تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

كلماته رسالة ، وكانت أفعاله شريعة ، وكان سكوته عما يراه ويسمعه وتقريره له دينا يدان به ، وكانت عظمته في خلقه المنفتح على الناس هي نفسها عظمته في نفسه وفي خلقه الرساليّ الروحيّ في خشوعه لربّه ، في كلّ نبضة من نبضات قلبه ، وكلّ همسة من همسات روحه ، وكل دمعة من دموع عينيه ، وكل ابتهال في سبحات الصلاة والدعاء من ابتهالات وجدانه.

* * *

الله أعلم بالمضلين والمهتدين

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) ما يختزنه المستقبل القريب والبعيد ، من انتصار الدعوة ، وسلامة الحركة واستقامة الطريق ، ورجاحة العقل ، وعمق الحكمة في ما تدعو له وتقوده ، في مقابل سقوط المعارضة ، وخلل الفكرة ، وسوء التدبير وانحراف الطريق ، وسوء العاقبة في ما قاموا به أو يقومون به من أعمال ، وسيظهر للناس كلهم ، في ذلك كله (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي من هو المفتون المبتلى في عقله وفي سلامة موقفه ، فلا فائدة للدخول معهم في جدل عقيم حول ذلك ، لأن هذه الأمور سوف تظهر في نتائجها النهائية.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) بما يعرفه من خفايا نواياه وأعماله ، وما يظهره من أوضاعه وحركاته وخططه ، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) في إخلاصهم له ، وفي صدقهم معه ، وفي جهادهم في سبيله .. وسيعرف كل واحد موقعه ومصيره في الدنيا والآخرة ، لأن الجميع سوف يقفون أمام الله ، ليفتح الله لكلّ منهم صحيفة أعماله بكل جزئياتها في صغائر الأمور وكبائرها.

* * *

٤١

الآيات

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ(١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (١٦)

* * *

معاني المفردات

(تُدْهِنُ) : تلين.

(حَلَّافٍ) : كثير الحلف. ولازم كثرة الحلف في كل أمر بأن لا يحترم الحالف شيئا مما يحلف أو يقسم به.

(مَهِينٍ) : المهانة ، بمعنى الحقارة.

(هَمَّازٍ) : مبالغة من الهمز ، والمراد به الغيّاب والطعّان.

(مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) : السعاية والإفساد ، والمراد : نقل الحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم.

(أَثِيمٍ) : كثير الإثم.

٤٢

(عُتُلٍ) : العتلّ : الفظّ والغليظ الطبع.

(زَنِيمٍ) : لا أصل له.

(سَنَسِمُهُ) : سنضع عليه وسما وعلامة.

(الْخُرْطُومِ) : الأنف.

* * *

رفض تبادل التسويات

وهذا حديث قرآنيّ عن بعض الأساليب التي كان يتّبعها المشركون مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما كانوا يثيرونه معه من التسويات التي قد تؤدي إلى التنازل عن بعض مواقف الرسالة الفكرية والعملية لمصلحة بعض مواقفهم الوثنية على أن يقدّموا له بعض التنازلات ، ليحصلوا من خلال ذلك على اعتراف ضمنيّ أو صريح بالخط الذي يتحركون عليه ، ليهزموا مصداقيته من خلال ذلك ، كما روي في السيرة عن طروحاتهم التي كانت تطلب منه أن يعبد آلهتهم سنة ، ليعبدوا الله معه سنة.

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) الذين كذّبوا رسالتك ، وحاربوك في دعوتك وفي اتباعك في ما يعرضونه عليك من سبيل للتوافق ، لأنهم لن يطرحوا عليك خيرا ، فإنّ طبيعة تكذيبهم تقتضي أن يكون في طرحهم الكيد للإسلام وللمسلمين.

* * *

٤٣

ودّوا لو تدهن فيدهنون

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) فتلين لهم في موقفك لتتنازل عن بعض ما تدعو إليه ، مداهنة ومجاملة ، على حساب الدعوة ، فيلينون لك ، في إيقاف ضغوطهم عليك وفي التزامهم ظاهريا ببعض ما أنت عليه ، حتى تظهر أمام الناس في موقف الرسول الذي لا يخلص لرسالته ، ولا يثبت في موقفه ، ولا يستقيم في طريقه ، بل يعمل على أن يخضع للضغوط ، ويلعب على المواقف ، ويجامل الآخرين على حساب الله ، وحتى يحصلوا على اعتراف بهم في بعض القضايا ، ولا سيّما في مسألة التوحيد ، مما يدفع المؤمنين إلى الشك والاهتزاز في موقفهم مع الرسالة والرسول ، من دون أن يخسر المشركون شيئا ، لأنهم لا يملكون قاعدة فكرية توحى بالاحترام ، بل كانوا يتحركون من موقع المصالح الذاتية في كل خطواتهم في مجال العبادة والعلاقات.

وفي ضوء ذلك ، فإن المسألة تمثّل جانبا كبيرا من الخطورة ، وتدفع إلى الكثير من المشاكل الصعبة التي تنعكس على حركة الرسالة ، مما يفرض على الرسول وعلى الدعاة من بعده الحذر كل الحذر من كل العروض التي يطرحها الكافرون والمشركون عليهم ، في ما قد يوحي بالمهادنة والتسويات والمرونة العملية ، حتى لا يقعوا في المهالك التي أعدوها لهم ، على صعيد الرسالة ، وعلى مستوى الواقع.

* * *

صفات هؤلاء المدهنين

(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) من هؤلاء الذين يكثرون الحلف على كل شيء مما يثيرونه أمام الآخرين ، أو مما يختلفون فيه معهم ، من القضايا

٤٤

المتعلقة بالدين وبالحياة وبالأوضاع المحيطة بهم ، سواء أكانت حقا أم باطلا ، لأنهم لا يشعرون بالثقة في أنفسهم ، أو بثقة الناس بهم ، ولذلك فإنهم يلجأون لتأكيد الثقة إلى أسلوب الحلف ، ولو على حساب المقدّسات التي يحلفون بها ، كما في الحلف بالله ، حيث يسيئون إلى موقع عظمته بالقسم به في قضية كاذبة أو باطلة. وإذا حدّقت بهؤلاء في ما يتصفون به من صفات أخلاقية على صعيد الواقع ، فسترى المهانة النفسية ، والحقارة العملية التي توحي بكل سقوط وانحطاط.

(هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) والهمز هو الطعن بالناس بإثارة الحديث حول عيوبهم بالعين والإشارة وبغيرهما بالحق والباطل ، والنميمة هي السعاية والإفساد اللذان يؤديان إلى الفتنة بين الناس وإفساد علاقاتهم ببعضهم البعض من خلال نقل الحديث الذي يسيء إلى سلامة العلاقات ، وهكذا يتمثل هؤلاء في النموذج البشري الشرير الذي لا يريد الله للنبي ولمن بعده من المسلمين الدعاة ، الاستسلام إليهم ، والطاعة لهم ، بالطعن بالناس والسعي لإفساد علاقاتهم بنقل الأحاديث التي يسمعها من هنا وهناك ، ليوغر صدور بعضهم على بعض ، وليدفع بالواقع إلى المزيد من الخلافات والنزاعات ، فهو حاقد على المجتمع وعلى كل مظاهر الأمن والمحبة والخير فيه.

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) فلا يعمل الخير ، ولا يسمح لأحد أن يقوم به ، مستخدما كل الوسائل التي تتيح له أن يكون حاجزا بين الناس وبينه. (مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) فهو يعمل على الاعتداء على الناس في ما لا يملك حقا فيه ، كما يمتد في الإثم الذي يتمثل بالأعمال الشريرة التي يرفضها الله سبحانه ، (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ) والعتلّ هو الفظ الغليظ ، وقيل : إنه الفاحش السيّئ الخلق ، أو الجافي الشديد الخصومة بالباطل (زَنِيمٍ) وهو الذي لا أصل له ، أو الدعيّ الملحق بقوم وليس منهم ، والمعنيان متصادقان ، وقيل : هو المعروف باللؤم ، وقيل : هو الذي له علامة في الشرّ يعرف بها ، وإذا ذكر الشرّ سبق هو إلى الذهن. وهما

٤٥

يعيشان في جوّ واحد. هذه هي الصفات التي كانت تتمثل في أولئك الذين كانوا يعيشون في مجتمع الدعوة الأول ممن قد تكون لهم وجاهة اجتماعية ، ومنزلة اقتصادية ، تؤهلهم أن يقدّموا طروحاتهم المشبوهة للنبيّ ، ليبطلوا موقعه الروحيّ الثابت على الحق بصلابة.

* * *

مصير المستكبر المتغطرس

(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) فقد كان المال الذي يملكه ، والبنون الذين كانوا عنده ، يبرران له الموقف المستكبر المتغطرس الذي لا يخضع للحق ، ولا ينقاد للحجة الواضحة ، ويدفعانه إلى الكفر والبطر ، بدلا من أن يقوداه إلى الإيمان والشكر ، لأنهما يمثلان نعمة الله عنده.

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) فينطلق الحكم على الآيات بأنها تمثل المضمون الخرافي تماما كما هي القصص الخرافية التي ينقلها الناس عن الأمم السابقة ، من دون أن يدقق في ذلك بعقله ليعرف طبيعة المضمون الفكري العميق الذي يتضمنه الوحي الإلهي في آيات الله.

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) وهو الأنف الذي يمثل موقع العزة في وجه الإنسان ، كما يقال : شمخ فلان بأنفه ، والمقصود أن الله سوف يضع على أنفه علامة العذاب والذل ليعرفه كل من يراه بصفته الحقيرة في يوم القيامة.

* * *

٤٦

الآيات

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٣٣)

* * *

معاني المفردات

(لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) : ليقطعنّ ثمار الجنة في بدايات الصباح.

(كَالصَّرِيمِ) : البلاء ، والمراد الشجر المقطوع ثمره.

(صارِمِينَ) : عازمين على الصرم والقطع.

(حَرْدٍ) : منع.

* * *

٤٧

من النماذج القلقة في خط الانحراف

وهذا نموذج آخر من نماذج الناس الذين يستغرقون في المال الذي يملكونه ، فينسيهم ذلك المعاني الإنسانية والمنطلقات الروحية التي تربط الإنسان بالجانب الخيّر من الحياة ، ويدفعهم إلى المزيد من الطغيان المادي والبخل الذاتي ، وإلى الأمل الكبير بالامتداد في ما هم عليه. ولكن الله يفاجئهم بالصدمة الكبيرة التي تقضي على كل الأمل من خلال القضاء على كل ما لديهم من مال ، فتدفعهم الصدمة إلى التفكير بطريقة أخرى بعد فوات الأوان.

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ) أي هؤلاء الذين وصفهم الله بالصفات الشريرة التي كانت تطبع كل شخصياتهم المنحرفة ، فقد كان المال الذي أعطاهم الله إيّاه اختبارا لهم ، كيف يتعاملون معه ، وهل أن المال يلغي إنسانيتهم بزخارفه وإيحاءاته المغرية ، أو أن الإنسانية المنطلقة من موقع القيم الروحية المنفتحة على الله من جهة وعلى الإنسان المحروم من جهة أخرى ، هي التي تنتصر على إغراءات المال وتهاويله. وقد سقطوا في هذا الاختبار ، فتغلّب عنصر المال لديهم على عنصر الإنسان في داخلهم ، كما سقط غيرهم في ذلك ، (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) التي كانوا يملكونها ويعتزون بها ويعتبرونها الأساس في إغناء حاجاتهم الحياتية وفي تلبية أوضاعهم الاجتماعية ، ولذلك كانوا يتعهدونها بكل الوسائل التي تتوفر لديهم في المحافظة عليها من كل سوء ، كما كانوا يبادرون إلى قطف ثمارها عند نضوجها بحيث لا يفوتهم شيء منها ، ولا يسمحون لأيّ شخص من الانتفاع بها ، وهكذا رأيناهم في هذه الصورة القرآنية (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) أي ليقطعنّ ثمارها في بدايات الصباح قبل أن يراهم أحد.

(وَلا يَسْتَثْنُونَ) في ما قد يحدث من بعض الطوارئ التي تمنعهم من

٤٨

ذلك ، كما يفعل بعض الناس عند ما يتحدثون عن أيّ عمل يريدون القيام به في المستقبل ، فيقولون سنفعل ذلك إن شاء الله ، أو إلّا أن يشاء الله خلافه ، وربما كان المعنى أنهم لم يعتبروا في اتفاقهم نصيبا للفقراء والمساكين ليعزلوه لهم ليكون استثناء من حصتهم. وهكذا عاشوا التمنيات الصباحية في ليلهم الأسود في ثقة كبيرة بأنهم سوف يبلغون ما يريدونه ، فيقطفون ثمار هذه الجنة ليحصلوا منها على المال الوفير.

(فَطافَ عَلَيْها) أي على الجنة (طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) في ما يرسله الله إلى بعض عباده من البلاء المتنوّع الذي يطوف بأرزاقهم وأجسادهم ، من رياح عاصفة وأمراض فاتكة ، وأوضاع قاسية ، ونيران محرقة (وَهُمْ نائِمُونَ).

(فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي كالشجر المقطوع ثمره ، أو كالليل الأسود ـ في المعنى الآخر للصريم ـ لما اسودّت بإحراق النار التي أرسلها الله عليها ، أو كالقطعة من الرمل التي لا نبات فيها ولا فائدة. والمهم في كل هذه المعاني أن الجنة لم تعد لها أيّة نتيجة مادية على مستوى آمالهم الكبيرة.

(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) تبعا للاتفاق بينهم ليجتمعوا للذهاب إلى الجنة في بداية الصباح (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) إن كنتم قاصدين لقطع الأثمار من الأشجار. وهكذا استجابوا للنداء (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) في حديث خافت يحذرون فيه أن يسمعهم أحد ، وهم يتآمرون ويتواصون فيما بينهم.

(أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) من هؤلاء المساكين الذين يتجمعون حول البساتين في مواعيد قطف الثمار ، ليحصلوا على شيء منها من خلال ضغط طلباتهم الملحّة التي قد تحرج أصحابها فيبادرون إلى الاستجابة لهم.

* * *

٤٩

انكشاف الحق

(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) في اتفاقهم على منع المساكين ، في حالة نفسية حاقدة وقرار حاسم على إتمام المهمّة المقرّرة من دون أيّ عائق طارئ ، في ما يخيّل إليهم من القدرة المطلقة التي يملكونها في هذا المجال ، وهنا كانت المفاجأة التي أسقطت كل آمالهم وأحبطت كل مشاريعهم.

(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) فكيف حدث هذا ، وما هو السبب ، ومن هو الجاني؟ إن الجوّ لا يوحي بأيّ جواب ، مما يجعلنا نعيش في حالة من الضياع في طبيعة المسألة في ظروفها وأسبابها الخفيّة. ومرّت عليهم سحابة ثقيلة من الألم والشعور بالخيبة والحرمان : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) فقد فقدنا كل شيء ، ولم يعد لدينا ما نؤمّله من المال الذي نقضي به حاجاتنا ، ونحصل به على رغباتنا ، فكيف نتصرف وماذا نفعل أمام هذا الجو الذي يوحي باليأس؟!

(قالَ أَوْسَطُهُمْ) وهو الذي يملك الحدّ الوسط أي المعتدل في تفكيره لأنه يرصد الأمور بعقل متوازن ، يدرس الواقع من خلال أسبابه المادية وعناصره الروحية الغيبية المتصلة بالله بما يبتلي به بعض عباده ، بالطريقة الغيبية التي لا تخطر على بال أحد ، لأنه الذي قد يسلب الإنسان رزقه من حيث لا يحتسب ، كما قد يرزقه من حيث لا يحتسب.

وقد كان هذا الإنسان يتحدث إليهم بالانفتاح على الله والإيمان به ، والحذر من عقابه في انحرافهم عن طريقه المستقيم ، وكانوا لا يسمعون له ، فلما رآهم وهم مستغرقون في دراسة الحسابات المادية من خلال الأجواء المحيطة بهم ، وغارقون في المشاعر النفسية السلبية المسحوقة تحت وطأة الحرمان ، التفت إليهم وقال لهم : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) في التفاتكم إلى

٥٠

عظمة الله في قدرته ، مما يفرض على كل عباده ـ وأنتم منهم ـ أن يسبّحوه ويخضعوا له ويطيعوه ، في التزام أمره ونهيه ، وفي الإيمان بغيبه ، في ما يمكن أن يفعله في دائرة حكمته ، ليتركوا الأمور كلها معلقة بمشيئة الله ، وخاضعة في وعيهم الإيماني لإرادته التي لا يعجزها شيء مهما كان عظيما.

ورجعوا إلى أنفسهم ، وانكشفت عن عقولهم أغشية الغرور والكبرياء التي كانت تحجبهم عن رؤية النور المشرق من وحي الله ، في ما جاءت به رسله من توحيده ، ونفي الشركاء عنه ، وسعة قدرته في تدبير شؤون خلقه.

* * *

تلمّس الهداية

(قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) العظيم في لطفه ، والعظيم في عقابه (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) فقد ظلمنا أنفسنا بالشرك الذي ضللنا في غياهبه ، وبالاستغراق في أوضاعنا المادية حتى لم نعد نبصر إشراقة الروح في عقولنا ، وظلمنا الحياة من حولنا عند ما تحركنا في ساحاتها بالشرّ والفساد والأنانية والكبرياء ، وظلمنا الناس الفقراء الذين يعيشون في حياتنا ، بالامتناع عن مساعدتهم ممّا رزقنا الله من النعم الوفيرة التي أرادنا أن نمنحهم منها في ما جعله من حقّ للسائل والمحروم.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) يلوم كلّ واحد منهم صاحبه على ما قاموا به من ظلم وانحراف عن الخط المستقيم ، (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) في ما سوّلت لنا شياطين الشرّ في أنفسنا من الطغيان الذاتي على مقام ربنا ، وعلى الناس من حولنا ، فلم نستطع أن ندرك جيدا حجمنا الطبيعي في عبوديتنا لله التي تفرض علينا أن نتعرف حدود قدرتنا وطبيعة حاجتنا المطلقة إليه ، كما نتعرف حدود مسئوليتنا في أنفسنا ، وفي ما نملك من مال وجاه ونحوه ،

٥١

وكيف يجب أن نجعل كل حياتنا مظهرا متحركا لعبوديتنا لله.

إنه النداء بالويل الذي يحس به الإنسان وهو يرى نفسه على حافة الهاوية التي تقوده إلى الهلاك ، وتتصاعد الحسرة في نفوسهم ، ثم تبدأ الرغبة في آفاقها الروحية لترتفع إلى الله الذي أدركوه في مواقع رحمته في ما شعروا به من آفاق عظمته ، وبدأت الأمنيات الروحية خلافا لتلك الأمنيات المادية ، في حركة ابتهالية خاشعة تهزم اليأس في نفوسهم.

(عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) وهو قادر على كل شيء ، الرحيم بعباده الراغبين إليه الراجعين إليه بعد طول هروب منه ، وانحراف عن خط هداه ، فإن الذي أعطانا الجنة ، ثم أخذها منا بعد أن كفرنا ، قادر على أن يبدلنا خيرا منها بعد أن شكرنا وآمنا به (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) ، ولا نرغب في سواه ، لأنه وحده المدبّر لأمور عباده ، المهيمن على الأمر كله.

(كَذلِكَ الْعَذابُ) الذي يمكن أن يحدث لكل الناس الذين يأخذهم الغرور بأموالهم وأولادهم وأنفسهم ، فيأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، فيحرمهم ويعاقبهم من حيث لا يشعرون (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) لأنه العذاب الذي لا مجال فيه للخلاص ، لأنه لا مجال فيه للتوبة والعودة إلى الله من جديد ، كما هو الحال في عذاب الآخرة ، (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ما يجب أن يفكروا فيه ، لينتهوا إلى النتيجة المثلى ، في حياتهم في الدنيا والآخرة.

* * *

٥٢

الآيات

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ(٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٥٢)

* * *

٥٣

معاني المفردات

(أَيْمانٌ) : عهود ومواثيق.

(مَغْرَمٍ) : المغرم : الغرامة.

(مَكْظُومٌ) : مملوء بالغم.

(بِالْعَراءِ) : الأرض غير المستورة بسقف أو نبات.

(لَيُزْلِقُونَكَ) : الإزلاق : الإزلال ، وهو الصّرع ، كناية عن القتل والإهلاك.

* * *

دحض مزاعم المكذّبين

وهذه إطلالة على مصير المكذبين للنبيّ ، وتسجيل للحجة القاطعة عليهم في مواقفهم السلبية من الدعوة ، والتي لا ترتكز على أساس من العلم والواقع ، مما يجعل لله الحجة عليهم عند ما يواجهون العذاب في الآخرة بينما يبرز المتقون بالحجة التي تدعم موقفهم وتجعلهم موضع رحمة الله في الآخرة.

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) لأنهم عرفوا مقام ربهم ، وفكروا بمنطق عقولهم لا بمنطق غرائزهم ، والتزموا بالحق الثابت لديهم من ربهم ونهوا النفس عن الهوى ، مما كان يريد الشيطان أن يضلّهم من خلال الأجواء العاطفية المحيطة بهم من أهلهم وقومهم ، فرفضوا ذلك كله واقتربوا من الله ، وفضّلوا رضاه على رضى الأقربين.

* * *

٥٤

ليس المسلمون كالمجرمين

(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) في الميزان ، بحيث يتساوى مصير الذين اتقوا ربهم وأسلموا أمرهم إليه ، وجعلوا الحياة ساحة الطاعة لله في جميع جوانبها ومجالاتها العملية ، ومصير الذين ابتعدوا عن التقوى وتمرّدوا على الله ، وجعلوا من الحياة ساحة الجريمة الفكرية والعملية ، فأساءوا إلى مقام ربهم ، وظلموا عباده في أقوالهم وأفعالهم ، إن ذلك مرفوض عند الله الذي يحكم بين عباده بالعدل فيجزي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته.

وهذا خطّ مستقيم لا بد من أن يأخذ به العاملون في خط الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ، بحيث يواجهون الموقف من الناس الذين يحيطون بهم ، على أساس الإخلاص لمنطق الدعوة في القيمة الاجتماعية ، فيقفون من المسلمين الذين يلتزمون الخط الإسلامي موقف الإعزاز والتكريم والدفاع عنهم في ساحات الصراع التي يخوضونها ضد الكفر والباطل ، ولا يفعلون كما يفعل البعض ممن يسيرون مع المستكبرين في مواقعهم الرسمية ، ليرفضوا الملتزمين بالخط الإسلامي إرضاء للواقع العام الذي يرمي المؤمنين بالاتهامات اللامسؤولة كالتعصب والتطرف وما إلى ذلك من الكلمات التي استحدثها الاستكبار والكفر ، للنيل من هؤلاء السائرين على خط الله ، فإن ذلك يوجب اهتزاز قواعد الإسلام ، وتوجيه المجتمع إلى التحوّل نحو المجرمين في ما هي القيمة الاجتماعية والسياسيّة ، ليكون فريق الباطل هو صاحب القيمة لدى المواقع الرسمية الإسلامية دون فريق الحق ، باعتبار الواقع الاستكبارى الذي يبحثون عن كسب رضاه.

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) من دون قاعدة في منطق الحق الذي لا بد من أن يكون هو الأساس في الحكم ، فإذا كانت المسألة في التقييم هي التمايز الذي

٥٥

يظهر بين الناس ، فكيف يمكن أن نساوي بين الإنسان المؤمن الذي أسلم كل حياته لله في كل أقواله وأفعاله وعلاقاته وخططه ، وجعل حياته كلها في خدمة الله الذي خلقه وخلق الناس كلهم في قدرته وحكمته ، وأنعم عليه وعليهم بتدبيره في ما مهّد لهم من وسائل العيش وفي ما أنعم عليهم من نعمه التي لا تحصى ، وبين الإنسان الكافر الذي أجرم في حق نفسه ، وفي حق ربّه ، وفي تصرّفاته مع الناس من حوله .. فإذا لم يكونا متساويين في الصفات التي تميز الناس عن بعضهم البعض ، فكيف نجعلهما متساويين في الحكم وفي المصير؟!

* * *

تساؤلات استنكارية

(أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) من الكتب التي أنزلها الله على رسله لتكون لكم حجة على ما أنتم فيه. وهذا أمر لا أساس له ، لأن الكتب النازلة من عند الله تؤكد على تفضيل المسلمين على المجرمين. (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي ما تختارونه من المصير الذي تريدونه ، من المصير الذي ينتظركم في الآخرة أو مطلقا ، (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بحيث التزمنا لكم بالعهود والمواثيق المتمثلة بالأيمان من قبلنا أن يكون لكم الحق بالحكم كما تشاءون ، لتكون لكم الحجة بذلك في ما جعل الله لكم من إرجاع الأمر إليكم إلى يوم القيامة. وهذا أمر لا أساس له ولا معنى ، لأن الله لا يمكن أن يجعل عهدا على نفسه للمنحرفين عنه بأن يحكموا بما يشاءون في ما لا يرتكز على قاعدة الحق والعدل (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ).

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) فمن هو الذي يتكفل بهذا الموقف الجائر الذي لا يتفق مع خط الله ، وكيف يمكن أن يتحمل المسؤولية في الأخذ بذلك

٥٦

والالتزام به؟ وهذه إشارة ـ على الظاهر ـ إلى أن ذلك مما لا يستطيع أحد أن يتكفل به ، لأنّه الباطل الذي لا يتفوه به كل من يحترم عقله ، (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) يقررون لهم هذه الأمور ، فيعتمدون عليهم في موقفهم وفي حكمهم ، ممن يكون له إصدار الأمر الملزم للناس ، وذلك بأن يكون هؤلاء الشركاء في مواقع الآلهة ، (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) ولن يستطيعوا ذلك لأنه غير وارد في حساب الحقيقة الأصلية. وقيل : إن المراد بالشركاء شركاؤهم في هذا القول ، للإيحاء بأنهم ليسوا وحدهم فيه ، فلا يكونون حالة شاذة في المجتمع ، في ما يقولونه أو يلتزمونه من الحكم ، ولكن وجود آخرين يثبتون هذا القول لا يصلح سندا لهم ، لأن أولئك يكونون مثلهم في الخطأ والسقوط.

* * *

موقف الخسران للكافرين يوم القيامة

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) وهو وارد مورد المثل عن اشتداد الأمر اشتدادا بالغا لأنهم كانوا يشمرون عن ساقهم إذا اشتد الأمر للعمل أو للفرار. قال صاحب الكشاف : «فمعنى (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) في معنى يوم يشتد الأمر ويتفاقم ولا كشف ثمّ ولا ساق ، كما تقول للأقطع الشحيح يده مغلولة ، ولا يد ثمّ ولا غل وإنما هو مثل في البخل» (١).

(وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) لأنهم لا يملكون القدرة على ذلك من خلال العجز الروحي والجسدي الذي لا يمكنهم من القيام بذلك بشكل طبيعيّ.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) فلا يملكون أن يحدّقوا بها في ما حولهم ، لأنه من الأمور التي لا يستطيعون التماسك أمامها ، لما تشتمل عليه من مظاهر الرعب

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ٤ ، ص : ١٤٧.

٥٧

الذي يرهق الأبصار ويهزّ القلوب (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) في موقفهم الخاسر الذي يواجهون فيه العذاب الأليم ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) وذلك عند ما كانوا في الدنيا قادرين على أن يستقيموا في خط توحيد الله في العقيدة والعبادة ، وأن يسجدوا له إيمانا وخضوعا ، ليتفادوا هذا الموقف الخاشع الذليل في يوم القيامة ، (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) فلست ـ أنت يا محمد ـ الذي تواجهه بالموقف المتحدي في ساحة المواجهة الصعبة التي تقوده إلى نهايته المحتومة. ولعل الإنسان الذي يستمع إلى الله رب العالمين وهو يقول لرسوله : ذرني وهؤلاء فأنا الكفيل بهم ، يشعر بالهول الكبير الذي لا هول مثله ، من خلال هذا التهديد الإلهي الحاسم.

* * *

استدراج الكافرين من حيث لا يعلمون

(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) وذلك بالأسلوب الذي قد يخيّل لهم فيه بأن الله قد أهمل أمرهم ، من خلال ما يشاهدونه من النعم الكثيرة المحيطة بهم ، وربما يحسبون ذلك كرامة من الله لهم .. ولكنه الاستدراج الذي يقعون فيه من دون وعي للنتائج المقبلة عليهم ، (وَأُمْلِي لَهُمْ) وذلك بإمهالهم حتى يمتدوا بالمعاصي ، وتمتد النعم بهم في مواقع الابتلاء والامتحان ، (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) قويّ لا يتخلّف عن هدفه ، في ما يتخلف فيه كيد الكافرين عن غاياتهم ، لأنهم لا يملكون امتدادا في القدرة الخفية التي تتعامل مع واقع القضايا لا ظاهرها.

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) على دعوتك ، كما هو حال الكثيرين من الدعاة الذين يريدون أن يحصلوا من خلال دعوتهم على المال ، في ما يحصلون عليه من المواقع المتقدمة في المجتمع ، ليتعللوا بذلك في الوقوف ضدك ، لأنهم لا

٥٨

يريدون التحاور معك في هذا الهدف ، لعدم استطاعتهم دفع هذا الأجر ، فيهربون منك هربا من الغرم الذي قد يفرض عليهم ، (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) كما يفعل الناس مع كل الذين يكلّفونهم مالا يثقل عليهم دفعه ، فيواجهونه بالرفض بطريقة غير مباشرة.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي هل يملكون أمر الغيب في ما تختزنه من أوضاع المستقبل ، ليحددوا بذلك حدود قضايا المستقبل من خلال رؤيتهم خفاياه ، فهم يكتبون ذلك ويقررونه لينطلقوا إلى شاهد على ما يدّعونه ، تماما كما هم الأنبياء الذين يتحدثون عن الغيب النازل عليهم من الله. ولكن من أين لهم علم ذلك ، وأنّى لهم مثل هذه الدعوة الباطلة؟ (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) وتابع رسالتك ، ولا تستعجل الأمر ، فإن كثيرا من القضايا تحتاج إلى وقت طويل لتبلغ مداها ، لأن لها شروطا كثيرة في واقع الحياة التي تفرض لكل حادث مراحل متعددة في امتداد الزمن ، مما يفرض على الذين يتعاملون مع سنن الله في الكون من هذه القضايا ، أن ينتظروا الأسس الواقعية التي ترتكز عليها ، كما هو النبات في مواعيد ثمره ، وكما هو الإنسان في مدة حمله ، وكما هو الليل والنهار في مواعيدهما.

* * *

لا تستعجل النتائج

(وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) الذي استعجل أمر ربه بعذاب قومه ، أو أنه استعجل الوصول إلى النتائج في حركة رسالته ، فلم يصبر ، بل امتلأ غيظا وحنقا من تكذيب قومه ، (إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) في ما يشبه المختنق الذي يتجرع الغيظ ولا يستطيع أن يجد له متنفسا ، (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وهو قبول الله

٥٩

له لإيمانه وتسبيحه وإخلاصه ، مما جعل مسألة الاستعجال منطلقة من موقع الإخلاص لله لا من موقع التمرد عليه ، (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) وهي الأرض العارية التي لا سقف فوقها ولا نبات عليها ، (وَهُوَ مَذْمُومٌ) على هذا السلوك الذي لا يتناسب مع صبر الرسالة وثبات الرسول ، (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) واختاره إليه (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين اختصهم برحمته ، وجعلهم من أهل كرامته.

* * *

من إيحاءات الآيات

وقد نستوحي من هذه الآيات وصية الله للنبي أن لا يكون كصاحب الحوت الذي ضاق صدره بتكذيب قومه ، فاستعجل العذاب لهم ، ولم يصبر على الامتداد في تبليغ الرسالة لتبلغ مداها في تحقيق شروط النجاح أو نهاية التجربة.

قد نستوحي من ذلك أن الأنبياء يستسلمون لنقاط الضعف البشرى تبعا لدرجاتهم ، وقد لا يكون من الضروري أن يكون ذلك في حجم المعصية لأنهم ربما انطلقوا من معطيات إيمانية في الغضب لله ولرسوله ، ولكن ذلك يعني أن درجاتهم في الكمال تتفاوت حسب تفاوت مواقعهم الإيمانية والروحية.

وقد نستوحي من هذه الآية ، أنّ على الداعية أن يصبر في موقفه الصعب في مواجهة التحديات ، ليبقى في متابعة دائمة للواقع من حوله من خلال دراسة الظروف الموضوعية الضاغطة عليه أو على الناس الذين يريد هدايتهم ، ليفسح المجال لظروف أخرى ملائمة في ما يمكن أن يختزنه المستقبل من متغيرات على صعيد حركة الواقع السلبية والإيجابية ، وأن عليه أن لا يتعقد من النكسات أو بعض مواقف الفشل ، ولا يثور بسرعة ، بحجة الثأر لرسالة الله التي لا يطيق

٦٠