إعراب القرآن - ج ٣

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٠

غرفات أبدل من الضمة فتحة لأنها أخف ، ويجوز أن يكون «غرفات» جمع غرف ومن قرأ (الْغُرْفَةَ) أتى بواحدة تدل على جماعة والجمع أشبه لأن الإخبار عن جمع.

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) وهذا فيما أنفق في طاعة الله جلّ وعزّ فهو مخلف لا محالة إما في الدنيا وإما في الآخرة. (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي رزق العباد.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) على الحال (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) قال سعيد عن قتادة هذا استفهام مثل قوله جلّ وعزّ لعيسى عليه‌السلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) [المائدة : ١١٦]. قال أبو جعفر : والمعنى أن الملائكة صلوات الله عليهم إذا أكذبتهم كان في ذلك تبكيت لهم.

(قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) أي أنت المتولّي لنا دونهم. (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) أي يطيعونهم. (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) بقبولهم منهم وهو مجاز.

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) قال سفيان عن ليث عن مجاهد : «بواحدة» قال : لا إله إلا الله ، وقال غيره : تقديره بخصلة واحدة ثم بينها بقوله جلّ وعزّ : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) وتكون «أن» في موضع خفض على البدل من واحدة أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ ، ومذهب أبي إسحاق أنها في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا (مَثْنى وَفُرادى) على الحال وهو لا ينصرف لعلّتين قد ذكرناهما (١) ، (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) معطوف على تقوموا.

وقرأ عيسى بن عمر علام الغيوب (٢) على أنه بدل أي : قل إنّ ربّي علّام

__________________

(١) انظر إعراب الآية ٣ / من سورة النساء.

(٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٧٨ ، وهذه قراءة ابن أبي إسحاق وزيد بن علي وابن أبي عبلة وأبي حيوة وحرب أيضا.

٢٤١

الغيوب يقذف بالحقّ. قال أبو إسحاق : والرفع من جهتين : على الموضع لأن الموضع رفع وعلى البدل مما في «يقذف». قال أبو جعفر : وفي الرفع وجهان آخران : يكون خبرا بعد خبر ، ويكون على إضمار مبتدأ. وزعم الفراء أن الرفع في مثل هذا أكثر في كلام العرب إذا أتى بعد خبر «إنّ» ومثله (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤].

(قُلْ جاءَ الْحَقُ) قال سعيد عن قتادة ، قال : القرآن. قال أبو جعفر : والتقدير : جاء صاحب الحقّ أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج الحق. (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ) قال سعيد عن قتادة ، قال : الباطل إبليس. والتقدير في العربية صاحب الباطل. وقال الضحاك : الباطل الآلهة ، وقال : وما يبدئ وما يعيد أي ما يحيى وما يميت وقال قتادة (ما يُبْدِئُ) و (ما يُعِيدُ) ما يخلق وما يبعث ، وقال غيره : (ما يُبْدِئُ الْباطِلُ) أي ما يبتدي بحجة و (ما يُعِيدُ) ما يحكي عن غيره حجة «ما» الأولى في موضع نصب يبدئ ، و «ما» الثانية في موضع نصب بيعيد. قال أبو إسحاق : والأجود أن تكون «ما» نافية.

(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) شرط وجوابه ، وكذا (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) فإن جعلت «ما» بمعنى الذي كانت الهاء محذوفة ، وإن جعلتها مصدرا لم يحتج إلى عائد (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) أي يسمع ممن دعاه قريب الإجابة له.

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) حذف جواب «لو» قال أبو إسحاق : المعنى : ولو ترى إذ فزعوا لرأيت ما يعتبر به عبرة شديدة أي فلا فوت لهم أي فلا يمكنهم الفوت.

وقرأ أبو عمرو والكسائي والأعمش وحمزة (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) (١) بالهمز وأبو عبيد يستبعد هذه القراءة ، لأن «التناؤش» البعد فيكون فكيف يكون وأنّى لهم البعد من مكان بعيد. قال أبو جعفر : والقراءة جائزة حسنة ولها وجهان في كلام العرب ولا يتناول بها هذا المتناول البعيد ، فأحد الوجهين أن يكون الأصل غير مهموز ثم همزت الواو لأن الحركة فيها خفية وذلك كثير في كلام العرب ، وفي المصحف الذي نقلته

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٧ ، والبحر المحيط ٧ / ٢٨٠.

٢٤٢

الجماعة عن الجماعة (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) [المرسلات : ١١] والأصل «وقّتت» لأنه مشتق من الوقت. ويقال في جمع دار : أدؤر. والوجه الآخر قد ذكره أبو إسحاق :

قال : يكون مشتقا من «النئيش» وهو الحركة في إبطاء أي من أين لهم الحركة فيما قد بعد وقد كفروا به من قبل؟

(وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) والعرب تقول لكلّ من يتكلّم بما لا يحقه : هو يقذف ويرجم بالغيب. (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) على التمثيل بمن يرجم ولا يصيب برجمه.

ومن قرأ (وَيَقْذِفُونَ) (١) فمعناه عنده يقذف به إليهم من يغويهم ويضلّهم.

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) قيل : حيل بينهم وبين النجاة من العذاب ، وقيل : حيل بينهم وبين ما يشتهونه في الدنيا من أموالهم وأهليهم. ومذهب قتادة أن المعنى أنهم كانوا يشتهون أن يقبل منهم أن يطيعوا الله جلّ وعزّ وينتهوا إلى ما يأمرهم به فحيل بينهم وبين ذلك ، لأن ذلك إنما كان في الدنيا ، وقد زالت في ذلك الوقت. والأصل في حيل «حول» فقلبت حركة الواو على الحاء فانقلبت ياء فحذفت حركتها لثقلها. (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍ) أي في الدنيا والتوحيد (مُرِيبٍ) أي يستراب به.

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ١٢٢.

٢٤٣

٣٥

شرح إعراب سورة فاطر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيه ثلاثة أوجه : الخفض على النعت ، والرفع على إضمار مبتدأ ، أو النصب على المدح ، وحكى سيبويه (١) : الحمد لله أهل الحمد ، مثله ، وكذا (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) ولا يجوز فيه التنوين لأنه لما مضى (رُسُلاً) مفعول ثان ، ويقال : على إضمار فاعل لأن «فاعلا» إذا كان لما مضى مضافا لم يعمل شيئا (أُولِي أَجْنِحَةٍ) نعت ، قال أبو إسحاق : أي أصحاب أجنحة (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) لم ينصرف لأن فيها علّتين : إحداهما أنها معدولة فهذا اتّفاق ، واختلف في الثانية لأن النحويين القدماء لم يذكروها. قال أبو إسحاق : العلّة الثانية أنّه عدل في حال نكرة وقال غيره : العلّة الثانية أنه صفة ، وقول ثالث إنه معدول عن اثنين اثنين فهذه علّة ثانية.

وأجاز النحويون (٢) في غير القرآن : فلا ممسك له ، على لفظ «ما» «ولها» على المعنى وأجازوا : (وَما يُمْسِكْ) فلا مرسل لها على معنى «ما» ، وأجازوا : فلا ممسك لها ، يكون بمعنى ليس وكذا «فلا مرسل له» وأجازوا : «ما يفتح الله للناس من رحمة» تكون «ما» بمعنى الذي.

__________________

(١) انظر الكتاب ٢ / ٥٧.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٦٦.

٢٤٤

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) هذه قراءة شيبة ونافع وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ شقيق بن سلمة ويزيد بن القعقاع ويحيى بن وثّاب وحمزة والكسائي هل من خالق غير الله (١) ويجوز نصب غير على الاستثناء. والرفع من جهتين :

إحداهما بمعنى : هل من خالق إلّا الله بمعنى ما خالق إلّا الله ، والوجه الثاني أن يكون نعتا على الموضع ، لأن المعنى هو خالق غير الله. والخفض على اللفظ ، وقال حماد ابن سلمة : حدّثنا حميد الطويل قال : قلت للحسن : من خلق الشرّ؟ فقال : سبحان الله ، هل من خالق غير الله جلّ وعزّ الله خلق الخير والشرّ.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) تأسيا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) قال أبو إسحاق : أي الأمور مرجعها إلى الله جلّ وعزّ فيجازي من كذّب وينصر من كذّب من رسله.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) قال سعيد بن جبير : غرور الحياة الدنيا أن يشغل الإنسان بنعيمها وفتنتها عن عمل الآخرة حتى (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر : ٢٤] (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ). وقال شعبة عن سماك (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٢) بضم الغين. وفيه ثلاثة أقوال : منها أن يكون مع غار ، كما تقول جالس وجلوس ، وهذا أحسن ما قيل فيه ، ويكون معناه كمعنى «الغرور» ، قال أبو حاتم :

الغرور جمع غر ، وغر مصدر ، والقول الثالث يكون الغرور مصدرا ، وهذا بعيد عند أبي إسحاق لأن غررته متعد ، والمصدر من المتعدّي إنّما هو على فعل نحو ضربته ضربا إلّا أشياء يسيرة سمعت لا يقاس عليها قالوا : لزمته لزما ، ونهكه المرض نهوكا. فأما معنى هذا الحرف فأحسن ما قيل فيه ما قاله سعيد بن جبير ، قال : الغرور بالله جلّ وعزّ أن يكون الإنسان يعمل المعاصي ثم يتمنّى على الله جلّ وعزّ المغفرة.

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) ويكون عدوّ بمعنى معاد فيثنّى ويجمع ويؤنث ، ويكون بمعنى النسب فيكون موحّدا بكلّ حال كما قال جلّ وعزّ : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) [الشعراء :

٧٧] وفي المؤنث على هذا عدوّ أيضا. فأما قول بعض النحويين : إن الواو خفيّة فجاؤوا بالهاء فخطأ بل الواو حرف جلد. (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) مفعولان. (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ)

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٨ ، وفيه (غير الله) بخفض الراء قراءة حمزة والكسائي والباقون برفعها.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ١٢٢.

٢٤٥

كفّت «ما» «إنّ» عن العمل فوقع بعدها الفعل (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ)

(الَّذِينَ كَفَرُوا) يكون بدلا من «أصحاب» ويكون في موضع خفض ، ويكون بدلا من حزبه فيكون في موضع نصب ، أو يكون بدلا من الواو فيكون في موضع رفع ، وقول رابع ، وهو أحسنها ، يكون في موضع رفع بالابتداء ويكون خبره (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ). فأما (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ففي موضع رفع بالابتداء وخبره (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) «من» في موضع رفع بالابتداء ، وخبره محذوف لما دلّ عليه. قال الكسائي : والذي دلّ عليه. (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) والمعنى : أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا ذهبت نفسك عليهم حسرات ، قال : وهذا كلام عربي حسن ظريف لا يعرفه إلّا قليل. والذي قاله الكسائي أحسن ما قيل في الآية لما ذكره فمن الدلالة على المحذوف ، والمعنى أنّ الله جلّ وعزّ نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شدّة الاغتمام بهم والحزن عليهم كما قال جلّ وعزّ (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) [الشعراء : ٣] قال أهل التفسير : أي : قاتل نفسك ، وقرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا نصر بن علي قال : سألت الأصمعي عن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أهل اليمن «هم أرقّ قلوبا وأبخع طاعة» (١) ما معنى أبخع طاعة ، قال أنصح طاعة قال : فقلت له : إنّ أهل التفسير مجاهدا وغيره يقولون : في قول الله جلّ وعزّ (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) معناه قاتل نفسك فقال : هو من ذلك بعينه كأنه من شدّة النصح لهم قاتل نفسه ، وقراءة أبي جعفر (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ) (٢) والمعنيان متقاربان و «حسرات» منصوب على أنه مفعول من أجله أو مصدر.

و (بَلَدٍ مَيِّتٍ) وميّت (٣) واحد ، وكذا ميتة وميتة واحد. هذا قول الحذّاق من النحويين ، وقال محمد بن يزيد : هذا قول البصريين ولم يستثن أحدا واستدلّ على ذلك بدلائل قاطعة من كلام العرب.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في المناقب ١٠ / ٢٨٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٨٨ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٦٧.

(٣) انظر تيسير الداني ٧٣.

٢٤٦

وأنشد (١) : [الخفيف]

٣٥٢ ـ ليس من مات فاستراح بميت

إنّما الميت ميّت الأحياء

إنّما الميت من يعيش كئيبا

كاسفا باله قليل الرّخاء

ويروى «قليل الرّجاء» قال : فهل ترى بين ميت وميت من فرق؟ وأنشد : [البسيط]

٣٥٣ ـ هينون لينون أيسار بنو يسر

سوّاس مكرمة أبناء أيسار (٢)

قال : قد أجمعوا على أنّ قوله : هينون وهيّنون واحد ، فكذا ميت وميّت وسيد وسيّد ، قال : وزعم سيبويه أن قولهم كان كينونة وصار صيرورة الأصل فيه كينونة وصيرورة ، وكذا قيدودة ، وردّ محمد بن يزيد (٣) على الكوفيين قولهم : إنه فعلول من جهتين : إحداهما لأنه ليس في كلام العرب فعلول والثانية أنه لو كان كما قالوا لكان بالواو. قال أبو جعفر : هذا كلام بيّن حسن في كينونة لأنها من الكون وفي القيدودة لأنها من الأقود. (كَذلِكَ النُّشُورُ) أي كذلك تحيون بعد ما متّم. من نشر الإنسان نشورا إذا حيي وأنشره الله جلّ وعزّ.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) التقدير عند الفراء : من كان يريد علم العزّة ، وكذا قال غيره من أهل العلم من كان يريد علم العزّة التي لا ذلة معها لأن العزّة إذا كانت تؤدّي إلى ذلّة فإنها هي تعرّض للذلة ، والعزّة التي لا ذلّة معها لله جلّ وعزّ. (جَمِيعاً) على الحال. وقدر أبو إسحاق معناه : من كان يريد بعبادة الله جلّ وعزّ العزّة به فإن الله يعزّه في الآخرة والدنيا. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) تمّ الكلام وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي إليه يصعد الكلام (٤) والكلم جمع كلمة. وأهل التفسير ابن عباس ومجاهد والربيع ابن أنس وشهر بن حوشب وغيرهم قالوا : والمعنى العمل الصالح يرفع الكلم الطيّب.

وهذا رد على المرجئة. (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ) رفع بالابتداء أو على إضمار فعل. فأما أن يكون مرفوعا بمعنى ويرفعه العمل الصالح فخطأ ؛ لأن الفاعل إذا كان قبل الفعل لم يرتفع بالفعل. هذا قول جميع النحويين إلّا شيئا حكاه لنا علي بن سليمان عن أحمد بن

__________________

(١) الشعر لعدي بن الرعلاء في تاج العروس (موت) ، ولسان العرب (موت) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١٤ / ٣٤٣ وتاج العروس (حيي) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ١٧٣.

(٢) الشاهد لعبيد بن العرندس الكلابي في الكامل ٧٢ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٢٦٥ ، والخصائص ٢ / ٢٨٩ ، والمنصف ٣ / ٦١.

(٣) انظر المقتضب ٣ / ١٣٥.

(٤) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٦٧ ، والبحر المحيط ٧ / ٢٩٠.

٢٤٧

يحيى أنه أجاز : زيد قام بمعنى قام زيد. قال أبو جعفر : ويبيّن لك فساد هذا قول العرب : الزيدان قاما ، ولو كان كما قال لقيل : الزيدان قام. (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) بمعنى والذين يعملون السيئات فتكون السيئات مفعولة ، ويجوز أن يكون التقدير والذين يسيئون فيكون السيئات مصدرا (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) خبر «الذين. (وَمَكْرُ أُولئِكَ) مبتدأ ، وهو ابتداء ثان و (يَبُورُ) خبر الثاني ، ويجوز أن يكون خبرا عن الأول ، ويكون هذا زائدة. وتقول : بار يبور إذا هلك ومنه بارت السوق ، ونعوذ بالله جلّ وعزّ بوار الأيّم.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) قال سعيد عن قتادة قال : يعني آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتقدير على هذا خلق أصلكم من تراب. (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) قال : أي التي أخرجها من ظهور آبائكم. (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) قال : أي زوّج بعضكم بعضا. (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ). حدّثنا علي بن الحسين عن الحسن بن حمد قال : حدّثنا ابن عوانة عن عطاء ابن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : وما يعمّر من معمّر إلّا كتب عمره كم هو سنة؟ كم هو شهرا؟ كم هو يوما؟ وكم هو ساعة؟ ثم يكتب عند عمره نقص كذا نقص كذا حتى يوافق النقصان العمر. ومذهب الفراء في معنى (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أي ما يطوّل من عمره وما ينقص من عمره يعني آخر أي ولا ينقص الآخر من عمر ذاك (إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) والفعل منه يسر ، ولو سمّيت به إنسانا انصرف لأنه فعيل.

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ) روى ابن عباس قال : فرات حلو ، وأجاج :

مالح مرّ. وقرأ طلحة (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) (١) بفتح الميم وكسر اللام بغير ألف ، وأما المالح فهو الذي يجعل الملح لإصلاح الشيء. (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) لا اختلاف في هذا أنّه منهما جميعا. (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) مذهب أبي إسحاق أن الحلية إنما تستخرج من الملح فقيل : منهما لأنهما مختلطان ، وقال غيره : إنما تستخرج

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٩١ ، والمحتسب ٢ / ١٩٩.

٢٤٨

الأصداف التي قال فيها الحلية من الدرّ وغيره ، ومن المواضع التي فيها العذب والملح نحو العيون وقال محمد بن يزيد قولا ثالثا هو أحسنها قال : إنما تستخرج الحلية من الملح خاصة ، وليس هذا عنده لأنهما مختلطان ولكن جمعا ثم خبّر عن أحدهما كما قال جلّ وعزّ (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [يونس : ٦٧] وكما تقول : لو رأيت الحسن والحجّاج لرأيت خيرا وشرا ، وكما تقول : لو رأيت الأصمعيّ وسيبويه لملأت يدك لغة ونحوا ، فقد عرف معنى هذا ، وهو كلام فيصيح كثير فكذا. (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) فاجتمع في الأول وانفرد الملح بالثاني فصارا مجتمعين في كل هذا. قال : (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) أي في الملح خاصة ، ولو لا ذلك لقال : فيهما وقد مخرت السفينة تمخر وتمخر إذا شقّت الماء ، كما قال طرفة : [الطويل]

٣٥٤ ـ يشقّ حباب الماء حيزومها بها

كما قسم التّرب المفايل باليد (١)

وقيل : الأجل المسمّى هاهنا القيامة لأنها عند الله جلّ وعزّ مسمّاة لوقت معلوم (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : القطمير جلد النواة.

(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) شرط ومجازاة. (وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) فيه معنى الأول وإن كانت لو لا يجازى بها. قال قتادة (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) ما تبعوكم ولا قبلوا منكم. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ). قال أبو إسحاق : أي يقولون : ما كانوا إيّانا يعبدون. (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) قال قتادة : الله جلّ وعزّ أخبر أنه يكون هذا منكم يوم القيامة.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) بتخفيف الهمزة الثانية أجود الوجوه عند الخليل رحمه‌الله ويجوز تخفيف الأولى وحذفها وتخفيفها جميعا وتحقيقهما جميعا. (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) تكون «هو» زائدة فلا يكون لها موضع من الإعراب ، وتكون مبتدأة فيكون موضعها رفعا.

__________________

(١) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه ٢٠ ، ولسان العرب (حبب) و (فيل) ، وكتاب العين ٣ / ٣٢ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٢٨ ، والمخصّص ٩ / ١٤٩ ، وتهذيب اللغة ٤ / ١٠ ، وتاج العروس (فأل) ، و (حبب) و (فيل).

٢٤٩

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) شرط ومجازاة وفيه حذف تستعمله العرب كثيرا. والتقدير :

إن يشأ أن يذهبكم يذهبكم وحذفت من «يشأ» الضمة التي كانت على الهمزة فلما سكنت حذفت الألف التي قبلها. (وَيَأْتِ) معطوف على يذهبكم.

(وَلا تَزِرُ) مقطوع مما قبله والأصل توزر حذفت الواو اتباعا ليزر. (وازِرَةٌ) نعت لمحذوف أي نفس وازرة ، وكذا (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) قال الفراء (١) : أي نفس مثقلة أو دابة قال: وهذا يقع للمذكّر والمؤنث. قال الأخفش : أي وإن تدع مثقلة إنسانا (إِلى حِمْلِها) والحمل ما كان على الظهر ، وحمل المرأة وحمل النخلة حكاهما الكسائي بالفتح لا غير ، وحكى ابن السكيت : إنّ حمل النخلة يفتح ويكسر (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) التقدير على قول الأخفش ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى ، وأجاز الفراء (٢) : ولو كان ذو قربى قال أبو جعفر : وهذا جائز عند سيبويه ، ومثله (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠] وتكون «كان» بمعنى وقع أو يكون الخبر محذوفا أي وإن كان فيمن تطلبون ذو عسرة ، وحكى سيبويه : الناس مجزيّون بأعمالهم إن خير فخير ، على هذا ، وإن خيرا فخيرا ، على الأول وحكى الحكم بن أبان عن عكرمة أنه قال : بلغني أنّ اليهوديّ والنصراني يرى الرجل المسلم يوم القيامة فيقول له : ألم أكن قد أسديت إليك يدا ألم أكن قد أحسنت إليك فيقول : بلى فيقول : انفعني فلا يزال المسلم ينقص من عذابه ، وأن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول : ألم أكن بك بارا وعليك مشفقا وإليك محسنا ، وأنت ترى ما أنا فيه فهب لي حسنة من حسناتك أو تحمل عني سيئة فيقول : إن الذي سألتني يسير ولكني أخاف مثل ما تخاف ، وإن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيردّ عليه نحوا من هذا ، وإن الرجل ليقول لزوجته : ألم أكن حسن العشرة لك فتحملي عني خطيئة لعلي أنجو فتقول : إنّ ذلك ليسير ولكنّي أخاف مما تخاف منه ثم تلا عكرمة (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى. إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) وهو ينذر الخلق كلهم فخصّ الذين يخشون ربّهم لأنهم الذين ينتفعون بالنذارة.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٦٨.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٦٨.

٢٥٠

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) روي عن ابن عباس قال : المؤمن والكافر ، قال :

و (الظُّلُماتُ) الضلالة و (النُّورُ) الهدى و (الظِّلُ) الجنّة و (الْحَرُورُ) النار. قال الأخفش سعيد : «لا» زائدة والمعنى : ولا الظلمات والنور ولا الظل والحرور. وقيل : الحرور لا يكون إلّا بالليل ، والسموم يكون بالنهار. وقيل : الحرور يكون فيهما. وهذا أصحّ القولين ، لأن الحرور فعول من الحرّ ، وفيه معنى التكثير أي الحرّ المؤذي.

وقرأ الحسن (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (١) تحذف التنوين تخفيفا أي هم بمنزلة أهل القبول في أنّهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.

(بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ) وفي موضع آخر (الزُّبُرِ) [آل عمران : ١٨٤] بغير باء والمعنى واحد ، غير أنّ الكثير في كلام العرب بغير باء وما بعده بالباء أيضا فتكون الباء إذا دخلت توكيدا أو عطف جملة على جملة وحذف الفعل لدلالة الأول عليه.

نصبت (مُخْتَلِفاً) لأنه نعت لثمرات و (أَلْوانُها) مرفوع بمختلف وصلح أن يكون نعتا لثمرات لما عاد عليه من ذكره ، ويجوز رفعه في غير القرآن ومثله : رأيت رجلا خارجا أبوه. (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) جمع جدّة. قال الأخفش : ولو كان جمع جديد لقيل جدد مثل رغيف ورغف. (بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) رفع «مختلف» هاهنا ونصب ثمّ لأن ما قبله هاهنا مرفوع فهو نعت له ، ويجوز أن يكون رفعه على الابتداء والخبر.

فقيل هاهنا (أَلْوانُهُ) وثمّ (أَلْوانُها) لأن تقديره وخلق مختلف ألوانه. ومختلف نعت أقيم مقام المنعوت. والكاف في موضع نعت لأنها نعت لمصدر محذوف. (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) قال مجاهد : إنما العالم من يخشى الله جلّ وعزّ وعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه : كفى بخشية الله جلّ وعزّ علما وبالاغترار به جهلا.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٩٥ ، ومختصر ابن خالويه ١٢٣.

٢٥١

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) قال أحمد بن يحيى خبر «إنّ». (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ).

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) هذه الآية مشكلة لأنه قال جلّ وعزّ (اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ثم قال جلّ وعزّ (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) وقد كنا ذكرناها إلّا أنا نبيّنها هاهنا بغاية البيان وقد تكلم جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فمن أصحّ ما روي في ذلك ما قرئ على أبي بكر محمد بن جعفر ابن الإمام عن يوسف بن موسى عن وكيع بن الجراح قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) قال : الكافر ، وقرئ على أحمد بن شعيب عن الحسين بن حبيب عن الفضل بن موسى عن حسين عن يزيد عن عكرمة عن ابن عباس (١) في قول الله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) قال : نجت فرقتان. فهذا قول : ويكون التقدير في العربية «فمنهم» فمن عبادنا «ظالم لنفسه» أي كافر ، وقال الحسن : أي فاسق ، ويكون الضمير الذي في يدخلونها يعود على المقتصد والسابق لا على الظالم. فأما معنى «الذين اصطفينا من عبادنا» ففيه قولان : أحدهما أن الذين اصطفوا هم الأنبياء صلوات الله عليهم أي اختيروا للرسالة ، وقيل : المعنى الذين اصطفوا لإنزال الكتاب عليهم فهذا عام ، وقيل الضمير في (يَدْخُلُونَها) يعود على الثلاثة الأصناف على أن لا يكون الظالم هاهنا كافرا ولا فاسقا ، فمن روى عنه هذا القول أعني أنّ الذين يدخلونها هذه الثلاثة الأصناف عمر وعثمان وأبو الدرداء وابن مسعود وعقبة بن عمرو وعائشة رضي الله عنهم. ولو لا كراهة الإطالة لذكرنا ذلك بأسانيده وإن كانت ليست مثل الأسانيد الأولى في الصحة وهذا القول أيضا صحيح عن عبيد بن عمرو وكعب الأحبار وغيرهما من التابعين والتقدير على هذا القول : أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر ، والمقتصد : قال محمد بن يزيد : هو الذي يعطي الدّنيا حقّها ، والآخرة حقّها فيكون «جنّات عدن يدخلونها» عائدا على الجميع على هذا الشرح والتبيين. وفي الآية قول ثالث يكون «الظالم» صاحب الكبائر ، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته. فيكون «جنّات عدن يدخلونها» الذين سبقونا بالخيرات لا غير. وهذا قول

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٢٢ / ١٣٥.

٢٥٢

جماعة من أهل النظر قالوا : لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى. وقد ذكرنا (١) قول العلماء المتقدمين قبل هذا (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) جمع أسورة ، وأسورة جمع سوار وسوار ، وقد حكي أنه يقال : أسوار وجمع إسوار أساوير (٢) ، وقد حكي أن في حرف أبي «أساوير» وحذف الياء من مفاعل هذا جائز غير أن المعروف أن الأسوار هو الرجل الجيّد الرمي من الفرس. (وَلُؤْلُؤاً) (٣) قراءة أهل المدينة. قال أبو إسحاق :

لأن معنى من أساور ومعنى أساور واحد ، والخفض قراءة أهل الكوفة ، وهو أبين في العربية لأنه مخفوض معطوف على مخفوض. وقرأ عاصم الجحدري (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) (٤) بكسر التاء تكون في موضع جرّ على البدل من الخيرات ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على لغة من قال : زيدا ضربته وزعم بعض أهل النظر أن قوله جلّ وعزّ : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ) للنساء لأن قوله جلّ وعزّ : (مِنْ عِبادِنا) مشتمل على الذكور والإناث. وهذا خطأ بيّن ، لأنه لو كان للنساء لكان يحلّين ولكن هو للرجال لا غير إلّا أنه يجوز أن يحلّى به النساء فإذا حلّي به النساء فهو لأزواجهنّ.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) عن ابن عباس قال : النار. وقال سعيد عن قتادة قال : كانوا يعملون في الدّنيا وينصبون ويلحقهم الحزن وقال شمر بن عطيّة في قول الله جلّ وعزّ (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) قال : همّ الطّعام. قال :

(إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) غفر لهم الذّنوب التي عملوها ، وشكر لهم الخير الذي دلّهم عليه فعملوه.

(الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) يكون «الذي» في موضع نصب نعت لاسم «إنّ» ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ ، أو على خبر بعد خبر إن ، وعلى البدل من غفور ، أو على البدل من المضمر الذي في «شكور» ويجوز أن يكون في موضع خفض على النعت لاسم الله جلّ وعزّ قال الكسائي والفراء : (الْمُقامَةِ) : الإمامة والمقامة : المجلس الذي يقام فيه. (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) أي تعب والنّصب الشرّ والنصب ما ينصب لذبح أو غيره وقرأ أبو عبد الرحمن (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) (٥) بفتح اللام يكون مصدرا كالوقود والطّهور وقيل هو ما يلغب منه.

__________________

(١) انظر إعراب الآية ٢٣ سورة الرعد.

(٢) انظر إعراب الآية ٣١ سورة الكهف.

(٣) انظر تيسير الداني ١٢٧.

(٤) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٩٩ ، ومختصر ابن خالويه ١٢٣.

(٥) انظر مختصر ابن خالويه ١٢٤ ، والبحر المحيط ٧ / ٣٠٠.

٢٥٣

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ والخبر (لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) ويجوز أن يكون الخبر (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) (١) وحذفت النون ؛ لأنه جواب النفي. وقرأ الحسن يقضى عليهم فيموتون على العطف قال الكسائي (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٦] بالنون في المصحف لأنه رأس آية ، و (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) بغير نون لأنه ليس برأس آية ويجوز في كلّ واحد منهما ما جاز في صاحبه.

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) الطاء مبدلة من تاء لأن الطاء بالصاد أشبه لأنهما مطبقتان ، ويقال : اصطرخ إذا استغاث (رَبَّنا أَخْرِجْنا) أي يقولون (نَعْمَلْ صالِحاً) جواب المسألة أي إن أخرجتنا عملنا صالحا غير الذي كنا نعمل (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) أي فيقال لهم ، وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عمّر ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر» (٢) ، وكذلك روى سهل بن سعد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل معناه وقال ابن عباس في قوله جلّ وعزّ : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) قال ستين سنة. (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) أي المنذر وفي فعيل معنى المبالغة. قيل : يعني به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : هو من أنذرهم ، وقيل : يعني به الشيب والله جلّ وعزّ أعلم.

إذا كان بغير تنوين صلح أن يكون للماضي والمستقبل والحال ، وإذا كان منونا لم يجز أن يكون للماضي.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) جمع خليفة أي تخلفون من كان قبلكم وفي هذا معنى التنبيه والاعتبار أي فتحذرون أن تنزل بكم العقوبة ، كما نزلت بمن كان قبلكم (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي عقوبة كفره.

__________________

(١) وهذه قراءة عيسى أيضا ، انظر البحر المحيط ٧ : ٣٠١ ، والمحتسب ٢ / ٢٠١.

(٢) أخرجه أحمد في مسنده ٢ / ٤٠٥ والمتقي في كنز العمال (٤٢٦٦٨) ، وأبو نعيم في الحلية ٣ / ٢٥٨.

٢٥٤

(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) مفعولان ، وكذا (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً).

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ) منصوب بالرؤية ، ولا يجوز رفعه وقد يجوز الرفع عند سيبويه في قولهم : قد علمت زيد أبو من هو ؛ لأن زيدا في المعنى يستفهم عنه ، ولو قلت :

أرأيت زيدا أبو من هو؟ لم يجز الرفع والفرق بينهما أن معنى هذا أخبرني عنه ، وكذا معنى هذا أخبروني عن شركائكم الذين تدعون من دون الله أعبدتموهم لأن لهم شركة في خلق السّموات أم خلقوا من الأرض شيئا أم آتيناهم كتابا بهذا أي أم عندهم كتاب أنزلناه إليهم بالشّركة أو بأنا أمرناهم بعبادتهم فكان في هذا ردّ على كل من عبد غير الله جلّ وعزّ لأنهم لا يجدون في كتاب من الكتب أنّ الله جلّ وعزّ أمر أن يعبد غيره.

على بيّنات منه (١) قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم والكسائي ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير والأعمش وحمزة (عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) (٢) قال أبو جعفر : والمعنيان متقاربان إلّا أن القراءة «بيّنات» أولى لأنه لا يخلو من قرأ «على بيّنة» أن يكون خالف السواد الأعظم أو يكون جاء به على لغة من قال : جاءني طلحة ، فوقف بالتاء. وهذه لغة شاذّة قليلة.

(بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً) «إن» بمعنى «ما» فلذلك رفعت الفعل. (بَعْضُهُمْ بَعْضاً) «بعضهم» (إِلَّا غُرُوراً) أي إلّا غرورا بالباطل.

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) «أن» في موضع نصب بمعنى كراهة أو يحمل على المعنى لأن المعنى إنّ الله يمنع السّموات والأرض من أن تزولا (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ) قال الفراء : (٣) أي ولو زالتا ما أمسكهما من أحد من بعده و «أان» بمعنى «ما» قال : وهو مثل قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) [الروم : ٥١].

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) قال أبو إسحاق : كانوا حلفوا واجتهدوا. قال أبو

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٨.

(٢) انظر تيسير الداني ١٤٨.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٧٠.

٢٥٥

جعفر : فاليمين وقعت على (لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) قال الأخفش : فأنّث إحدى لتأنيث أمة (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي عن الحقّ.

(اسْتِكْباراً) مفعول من أجله أي تكبّرا عن الحقّ. (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) معطوف عليه.

قال سعيد عن قتادة : أي ومكر الشرك. قال أبو جعفر : أصل المكر السّيّئ في اللغة الكذب والخديعة بالباطل. وقرأ الأعمش وحمزة ومكر السّيئ ولا يحق المكر السيّئ إلا بأهله (١) فحذف الإعراب من الأول وأثبته في الثاني. قال أبو إسحاق : وهو لحن لا يجوز. قال أبو جعفر : وإنما صار لحنا لأنه حذف الإعراب منه ، وزعم محمد بن يزيد : أن هذا لا يجوز في كلام ولا شعر ، لأن حركات الإعراب لا يجوز حذفها لأنها دخلت للفروق بين المعاني. وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش على جلالته ومحلّه يقرأ بهذا ، وقال : إنما كان يقف عليه فغلط من ادّعى عنه قال : والدليل على هذا أنه تمام الكلام ، وإن الثاني لمّا لم يكن تمام الكلام أعربه ، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول ؛ لأنها ضمة بين كسرتين. وقد احتجّ بعض النحويين لحمزة في هذا بقول سيبويه ، وأنه أنشد هو وغيره : [الرجز]

٣٥٥ ـ إذا اعوججن قلت صاحب قوّم

بالدوّ أمثال السّفين العوّم (٢)

وقال الآخر : [السريع]

٣٥٦ ـ فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل (٣)

وهذا لا حجّة فيه لأن سيبويه لم يجزه وإنما حكاه بعض النحويين ، والحديث إذا قيل فيه عن بعض العلماء لم يكن فيه حجّة فكيف وإنما جاء به على الشذوذ ، وضرورة الشعر ، قد خولف فيه. وزعم أبو إسحاق أن أبا العباس أنشده : [الرجز]

٣٥٧ ـ إذا اعوججن قلت صاح قوّم (٤)

وأنه أنشده «فاليوم فاشرب» بالفاء. (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي إنما ينظرون العقاب الذي نزل بالكفار الأولين (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) أي أجرى الله جلّ وعزّ العذاب على الكفار ، وجعل ذلك سنّة فيهم فهو يعذب بمثله من

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٨ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٣٥ ، والبحر المحيط ٧ / ٣٠٥.

(٢) مرّ الشاهد رقم (٢٢).

(٣) مرّ الشاهد رقم (٢١٢).

(٤) مرّ الشاهد رقم (٢٢).

٢٥٦

استحقّه لا يقدر أحد أن يبدّل ذلك ، ولا يحوّله.

قال أبو إسحاق : (لِيُعْجِزَهُ) لتفوته ...

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) مهموز ؛ لأن العرب تقول : أخذت فلانا بكذا وكذا ، ولا يقال : وأخذت ، ولكن إن خفّفت الهمزة في يؤاخذ جاز فقلت يؤاخذ تقلبها واوا. فإن قال قائل : فلم لا يقلبها ألفا وهي مفتوحة؟ قلت : هذا محال لأن الألف لا يكون ما قبلها أبدا إلا مفتوحا. (عَلى ظَهْرِها) يعود على الأرض وقد تقدّم ذكرها.

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) لا يجوز أن يكون العامل في إذا بصيرا ، كما لا يجوز : اليوم أنّ زيدا خارج ، ولكن العامل فيها جاء لشبهها بحروف المجازاة ، وقد يجازى بها ، كما قال : [الطويل]

٣٥٨ ـ إذا قصرت أسيافنا كان وصلها

خطانا إلى أعدائنا فنضارب (١)

__________________

(١) الشاهد لقيس بن الخطيم الأنصاري في ديوانه ٨٨ ، وخزانة الأدب ٧ / ٢٥ ، والكتاب ٣ / ٦٩ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٣٧ ، وشرح المفصّل ٧ / ٤٧ ، وللأخنس بن شهاب في خزانة الأدب ٥ / ٢٨ ، وشرح اختيارات المفضّل ص ٩٣٧ ، ولكعب بن مالك في فصل المقال ٤٤٢ ، وليس في ديوانه ، ولشهم بن مرّة في الحماسة الشجرية ١ / ١٨٦ ، ولعمران بن حطان في شعر الخوارج ص ٤٠٦ ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٤ / ٩٧ ، والمقتضب ٢ / ٥٧.

٢٥٧

٣٦

شرح إعراب سورة يس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال عبد الرحمن بن أبي ليلى : لكلّ شيء قلب ، وقلب القرآن «يس» من قرأها نهارا كفي همّه ، ومن قرأها ليلا غفر ذنبه. قال شهر بن حوشب : يقرأ أهل الجنة «طه» و «يس» فقط. قال أبو جعفر : في (يس) (١) أوجه من القراءات. قرأ أهل المدينة والكسائي (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) بإدغام النون في الواو ، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) بإظهار النون ، وقرأ عيسى بن عمر يسين والقرآن الحكيم ، وذكر الفراء قراءة رابعة ياسين والقرآن. قال أبو جعفر : القراءة الأولى بالإدغام على ما يجب في العربية لأنّ النون تدغم في الواو لشبهها بها ، ومن بيّن قال :

سبيل حروف التهجي أن يوقف عليها ، وإنما يكون الإدغام في الإدراج ، وذكر سيبويه (٢) النصب وجعله من جهتين : إحداهما أن يكون مفعولا لا يصرفه ، لأنه عنده اسم أعجمي بمنزلة هابيل. والتقدير : اذكر ياسين ، وجعله سيبويه اسما للسورة. وقوله الآخر أن يكون مبنيا على الفتح مثل «كيف» و «أين» ، وأما الكسر فزعم الفراء أنه مشبه بقول العرب جير لأفعلن وجير لا أفعل (٣).

(وَالْقُرْآنِ) قسم والواو مبدلة من ياء لشبهها بها ، كما أبدلوها من ربّ ، (الْحَكِيمِ) من نعت القرآن. قال أبو إسحاق : لأنه أحكم بالأمر والنهي والأمثال وأقصيص الأمم.

جواب القسم ، وإن مكسورة لأن في خبرها اللام ولو حذفت اللام لكانت أيضا

__________________

(١) انظر القراءات المختلفة في تيسير الداني ١٤٨ ، والبحر المحيط ٧ / ٣١٠ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٧١.

(٢) انظر الكتاب ٣ / ٢٨٦.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٧١.

٢٥٨

مكسورة إلّا في قول الكسائي فإنّه يجيز فتحها ؛ لأن في الكلام معنى : أقسم.

قال الضحاك : أي على طريقة مستقيمة. قال قتادة : أي على دين مستقيم. قال أبو إسحاق : (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) خبر بعد خبر ، قال : ويجوز أن يكون من صلة المرسلين أي الذين أرسلوا على صراط مستقيم.

هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو ، وقرأ الكوفيون وعبد الله بن عامر اليحصبي (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (١) بالنصب وحكي الخفض. قال أبو جعفر : فالرفع على إضمار مبتدأ أي الذي أنزل إليك تنزيل العزيز الرحيم ، والنصب على المصدر ، والخفض على البدل من القرآن.

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ ما) لا موضع لها من الإعراب عند أكثر أهل التفسير ؛ لأنها نافية ، وعلى قول عكرمة موضعها النصب ؛ لأنه قال : أي قد أنذر آباؤهم فتكون على هذا مثل قوله : (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) [فصلت : ١٣] أي بصاعقة. (فَهُمْ غافِلُونَ) ابتداء وخبر.

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) أي حقّ القول عليهم بالعذاب لكفرهم ، ومثله (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر : ٧١].

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) عن ابن عباس أنه قال : إن أبا جهل أقسم لئن رأيت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي لأدمغنّه فأخذ حجرا والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي ليرميه به. فلما أومأ به إليه جفّت يده على عنقه ، والتصق الحجر بيده فهو على هذا تمثيل أي بمنزلة من غلّت يده إلى عنقه. وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال : قرأ ابن عباس إنّا جعلنا في أيمانهم (٢) أغلالا فهي إلى الأذقان قال أبو إسحاق وقرئ إنّا جعلنا في أيديهم أغلالا قال أبو جعفر : هذه القراءة على التفسير ، ولا يقرأ بما خالف المصحف ، وفي

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٤٩ ، ومختصر ابن خالويه ١٢٤.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٧٣.

٢٥٩

الكلام حذف على قراءة الجماعة فالتقدير : إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان ، فهي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق ، والعرب تحذف مثل هذا ، ونظيره (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] فتقديره : وسرابيل تقيكم البرد فحذف لأن ما وقى الحرّ وقى البرد ، ولأنّ الغل إذا كان في العنق فلا بد من أن يكون في اليد ولا سيما وقد قال جلّ وعزّ : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) فقد أعلم الله جلّ وعزّ أنها يراد بها الأيدي. (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أجلّ ما روي فيه ما حكاه عبد الله بن يحيى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أراهم الأقماح فجعل يديه تحت لحيته وألصقهما ورفع رأسه. قال أبو جعفر : وكان هذا مأخوذا مما حكاه الأصمعي قال : يقال أكمحت الدّابّة إذا جذبت لجامها لترف رأسها. قال أبو جعفر : والقاف مبدلة من الكاف لقربها منها ، كما يقال :

قهرته وكهرته. قال الأصمعي : ويقال : أكفحت الدابة إذا تلقّيت فاها باللجام لتضربه به. مشتقّ من قولهم : لقيته كفاحا أي وجها لوجه ، وكفحت الدابّة بغير ألف إذا جذبت عنانها لتقف ولا تجري.

قال محمد بن إسحاق في روايته : جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأميّة بن خلف يراصدون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليبلغوا من أذاه فخرج عليهم يقرأ أول «يس» وفي يده تراب فرماهم به ، وقرأ (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) إلى رأس العشر ، فأطرقوا حتى مرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قيل إن هذا تمثيل كما يقال : فلان حمار أي لا يبصر الهدى ، كما يقال : [البسيط]

٣٥٩ ـ لهم عن الرشد أغلال وأقياد (١)

وقراءة ابن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر وعمر بن عبد العزيز (فَأَغْشَيْناهُمْ) (٢)

قال أبو جعفر : القراءة بالغين أشبه بنسق الكلام ، ويقال : غشيه الأمر وأغشيته إياه فأما فأغشيناهم فإنّما يقال لمن ضعف بصره حتى لا يبصر بالليل ، أو لمن فعل فعله ، كما قال : [الطويل]

٣٦٠ ـ متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد (٣)

قال قتادة : (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الهدى.

__________________

(١) الشاهد للأفوه الأودي في ديوانه ص ١٠.

(٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٣١٢.

(٣) مرّ الشاهد رقم (٦٩).

٢٦٠