تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

الأخلاقية العملية في الحياة.

(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) ليؤكد فجوره الفكري المتمثل بالتشكيك بالآخرة بطريقة إثارة علامات الاستفهام حوله ، على سبيل إشاعة أجواء الشك بين الناس ، أو على سبيل السخرية والاستهزاء ، ولكن هل يستمر هذا الإنسان في هذا الجو المتمرّد المعاند ، العابث بالحقائق ، وهل يبقى له هذا الاسترخاء اللاهي العبثيّ؟

إن المفاجأة المرعبة المروّعة سوف تصدم كل كيانه ، وكل لهوه وعبثه.

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) وتحيّر وتقلّب وخطف ، كما هو البرق في تقلّبه وخطفه ، فلم يستقر على شيء ، (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) وذهب نوره ، (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) في فضاء واحد ، بعد أن كانا منفصلين ، واختلّ نظامهما المعهود ، وانتهي النظام الكوني في توازن الزمن على خط الليل والنهار ، عند ذلك يحيط الذعر بهذا الإنسان من كل جانب ، فهو يواجه الآن وضعا صعبا من أكثر الأوضاع خطورة ، لأنه لا يفهم شيئا مما يراه أو يحيط به ، ولذا كان السؤال الصعب الذي يلحّ على وجدانه ، في عملية هروب من هذا الواقع ، في ما يشبه الصراخ المذعور ، (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) لأن الآفاق مغلقة أمامه ، فعوامل التغيير قد شملت الكون كله ، وليس هناك أفق مفتوح يمكن أن ينفذ إليه ليجد فيه سلامته ، (كَلَّا لا وَزَرَ) أي ليس هناك ملجأ. والوزر ما يتحصن به من جبل أو حصن أو كهف أو غيرها ، لأن الله الذي يملك الكون كله هو المحيط به من جميع الجهات ، فكيف يمكن أن يحصل هذا الإنسان على فرصة الفرار من الله لينجو من عقابه ، (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) فهناك نهاية المطاف الذي يقف فيه الإنسان ليواجه مصيره المحتوم الأخير ، فلن يتحرك من مكانه إلى مكان آخر ، لأن الرحلة إلى الله هي رحلة النهاية الأبديّة ، فلا موت بعدها ليغيب الإنسان في ظلماته ، ولا أفق آخر ليبتعد الإنسان عن واقعه إليه ، بل هو الاستقرار الذي

٢٤١

يمنع الحركة والتحوّل ، لأن الله هو ـ وحده ـ الذي تقف الحركة عنده ، وتتحول الأشياء إليه ، (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) من أعماله الحسنة والسيّئة من أوّل عمره إلى آخره لتكون النتيجة أن يواجه مصيره لينتهي إلى الجنة أو النار تبعا لعمله.

* * *

بل الإنسان على نفسه بصيرة

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) بما تمثله كلمة البصيرة من وضوح الرؤية للأشياء بحيث لا يغيب منها شيء ، لأن إشراق الحقيقة ينفذ إلى كل زاوية من زوايا حياته ، فيعرف عمق نواياه ، وطبيعة أعماله ، ولعل إطلاق كلمة البصيرة على الإنسان من باب المبالغة بحيث يخيّل إلينا أنه تحوّل إلى أن يكون تجسيدا للبصيرة في رؤية القلب ، وإدراك الداخل ، كقولهم : زيد عدل. (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) فحاول أن يقدّم أعذاره التي تخفي طبيعة السوء في عمله ، وحركة الجريمة في حياته ، لأنه يعرف نفسه بنور بصيرته كيف كان عمله ، وكيف كانت حركته ، ولهذا فلا يقبل منه أيّ عذر لأنه لا يمثل الحقيقة الصارخة في واقعه العملي.

وقد جاء في الكافي ، بإسناده عن عمر بن يزيد قال : إني لأتعشى مع أبي عبد الله «جعفر الصادق» عليه‌السلام ، إذ تلا هذه الآية (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) ثم قال : يا أبا حفص ، ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟ إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول : من أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ» (١).

وجاء في مجمع البيان نقلا عن تفسير العياشي ، «بإسناده عن محمد بن

__________________

(١) الكافي ، ج : ٢ ، ص : ٢٩٦ ، رواية : ١٥.

٢٤٢

مسلم عن أبي عبد الله «جعفر الصادق» عليه‌السلام قال : ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا ويسرّ سيّئا أليس إذا رجع إلى نفسه ، فيعلم أن ذلك ليس كذلك ، والله ـ سبحانه ـ يقول : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) إن السريرة إذا صلحت قويت العلانية» (١).

وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه ، في مجال التربية الإنسانية الإسلامية ، وذلك من أجل بناء شخصية الإنسان على أساس أن يكون ظاهره موافقا لباطنه لتتّحد عنده عناصر الشخصية الداخلية والخارجية ، ويكون إيمانه بنفسه منطلقا من وضوح الرؤية لديه في دوافعه وخفاياه ومواقع حركته في أجواء الآخرين ، وعليه أن يصارح نفسه بسلبياته ، كما يصارحها بإيجابياته ، وأن تكون له شجاعة الاعتراف بالخطإ أمام الناس ، فلا يعمل على أن يعطيها صورة الصواب ليدفعه ذلك إلى تغييره عند ما يرى تأثيره على حياته وعلى نظرة الناس إليه ، بينما يكون الإصرار عليه ومحاولة الدفاع عنه موجبا للاستغراق فيه والثبات عليه ، مما يجعله مشوّة الشخصية يعيش الازدواجية بين ما يعيشه في الداخل ، وبين ما يتحرك فيه في الخارج.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١٠ ، ص : ٥٩٩.

٢٤٣

الآيات

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١٩)

* * *

مناسبة النزول

جاء في الدر المنثور للسيوطي : «أخرج الطيالسي وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف ، والطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعالج من التنزيل شدّة ، وكان يحرّك به لسانه وشفتيه مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه ، فأنزل الله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قال : إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم تقرأه ، (فَإِذا قَرَأْناهُ) يقول : إذا أنزلناه عليك ، (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) فاستمع له وأنصت ، (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) نبيّنه بلسانك ، وفي لفظ : علينا أن نقرأه ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق ، وفي لفظ : استمع فإذا ذهب قرأ كما وعده الله عزوجل» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٨ ، ص : ٣٤٨.

٢٤٤

قد تكون هذه الرواية صحيحة وقد لا تكون ، وربما كانت اجتهادا شخصيا في التفسير ، مما لا يجعلها حجّة في فهم معنى الآية ؛ لذا لا بدّ من دراسة أجواء هذه الآيات وكلماتها ، وفي هذا المجال نلاحظ أن هذه الآيات لا تتّفق في مضمونها مع ما يحيط بها أوّلا أو آخرا من الآيات المتصلة بالقيامة في تفصيلات أحداثها ، أو الأحداث السابقة عليها ، أو الأفكار المتعلقة بها ، فهي واردة مورد الجمل المعترضة التي قد تكون لها بعض المناسبة ، وليس المناسبة كلها.

ولعلّ الجوّ الذي يسود هذه الآيات قريب من الحالة النفسية التي كان يعيشها النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند نزول الآيات السابقة ، بحيث إنه كان يتابع كلمات القرآن عند تلاوة جبريل لها ، فيردّدها معه ويلاحقه في الترديد حذرا من أن تفوته كلمة أو ينساها ، لأنّ مسئوليته هي الوعي الكامل للقرآن ليبلّغه للناس بكل دقة.

وقد تكون المسألة بطريقة الكناية ، بعيدا عن أيّة حالة طارئة للنبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آنذاك ، فتكون تأكيدا على كفالة الله للقرآن بحيث لا يحتاج إلى السرعة في ملاحقة الرسول الملائكي بالتلاوة وبالاستعجال بها عند سماعه ، ولعل هذا أقرب إلى الذهن ، والله العالم.

* * *

لا تحرك به لسانك لتعجل به

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) في متابعة سريعة للتلاوة ، لأن الله قد تكفّل بجمعه وتسهيل قراءته بكل دقة ، وتكفّل بحفظه من التحريف بالزيادة أو النقصان ، (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) أي قراءته عليك لتردده في كل وقت كما تشاء ، وليردّده المسلمون معك ، وسنجمعه بكل كلماته لنضم بعضها إلى

٢٤٥

بعض ... فلما ذا العجلة ، ولماذا الخوف من نسيانه؟

(فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) في اتباع كلماته المقروءة بكل هدوء وخشوع في استغراق واع لكل معانيه.

وربّما فسّر البعض الاتّباع بالسير على وقف أوامره ونواهيه في الجانب العملي ، ولكن السياق لا يتناسب معه ، لأن الجوّ جوّ حفظ القرآن والاحتفاظ به ، لا جوّ الاتّباع العملي.

(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) حتى تتبيّن حروفه لك وللناس من خلالك ، كما تتبين معانيه ، ليعيش في أذهانهم على مستوى الوضوح في الكلمة وفي الجوّ وفي المضمون ، لأنه جاء نورا للناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، فلا يمكن أن يبقى فيه التباس أو غموض.

وقد أثار البعض من المفسرين الحديث ـ في جوّ مناسبة الآية ـ عن نزول القرآن دفعة واحدة قبل نزوله تدريجيا على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسبما جاء في بعض الروايات ، التي ذكرت أن النبي كان يسبق جبريل إلى ترديده في المرحلة التدريجية قبل أن يكمل كلامه ، مما كان يحفظه الرسول منه.

ولكننا نلاحظ على ذلك ، أن القضية لو كانت كما ذكر في هذه الروايات لما كانت هناك ضرورة إلى التأكيد على جمعه وقرآنه ، لأنه مجموع بجملته في النزول الدفعيّ الأول ، مما يجعل هذا الكلام غير دقيق.

* * *

٢٤٦

الآيات

(كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٢٥)

* * *

معاني المفردات

(ناضِرَةٌ) : النضرة مثل البهجة والطلاقة ، وضده العبوس والبسور.

(باسِرَةٌ) : كالحة عابسة.

(تَظُنُ) : فسّر الظن بالعلم.

(فاقِرَةٌ) : الفاقرة : من فقره إذا أصاب فقار ظهره ، وقيل : من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار.

* * *

٢٤٧

وجوه الناس يوم القيامة

(كَلَّا) كلمة رفض للواقع الذي يعيشه الناس في أوضاعهم الكافرة التي يحاولون إظهارها بمظهر الخلاف الفكري بين مسألتي الإيمان والكفر ، ليبرروا بذلك مواقفهم غير المسؤولة ، في ما يحاولون إثارته من الشبهات السطحية حول الآخرة.

(بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) وهي الدنيا التي استغرقتم في ملذّاتها وشهواتها وامتيازاتها بالمستوى الذي كنتم ترفضون من خلاله كل فكر ووحي يحدّد لكم حدود المواقف ، وينظم حركة الشهوات ، ويلغي الامتيازات الطبقية الاستكبارية التي استأثرتم بها على حساب المستضعفين المحرومين.

(وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) فلا تفكرون فيها تفكير المسؤولية ، ولا تواجهون الحديث عنها بالمنطق الواعي الذي يلاحق كل حديث ليدرس احتمالاته لتحديد الموقف الفكري أو الواقعي منها ، ولذلك تهملون أمر الآخرة وتتصرفون أمام الحديث عنها ، تصرّف المنكر لها ، وتبتعدون عن الاستعداد لها.

وهذه هي مشكلة الكثيرين من الناس الذين أطبقت عليهم خصوصياتهم الذاتية في الدنيا ، فحاولوا أن يمنحوها صفة فكرية على حساب الواقع المتحرك الذي يحدد مواقفهم في دائرة المصالح الشخصية.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) وهذه هي صفة مجتمع المؤمنين في يوم القيامة ، المنعكسة في وجوههم التي تحدّق بالموقف الرهيب ، فهناك الوجوه المليئة بالحيويّة والنضارة والإشراق ، انطلاقا من الطمأنينة الروحية ، والهدوء النفسي ، والإشراق الداخلي المنطلق من الإيمان بالله في انفتاحه على الحق النازل من

٢٤٨

عند الله.

(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) بكل وجدانها الفكري ، وتطلعاتها الروحية ، واستغراقها في آفاق عظمته ورحمته ، مما يجعلها مشدودة إليه بكل كيانها ، حتى يخيّل إليك ، وأنت تنظر إليها وهي تحدّق في الأعالي ، أنها تحدّق في الله ، كما لو كان شيئا محسوسا في آفاق القيامة ، في ذهول النظرة ، وخشوعها ... وفي ضوء ذلك ، فإنّ النظر إلى الله ليس نظرا ماديا ، بل هو نظر روحي بعين القلب والبصيرة ، لاستحالة النظر إليه كما ثبت ذلك بالدليل.

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) أي عابسة عبوسا شديدا ، (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي فعلة تقصم الظهور أو تسم أنوفها بالنار ، وهي وجوه الكافرين والمشركين والمنافقين الذين كانت حياتهم تمردا على الله ، وضلالا عن سبيله ، وكفرا به.

* * *

٢٤٩

الآيات

(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٠)

* * *

معاني المفردات

(التَّراقِيَ) : العظام المكتنفة للنحر عن يمين وشمال. جمع ترقوة.

(راقٍ) : قال في الميزان : «اسم فاعل من الرقى ، أي : قال من حضره من أهله وأصدقائه : من يرقيه ويشفيه؟ كلمة يأس ، وقيل : المعنى قال بعض الملائكة لبعض : من يرقي بروحه من الملائكة؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟» (١).

(الْمَساقُ) : الرجوع إلى الله تعالى.

(يَتَمَطَّى) : تمدد البدن من الكسل ، وأصله أن يلوي مطاه أي ظهره ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢٠ ، ص : ١٢٣.

٢٥٠

والمراد بتمطيه في ذهابه : التبختر والاختيال ، وهو استعارة.

(أَوْلى لَكَ) : كلمة وعيد وتهديد.

(سُدىً) : السدي : المهمل.

(يُمْنى) : إمناء المني : صبه في الرحم.

(عَلَقَةً) : قطعة من دم منعقدة.

* * *

إلى ربك المساق

وهذا هو المشهد الذي يقترب فيه الإنسان من موعد الموت الذي يلتقي فيه بموعد القيامة ، وهو ما ينكره الكفار رغم إيمانهم بالنشأة الأولى التي هي الدليل على النشأة الأخرى بفعل القدرة الواحدة التي تتصل بالمسألة من ناحية المبدأ.

(كَلَّا) كلمة رفض لما يرفضونه من اليوم الآخر ، (إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) وهي العظام المكتنفة للنحر عن يمين وشمال ، جمع ترقوة ، حيث تتصاعد الروح قبل أن تخرج من الجسد ليلفظها كما يلفظ الإنسان أنفاسه في أجواء المرض الخطير ، وتتثاقل الأزمة لدى المريض حتى يتنادى الناس من حوله ليصرخوا بالطبيب الذي يراد له أن يعالجه من هذا الداء الخطير الذي يقترب به من الموت ، (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) في كلمة يأس تصرخ بالراقي الذي يستعمل الرقية للشفاء من دون أمل بذلك ، (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) بفعل ما يشاهده المحتضر من الأحوال الصعبة المتتابعة في جسده حيث يواجه الموت عيانا ، فيستعدّ عندها للوقوف على حافّة الآخرة ، (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) عند ما يكّف الجسد عن التماسك ، وتنسلّ الروح منه ، فتذهب الحياة من كل عضو من أعضائه حتى تلتفّ إحدى ساقيه بالأخرى ، فلا يستطيع أن يفصل أيّا منهما عن الأخرى ، (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ

٢٥١

الْمَساقُ) حيث يسوقه ملك الموت إلى ربه ليواجه أعماله.

* * *

المستكبر وإعراضه عن الحق

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) فلم يكن منفتحا على التصديق بكتاب الله ولا برسله ، ولم يقف بين يدي ربّه ليصلّي في خشوع العبد لمولاه وعروجه الروحي إلى الله ، بل أعرض عن ذلك ، (وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) في إنكاره للتوحيد وللرسالة ولليوم الآخر ، وإعراضه عن حركة الإيمان في خط المسؤولية ، (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) والتمطي هو تمدّد البدن من الكسل ، وهو كناية عن الاختيال والتبختر والاستكبار. وقيل : إن هذه الآية نزلت في أبي جهل الذي كان يذهب إلى مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويستمع إلى القرآن ، ثم يعود متبخترا في مشيته (١). فإذا صحّت هذه الرواية كان الحديث عنه من خلال ما يمثله من نموذج الإنسان المستكبر الذي يمنعه استكباره عن قبول الحق وعن الخضوع لالتزاماته الفكرية والعملية.

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى * ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) قيل : إن هذه الكلمة كلمة تهديد ووعيد. وفي بعض الروايات ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيد أبي جهل ، ثم قال له : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى * ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) قال أبو جهل : بأي شيء تهددني لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا ، وإني لأعز أهل هذا الوادي (٢).

وقد يكون الكلام من الله ليكون التهديد صادرا منه ليردّ على خيلائه وكبريائه بالوعيد الذي يحتقر شخصيته ليقال له : إنك الأجدر والأولى بالعذاب الذي يسحقك بالذل الذي لا ذل مثله ، وقد يكون كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له ـ إذا

__________________

(١) انظر مجمع البيان ، ج : ١٠ ، ص : ٦٠٦ ، والدر المنثور ، ج : ٨ ، ص : ٣٦٣.

(٢) انظر : مجمع البيان ، ج : ١٠ ، ص : ٦٠٦.

٢٥٢

صحت الرواية ـ نقلا لكلام الله الذي أراد أن يوبّخه به.

* * *

أيحسب الإنسان أن يترك سدى؟

ثم تلتفت السورة إلى مثل هذا الإنسان في كل نماذجه لتواجهه بالصدمة القويّة التي تهز وجدانه هزّا عنيفا ، ليثوب إلى رشده ويرجع إلى عقله ، وليخرج من هذه الغفلة المطبقة على كل شعوره.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) من دون عقيدة شاملة تخطط له منهج حياته ، ومن دون شريعة تحدد له طبيعة خطواته ، ومن دون غاية كبيرة توجّه خط سيره ، وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف تكون حكمة الله في الخلق ، وكيف يمكن للحياة أن تختزل بمجرد أناس يولدون ثم يموتون ، ثم لا شيء في ذلك أو في ما وراء ذلك ، من مسئولية الحركة في الحياة ، ومن نتائج المسؤولية بعدها ... وهل يعني هذا إلا العبث الذي يعبر عن اللّامعنى ، ليكون الإنسان كمية مهملة فلا هدف له في حياته ، ولا خط له في حركته ، ولا مسئولية له في كل أوضاعه ، وعندها ، ما الفرق بينه وبين الحيوان؟ إنّ طبيعة الأجهزة التي أودعها الله في وجوده ، لا سيما قوّة العقل والإدراك الذي يربط فيه بين الأشياء وصولا للوقوف على القوانين والسنن الإلهية التي تنظمها وتوحد فيما بينها ، ثم في اكتشاف الخط الواحد الذي يربط بين الناس في خطواتهم العملية في الحياة ، لتكون كل خطوة حركة في اتجاه الغاية الواحدة ، وليكون لكل حركة موقع معيّن في حركة الحياة الممتدة في العمر الطويل والقصير ، وليكون ذلك كله نتيجة عميقة ممتدة في نهاية المطاف.

إن دراسة الإنسان لطريقة وجوده في نشأته الأولى الخاضعة للتخطيط الإلهيّ الدقيق في حركة الوجود ، يدلّ على أن الله لا يترك الإنسان مهملا ، لأن الإهمال يتنافى مع سرّ الحكمة في ذلك.

* * *

٢٥٣

أليس الله بقادر على أن يحيي الموتى!؟

(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) أي يراق ، فكيف تحركت هذه النطفة في رحلة الوجود والحياة ، (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً) في وضع خاص في الرحم تتعلق بجدرانه لتعيش وتستمد الغذاء ، فمن أين عاش السرّ فيها ، وكيف استوعبت كل خصوصياته ، (فَخَلَقَ فَسَوَّى) من خلال رحلة النطفة المعقّدة بكل تفاصيل مسألة النمو الحيويّ التي رافقت عملية التحوّل إلى جنين كامل في كل أجهزته.

وهكذا تحوّلت الخليّة الواحدة إلى ذكر وأنثى ، ويبقى التساؤل عن ماهيّة الخصوصية البارزة في النطفة التي انطلق منها هذا التنوّع ، الذي جعل منها ذكرا في خصوصية الذكورة ، أو أنثى في خصوصية الأنوثة. هل كان هناك تدخّل من أحد ، أم أنه الله الذي أودع سرّ الأسرار في ذلك كله ، كما أبدع عمق السرّ في نموّ الإنسان وحركيته في رحلته من الحياة إلى الموت؟ إنه الله الذي خلق الخلق كله ودبّره في بداية وجوده ، وفي مقدمته الإنسان ، (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) حيث كان ذلك هو الأساس في استمرار قانون التوالد الذي امتدت من خلاله الحياة الإنسانية.

(أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) إنه ليس سؤال الحاجة إلى المعرفة ، ولكنه سؤال الحاجة إلى تقرير الحقيقة التي تفرض نفسها على العقل الذي يحاكم القضايا من موقع القاعدة الواحدة التي تخضع لها في طبيعة الوجود ، وعلى الوجدان الذي يستوحي من طبيعة السرّ هناك طبيعة السرّ هنا ، وعلى الشعور الذي يمتصّ الحقيقة في إحساسه ، من خلال صفاء الفطرة الكامنة فيه ، التي توحي بأن القادر على النشأة الأولى ، هو القادر على النشأة الأخرى ، فهي حقيقة الحقائق التي يخشع أمامها الإنسان بكل وجوده.

* * *

٢٥٤

سورة الإنسان

مدنيّة

وآياتها إحدى وثلاثون

٢٥٥
٢٥٦

هل السورة مكية أم مدنية؟

هل هذه السورة مكية أم مدنية؟ قيل : إنها مكية لورود بعض الروايات في ذلك ، وقد رجّح هذا البعض ـ وهو سيّد قطب ـ في تفسيره «في ظلال القرآن» رأيه من خلال قوله :

نحن نلمح في سياقها أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي ... تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصّلة الطويلة ، وصور العذاب الغليظ ، كما يشي به توجيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الصبر لحكم ربه ، وعدم إطاعة آثم منهم أو كفور ، مما كان ينزل عند اشتداد الأذى على الدعوة وأصحابها في مكة ، مع إمهال المشركين وتثبيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الحق الذي نزل عليه ، وعدم الميل إلى ما يدهنون به ، كما جاء في سورة القلم ، وفي سورة المزمّل ، وفي سورة المدّثر ، مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة (١).

وناقشه العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان ، فعلّق على اختصاص

__________________

(١) في ظلال القران م : ٨ ، ص : ٣٩١.

٢٥٧

السور المكية بصور النّعم الحسية والعذاب الغليظ ، بأن ذلك وارد في سورتي الحج والرحمن اللتين هما مدنيتان ، فقد اشتملتا على الصور الحسية للنعيم وللعذاب بأكثر مما في هذه السورة.

وعلّق على مسألة أمر النبي بالصبر وعدم إطاعة الآثم والكفور وعدم المداهنة والثبات على الحق ، بأن ذلك قد جاء في الفصل الثاني من السورة الذي يمكن أن يكون مكيا ، لأن الروايات الكثيرة دلّت على أن الفصل الأول من السورة كان مدنيا ، فلا منافاة. كما أنّ الأمر بالصبر وعدم إطاعة الآثم والكفور ليس من اختصاص السور المكية ، فهناك نماذج من ذلك في السور المدنية (١).

وقد وردت هناك روايات أخرى أكدت ، بما لا يقبل الشك ، بأن الآيات الواردة في الفصل الأول من السورة ، نزلت في المدينة ، كما نشير إلى ذلك في ما يأتي من حديث التفسير.

* * *

في أجواء السورة

وفي هذه السورة حديث عن بداية الإنسان الذي لم يكن شيئا مذكورا ، فقد مضى عليه مدة طويلة وهو في قلب العدم ، ثم دخل في عمق الوجود بإرادة الله الذي أراد للنطفة أن تحمل سرّ الحياة التي تنمو لتدخل في الصورة التي تتميّز بالانفتاح على الكون بالسمع والبصر. وكان له عقله الذي يدرك حقيقة الأشياء ، وإرادته التي تتميز بالانتماء إلى الخط المستقيم في شكر الله ، أو الخط المنحرف في الكفر به ، لأن الطريق مفتوحة على الخطين.

__________________

(١) انظر : تفسير الميزان ، ج : ٢٠ ، ص : ١٤٨.

٢٥٨

ثم تدخل في النتائج التي تنتظر الكافرين بالعذاب ، كما تنتظر المؤمنين بالثواب ، فتذكر التفاصيل الحسية للعذاب : من سلاسل لأقدامهم ، وقيود لأعناقهم ، ونار مستعرة ، وللثواب : من الجنة والحرير وما تشتمل عليه من ألوان النعيم.

ثم تنطلق في إطلالة سريعة على إنزال القرآن على الرسول ، ثم تأمره بالصبر لحكم الله ، وتدعوه إلى الامتناع عن طاعة الآثم والكفور ، وتطلب منه أن يذكر اسم الله بكرة وأصيلا ، وبعد ذلك توحي إليه بالسجود لله والتسبيح في الليل.

وأخيرا تتناول الآيات وتفسر انحرافهم بمحبتهم للعاجلة ، ونسيانهم للآجلة ، وتؤكد أن الله قد خلقهم وهو قادر على أن يبدّلهم تبديلا ، وعلى الآخرين من هؤلاء أن يجعلوا ذلك الحديث تذكرة تقودهم إلى الخروج من الغفلة ليتخذوا سبيلا إلى ربهم ، ولكنهم لا يشاءون ذلك إلا إذا شاء الله من خلال علمه وحكمته ، لتكون النتيجة أن يدخل من يشاء في رحمته ويعدّ للظالمين العذاب الأليم.

وهكذا تنطلق السورة لتربط النهاية بالبداية مؤكدة حرية الإنسان الذاتية في اختياره الخطّ المنحرف أو المستقيم ، وداعية في النهاية الإنسان إلى أن يتخذ إلى ربه سبيلا ، ويرفض كل السبل التي تؤدي به إلى غير الله.

* * *

اسم السورة

وقد أخذت السورة اسم الإنسان للتأكيد ـ في البداية ـ على مسألة

٢٥٩

الوجود الإنساني بعد العدم ، ولأنها تتحرك في مسألة اختياره وحركته في خط هذا الاختيار ، ونتائجه السلبية أو الإيجابية ، مما يجعل السورة تتمحور حول الإنسان في وجوده الباحث عن الله ، وفي موقفه المتحرك بين خطّي الانحراف والاستقامة. ونحن نستطيع أن نعتبر أن القرآن كله ، ينطلق في عنوانين كبيرين ، هما الله والإنسان ، ليعرف الإنسان مقام ربه وموقعه في علاقته به ، وذلك من أجل أن يكون الدين عملية تصحيح وتأصيل لهذه العلاقة.

وقد أطلق على السورة اسم الدهر ، باعتبار ذكر كلمة الدهر في الآية الأولى ، ولكن الظاهر أن الاسم الأوّل أقرب إلى جوّ السورة ، لأن الدهر لم يأخذ أيّ بعد فيها.

* * *

٢٦٠