تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

إن هذه تذكرة

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) في ما تعبر عنه هذه السورة من حقيقة الوجود الإنساني وحرية الاختيار في الإنسان ، وآفاق الهداية في حياته ، وحركة المسؤولية في التزاماته في دائرة السلب والإيجاب ونتائج المواقف غدا بين يدي الله ، مما يفتح قلب الإنسان على الله ليذكره دائما ، فلا يغفل عنه القلب واللسان والروح ، ليتجه إليه في عمله وليستمع إلى النداء الرسالي الصادر منه في دعوته إلى الناس أن يأخذوا بالطريق المستقيم ، (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) فإن الطريق مفتوح للوصول إلى الله ، بكل رحابته من دون موانع ولا حواجز ، ولأن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق.

* * *

وما تشاءون إلا أن يشاء الله

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) لأن الوجود كله في حركته خاضع لمشيئة الله الذي خلق الأسباب وربط بها المسببات في تخطيط النظام العام للكون وللإنسان والحياة ، فلكل ظاهرة قوانينها ، ولكل موجود دائرته التي يتحرك فيها من خلال الخصائص المودعة فيه ، ولكل حركة ظروفها المعيّنة ، وللإنسان في مشيئته لأفعاله أسبابه الخاضعة للقانون العام الذي جعله الله لوجوده في علاقته بكل الأشياء من حوله وفي تأثره بها ، وفي خضوع اختياره لها ، في ما تحركه من عناصرها على الصعد الذهنية والنفسية ، وغير ذلك مما يخضع لمشيئة الله. ولكن ذلك لا يلغي عملية الاختيار التي تجعل الأفعال صادرة عنه بلا واسطة ، لأن المسألة هي أن الله أراد للإنسان أن يشاء في ما أودعه فيه من

٢٨١

حوافز المشيئة ودوافعها ، في الوقت الذي تتعلق المشيئة فيه بالأشياء من موقع الإرادة الحرّة ، وقد لا نحتاج إلى التأكيد بأن تأثّر المشيئة بالظروف المحيطة بالإنسان. لا يمنع انطلاق الإرادة بحرية ، لأن طبيعة الظروف لا تلغي الحرية كمبدإ.

وقد يكون الحديث عن تبعيّة المشيئة الإنسانية للمشيئة الإلهية للإيحاء الدائم بحاجة الإنسان لله وارتباطه به وانفعاله بإرادته ، لئلا يتصور بأنه يملك الاستقلال المطلق من خلال شعوره بحرية الحركة في أفعاله من خلال حرية الإرادة.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) في ما يتضمنه العلم ، وتوحي به الحكمة من إحاطة الله بكل شيء من حياة الإنسان ، وتدبيره الدقيق من جهة ما يخططه له من شؤونه العامة والخاصة في حياته ، مما يجعل الإنسان واثقا بأنه يتصرف في وجوده من موقع الرعاية العليمة الحكيمة من الله.

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) ممن يجد فيه الاستحقاق لذلك في نفسيته وروحيته وعمله من هؤلاء الذين عاشوا الإيمان في خط التقوى ، وأخلصوا الدين لله ، (وَالظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والطغيان ، وظلموا غيرهم بالبغي والعدوان ، (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) جزاء لهم على كفرهم وبغيهم ، بعد إقامة الحجة عليهم بكل البيّنات والبراهين التي قدّمها لهم من داخل عقولهم ومن خلال الوحي الإلهي الذي بلغهم الرسل إيّاه.

* * *

٢٨٢

سورة المرسلات

مكيّة

وآياتها خمسون

٢٨٣
٢٨٤

في أجواء السورة

وهذه سورة مكية من سور العقيدة التي تتحرك في أجواء القيامة ، وتطلّ على كل التاريخ الإنساني في الأرض ، حيث تتابعت أمام الإنسان مشاهد القدرة الإلهية في كل ما أحاط به ، ولوحات الإبداع في تكوينه منذ أن كان نطفة إلى كل مسار التقدير الإلهي في حياته. مع ذلك ، فإن الكثيرين من أفراده لا يؤمنون بالله وباليوم الآخر بل يلجأون إلى التكذيب. وتحتشد في هذه الأجواء كل الصور المرعبة المهولة للقيامة في تنوّع متحرك مع كل اللمسات التعبيرية الموحية بالهول ، وكل الصدمات الشعورية التي تهزّ مكامن الإحساس لدى الإنسان بالخوف من ذلك الموقف الذي لا مجال فيه لأيّة كلمة ، ولأيّ عذر ، لأن الكلمات قد تساقطت أمام الحقيقة الإلهية التي لم تبق لأيّ إنسان حجّة في لهوه وعبثه وانحرافه ، ولأن الأعذار لا تثبت أمام الواقع الذي تمثّل بالانحراف في كل تاريخه ، ولأن عظمة الله في هيمنته على الموقف آنذاك ، تخرس الجميع ، أمام المشهد العظيم.

٢٨٥

كما تحتشد هذه السورة في إيحاءاتها الخاطفة ، وتأنيبها المتكرر للمكذبين ، في كل ما كانوا يكيدون به في تاريخهم الكافر ، وفي كل ما كانوا يمارسونه من الجريمة المتعددة الجوانب : في الكفر بالله ، والتمرد عليه ، والبغي على الناس ، وفي امتناعهم عن الانصياع الروحي ، والانقياد العملي ، لأنهم عاشوا الكبرياء أمام الله ، أمّا المتّقون ، فإن الموقف لديهم يختصر الكلمات ، لأن وحدة التوجه القلبي إلى الله في العقيدة والعبادة والعمل ، يجعل هناك وحدة في النعيم المنطلق من رحمة الله للمحسنين الذين أحسنوا الموقف فأحسن الله لهم العاقبة.

* * *

اسم السورة

وجاء اسم المرسلات ، اقتطاعا من الآية الأولى التي تحدثت عن المرسلات ، في إيحاء بالأجواء المتحركة في النظام الإلهي الذي لا يتجمد في موقع واحد ، أو في زمن واحد ، ليكون إيذانا بالحركة الواعية في أجواء الطاعة.

* * *

٢٨٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٥)

* * *

معاني المفردات

(وَالْمُرْسَلاتِ) : الرياح المتتابعة.

(عُرْفاً) : الشّعر النابت في عنق الفرس ، ويشبّه به الأمور إذا تتابعت.

(عَصْفاً) : سريعة السير.

٢٨٧

(وَالنَّاشِراتِ) : الرياح الناشرة للحساب.

(فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) : الملائكة التي تنزل بآيات الله التي تفرق بين الحق والباطل.

(عُذْراً) : الإعذار : الإتيان بما يصير به معذورا.

(طُمِسَتْ) : أي محي أثرها من النور وغيره. والطمس : إزالة الأثر بالمحو.

(فُرِجَتْ) : أي انشقت ، والفرج والفرجة : الشق بين الشيئين.

(نُسِفَتْ) : أي قلعت وأزيلت.

(أُقِّتَتْ) : أي : عيّن لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم أو بلغت الوقت الذي تنتظره لأداء شهادتها.

(أُجِّلَتْ) : الأجل : هو المدة المضروبة للشيء.

(لِيَوْمِ الْفَصْلِ) : يوم الجزاء الذي فيه فصل القضاء.

(وَيْلٌ) : الويل : هو الهلاك.

* * *

يوم القيامة حقيقة صارخة

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً* فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً* وَالنَّاشِراتِ نَشْراً* فَالْفارِقاتِ فَرْقاً* فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً* عُذْراً أَوْ نُذْراً* إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) هذه الكلمات المتتابعة في مواقع القسم توحي بمعان غامضة في حركتها في الحسّ في الصورة التفصيلية للملامح المتجسدة في الواقع ، فهناك أشياء تتحرك وتتقدم في تتابع بارز ، وأشياء تعصف بالأجواء

٢٨٨

فتثيرها ، وأشياء تنشر ، وأشياء تفرّق وتفصل ، ومخلوقات تلقى الذكر الذي يدفع إلى الإعذار والإنذار ...

إن هناك جوّا مثيرا في الكلمات التي وقعت موضعا للقسم ، مما يوحي بأهميتها في ذاتها ، ولكن المفسرين اختلفوا في مواردها التي تنطبق عليها فقيل : إن المراد بها الرياح المتتابعة في قوله : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) بتفسير العرف بالتتابع ، فإن المراد به الشعر النابت على عنق الفرس ، ويشبّه به الأمور إذا تتابعت فيقال : جاءوا كعرف الفرس.

وقيل : إن المراد بها الملائكة التي يرسلها الله بالوحي وبغيره مما تتعلق به إرادته من شؤون النظام الكوني الموكولة إليهم ، أمّا قوله : (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) فقالوا : إن المراد بالعصف سرعة المسير وأستعير من عصف الرياح أي سرعة هبوبها إشارة إلى سرعة سيرها إلى ما أرسلت إليه ، وأن المراد بها الملائكة الذين يرسلهم الله فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة. وقيل : إن المراد بها الرياح العاصفة باعتبارها مظهرا من مظاهر قدرة الله في الكون ، (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) أي الملائكة الناشرين للصحف المكتوب عليها الوحي للنبي ليلقاه ، والرياح التي ينشرها الله بين يدي رحمته ، (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) أي الملائكة التي تنزل بآيات الله التي تفرّق بين الحق والباطل ، أو الرياح التي تفرّق الأمطار في أنحاء الأرض ، (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً* عُذْراً أَوْ نُذْراً) الظاهر أن المراد بالذكر : القرآن الذي يقيم الحجّة على الناس وينذرهم عذاب الله ، في ما تلقي الملائكة آياته على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : إن المراد به الرياح ، وبالذكر المطر الذي يذكّر بالله ورحمته ، فالمؤمن يشكر الله حين ينزل المطر ويعتذر عما سبق منه من التقصير ، والكافر يزداد طغيانا لأن المطر يزيد من ثرائه فيكون المطر أو الرياح نذيرا له بعذاب أليم.

وقد جاء في تفسير الطبري في المرسلات : «والصواب من القول في

٢٨٩

ذلك عندنا أن يقال : إن الله ـ تعالى ذكره ـ أقسم بالمرسلات عرفا ، وقد ترسل عرفا الملائكة ، وترسل كذلك الرياح ، ولا دلالة تدل على أن المعنيّ بذلك أحد الحزبين دون الآخر ، وقد عمّ ـ جل ثناؤه ـ بإقسامه بكل ما كانت صفته ما وصف ، فمن كان صفته كذلك فداخل في قسمه ذلك ، ملكا أو ريحا أو رسولا من بني آدم مرسلا» (١) ، وبنحو ذلك قال في الناشرات : «فالريح تنشر السحاب ، والمطر ينشر الأرض ، والملائكة تنشر الكتب ، ولا دلالة من وجه يجب التسليم له على أن المراد من ذلك بعض من دون بعض ، وذلك على كل ما كان ناشرا» (٢) ، وبنحو ذلك قال في «الفارقات» (٣) ... وخلاصته الأخذ بإطلاق الكلمات ، لكل ما ينطبق عليها ، وقد نجد أن بعض الكلمات كالعاصفات لا تنسجم مع إرادة معنى الملائكة منها ، كما أن الملقيات ذكرا لا تنسجم مع الرياح والمطر بحسب الظاهر ، ولعل الأفضل هو عدم الالتزام بوحدة المعنى في الجميع ، في ما تنطبق عليه الكلمات ، بل يمكن أن يختلف المراد من إحداها عن الأخرى ، كما أنه ليس من الضروري التدقيق في ذلك ، لأن مثل هذه الأمور مما لم يرد فيها نص موثوق به عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن العترة الطاهرة من أهل بيته ، ولم يرد إسناد هذه المعاني من الصحابة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلنجمل ما أراد الله إجماله في ما يمكن أن يتّحد أو يتعدد.

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) فستواجهون ـ جميعا ـ يوم القيامة ، كحقيقة صارخة لا يمكن الشك فيها ، بل إنّ ثبوته في الوجود ، كثبوت هذه الظواهر الكونية التي تقع موقعا للقسم الذي يقسم به الله.

* * *

__________________

(١) الطبري ، ابن جرير ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، ١٤١٥ ه‍ ـ ١٩٩٥ م ، م : ١٤ ، ج : ٢٩ ، ص : ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

(٢) (م. ن) ، م : ١٤ ، ج : ٢٩ ، ص : ٢٧٨.

(٣) انظر : (م. ن) ، م : ١٤ ، ج : ٢٩ ، ص : ٢٨٨.

٢٩٠

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي ذهب ضوؤها (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) أي انفطرت كواكبها وتصدعت وتشقّقت ، (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) فتحوّلت إلى هباء تذروه الرياح ، (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) من التوقيت ، وربما كان المراد بها الملائكة التي جعل الله لها وقتا معيّنا لتقف في المحشر لتشهد على العباد ، ثم تتحرك بعد ذلك لتمارس دورها في سوق المجرمين إلى النار وسوق المؤمنين إلى الجنة ، وربما كان المراد بالرسل الأنبياء الذين جعلهم الله شهداء على أممهم ، (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) وهو اليوم الحاسم الذي أمهل الله عباده ليبلغوه ، ويواجهوا القرار الأخير من جهة مصيرهم المرتبط بطبيعة أعمالهم التي عملوها في الدنيا ، (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) الذي يفصل الله به بين عباده ، كما يفصل مصيرهم بالحق ، ليوفيهم أجورهم من دون أن يضيع عمل عامل منهم من ذكر أو أنثى ، (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) وما هو خطورته ، وما هي النتائج التي ينتهي إليها الناس هنا.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) إنه التهديد الصارخ بالويل الذي يواجه المكذبين الذين كذّبوا بالله وبرسله وبكتبه ، حيث يقفون بين يدي الله من دون حجّة على مواقفهم ، بل لله الحجّة عليهم في ذلك كله.

* * *

٢٩١

الآيات

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢٨)

* * *

معاني المفردات

(مَهِينٍ) : المهين : الحقير ، قليل الغناء ، والمراد به النطفة.

(مَكِينٍ) : المراد هنا الرحم.

(قَدَرٍ مَعْلُومٍ) : مدة الحمل.

(كِفاتاً) : كفت الشيء يكفته كفتا وكفاتا إذا ضمّه. والمعنى هنا أوعية تضم الناس كلّهم.

(رَواسِيَ) : الرواسي : الثابتات من الجبال.

٢٩٢

(شامِخاتٍ) : عاليات.

(فُراتاً) : الفرات : الماء العذب.

* * *

ألم نهلك الأولين؟!

كيف يفكر هؤلاء المكذبون ، وكيف يستريحون إلى مستقبلهم الذي يقدمون عليه ، ولماذا لا يدرسون تاريخ الأمم التي سبقتهم من أولئك الذين يلتقون معهم في تكذيب الرسل؟!

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) من قوم نوح وعاد وثمود في ما أنزل الله عليهم من العذاب في الدنيا فأهلكهم جميعا ، (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أمثال قوم لوط وإبراهيم ، وقيل إن الآخرين هم الذين تقوم عليهم القيامة ، (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) ، فننزل عليهم العذاب الذي يهلكهم بمختلف الوسائل المألوفة وغير المألوفة ، لأن المسألة التي توحّد هؤلاء هي الجريمة الفكرية بعد ما تمردوا على الله في انحرافهم العقيدي ، والجريمة العملية في عصيانهم لأوامره ونواهيه وابتعادهم عن خطه المستقيم.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين سيواجهون عذاب الله في يوم الجزاء.

* * *

عظمة الله في تنويع الخلق

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) حقير تمثله النطفة التي لا تملك أيّة ملامح مميزة تستوجب الانتباه ، (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) وهو الرحم ، (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) وهو

٢٩٣

الزمن الذي تتم فيه عناصر النموّ للإنسان حتى يستقيم وجوده ، (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) بفعل ما أعطيناه من الخصائص التي تميّز البعض عن الآخر في الطول والقصر ، والبياض والسواد ، والذكورة والأنوثة ، ونحو ذلك ، مما يدل على عظمة الله في قدرته على تنويع الخلق من موقع الوحدة وعلى إعادته من جديد ، لأن مسألة القدرة في عناصرها الإبداعية واحدة ، فكيف تنكرون البعث ، وأنتم تعيشون حركة القدرة في الوجود الذي تشاهدون فيه العظمة المتنوعة في كل مولود يولد ، وفي كل حياة تتجدد ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين يكذبون بيوم الدين.

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) أي أوعية تضم الناس كلهم ، (أَحْياءً وَأَمْواتاً) فهي تضم الأحياء وتحضنهم على ظهرها لتكفل لهم الامتداد في الحياة ، وتستوعب الأموات وتضمهم في داخلها ، (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) وهي الجبال العالية الثابتة لئلا تميد الأرض بكم ، (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي عذبا. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بنعم الله التي أنعم الله بها عليكم ، والتي تمنح حياتكم كل ما تحتاج إليه.

* * *

٢٩٤

الآيات

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٠)

* * *

معاني المفردات

(ظَلِيلٍ) : هو المانع من الحر والأذى بستره على المستظل.

(اللهَبِ) : ما يعلو على النار من أحمر وأصفر وأخضر.

(بِشَرَرٍ) : ما يتطاير من النار.

(جِمالَتٌ) : جمع جمل ، وهو البعير.

* * *

٢٩٥

انطلقوا إلى ما كنتم به تكذّبون

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) من النار التي أعدت للكافرين المكذّبين الذين كانوا يسخرون من الحديث عنها عنادا واستكبارا.

(انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) أي نار لها ثلاث شعب ، وقد سمّاها ظلا لسواد نار جهنم ، وقيل : هي دخان نار جهنم له ثلاث شعب : شعبة تكون من فوقه ، وشعبة عن يمينه ، وشعبة عن شماله ، (لا ظَلِيلٍ) أي لا يمنع من الأذى بستره عنه ، كما هو الظلّ الطبيعي الذي يقي الإنسان من الحر ، (وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) فلا يدفع عنهم حرّه ، (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) وهو ما يتطاير منها في الفضاء ، كما هو القصر في علوّه وضخامته ، (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) أي في حجم الجمل الأصفر حتى يخيل إليك أنه جمل في كل اللهب الأصفر ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين يكذبون بنار جهنم.

(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) لأن النطق لا يكون إلّا للاعتذار عما بدر منهم ليدافعوا عن أنفسهم ، ويتخلصوا من نتائج أعمالهم بما يبررونه منها ولكن المسألة هناك ، أن العذر لا معنى له ، لأن الحقائق التي عاشوها في الدنيا لا مجال للدفاع عنها ، ولا للشك فيها ، فيكون النطق عبثا.

(وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) لأنه لا مجال لديهم للاعتذار عن ذنوبهم ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذه الحقيقة الأخروية.

* * *

٢٩٦

هذا يوم الفصل

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) الذين تلتقون معهم على التكذيب بالرسول وبالرسالة ، (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) في ما قد تستغرقون فيه من الشعور بالقوّة العددية التي قد تلتقي بالأفكار الشيطانية وما ينتج عنها من الحيل المتنوّعة بهدف الوقوف ضد رسل الله ورسالته عند ما كنتم في الدنيا ، فهل تملكون الآن شيئا من ذلك ، وهل يمكن لكم أن تجمعوا كل تجارب الأولين والآخرين لتكيدوا الله الذي يملك القوّة كلها في هذا اليوم الذي لا تملك فيه نفس لنفس شيئا لأن الأمر كله لله ...

وهذا هو الأسلوب الذي يصدم كبرياءهم وكل ما استعرضوه في اجتماعاتهم ، وحاولوا الإيحاء به للمستضعفين بالقوة المطلقة التي يملكونها في مواجهة رسالات الله ، ليعرفوا جيدا كيف يكون الموقف في يوم القيامة ، فيفكروا فيه ويتراجعوا ، ويلتزموا الخط المستقيم ، لأن التفكير الجدّي المتوازن العميق قد يدفع بالموقف ليكون في مستوى الصدمة الشديدة لكل الغرور والكبرياء واللاواقعية التي يعيشونها في ذواتهم ، وليعلموا أنهم لا يستطيعون الخلاص من عذاب الله ، مهما حشدوا من القوّة.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين ينظرون إلى أنفسهم نظرة التكبّر والتجبّر والخيلاء ، فيدفعهم ذلك إلى التكذيب بآيات الله.

* * *

٢٩٧

الآيات

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ(٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٥٠)

* * *

المتقون في ظلال وعيون

وهذا حديث عن المتّقين الذين عاشوا التقوى الفكرية والروحية والعملية في أفكارهم وممارساتهم ، استجابة لما وعدهم الله به من لطفه ورحمته.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) حيث يستظلّون أفياء أشجار الجنة ويشربون من عيونها ، (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) في ما تتنوّع به خصائصها وعناصرها التي لا

٢٩٨

يبلغ لذّتها شيء من فواكه الدنيا ، (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فهذا هو الجزاء الذي ينتظر العاملين على خط التقوى ، الذين ينفتحون على كل نعيم الله في رضوانه وألطافه ، (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) لأن الله هو الذي يجازي الإحسان العملي ، بالإحسان الأخروي في نعيم الجنة.

* * *

المكذّبون المجرمون لهم الويل والثبور

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين كانوا يسخرون من الحديث عن الجنة وعن وعد الله للمتقين المحسنين بنعيمها في الدار الآخرة ... (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) وإذا كان النداء الموجّه إلى المتقين بأن يأكلوا ويشربوا هنيئا ، فإن النداء الموجّه إلى المكذبين أن يأكلوا ويتمتعوا قليلا في الدنيا ليكون الموت عاقبة ذلك ، وليواجهوا العذاب الأليم من بعده ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين يعيشون الغفلة عن المقارنة بين الدنيا في نعيمها الزائل وبين الآخرة في نعيمها الخالد.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) لأنهم تمرّدوا على الله في كبرياء الكفر الذي يمنعهم من الخضوع له في ما يمثله الركوع من ذلك (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين عاشوا التكذيب العملي في سلوكهم والتزاماتهم وانتماءاتهم ، وعملوا على مواجهة المؤمنين بالفتنة عن دينهم بمختلف وسائل الضغط المعنوي والمادي ، وبالوقوف أمام انتشار الدعوة في العالم ، بما يضعونه من الحواجز أمام الناس التي تضيق عليهم حرية الفكر وحركة الحوار.

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث المملوء حكمة وخيرا وانفتاحا على كل حقائق الكون ، وعلى كل أسراره التي تفتح عقل

٢٩٩

الإنسان وقلبه على عظمة الله في خلقه ، وتدبيره في حكمته ، وعلى النظام الفكري التشريعي المتوازن الذي يخطط للإنسان الحركة الواعية في الاتجاه السليم نحو الخط المستقيم ... فهل هناك حديث غيره يمكن أن يضمن لأنفسهم ، إذا اتبعوه ، السلامة في الدنيا والآخرة؟! والحمد لله رب العالمين

* * *

والحمد لله رب العالمين

٣٠٠