تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

الآيات

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ(١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ(٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٢)

* * *

معاني المفردات

(ذَلُولاً) : مطواعة.

(مَناكِبِها) : جمع منكب ، وهو مجتمع ما بين العضد والكتف ، وأستعير لسطح الأرض كما أستعير الظهر لها.

٢١

(وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) : يرجع إليه نشر الأموات بإخراجهم من الأرض وإحيائهم للحساب.

(تَمُورُ) : المور : التردّد والاضطراب.

(حاصِباً) : الريح التي تأتي بالحصى والحجارة.

(نَكِيرِ) : النكير : العقوبة ، وتغيير النعمة أو الإنكار.

(صافَّاتٍ) : باسطات الجناح.

(لَجُّوا) : تمادوا في الابتعاد عن الحق.

(عُتُوٍّ) : العتوّ : عدم الخضوع للحق.

(مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) : لا يرى ما في الطريق.

* * *

جولة كونية في خط الإيمان بالله

وهذه جولة في رحاب الأرض وفي آفاق الفضاء في مفردات النعم وفي مواقع العناية الإلهية بالإنسان ، وفي امتداد القدرة التي ترعاه من خلال الهيمنة على كل شيء ، لتذكير الإنسان بأنّ الله وحده هو الذي جعل الأرض مستقرّا له كما يجب أن يكون الاستقرار ، وأنه وحده الذي يملك له الأمن والحماية من كل شيء ، دون غيره.

* * *

جعل الله الأرض ذلولا

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) كما هو الحيوان الذلول الذي لا يجمح

٢٢

ولا يضطرب بل يستكين لراكبه ، فالأرض منقادة مطواعة بفضل ما هيأه فيها من وسائل المعاش التي تشمل جميع الضرورات والشروط التي تمنح الإنسان الإمكانات الكفيلة بتأمين الراحة والحصول على كل حاجاته ، والوصول إلى طموحاته المادية والمعنوية ، (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) أي في ظهورها ، لتبلغوا غاياتكم ، (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) الذي وزعه في مواقعها بمختلف أشكاله وألوانه من الحيوان والنبات ، وتحركوا فيها كما يحلو لكم مستمتعين بنعم الله عليكم حتى تنتهي بكم الحياة إلى أجلها المحدّد لكم ، في ما أعطاكم الله من عمر محدود.

* * *

إلى الله النشور

(وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) حيث تبدأون حياة جديدة تنشرون فيها من القبور بعد موتكم ، وتواجهون الحساب ، وتعرفون ـ على هذا الأساس ـ أن وجودكم في الأرض يتحرك من بداية الوجود التي تنطلق من إرادة الله في خلقكم وتدبيره لحياتكم ، إلى النهاية التي تنفتح على العالم الآخر الذي تواجهون فيه نتائج المسؤولية.

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) فيزلزلها بكم ، (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) تماما كما هو الموج في تردده أو اضطرابه بين المجيء والذهاب ، ولعل المراد بمن في السماء الملائكة الموكلون ـ من قبل الله ـ بشؤون الأرض.

(أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) فيرمي عليكم الحصى والحجارة كما حدث لقوم لوط ، (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) في ما يوجهه الله إليكم من الإنذار على كفركم وتمرّدكم على أوامره ونواهيه ، لتفكروا كيف يتحرك غضب الله وسخطه في سلوككم المنحرف ، بعد ما تستقبلونه من عذابه.

* * *

٢٣

تذكير بمصير المكذّبين من قبل

(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم السابقة التي تسيرون الآن على خطّها في الكفر والضلال ، غير عائبين بالنتائج الخاسرة على صعيد مستقبلكم ، (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) فهل رأيتم كيف كانت العقوبة الشديدة التي شكّلت المظهر الحيّ لإنكار الله عليهم ما فعلوه ، وذلك بإهلاكهم واستئصالهم بمختلف الوسائل ، فكيف تشعرون بالأمن على أنفسكم في أوضاعكم الضالة المستكبرة كلها؟!

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) عند ما تبسط أجنحتها في الفضاء حال الطيران (وَيَقْبِضْنَ) أجنحتهن ، فلا يسقطن بل يبقين في حالة تماسك ، (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) بما أودع في خلقهن وفي الهواء الذي يتحركن معه من قوانين تكفل لهن التحرك بكل أمن وحرّية من دون حاجة إلى أي شيء يتعلقن به حتى لا يسقطن ، تماما كما هي بقية الأشياء من الظواهر الكونية المعلقة في السماء من دون عمد ، ومن المخلوقات الحية في حركتها ، ومن الأرض كيف يمسكها من أن تزول ، ليدرس الإنسان المسألة في نطاقها الظاهري الذي يتعلق به البصر في نظراته البسيطة ، ليدفعه ذلك إلى التفكير بالأسرار الإلهية التي أودعها الله في القوانين الطبيعية في الوجود ، ليكتشف ذلك من خلال بحثه وتدقيقه ، ليعرف بذلك عظمة الله ، (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) فلا يغيب عنه شيء من خلقه.

وقد جاء في الكشاف : «فإن قلت : لم قيل : ويقبضن ، ولم يقل : وقابضات؟ قلت : لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة ، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مدّ الأطراف وبسطها ، وأمّا القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافّات ، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ، كما يكون من السابح» (١) وهو توجيه طريف.

* * *

__________________

(١) الزمخشري ، أبو القاسم ، جار الله محمود بن عمر ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون ـ

٢٤

هل يملك الهيمنة على الكون إلا الله؟!

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) لتستعينوا به على الله إذا أراد الله أن يعذّبكم بذنوبكم لينقذكم من عذاب الله ، فأين هو وكيف هو؟ (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) بفعل ما يعيشونه من العقلية الخياليّة المستغرقة في ذاتها وفي أوضاعها المحيطة بها ، بعيدا عن كل النتائج السلبية القاسية التي تنتظرهم في بعض ما يأخذون به أو يدعونه.

وتلك هي مشكلة هذه النماذج البشرية البعيدة عن التطلع إلى الآفاق الواسعة التي يتسع لها الحاضر ، ويختزنها المستقبل في الأمور التي يتبعونها تقليدا من دون أن يفكروا فيها وفي الأشخاص الذين يقلدونهم ، أو يمارسونها انفعالا وعاطفة من دون أن يدققوا في العمق الكامن في داخلها ، وليسوا مستعدين في الوقت نفسه أن يستمعوا للناس الذين يذكّرونهم بالحقائق الأصلية الواضحة على صعيد الواقع ، ليدخلوا معهم في حوار حول ما هو الحق والباطل في المسألة ، لأنهم غارقون في الغرور الداخلي الذي يعمي أبصارهم ، ويغلق عقولهم عن الجانب الآخر من الموضوع.

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) فهل تستطيعون أن تشيروا إلى أيّ شخص ، أو أيّ مخلوق من هؤلاء الذين تعتبرونهم آلهة ، أو تعبدونهم ليقربوكم إلى الله زلفى ، لينزل عليكم المطر إذا حجب الله عنكم المطر أو ليعطي النبات حيويته ونموّه وثمره ، إذا أوقف الله ذلك عنه ، أو نحو ذلك؟! إنكم تعلمون أن الله وحده هو الذي يملك الرزق عطاء ومنعا ، ولا يملكه أحد غيره ، لأنه المهيمن على الأمر كله ، ولكنكم ـ باختصار ـ لا تفكرون ، وإذا فعلتم ، فليس في الاتجاه الصحيح ، لأنكم لستم في طريق الوعي للمسؤولية في حاضر الحياة ومستقبلها ، (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) فلم

__________________

ـ الأقاويل في وجوه التأويل ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، ج : ٤ ، ص : ١٣٨.

٢٥

يستمعوا إلى كلمة الحق ، ولم يخضعوا لها ، بل تمادوا في الكفر والضلال والنفور من كل داعية للحق.

* * *

مثل الكفار والمؤمنين

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى) وهذا هو الاستفهام الذي لا يراد منه معرفة مضمونه ، لوضوح الجواب فيه ولكن أريد منه الإنكار على هؤلاء الذين يختارون في حياتهم ما لا يجوز للإنسان أن يختاره لأنه مرفوض من خلال دراسة طبيعة الأشياء في ذاتها ... فهل يمكن أن يكون الإنسان السائر في الطريق المملوءة بالمرتفعات والمنخفضات والمزالق والمهالك ، وهو مكبّ على وجهه لا يرى ما حوله وما هو أمامه ، كمن يمشي بشكل طبيعيّ وهو مستقيم في خطه سويّ في وضعه ، (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) بحيث يرى كل ما يحيط به ، وما يبرز أمامه مما يمكن أن يواجهه من عثرات الطريق ، ويتعرف إلى كل السبل التي توصله إلى الغاية التي يريدها ، هل يكون هذا كذاك ، وهل يمكن أن يكون الأول أقرب إلى الهدى من الثاني؟.

إن هذا هو مثل الكفار والمؤمنين فإن الكفار يعيشون العمى العقلي والروحي والعملي في حياتهم ، لأنهم غير مستعدين للسماع وللتفكير وللحوار ، مما يجعلهم يتخبطون في طريق الوصول إلى النجاة ، فيهلكون من حيث يريدون النجاة ويتراجعون من حيث يريدون التقدم ، أمّا المؤمنون فهم المنفتحون على الحق ، في عقولهم ومشاعرهم وخطواتهم ، فلا يسيرون في طريق إلا إذا عرفوا بدايته ونهايته ، وخطّ السير فيه ، ولا يلتزمون بقيادة شخص ، إلا إذا درسوا أفكاره وأوضاعه وسلامة خطه وصدق موقفه ، ولا يلتزمون بفكرة إلا إذا درسوها وتأملوها ودخلوا في الحوار حولها ، ليحدّدوا الحق والباطل فيها ، فهم على نور من ربهم ، وعلى هدى من أمرهم ، وهم المستقيمون على الطريق.

* * *

٢٦

الآيات

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ(٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٣٠)

* * *

معاني المفردات

(ذَرَأَكُمْ) : الذرء : الخلق. والمراد بذرئهم في الأرض : خلقهم متعلقين بها.

(زُلْفَةً) : الزلفة : القرب.

(غَوْراً) : ذهاب الماء ونضوبه في الأرض.

(مَعِينٍ) : الماء الطاهر الجاري.

* * *

٢٧

قل لهم .. كل الكلمات التي تثير الفكر نحو الله

وتبقى الآيات في السورة لتثير في داخل الإنسان بعض القضايا المألوفة لديه في وجوده الذاتي ، ليفكر فيها بطريقة تحليلية تؤدّي به إلى الإيمان بالله من موقع الفكر الدقيق الذي يطرح السؤال في بعض الحالات ليتفاعل في النفس ، وليحصل على جواب ذاتيّ من الداخل.

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) من العدم ، فهل فكرتم كيف كنتم قبل أن تكونوا في هذا الوجود ، ومن الذي أخرجكم من قلب العدم إلى حقيقة الوجود مبتعدين عن الأسباب المباشرة إلى ما وراءها من الأسرار المحيطة بالوسائل العادية المادية ، وإلى القوّة التي هي عنصر السببية الفعالة وحيوية الحركة ، وهل فكرتم في السمع الذي تسمعون به كل الأصوات ، وفي البصر الذي ترون به كل المرئيات ، والعقل الذي تدركون به كل الحقائق التي تتوجهون إليها من خلال المفردات المتجمعة لديكم؟ كيف ركّبت في كيانكم؟ ومن هو الذي جهزكم بها؟ هل يمكن أن يكون مثل هؤلاء الذين من حولكم أو مثل هذه الأشياء الجامدة التي تتعبدون لها ، وراء ذلك كله؟ أو أن الله وحده هو الذي جعلها لكم؟!. إن الفكر السليم هو الذي يقف بكم على حقيقة الوجود في كل هذه الأجهزة الحسية والفكرية التي لولاهما لما كان لوجودكم معنى ، وهو الذي أعطاكم الحياة ، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) التي تمثل النعمة العظيمة التي لا تدانيها نعمة أخرى في وجودكم المادي ، مما يفرض عليكم الوعي العميق لذلك أن تشكروا الله بالانفتاح على معرفته والسير على خط طاعته ، ولكنكم غافلون عن ذلك كله ، مستغرقون في أجواء اللامبالاة (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) فلستم الذين تعيشون الشكر من ناحية المبدأ ، لأنكم لا تتحركون من قاعدته الروحية. وربما كان المراد بالفقرة قلة الشكر وضعفه إذا كان قد حصل

٢٨

منهم في بعض الحالات.

(قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) فأودعكم سطح الأرض عند ما خلقكم فيها ، ومهّد لكم سبلها ومكّنكم من خيراتها ، وحمّلكم مسئولية عمرانها ، ووجهكم إلى كل مواقع الخير فيها ، وحذّركم من كل مواقع الشرّ فيها ، وأرادكم أن تعبدوه في وحدانيته ، وأن تطيعوا رسله ، وأن تجعلوا من وجودكم فيها الوسيلة التي تقترب بكم من الله ، لأن مسألة التفاعل المادي بينكم وبين الأرض وما فيها وما عليها ، لا بد من أن يتحوّل إلى نوع من الخضوع المادي لله في الأعمال المتصلة بالروح في ما تمارسونه من الحركة الواعية المنفتحة على الله ، في آفاق الحقيقة الوجودية الأخرى التي تنفتح على الوجود الآخر في يوم القيامة عند ما يبعثكم الله إليه بعد موتكم ، (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) لتواجهوا الحساب عنده وتحصلوا على نتائج المسؤولية بين يديه ، في ما عملتموه من خير أو شرّ.

وإذا كان الله يطلب من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لهم عن بعض حقائق الحياة التي تطلّ على بعض حقائق العقيدة ، وهي توحيد الله ، فإن الله يحدثنا عما كانوا يقولونه ويثيرونه من أسئلة للتشويش على الرسول ، وكيف كان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يجيبهم عن ذلك من دون إحراج أو انفعال.

* * *

ويقولون متى هذا الوعد

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في سؤال للنبي وللمؤمنين معه ، عند ما كانوا يحدثونهم عن يوم القيامة ، وعن المسؤولية التي تنتظرهم نتائجها

٢٩

السلبية هناك ، على أساس كفرهم وشركهم ... فينقلون السؤال من الموضوع في طبيعته إلى مسألة الموعد المعيّن له ، ليكون الحديث عن الجانب الجزئي من المسألة وسيلة للابتعاد عن الموضوع في ذاته ، لأن أيّ توقيت يجيب النبي به سوف يكون مدعاة للجدل وللتكذيب باعتبار أنه لا يرتكز على أيّة قاعدة حسيّة مادية في مواقعهم ، بل لا بد أنه يتحرك في المستقبل المجهول لديهم ، مما يفسح لهم المجال للكثير من الضوضاء حوله.

ولكن الله علّم رسوله أن يحدّد لهم الموقف الرسالي الذي لا يريد الرسول أن يبرز فيه كما لو كان عالما بكل شيء ، مستعدا للدخول في كل التفاصيل ، لأن مهمته ليست هي الحديث عن توقيت هذا الحدث أو ذاك ، لأن هناك من الأمور مما استأثر الله بعلمه ، فهي من غيب الله الذي لم يظهر عليه أحدا من خلقه حتى الأنبياء ، لأن ذلك ليس جزءا من رسالاتهم ، باعتبار أن القضية الموكولة إليهم هي أن يوجّه الناس إلى الاستعداد ليوم القيامة ، لا إلى موعدها ، وهذا ما ركزت عليه الآية التالية :

(قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) فهو ممّا استأثر الله بالاطلاع عليه (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) فكل دوري هو أن أنذركم عذاب الله بشكل واضح لتقوم الحجة عليكم ، وتتحملوا المسؤولية على هذا الأساس ليحيا من حيّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة من خلال حرية الاختيار.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) أي قريبا ، عند ما جاءهم الوعد الحق ، فواجهوا الموقف الحاسم ، (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بفعل المفاجأة التي انتصب أمامهم ، حيث كانوا يسخرون منه وينكرونه ، وشعروا من خلال ملامح وجوههم الحائرة الخائفة بالخيبة والخسران.

(وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) عند ما كنتم تسألون عنه وتستعجلونه وتطلبونه وتتساءلون دائما عن سخرية أو حقيقة : متى هذا الوعد؟ وقد يلوح

٣٠

من السياق أن الملائكة هم الذين يواجهونهم بهذا القول.

* * *

من يجير الكافرين من العذاب؟!

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا) قيل : إن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله وعلى المؤمنين بالهلاك فأمر الله أن يقول لهم ذلك : أي قل لهم يا محمد : ما الذي ينفعكم لو أن الله أهلكني والمؤمنين معي أو أن الله رحمنا ، في ما نأمله من رحمته ، فما ذا عنكم أنتم ، وكيف تواجهون الموقف أمام الله ، (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) فلن يغيّر الوضع الذي نكون عليه شيئا من وضعكم ، لأنكم ستواجهون العذاب على كفركم وجحودكم من دون أن ينصركم أحد من الله.

(قُلْ) لهم في تأكيد الإيمان الحق الذي تلتزمه لتثير في وعيهم الشعور بالمسؤولية (هُوَ الرَّحْمنُ) الذي رحمنا في وجودنا وفي حركتنا فيه (آمَنَّا بِهِ) من خلال البينات الواضحات التي دلتنا عليه وعرفتنا به ، (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) واعتمدنا ، لأنه المهيمن على الأمر كله ، فإذا توكل عليه عبده كفاه من كل شيء ، ولكن ما الذي تفعلونه وعلام تعتمدون ، وإلى أين تسيرون؟ فكيف تتصورون المنطلق ، وكيف تفهمون الغاية؟ لا شيء إلا التمزق الداخلي ، والحيرة القاتلة والضلال المبين (فَسَتَعْلَمُونَ) غدا عند ما تحين اللحظة الحاسمة (مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) نحن أو أنتم .. فحاولوا أن تفكروا من الآن ، لتعرفوا كيف تحددون الموقف قبل فوات الأوان.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) بحيث ذهب في الأرض فلم يعد له أثر عندكم (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي طاهر جار ، هل هناك غير الله؟

* * *

٣١
٣٢

سورة القلم

مكيّة

وآياتها اثنتان وخمسون

٣٣
٣٤

في أجواء السورة

وهذه السورة هي من السور المكية التي تضع في عنوانها القلم والكتابة اللذين أراد الله للإسلام أن يتحرك من خلالهما بين الناس وتوجيههم إلى الانفتاح على المعرفة المقروءة والمكتوبة ، ليرتفع مستواهم الثقافي العلمي ولينطلقوا من خلالهما إلى تعريف العالمين بالقرآن المكتوب ، وبالإسلام الذي تتنوّع أغراضه وتمتد معارفه في شتى فروع الحياة ، وحركة الإنسان فيها ، لأن ذلك هو السبيل الذي يغني تجربة الأمة في فكرها وحركتها واندفاعها نحو المستوى الأعلى في التقدم والارتفاع.

كما تؤكد على شخصية الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عقله الكبير الذي احتوى الرسالة ، في الوحي الذي أنزل عليه ، وفي الحكمة التي اختزنها ، وفي التجربة الحية المعصومة التي حركها ، وفي القيادة التي أدراها وقاد الأمة إلى الصراط المستقيم في خطواتها ، وفي حركة الدعوة التي خطط لها في الأسلوب والكلمة والمضمون ، حتى امتدت إلى آفاق الحياة الواسعة في وقت قصير ، وفي خلقه العظيم الذي جسّد الرسالة بكل أخلاقيتها الروحية والسلوكية ، حتى استطاع أن يحوّلها إلى صورة حية متحركة ليعطي الناس الفكرة من موقع

٣٥

القدوة ، كما أعطاها لهم من قاعدة الدعوة.

وهكذا وضع له البرنامج العملي في مواجهته للفئات القلقة في المجتمع التي تمثل نماذج الأخلاق الشريرة التي تسيء إلى من حولهم. ثم تطوف السورة في أجواء القيامة للتحدث عن المتيقن وهم في جنات النعيم ، وعن الكافرين وهم في عذاب الله وسخطه.

وتختم السورة الخطاب الرسالي للنبي بأن يتمسّك بالقوّة أمام كل التهاويل التي يحشدها الكافرون في طريقه ، وذلك من خلال الصبر على حكم ربه في ما فرضه عليه من مواقف ، ثم تطرح الحديث عن يونس عليه‌السلام صاحب الحوت الذي لم يصبر على ما عاناه من الشدّة في مواجهة الكافرين له.

ثم يأتي الحديث عن كلماتهم غير المسؤولة ، ونظراتهم غير الحميمة في ما يثيرونه من تهمة الجنون ، في طريقة تعاملهم معه ، ليوحي إليه بأن المسألة ليست مسألتك الشخصية لأنهم كانوا يحترمون عقلك ووعيك وصدقك وأمانتك قبل ذلك ، ولكن المسألة هي مسألة الذكر الذي أنزله الله عليك ، فأحرجهم بتحدياته ، فأثاروا الحديث بالجنون حول شخصك ليبطلوا أثره. فتابع سيرك ، لأن القضية ليست قضيتهم ، بل هي قضية العالمين الذين جاء الذكر ليكون ذكرا لهم جميعا.

* * *

اسم السورة

وسميت بالقلم تبيانا لأهميته كوسيلة من وسائل تحريك المعرفة عند الناس في ما ينتجونه من قضايا المعرفة بالله وبالكون وبالإنسان وبالحياة في آفاق العلم الذي يرتفع بالحياة إلى مستواها العظيم في القرب من الله.

* * *

٣٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٧)

* * *

معاني المفردات

(غَيْرَ مَمْنُونٍ) : غير مقطوع.

(الْمَفْتُونُ) : المبتلى في عقله.

* * *

قيمة القلم في المعرفة والحضارة الإنسانية

(ن) : من الحروف المقطعة التي تقدم الحديث عنها في سورتي البقرة والشورى.

٣٧

(وَالْقَلَمِ) الذي يكتب به الناس (وَما يَسْطُرُونَ) أي وما يكتبون به من الشؤون المتعلقة بحياتهم الخاصة والعامة ، في ما يحتاجون إلى توثيقه وتأكيده ليبقى أساسا للثبات في التزاماتهم وعلاقاتهم وأوضاعهم المتنوعة المرتكزة على بعض القضايا المتصلة بالمستقبل ، في ما يجب أن يبقى شاهدا على كل تفاصيلها ومفرداتها.

كما يحتاجه الإنسان في كل قضايا المعرفة التي يتركها السابقون للّاحقين في ما يجعلونه منطلقا لأفكار جديدة ، وقاعدة لبناء ثقافيّ قويّ ، ولتجربة جديدة تستلهم التجارب الماضية الباقية في وعي الأجيال اللاحقة.

وهكذا كان القلم الذي ألهم الله الناس أن يستخدموه كأداة للكتابة هو الأداة التي أعطت الإنسانية ثقافتها الواسعة ، ومنحتها كل إمكانات التقدم والتطوّر والارتفاع ، ولولاها لبقيت المعرفة تحت رحمة الكلمة المسموعة التي تبقى في دائرة ضيقة في نطاق الظروف المحدودة المحيطة بالإنسان ، الخاضعة لحدود الزمان والمكان.

وبذلك كان من الأهمية الكبرى بحيث يكون في المستوى الذي يقسم الله به ، كما يقسم بالأمور المهمّة من خلقه ، في ما أنعم الله على العباد به من نعمه الكثيرة.

* * *

نفي الجنون بنعمة الله

(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) فقد أنعم الله عليك بالعقل الواسع الذي جعلك في مستوى الذروة من القيادة حيث اصطفاك الله من خلاله لرسالته ، لتكون الرسول الذي يتلقى الوحي بعقله ليديره في فكره ، ليعرف كيف يبلّغه ، وكيف

٣٨

يحركه ، وكيف يوجه الناس إلى الآفاق الرحبة من خلاله ، وكيف يجعل منه المنطلق لثقافة الحياة وحركتها في الطريق التي يفتحها نحو الغاية التي يحدّدها ، وليصنع منها الكثير مما تتنوع فيه مصادرها ومواردها ، ليكون العنوان الذي يمنح الإنسان المعرفة الواسعة العميقة التي تتنوع وتتحرك لتقرّبه إلى الله ، ولتجعله الجدير بأن يكون خليفته في الأرض ، من موقع الطاعة ، والدعوة والحركة والانطلاق.

ولذلك فإن الكلمات التي تتهمك بالجنون ، لا تملك عمقا ، في ما هو العمق من شخصيتك ، ولا تملك سطحا في ما هو السطح من حركة حياتك ، ولا تملك الأفق في ما هو الأفق من امتدادات فكرك وانطلاقات وعيك وإيمانك ، فلا قيمة لها مهما أثارت من الأجواء المعقّدة أو حركت من المواقع الملتوية ، لأن الله يشهد لك بكفاءة العقل فيك ، وبنفي الخلل عنك.

(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع ، لأنه ليس محدودا بحدّ معيّن ، فهو الأجر على الرسالة التي أعطيتها الكثير من جهدك ، وعانيت ما عانيته في سبيلها ، حتى اهتدى الناس بها في ما بلّغته من آياتها ، واستقام الطريق في ما حدّدته من مناهجها ، وانفتحت المعرفة على آفاق واسعة جديدة في ما أطلقته من أفكارها ، فامتدت مع الأجيال لتعمّق إحساسهم بالإيمان بالله ، ولتدفع بعقولهم إلى بناء الحياة على قاعدة الحق والخير والعدل بين يدي الله ، فكان لك أجر ذلك كله ، لأنك ركّزت الأساس وأعليت البناء ولا مست الأعماق بالمحبة والرحمة ، ولا تزال الرسالة تجري مجرى الأنهار ما بقيت الحياة ، ولا يزال أجرك يمتد معها امتداد النور مع الشروق.

وربما احتمل بعضهم بأن المقصود بالمنّ المنفيّ هنا ، ذكر المنعم إنعامه وترديده على أسماع المنعم عليه أو على أسماع غيره ، فأريد هنا بيان أن الأجر مما يستحقه الرسول بما جعله الله له ، فلا منّة عليه.

٣٩

ولكن قد يلاحظ على ذلك بأن المسألة عند ما تكون مع غير الله ، فهناك مجال للحديث عن نفي المنّة في أجره ، ولكن عند ما تكون المسألة في ما يمنحه الله من أجر ، فإن الله يملك المنّة على كل خلقه ، لأنه يملكهم ويملك أعمالهم ، فليس لهم من ذلك شيء ، بل هو تفضّل منه ـ تعالى ـ عليهم ، وربما كانت الكلمة بهذا المعنى واردة على سبيل الكناية باعتبار ما تختزنه من معنى الثقل والإذلال ، ليكون المقصود هو أن هذا الأجر الذي يمنحه الله لا يحمل أيّ معنى من المعاني التي قد تثقل على شعوره ، بل ينساب تأثيره في إحساسه انسياب الفرح الروحي في الأعماق.

* * *

إنك لعلى خلق عظيم

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) في رحابة صدرك ، ورأفة قلبك ، ورحمة إحساسك ، ولين كلامك ، ورقة شعورك ، وحرصك على من حولك ، وحزنك على كل الآلام التي تعرض لهم ، وانفتاحك على كل الناس ، من أصدقاء وأعداء ، بالكلمة التي هي أحسن ، والأسلوب الذي هو أفضل ، والنصيحة التي هي أقوم ، والبسمة التي هي أحلى ، والعطيّة التي هي أغلى ، والروح التي هي أصفى ، والقلب الذي هو أنقى ، والقوّة في غير قسوة ، والرفق في غير ضعف ، والصبر في غير خوف ، والتواضع في غير ذل ، والعزة في غير كبر .. وهكذا كان الرسول الذي تتحرك أخلاقه في عمق رسالته ، وتنطلق إنسانيته في ساحة مسئوليته ، وتلتقي شخصيته بكل الآفاق الرحبة في أبعاد حركته.

وبهذا كان التجسيد الحي لكل أخلاقية الرسالة ، حتى تحول إلى قرآن يتحرك بين الناس ، ليقدم الفكرة بالكلمة ، ويعمق الكلمة بالقدوة ، فكانت

٤٠