدىً وَرَحْمَةً) نصب على الحال ، مثل (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) [الأعراف : ٧٣ ، وهود : ٦٤] وهذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم والكسائي ، وقرأ حمزة هدى ورحمة (١) بالرفع ، وهو من جهتين : إحداهما على إضمار مبتدأ لأنه أول آية ، والأخرى أن يكون خبر تلك.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) في موضع رفع على إضمار مبتدأ ، لأنه أول آية أو في موضع نصب بمعنى أعني ، أو في موضع خفض على أنه نعت للمحسنين.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ مِنَ) في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة. وعن رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أن «لهو الحديث» هاهنا الغناء وأنه ممنوع بالكتاب والسنة فيكون التقدير ومن الناس من يشتري ذا لهو أو ذات لهو ، مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أو يكون التقدير : لما

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٣ ، والبحر المحيط ٧ / ١٧٩.

١٩٢

كان إنما يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشترى اللهو. (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي ليضلّ غيره ومن قرأ ليضل (١) فعلى اللازم له عنده ، (وَيَتَّخِذَها) (٢) قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي (وَيَتَّخِذَها) عطفا على ليضلّ. والرفع من وجهين : أحدهما أن يكون معطوفا على يشتري ، والآخر أن يكون مستأنفا. والهاء كناية عن الآيات ، ويجوز أن تكون كناية عن السبيل لأن السبيل يذكّر ويؤنّث.

(كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) اسم كأنّ وتحذف الضمة لثقلها فيقال : أذن.

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) يكون (تَرَوْنَها) في موضع خفض على النعت لعمد أي بغير عمد مرئية ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال. قال أبو جعفر :

وسمعت علي بن سليمان يقول : الأولى أن يكون مستأنفا ويكون بغير عمد التمام. (أَنْ تَمِيدَ) في موضع نصب أي كراهة أن تميد ، والكوفيون يقدّرونه بمعنى لئلا تميد.

(فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) عن ابن عباس : من كلّ نوع حسن ، وتأوّله الشعبي على الناس لأنهم مخلوقون من الأرض ، قال : فمن كان منهم يصير إلى الجنة فهو الكريم ومن كان يصير إلى النار فهو اللئيم ، وقد تأول غيره أن النطفة مخلوقة من تراب وظاهر القرآن يدلّ على ذلك.

(هذا خَلْقُ اللهِ) مبتدأ وخبر. (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) «ما» في موضع رفع بالابتداء وخبره «ذا» وذا بمعنى الذي ، وخلق واقع على هاء محذوفة على هذا ، تقول: ماذا تعلّمت أنحو أم شعر ، ويجوز أن يكون «ما» في موضع نصب بخلق و «ذا» زائدة ، وعلى هذا تقول : ما ذا تعلمت أنحوا أم شعرا. (بَلِ الظَّالِمُونَ) رفع بالابتداء.

(فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في موضع الخبر.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٣ ، والبحر المحيط ٧ / ١٧٩ ، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو.

(٢) انظر تيسير الداني ١٤٣ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥١٢.

١٩٣

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) مفعولان ولم ينصرف لقمان لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين فأشبه فعلان الذي أنثاه فعلى فلم يصرف في المعرفة لأن ذلك ثقل ثان وانصرف في النكرة لأن أحد الثقلين زال. وزعم عكرمة أن لقمان كان نبيا وفي الحديث أنه كان حبشيا (١). (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) فيه تقديران : أحدهما أن تكون «أن» بمعنى أي مفسرة أي قلنا له اشكر ، والقول الآخر أنها في موضع نصب والفعل داخل في صلتها ، كما حكى سيبويه : كتبت إليه أن قم إلا أن هذا الوجه بعيد. (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) جزم بالشرط ، ويجوز الرفع على أن من بمعنى الذي.

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ) «إذ» في موضع نصب ، والمعنى واذكر ، وحكى أبو إسحاق في كتابه في القرآن أن «إذ» في موضع نصب بآياتنا وأن المعنى ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال. قال أبو جعفر : وأحسبه غلطا لأن في الكلام واوا تمنع من ذلك وأيضا فإن اسم لقمان مذكور بعد قال. (يا بُنَيَ) (٢) بكسر الياء ؛ لأنها دالّة على الياء المحذوفة ومن فتحها فلخفّة الفتحة عنده.

(إِنَّها) الكتابة عن القصة أو عن الفعلة أو بمعنى : إنّ التي سألتني عنها لأنه يروى أنه سأله ، والبصريون يجيزون إنّها زيد ضربته ، بمعنى أن القصة ، والكوفيون لا يجيزون هذا إلّا في المؤنث (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) خبر «تك» واسمها مضمر فيها ، واستبعد أبو حاتم أن يقرأ (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ) (٣) بالرفع. لأن مثقالا مذكّر فلا يجوز عنده إلا بالياء. قال أبو جعفر : وهذا جائز صحيح وهو محمول على المعنى لأن المعنى واحد ، وهذا كثير في كلام العرب يقال : اجتمعت أهل القيامة لأن من كلامهم اجتمعت اليمامة ، وزعم الفراء أن مثل الآية قول الشاعر :

٣٣٩ ـ وتشرق بالقول الّذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدّم (٤)

فأما (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) فمعترض بين كلام لقمان كما روى شعبة عن سماك ابن حرب عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : قالت أم سعد لسعد : أليس قد أمر الله جلّ

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ١٨١.

(٢) انظر تيسير الداني ١٤٣ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥١٣.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٢٨ ، والبحر المحيط ٧ / ١٨٢.

(٤) مرّ الشاهد رقم (١٣٠).

١٩٤

وعزّ ببرّ الوالدة؟ فو الله لا أطعم ولا أشرب حتى تكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا إذا أرادوا أن يطعموها أو جروها بالعصا وجعلوا في فيها الطعام والشراب ، فنزلت (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) إلى (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الآية فأما نصب «وهنا على وهن» قال أبو جعفر : فما علمت أن أحدا من النحويين ذكره فيكون مفعولا ثانيا على حذف الحرف أي حملته بضعف على ضعف أو فازدادت ضعفا على ضعف ، و (مَعْرُوفاً) نعت لمصدر محذوف. وزعم أبو إسحاق في كتابه أن «أن» في موضع نصب وأن المعنى ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي ولوالديك. وهذا القول على مذهب سيبويه بعيد ولم يذكر أبو إسحاق فيما علمت غيره. وأجود منه أن تكون «أن» مفسرة والمعنى : قلنا له اشكر لي ولوالديك.

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) معنى إقامة الصّلاة إتمامها بجميع فروضها ، كما يقال : فلان قيّم بعمله الذي وليه أي قد وفّى العمل جميع حقوقه ، ومنه هذا قوام الأمر (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) وهو أن لا يخرج من الجزع إلى معصية الله وكذا الصبر عن المعاصي.

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) قد ذكرناه وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال : «تصاعر» من واحد مثل عافاه الله (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي متبخترا متكبرا. وهو مصدر في موضع الحال.

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي توسّط والتوسط أحمد الأمور ، وكذا (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أدّبه الله جلّ وعزّ بالأمر بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا بهم (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) قال أبو عبيدة (١) : أي أشدّ ، وقال الضحاك : وهما جميعا على المجاز.

وفي الحديث «ما صاح حمار ولا نبح كلب إلّا أن يرى شيطانا» (٢).

__________________

(١) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ٢ / ١٢٧.

(٢) أخرجه الترمذي في سننه ـ الدعاء ١٣ / ١٣ ، بمعناه.

١٩٥

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وذلك من نعم الله جلّ وعزّ على بني آدم فالأشياء كلّها مسخرة لهم من شمس وقمر ونجوم وملائكة تحوطهم ، وتجرّ إليهم منافعهم ، ومن سماء وما فيهما لا يحصى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) على الحالومن قرأ نعمة ظاهرة وباطنة (١) جعله نعتا ، وهي قراءة ابن عباس من وجوه صحاح مروية وفسرها : الإسلام ؛ وشرح هذا أنّ سعيد بن جبير قال في قوله جلّ وعزّ :

(وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) [المائدة : ٦] قال : يدخلكم الجنة وتمام نعمة الله على العبد أن يدخله الجنة فكذا لمّا كان الإسلام يؤول أمره إلى الجنة سمّي نعمة ، وعن ابن عباس قال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) قال : هو النّضر بن الحارث.

(أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي أولو كان كذا يتّبعونه على التوبيخ.

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) وقراءة أبي عبد الرحمن السلمي (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ). قال : «يسلم» في هذا أعرف ، كما قال جلّ وعزّ : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) ومعنى «أسلمت وجهي لله» قصدت بعبادتي إلى الله وأقررت أنه لا إله غيره ، ويجوز أن يكون التقدير : ومن يسلم نفسه إلى الله مثل (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] معناه إلّا إياه. ويكون يسلّم على التكثير إلّا أنّ المستعمل في سلّمت أنه بمعنى دفعت يقال : سلّمت في الحنطة وقد يقال : أسلمت. وروى جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) قال : لا إله إلا الله.

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) «أنّ» في موضع رفع ، والتقدير ولو وقع هذا و «أقلام» خبر أن. (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ) مرفوع من جهتين : إحداهما العطف على الموضع ،

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٣ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥١٣.

١٩٦

والأخرى أن يكون في موضع الحال. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ) (١)

بالنصب على اللفظ. وحكى يونس عن ابن أبي عمرو بن العلاء قال : ما أعرف للرفع وجها إلّا أن يجعل البحر أقلاما وأبو عبيد يختار الرفع لكثرة من قرأ به إلا أنه قال : يلزم من قرأ بالرفع أن يقرأ و (كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) [المائدة : ٤٥]. قال أبو جعفر :

هذا مخالف لذاك عند سيبويه ، قال سيبويه (٢) : أي والبحر هذا أمره يجعل الواو تؤدّي عن الحال ، وليس هذا في (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) (يمدّه) ، وحكي «يمدّه» على أنهما لغتان بمعنى واحد ، وحكي التفريق بين اللغتين وأنّه يقال فيما كان يزيد في الشيء مدّة يمدّه كما تقول : مدّ النيل الخليج ، أي زاد فيه ، وأمدّ الله جلّ وعزّ الخليج بالنيل. وهذا أحسن القولين ، وهو مذهب الفراء (٣) ، ويجوز تمدّه. (مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) على تأنيث السبعة. (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) قال قتادة : قالوا : إنّ ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سينفد فأنزل الله جلّ وعزّ يعني هذا.

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) قال الضحاك : أي ما ابتداء خلقكم جميعا إلّا كخلق نفس واحدة ، وما بعثكم يوم القيامة إلّا كبعث نفس واحدة. قال أبو جعفر :

وهكذا قدّره النحويون بمعنى إلّا كخلق نفس واحدة مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ).

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) عن ابن مسعود أنه قال : قصر نهار الشتاء في طول ليله ، وقصر ليل الصيف في طول نهاره.

(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) لأن سبيل الموج إذا اشتدّ أن يرتفع. قال الفراء : يعني بالظّلل السحاب. قال الخليل وسيبويه رحمهما‌الله في قاض وجاز : يوقف عليهما بغير تاء ، وعلتهما في ذلك أن يعرف أنه في الوصل كذلك وكان القياس أن يوقف عليهما بالياء لأن التنوين يزول في الوقف ، وحكى يونس أن بعض العرب الموثوق بلغتهم يقف بالياء فيقول : جاءني قاضي وجازي.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٣ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥١٣.

(٢) انظر الكتاب ٢ / ١٤٥.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٢٩.

١٩٧

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ) (١) (الْغَيْثَ) زعم الفراء (٢) أن في هذا معنى النفي أي ما لم يعلمه أحد إلّا الله جل وعز. قال أبو جعفر : إنما صار فيه معنى النفي والإيجاب بتوقيف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله جلّ وعزّ (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) [الأنعام : ٥٩] لا يعلمها إلّا هو أنها هذه. قال أبو إسحاق : فمن زعم أنه يعلم شيئا من هذا فقد كفر (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) ومن العرب من يقول : بأيّة أرض. فمن قال :

بأيّ أرض قال : تأنيث الأرض يكفي من تأنيث أي ، ومن قال : بأيّة أرض قال : أي تنفرد تأتي بغير إضافة لو قال : جاءتني امرأة ، قلت أيّة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) نعت لعليم أو خبر بعد خبر.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٣.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٣٠.

١٩٨

٣٢

شرح إعراب سورة السجدة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ) الاجتماع على رفع تنزيل ، ورفعه من ثلاثة أوجه :

أحدها بالابتداء والخبر (لا رَيْبَ فِيهِ) ، والثاني على إضمار مبتدأ أي هذا المتلو تنزيل ، والثالث بمعنى هذه الحروف تنزيل و «ألم» تدل على الحروف كلها كما تدل عليها أب ت ث. ولو كان تنزيل منصوبا على المصدر لجاز كما قرأ الكوفيون (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) [يس : ٣ ـ ٥].

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) «أم» تدلّ على خروج من حديث إلى حديث (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) مبتدأ وخبره ، وكذا (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) أي للكافرين من مولى يمنع من عذابهم (وَلا شَفِيعٍ) ، ويجوز بالرفع على الموضع (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) هذه الموعظة.

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير (خَلَقَهُ) (١) بإسكان اللام ونصبه في هذه القراءة على المصدر عند سيبويه مثل (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل : ٨٨] ، وعند غيره على البدل من «كلّ» أي الّذي أحسن خلق كلّ شيء وهما مفعولان على مذهب بعض النحويين بمعنى أفهم كلّ شيء خلقه و (خَلَقَهُ) على أنه فعل

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٤ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥١٦.

١٩٩

ماض في موضع خفض نعت لشيء والمعنى على ما يروى عن ابن عباس : أحكم كلّ شيء خلقه أي جاء به ما أراد لم يتغيّر عن إرادته ، وقول آخر أن كلّ شيء يخلقه حسن لأنه لا يقدر أحد أن يأتي بمثله ، وهو دالّ على خالقه. قال أبو إسحاق : ويجوز الذي أحسن كل شيء خلقه بالرفع بمعنى ذلك خلقه. (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) يعني آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ) مشتقّ من سللت الشيء وفعالة للقليل. (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) قال أبو إسحاق : أي ضعيف ، وقال غيره : أي لا خطر له عند الناس.

(ثُمَّ سَوَّاهُ) يعني الماء. (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أي الّذي يحيا به. (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) فوحّد السمع وجمع الأبصار ، لأنّ السمع في الأصل مصدر ، ويجوز أن يكون واحدا يدلّ على جمع (وَالْأَفْئِدَةَ) جمع فؤاد وهو القلب.

وقالوا أأذا ضللنا في الأرض أأنا (١) لفي خلق جديد ويقرأ (أَإِنَّا) في هذا سؤال صعب من العربية يقال : ما العامل في «إذ» و «إنّ» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها؟ والسؤال في الاستفهام أشدّ لأن ما بعد الاستفهام أجدر أن لا يعمل فيما قبله من «أنّ» كيف وقد اجتمعا؟ فالجواب على قراءة من قرأ أنا أنّ العامل ضللنا ، وعلى قراءة من قرأ (أَإِنَّا) أن العامل مضمر ، والتقدير : أنبعث إذا متنا ، وفيه أيضا سؤال يقال : أين جواب إذا على القراءة الأولى لأن فيها معنى الشرط؟ فالقول في ذلك أن بعدها فعلا ماضيا فلذلك جاز هذا ، وعن أبي رجاء وطلحة أنهما قرءا (أَإِذا ضَلَلْنا) (٢) وهي لغة شاذة ، وعن الحسن ا إذا صللنا بالصاد ، وهكذا رواها الفراء (٣) ، وزعم أنها تروى عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ولا يعرف في اللغة صللنا ولكن يعرف صللنا ، يقال : صل اللحم وأصل ، وخمّ وأخمّ إذ أنتن.

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) قال أبو إسحاق : هو من توفية العدد أي يستوفي عددكم أجمعين.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ١٩٥ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٢٨٥.

(٢) انظر البحر المحيط ٧ / ١٩٥.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٣١١.

٢٠٠