تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

بالقرآن ، كأسلوب من أساليب التوبيخ ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن الاتهام بالشعر يراد من خلاله الإيحاء بترك الإيمان به ، باعتبار أن الناس قليلا ما تؤمن بقول الشاعر لأنه لا ينطلق لديهم من موقع الحقيقة.

(وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) من هؤلاء الكهّان الذين يعتقد أهل الجاهلية أنهم يأخذون معلوماتهم من الجنّ ، وبذلك يكون القرآن قولا يلقيه الجنّ إليهم ، (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي لا يتذكر به أحد منكم إلا القليل ، أو لا ينطلق التذكر من خلاله لأنه إذا كان قول كاهن يستمد كلامه من الجن فلا يملك القداسة التي تدفع إلى التذكر من خلال الروحية التي يحملها الكلام.

* * *

القرآن تنزيل من رب العالمين

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) فهو وحده الذي خلقه وأنزله على رسوله ، ليكون نورا للعالمين من الجن والإنس في ما ينبغي لهم أن يأخذوا به في نظام حياتهم على مستوى المفاهيم والمناهج والأحكام في الشؤون العامة والخاصة.

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) بحيث زاد النبي كلاما من عنده ونسبه إلى الله (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو يمنع بالقوة من القيام بما يحتاج إلى استعمال اليد ، أو قطعنا يده اليمنى أو نحو ذلك.

(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) وهو ـ كما قيل ـ عرق يسقي الكبد ، وإذا انقطع مات صاحبه ، وقيل : هو رباط القلب ، فيكون التعبير على كل حال كناية عن قتله بقطع ما يعتبر شريانا للحياة ، ولن يستطيع أحد أن يخلّصه من ذلك (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) لأن الله إذا أراد أمرا فلا يمكن لأحد من عباده مهما كانت درجة قوته أن يحول بينه وبينه.

٨١

وهكذا كانت الآيات حاسمة في مسألة تحريف القرآن بالزيادة عليه ، بحيث لو كان النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يقوم بذلك لتعرض لجزاء الله ولكنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الصادق في كلامه لا يقول إلا حقا وصدقا ، الأمين على كل شيء ، لا سيّما على وحي الله ، فلا يزيد فيه شيئا ، ولا يخون أمانة الله في كتابه ، بل يقدّمه إلى الأمة كلها كما أنزله الله مصونا من أيّة زيادة ومن أي نقصان.

* * *

القرآن تذكرة للمتقين

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) الذين يعيشون روحية التقوى في حياتهم الفكرية والعملية ، ويحرصون على أن يكون كل ما يؤمنون به أو يلتزمون به مطابقا لرضى الله في وحيه ولرضى رسول الله في شريعته ، فيقرءون الكتاب المنزل من الله فيجدون فيه التذكرة من كل غفلة والوعي من كل جمود ، فيستقيمون به على الخط المستقيم ، ويرتفعون به إلى الدرجات العليا في معرفة الله وفي الإخلاص لدينه وفي الجهاد في سبيله.

أمّا غير المتقين ، فقد أراد الله أن يفتح لهم باب التقوى من خلال كتابه ولكنهم رفضوا ذلك لأنهم لم ينطلقوا في حياتهم من مراقبة الله في أمره ونهيه ولم يحرّكوا فكرهم في ما يتمثل في كتاب الله من المعرفة الحقة التي تخطط للإنسان نهج الحق وطريق الصدق ، فانحرفوا عن الخط ، واتبعوا الضلالة العمياء.

(وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) يواجهونه بمنطق التكذيب الذي لا يرتكز على حجة ، ولكن ذلك لن يضر الإسلام شيئا ، ولن يمنع كتاب الله أن يفرض نفسه على الحياة في خط المعرفة وطريق الالتزام.

* * *

٨٢

القرآن حسرة على الكافرين

(وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) الذين سيواجهون الحسرة يوم القيامة عند ما يميّز الله بين المصدقين والمكذبين ، ليدخل الصادقين المصدقين في جنته ، ويدخل الكاذبين المكذبين في ناره.

(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) الذي يتمثل عمق الحق الذي يوحي باليقين ، فلا يعتريه الريب من أيّ جانب كان ، بل يشرق بالنور في قلب الإنسان وعقله ، ليمتدّ بالطمأنينة في حسه وشعوره.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الذي أنزل الكتاب بالحق ، كما خلق السماوات والأرض بالحق ، وأراد للإنسان أن يتحرك في حياته على نهج الحق ، ليلتقي بالله غدا في دار الحق التي وعد بها عباده المتقين ، والحمد لله رب العالمين.

* * *

٨٣
٨٤

سورة المعارج

مكيّة

وآياتها أربع وأربعون

٨٥
٨٦

هل السورة مكية أم مدنية؟

وهذه من السور المكية ـ في رأى الكثيرين ـ إلا في بعض آياتها ، فقد نقل عن الحسن ـ في ما ذكره صاحب مجمع البيان ـ أن آية (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) مدنية (١).

ويعلق صاحب الميزان على ذلك فيقول : «وهذا السياق يشبه السور المكية ، غير أن المنقول عن بعضهم أن قوله : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) مدني ، والاعتبار يؤيده ، لأن ظاهره الزكاة ، وقد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة ، وكون هذه الآية مدنية يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء وهي أربع عشرة آية ، قوله : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) إلى قوله (فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) مدنية لما في سياقها من الاتحاد واستلزام البعض للبعض. ومدنية هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه ، وهو على الأقل ثلاث آيات ، قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) إلى قوله (مَنُوعاً). على أن قوله : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) متفرّع على ما قبله تفرّعا ظاهرا ، وهذا القول وما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد ، فتكون هذه الآيات أيضا مدنية» (٢).

__________________

(١) راجع مجمع البيان ، ج : ١٠ ، ص : ٥٢٧.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ٢٠ ، ص : ٦.

٨٧

ويستطرد في استنتاجه ليستوحي من سياقها أن مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين في المدينة الذين كانوا يحيطون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين وعن الشمال.

وقد نوقش قول الحسن بأن الحق المعلوم لا يراد به الزكاة ، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام أن المراد به حقّ يسميه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

كما ورد عن ابن عباس : هذه السورة نزلت بعد سورة الحاقّة التي هي من السور المكية ، مع ملاحظة أن سياقها في بداياتها ونهاياتها التي تتحدث عن اليوم الآخر يناسب كونها مكية (١).

* * *

في آفاق السورة

أمّا أغراض هذه السورة فتتلخص في يوم القيامة الذي جاءت الآيات. لتنفذ من خلاله إلى أعماق النفس الإنسانية ، لتهزها هزّا عنيفا من الداخل في ما تثيره من أجواء الرعب الكوني الذي يتمثل في انهيار الثوابت الكونية كالسماء والجبال فتتحول إلى شيء سائل ، أو خفيف طائر ، وفي غيبوبة كل إنسان في همومه الذاتية بالمستوى الذي تموت فيه كل العلاقات الحميمة أمام هذا الجوّ المرعب ، وتجعل كل شخص يفكر بالتضحية بكل شيء عزيز عليه في الدنيا من أهله وأصحابه ، ممّن كان يضحّي بالغالي والنفيس من أجل سلامتهم. وتتمثل النار في صورة الكائن الحيّ الذي يملك الشعور والصوت لينادي

__________________

(١) للمزيد من الاطلاع مراجعة الميزان ج : ٢٠ ، ص : ٥ ، ٦ ، ٧.

٨٨

هؤلاء الذين أدبروا عن الله واستغرقوا في جمع المال ، فلم ينفتحوا على الله من موقع التوحيد.

ثم تطل السورة ـ من خلال النماذج القلقة المعرضة عن الله سبحانه ـ على الإنسان في صورته السلبية وفي سلوكه العملي ونظرته إلى الخير ، لتصل من خلال ذلك إلى النماذج الإيجابية التي تنفتح على الله وتلتزم السير في خط أوامره ونواهيه. ثم تعود إلى الحديث عن هؤلاء الناس الذين يحيطون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون أن يملكوا روحية الإخلاص لله ورسوله ، وهم يعيشون الأماني الوهمية بدخول الجنة التي لم يقدّموا في حياتهم ثمنا لها ، مما يجعلهم يواجهون العذاب في الآخرة من خلال طبيعة الحياة التي تتمثل في خوضهم بالباطل ولعبهم اللاهي الذي يبتعدون به عن خط المسؤولية أمام الله.

* * *

اسم السورة

أما اسم السورة «المعارج» فقد أخذ من الآية التي تصف الله سبحانه بأنه ذو المعارج ، في ما يمثله ذلك من المعنى الكنائي عن علوّ الله ورفعة مقامه ، بالتخييل في الرفعة والعلوّ على صعيد المكان ، مما يجعل الذين يريدون الوصول إليه يعرجون إليه في ذلك المكان الرفيع ، تماما كما هو التعبير برفيع الدرجات ذي العرش.

* * *

٨٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) (١٠)

* * *

معاني المفردات

(سَأَلَ سائِلٌ) : هنا بمعنى الطلب أو الدعاء.

(الْمَعارِجِ) : جمع معرج ، وفسّر بالمصاعد وهي : الدرجات ، وهي مقامات الملكوت التي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله.

٩٠

وقيل : المعارج : الدرجات التي يصعد فيها الاعتقاد الحق والعمل الصالح ، انسجاما وقوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠].

وقيل : المراد به مقامات القرب التي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان والعمل الصالح ، قال تعالى : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) [آل عمران : ١٦٣] ، وقال : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال : ٤] وقال : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ) [غافر : ١٥] والحق أن مآل الوجهين إلى الوجه الأول ، والدرجات المذكورة حقيقة ليست بالوهمية الاعتبارية.

(كَالْمُهْلِ) : المذاب من المعدنيات كالنحاس والذهب. وقيل : درديّ الزيت ، أي الكدر الراسب في أسفله ، وقيل أيضا : عكر القطران ، أي رديئه وخبيثه.

(صَبْراً جَمِيلاً) : هو ما ليس فيه شائبة الجزع والشكوى.

(كَالْعِهْنِ) : مطلق الصوف. وقيل هو الصوف الأحمر. وقيل : المصبوغ ألوانا ، لأن الجبال ذات ألوان مختلفة ، فمنها جدد بيض وحمر ، وغرابيب سود.

(حَمِيماً) : القريب الذي نهتم لأمره ونشفق عليه.

* * *

سؤال يستعجل العذاب

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ* لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) هل هناك سؤال عن العذاب

٩١

في طبيعته أو في توقيته ليكون السؤال في معنى الاستفهام ، أو أن السؤال بمعنى الطلب فتكون القضية هي في الطريقة التي كان يدير المشركون فيها مع النبي الحوار الجدلي عن الآخرة وعذابها الذي ينتظرهم ، فيبرزون الحديث بطريقة التحدي كما كانت الطريقة التاريخية للأمم السابقة التي كانت تستعجل العذاب كإيحاء بعدم جدّيته ، في إظهار تكذيبهم للرسول بهذا الأسلوب. والظاهر أن هذا هو الأقرب من خلال السياق الذي أكّد العذاب كحقيقة إيمانية ثابتة لا مجال للشك فيها ، فهو واقع بهم ، ولن يستطيع أحد أن يدفعه عنهم ، (مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) فهو العذاب الذي يقضي به وينفذه رب العالمين الذي هو في موقع الرفعة الذي لا يصل إليه حتى الملائكة إلا بالعروج. (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) الظاهر أنه يوم القيامة الذي يقع فيه هذا العذاب ، ويتمثل فيه المشهد العظيم في عروج الملائكة إلى الله ، وهم الموكلون بالعذاب ، ليتلقوا أوامره التي ينفذونها في كل الشؤون المتعلقة بالكون في حركة القيامة ، كما كانوا ينفذونها قبل ذلك ، لأنهم (عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ). [الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧]

كما يصعد إليه في هذا اليوم الروح وهو الخلق الغيبي العظيم الذي حدثنا الله عنه في القرآن في أكثر من آية كما لو كان خلقا متميزا عن الملائكة ، في ما يعهد الله إليه من النزول بأمره إلى الناس ، مما لا نملك تصوّرا دقيقا عنه في كيفية تلقّيه الأوامر من الله ، وفي تبليغها للأنبياء ، وفي تنفيذ ما يمكن أن يكون قد عهد إليه بتنفيذه ، وقيل : إنه جبريل الذي كان ينزل بالوحي على الأنبياء عليه‌السلام.

ثم ما هو تحديد هذه الخمسين ألف سنة ، هل هو تحديد دقيق في الحدود الزمنية التي تخضع لها السنة ، كما يعرفها الناس في الأرض ، ليكون ذلك مقدّرا بالنسبة الموجودة في وعيهم الزمني ، لأن اليوم الأرضي يمثل

٩٢

الحركة الزمنية الحاصلة من دورة الأرض حول نفسها في أربع وعشرين ساعة ، بينما نعلم أن هناك نجوما تدور حول نفسها بالمقدار الذي يعادل يومنا آلاف المرات ، ويمكن أن يكون ذلك التعبير واردا مورد الكناية عن طول هذا اليوم العظيم ، في ما اعتاده الناس من التعبير بهذه الطريقة عن ذلك ، وقد يكون الحديث عن ذلك تعبيرا عن الجهد الذي يلاقيه الإنسان في الحساب ، عند ما يكون في خط الانحراف ، بحيث يكون في مستوى هذا الرقم الكبير في إحساسه بالطول.

وقد ورد عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما رواه في الدر المنثور عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد الخدري قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن : (يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) : ما أطول هذا اليوم فقال : والذي نفسي بيده إنه ليخفّف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» (١).

وجاء في حديث الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : «إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم ، ولا يكون له رجاء إلا من عند الله غير ذكره ، فإذا علم الله عز وجل ذلك من قلبه لم يسأله شيئا إلا أعطاه. فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها ، فإن للقيامة خمسين موقفا كل موقف مقداره ألف سنة ثم تلا : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)» [السجدة : ٥](٢).

* * *

__________________

(١) السيوطي ، جلال الدين ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، ١٩٩٣ م. ١٤١٤ ه‍ ، ج : ٨ ، ص : ٢٨٠.

(٢) الكافي ، ج : ٨ ، باب : ٨ ، ص : ١٤٣ ، رواية : ١٠٨.

٩٣

الصبر الجميل على التحديات

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) على كل الكلمات اللّامسؤولة التي يقصد بها التحدي وإيجاد البلبلة أمام الدعوة ، لإثارة الاهتزاز في مواقف الرسول والرساليين عند ما يقودهم جمود الناس من حولهم إلى الإحباط ، مما يجعل من الأمر بالصبر الجميل الذي يمثل الموقف الثابت المتمرد على الآلام من موقع الوعي ضرورة حيّة من ضرورات نجاح الرسالة في الوصول إلى قناعات الناس في نهاية المطاف ، لأن طبيعة الواقع المتحجر الذي تضافرت على تكوينه ظروف معقدة وأجيال متعاقبة ، جعل من تفجير هذا التحجّر وتذويبه وترويضه مهمّة صعبة للرسل وللدعاة. ولا بد لهم ـ من أجل تحقيق النتائج الحاسمة لمصلحة الرسالة ـ من سعة الصدور ورحابة الأفق والرضى بقضاء الله والالتذاذ بالآلام ، والوعي العميق لكل الأفكار والشكوك والهواجس التي يثيرها الكافرون والمشككون والمعقّدون ، ليقفوا أمامها ويناقشوها بالمنطق العقلي أو بالأسلوب العاطفي ، وبالوسائل النفسية المرنة ، للتغلب على كل الصعوبات الواقعية ، حتى يأذن الله بالوصول إلى الهدف الكبير ، وهو انتصار الرسالة ودخول الناس في دين الله أفواجا.

إن مهمّة الرسول هي أن يؤدي رسالة الله ، مما يفرض عليه أن يكون مزاجه مزاج الرسالة ، وعقله عقلها ، وموقفه بالمستوى الذي يكون في خدمة موقفها ، وما دام هدفه رضى الله ، فلا مشكلة عنده في التمرّد على آلام الذات وأحزان المشاعر.

* * *

٩٤

إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا

(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) ولذا فإنهم يستعجلونه في أسلوب التحدي القائم على السخرية والاستهزاء ، في إيحاء متنوّع الأشكال والكلمات باستبعاده ـ والضمير يعود إلى يوم القيامة ـ وربما كان العمق هو الإنكار له ، كما يلوح من جوّ المواقف ، (وَنَراهُ قَرِيباً) لأن القرب لا يمثل المرحلة الزمنية الحقيقية التي لا مجال للريب فيها ، لأنها منطلقة من إرادة الله التي لا نختلف حولها ، مما يجعل من مسألة القرب والبعد مسألة تتصل بالقرب من مواقع الحقيقة الخاضعة لظروفها وأسبابها الموضوعية في ما أودعه الله ، أو البعد عنها باعتبار أنّ كل لحظة زمنية تمثل خطوة متقدمة نحو الهدف الثابت. والمراد من الرؤية ـ على الظاهر ـ الرؤية العقلية الاعتقادية التي قد تستبعد شيئا أو تستقر به على أساس المعطيات الذاتية أو الموضوعية المتوفرة لدى صاحب الرؤية ، على صعيد الفكر أو المزاج أو الواقع.

* * *

أهوال يوم القيامة

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) وهو المذاب من المعدنيات كالنحاس والذهب وغيرهما ، وقيل درديّ الزيت أو عكر القطران ، وهو كناية عن فقدان التماسك ، (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) وهو الصوف المنفوش. وهذا هو الجوّ الذي يقف فيه الإنسان مشدوها أمام هذا التغيّر العنيف الذي تفقد فيه السماء في أجرامها الصلبة تماسكها لتتحول إلى حالة من السيولة كما هو ذوب المعادن ، أو كما هو الزيت الكدر ، كما تفقد فيه الجبال صلابتها لتتحول إلى أن تكون كالصوف الواهن. وبذلك تقف العيون في حريتها اللاهثة أمام الكون الذي

٩٥

يتساقط كما تتساقط حبّات المطر ، أو يسيل كما يسيل الينبوع في جريانه على وجه الأرض ، أو كما هي النّسيمات في أجواء الفضاء ، وأمام الجبال التي كانت أوتادا في الأرض ، فإذا بها رمال خفيفة تذروها الرياح في الجوّ المديد ، ليتساءل : ماذا هناك ، وماذا حدث؟ ويأتي الجواب من خلال الإحساس : إنه الكون الذي كان ، ثم بدأ الموت ليأتي كون جديد بإرادة الله الذي يريد للخلق أن يواجه الحياة الجديدة بكون جديد يتناسب مع طبيعة لون هذه الحياة.

إنها لحظات الحساب الذي هو المدخل لهذه الحياة ، الذي يختلف تبعا للتاريخ الذي عاشه الإنسان في دنياه في الكون القديم ، ولذلك فإن العقل مشغول عمّن حوله باستعادة كل الأفكار التي كان يثيرها حول عقيدة الإنسان ، والعاطفة مشغولة عن كل الأوضاع التي تحيط بها في ما كانت تنبض به من مشاعر الحب والبغض والرضى والسخط ، ونحو ذلك مما يستثير المسؤولية أمام الإنسان في ما يشبه الصدمة التي تهز كيانه كله ، ليتعرف النتائج التي تحدّد نوعية مصيره النهائي. ولهذا فلا مجال لأيّ سؤال أمام أيّ شخص يلتقي به الإنسان ، من أولئك الذين كانت العلاقات الحميمة هي التي تربط بينهم في الدنيا ، في ما اعتاده الناس بأن يسألوا بعضهم بعضا عن كل شيء يتعلق بهم ، ويتصل بحياتهم ، بعد فراق طويل. (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) لأن الجوّ الرهيب الذي أحاط بهم وأحاطهم بالهول الشديد الذي لا يسمح لأحد بالتفكير الهادىء والمشاعر المفتوحة بفعل الحركة الداخلية القلقة الخاضعة لضغط الخوف على المصير ، يجعل المسألة مسألة استغراق في سلامة الذات ومستقبلها ، فلا تبقى هناك أيّة فرصة للاهتمام بالآخرين.

* * *

٩٦

الآيات

(يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ(١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى) (١٨)

* * *

معاني المفردات

(كَلَّا) : ردع لتمنيه النجاة من العذاب.

(لَظى) : أي : نار صفتها الاشتعال ، مأخوذة من التوقّد.

(نَزَّاعَةً لِلشَّوى) : النزاعة : اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع ، والشوى الأطراف كاليد والرجل.

(فَأَوْعى) : من الوعاء ، أي : جمع ماله فأمسكه في وعائه ، ولم ينفق منه للسائل والمحروم.

* * *

٩٧

تقطّع العلاقات وموت المشاعر الحميمة يوم القيامة

وتتضح الصورة أكثر ، وتتصاعد خطورة الموقف ، وتتجمد المشاعر فلا ينبض فيها أيّ إحساس بالعلاقة الإنسانية التي تشد الناس إلى أقربائهم وإلى أزواجهم وإلى الناس كلهم ، بل يتحول الوجدان من الحالة الإيجابية المشدودة إلى القريب أو الزوج أو الصاحب ، إلى حالة سلبية رافضة قد تشبه الحالة العدوانية عند ما يضحى الإنسان بكل هؤلاء ، ليفتدي بهم نفسه في مواجهة اللهيب الذي يتصاعد من النار التي تريد أن تأكل كل شيء.

(يُبَصَّرُونَهُمْ) بتشديد الصاد وفتحها ، من بصّرته الشيء إذا أوضحته له ، أي يعرف كل واحد من هؤلاء الأصدقاء الحميمين صاحبه ، فيعرض عنه لا من موقع الجهل والنسيان ، بل من موقع الرعب والذهول والاستغراق في الخوف على الذات في ما يترقبه من المصير الأسود في عذاب جهنم.

(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) الذين كان يبذل النفس والنفيس في سبيل سلامتهم وراحتهم ، فيجوع ليشبعوا ، ويتعب ليرتاحوا ، ويظمأ ليرتووا ، ويخاف ليأمنوا. وهكذا كان يشقى ليسعدوا ، ولكنه الآن يسقط أمام الشعور المجنون بالخوف ، ليفكر بأن يقدّمهم ضحية للنار ، أو ليكونوا فداء عنه ، (وَصاحِبَتِهِ) التي كان يعيش معها كل العلاقات الروحية والحسية في مشاعر الحب العميق الحميم الذي يمثل وحدة الكيان في معنى الزوجيّة ، وعمق المودّة والرحمة ، (وَأَخِيهِ) الذي كان عضده وساعده ، مما كان يدفعه في كثير من الحالات إلى الدفاع عنه إلى مستوى التضحية ، (وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) وهي عشيرته التي كان يعيش مسئولية الدفاع عنها كما تعيش مسئولية الدفاع عنه ، من خلال العصبية القائمة على المشاعر الحميمة والمصالح المشتركة.

٩٨

ولكنه اليوم يقف ليضحي بزوجته وأخيه وعشيرته ليسلم من عذاب هذا اليوم ، فأيّ عذاب هو هذا العذاب؟ وأيّ موقف هو هذا الموقف الذي تتعطل فيه كل المشاعر والعلاقات والأوضاع الإنسانية في حياة هذا الإنسان الذي تلاحقه جريمته في وعيه ، تماما كما هو الوحش الذي يريد افتراسه؟! ولن يكتفي بهؤلاء ، بل تتعاظم المسألة عنده حتى يفكر بأن يضحي بكل من في الأرض (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) بجميع طبقاتهم وأشكالهم ودرجاتهم لأن نفسه هي كل شيء عنده (ثُمَّ يُنْجِيهِ) من هذا العذاب.

* * *

النار تدعو إليها من أدبر وتولّى

(كَلَّا) فلا مجال لكل هذه التمنيات لأن الله لن يجعل أحدا فداء لأحد ، فعلى كل شخص أن يتحمّل مسئولية نفسه ، فلا يحملها عنه غيره. فإذا عاش الإنسان في الدنيا عالم الجريمة باختياره الواعي المتمرد على الله ، فلا بد من أن يواجه في الآخرة عالم النار الذي يحتويه بكل ما فيه من خصائص الإحراق. (إِنَّها لَظى) هذه التي تواجهكم وتلاحقكم بلهيبها المحرق ، (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) وقيل : إن الشوى جمع شواة وهي جلدة الرأس التي تنزعها النار وتفصلها عن الرأس ، وقيل : إنها الأطراف ، فيكون المعنى : إنها تنزع الأطراف وتقتلعها من مكانها لتعاد من جديد ، (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) عن الله وعن رسله وكتبه واتبع شيطانه الذي يضله ويدعوه إلى عذاب السعير ، (وَجَمَعَ فَأَوْعى) من هؤلاء الذين جمعوا المال واستغرقوا فيه ، فلم يكن لهم أيّ همّ في الحياة إلّا أن يجمعوه من حلال أو حرام ، ليملئوا به أوعيتهم المعدّة لذلك ، من دون أن يتحسسوا مسئوليتهم في مصادره وفي موارده ، وليتحول ذلك عندهم إلى حالة معقّدة من الطغيان الذي يمتد بهم إلى الكفر بالحق الذي يأتيهم على لسان الرسل ، ويدفعهم إلى الضغط على أصحابه والعمل على إضلال الناس الذين يؤمنون

٩٩

به ، أو يبحثون عن الطريق الذي يؤدي بهم إلى الإيمان.

وقد نلاحظ في هذا الحديث عن دعوة النار الناس إليها ، لونا من الإيحاء بأن للنار حسّا وشعورا وحياة ، كما لو كانت مخلوقا حيّا يستدعي الآخرين إليه ليخوّفهم وليعذّبهم ، ليكون ذلك أشدّ على الإنسان المجرم في ضغطة على مشاعره ، لأنه قد يثير في نفسه أنه لن يحلّ مشكلته بهروبه ، لأن النار سوف تلاحقه وتدعوه إليها بكل الوسائل التي لا يملك الفكاك عنها من جميع الجهات.

* * *

١٠٠