تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

الوضوح في الرؤية كأقوى ما يكون ، وأن يمثّل القوّة في الموقف لدى الناس الذين يلتقيهم ليؤكد لهم صفته من خلال موقفه ، فكيف يمكن أن يأتي من موعد الوحي مهتزا خائفا مرعوبا ، كما يوحي به جوّ الرواية.

ومهما كان الأمر في الأقوال في مسألة وقت نزول السورة ، فإن من المتّفق عليه أنها من السور المكية النازلة في أوائل الدعوة.

وقد انطلقت هذه السورة في نداء صارخ متحرك للبدء بالإنذار في شروطه المادية والمعنوية التي يريد الله للنبي ولكل داعية من بعده أن يحيط بها موقفه ودوره ، وفي وعيد للمكذّبين في بعض نماذجهم في مكة ، الذين كانوا يتهمون الدعوة بالسحر ليحوّلوا صورة النبي في نظر الناس إلى صورة الساحر الذي يسحر عقول الناس بدلا من صورة النبي الذي يهديهم ، فيؤكد الله سبحانه وتعالى ، بأنهم سيصلون سقر. ثم يتحدث في نهاية السورة عن المجرمين الذين يدخلون سقر ليفصّل الأسباب التي أدّت بهم إلى هذا المصير الأسود ، في ابتعادهم عن أداء الصلاة وإيتاء الزكاة ، وخوضهم بالباطل وتكذيبهم بيوم الدين ، في أجواء غير مسئولة ، لأنها لا تنطلق من تقدير الموقف على أساس الاستماع إلى حقائق الوحي ، بل من الاستسلام للأهواء الذي يدفع بها إلى الإعراض عن التذكرة التي يثيرها الرسول ، فهم سادرون في غيّهم ، لاهون في عبثهم ، مستغرقون في غفلتهم ، فلا يستفيقون منها إلا أن يشاء الله ، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.

* * *

٢٠١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (٧)

* * *

معاني المفردات

(الْمُدَّثِّرُ) : بتشديد الدال والثاء ، أصله : المتدثر اسم فاعل من التدثر ، بمعنى التغطي بالثياب عند النوم.

(وَالرُّجْزَ) : الرجز : بضم الراء وكسرها العذاب. وقيل : الرجز اسم لكل قبيح مستقذر من الأفعال والأخلاق.

* * *

يا أيها المدثر ، قم للدعوة وللعمل

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) أي المشتمل على ثيابه اتقاء للبرد ، أو طلبا للنوم ، وربما لا يكون المعنى الحرفي مقصودا بالكلمة ، بل يكون المعنى الكنائي الذي

٢٠٢

يوحي بالاسترخاء والقعود والاستسلام للراحة ، والبعد عن حركة المسؤولية في الفترة التي قد يعيش فيها الإنسان الشعور بعدم مسئوليته عن الواقع من حوله.

(قُمْ فَأَنْذِرْ) فقد بدأت الرسالة ، وانطلقت في حركيتها في خط الدعوة التي قد تتحرك في أسلوب الهزّة الروحية التي تحتوي الحالة الشعورية للناس ، لا سيما حين يعيشون الإحساس بالأمن والطمأنينة لمستقبلهم في الدنيا والآخرة ، فلا يشعرون بأن العذاب الخالد ينتظر المكذّبين بالرسول وبالرسالة ، ولا بدّ للرسول من أن يتحرك ليواجه المجتمع وليهزّه وليثير مسألة الصراع في ساحته ، وليؤكد موقفه في حركته ، مهما كانت الأوضاع والتضحيات.

* * *

وربّك فكبّر

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) في إيحاء قويّ بأن الله هو الأكبر ، ليتصاغر كل أولئك الذين جعلهم الناس في موقع الآلهة على مستوى العقيدة أو العبادة ، ليشعروا بأنهم في الموقع الصغير جدا ، أمام الله الأكبر الذي هو أكبر من أن يوصف ، لأن الخلق لا يستطيعون بلوغ كنه صفاته أو كنه ذاته ، كما أنه أكبر من أن يشبّه به أحد من خلقه ، أو يبلغ مواقع عظمته.

قال في الكشاف في قوله : (فَكَبِّرْ) «إن الفاء دخلت لمعنى الشرط ، كأنه قيل : وما كان فلا تدع تكبيره» (١).

وهذا ما يريد الله أن يوحي به إلى الرسول في صفته الحركية كداعية ، وإلى كل داعية من بعده ، بأن يطلق كلمة التكبير في وجدانه وفي لسانه ، ليؤكد عمق التوحيد في موقفه من خلال التطلّع إلى الله الأكبر الذي لا يدانيه شيء ، وليستوحي منها القوّة الروحية التي تستمد معناها من مضمون المعنى الذي

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ٤ ، ص : ١٨٠.

٢٠٣

تتحرك فيه الكلمة ، فإذا كان الداعية متحركا من خلال الأكبر فما قيمة كل الأصاغر الذين يعارضونه أو يحاربونه ، وإذا كان الله هو الأكبر ، فما قيمة كل الذين يؤكدون مواقعهم في موقع الألوهية أمامه ، الأمر الذي يمنح الداعية قوّة وامتدادا في طريق الدعوة إلى الله ، فلا يسقط أمام الضغوط ، ولا يتراجع أمام التحديات.

* * *

وثيابك فطهّر

(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) ربما كان المراد بذلك نظافة الثوب وطهارته من النجاسات والأقذار ، فالله يريد للداعية ، رسولا كان أو غيره ، أن يظهر بالمظهر النظيف الخالي من الأقذار ، لأن الظهور بمظهر القذارة قد يبعد الناس عن احترامه ، وعن الراحة في النظر إليه والانسجام معه في المجتمع ، وقد يكون تفسير التطهير بتقصير الثياب ، باعتبار ما يستلزمه ذلك من النظافة بارتفاعها عن قذارات الأرض.

وربما كان المقصود به المعنى الكنائي بأن ترمز طهارة الثياب إلى طهارة الذات والأخلاق ، بحيث لا يلحقه شيء من القذارة الروحية والفكرية والعملية ، وهذا ما ورد التعبير عنه بطهارة الذيل ونقاوة الثياب ونحو ذلك ... ولعلّ هذا هو الأقرب إلى جوّ الساحة الرسالية التي تفرض في الداعية أن يملك النقاء الأخلاقي الذي يجعله في مستوى التلقّي للوحي الطاهر ، وفي مستوى القدوة للآخرين ، لأنه إذا لم يكن نقيا في ذاته ، طاهرا في أخلاقه ، فإنه لا يستطيع أن يحصل على الثقة برسالته ، كما أنه لا يملك أن يمنح الناس شيئا من حركة الطهارة في مضمون الرسالة ، لأن الناس يعلمون دائما على المقارنة بين الرسالة والرسول ، كما أن فاقد الشيء لا يعطيه.

وهناك نقطة أخرى في هذا المجال ، وهي أن الداعية يتعرض للكثير من

٢٠٤

ألوان الإغراء التي تهدّد سلامته الروحية ، ومناعته الأخلاقية ، فإذا لم يكن في المستوى المتوازن من الطهارة الرسالية ، كان معرّضا للسقوط أمام تلك الإغراءات ، ممّا يمنعه من الاستمرار في أداء رسالته.

* * *

والرّجز فاهجر

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قيل : الرجز العذاب ، والمراد بهجره هجر سببه ، وهو الإثم والمعصية ، وقيل : الرجز اسم لكل قبيح مستقذر من الأفعال والأخلاق ، وقيل : الرجز : هو الصنم ، فيكون كناية عن الشرك.

وفي جميع المعاني ، تتضمن الفقرة توجيه النبي إلى هجران الأمور التي تتنافي مع المضمون الحيّ لرسالته ، لأن التلوّث بالخبث الروحي أو الفكري أو العملي ، يعني الانفصال عن خط الرسالة ، والاستسلام للوضع المنحرف الذي يحوّله إلى إنسان منحرف خبيث ، لا يستطيع أن ينطلق بخفّة الروح ، وطهارة الضمير ، وسلامة الخط ، واتّزان الحركة في خطواته ، ممّا يبتعد به عن الوصول إلى النتائج الكبيرة التي يتحرك في اتجاهها في الدعوة ... وقد نستوحي من كلمة الهجز للرجز بجميع معانيه ، أن الدعوة لا بد من أن تتحرك في خطين : خطّ إيجابيّ يلتزم الأخذ بكل طاهر وحسن ، وخطّ سلبيّ يلتزم الإعراض عن كل رجس وقبيح ، انطلاقا ممّا يمثّله السير على خط الإسلام ، والابتعاد عن خط الجاهلية.

* * *

لا تمنن تستكثر

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أي لا تشعر بالمنّ على الناس عند ما تكابد الجهد في الدعوة ، وفي الرعاية والخدمة ، لتحس بأنك قدمت الكثير عند ما تجد ما

٢٠٥

أعطيته لهم كثيرا ، في إحساس بالعجب في داخل الذات ، وبالإذلال للناس ، بل لا بد لك من الشعور بأن ذلك كلّه يمثّل مسئوليتك التي حمّلك الله إياها في ما أولاك من نعمه ، باعتبار أن ذلك من حقّ الله عليك الذي لا بدّ لك من أن تقوم به طلبا لرضاه وشكرا لنعمه ، وأنه من حق الناس عليك ، أمرك الله بأدائه إلى كل من يحتاج الهداية والرعاية والعناية ، وبذلك لا يبقى هناك معنى للمنّ ، ما دام ذلك هبة من الله ، ولا معنى للاستكثار ، لأن الله يريد للإنسان أن لا يخرج نفسه من حدّ التقصير ، فلا يبلغ درجة إلّا ويحاول أن يرتفع إلى ما هو أعلى منها ، ولا يقوم بعطاء إلا ويجد من نفسه ضرورة التوفّر على عطاء أكثر منه.

* * *

ولربك فاصبر

(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) فسوف تلاقي الكثير من تكذيب المكذبين وتعنّت الكافرين ، واستكبار المستكبرين ، وسخرية الساخرين ، واضطهاد الظالمين ، وسوف تواجه الضغوط العنيفة التي يضغطها كل هؤلاء في وجهك ، كما تلتقي بالحواجز التي ينصبها المضللون في طريقك ، فلا بدّ لك أن تصبر لحساب ربك ، لا لحساب ذاتك ، لأنك لا تعمل لذاتك ولا تواجه الاضطهاد من خلالها ، بل تعمل لله في الدعوة إلى دينه والجهاد في سبيله ، وفي هذه الحالة فإنهم لا يكذّبونك ، ولكنهم يكذّبون الله ، ولا يسخرون منك بل يسخرون من وحي الله ، لذا لا تضعف أمام نوازع الضعف التي يثيرونها في داخل ذاتك ، بل حاول أن تضغط على أعصابك ، وأن تثبّت مشاعرك ، فتتحمل الحرمان والتشريد والألم القاسي والتهديد بالقتل ونحوه في عمق المضمون الروحي للصبر ، طلبا لمرضاة الله ، وذلك هو سرّ القوة التي يمنحها الله من خلال الصبر لرسله وللدعاة إلى دينه.

* * *

٢٠٦

الآيات

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (١٠)

* * *

معاني المفردات

(نُقِرَ) : النقر : القرع.

(النَّاقُورِ) : ما ينقر فيه للتصويت ، والنقر في الناقور كالنفخ في الصور.

* * *

يوم النقر في الناقور .. عسير على الكافرين

ويستمر النبيّ في الإنذار صابرا على الأذى ، صامدا أمام التحديات ، قويا في الأزمات ، ويمتد الكافرون في كفرهم في مواقف التمرد والطغيان ، وتمتد بهم الحياة حتى تلفظ كل أنفاسها في نهاية المطاف ، فيسقطون في ظلمات الموت ... ثم يبعثون من قبورهم.

٢٠٧

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) النقر هو القرع الذي يوحي بدويّ الصوت كالنفخ في الصور ، ولكنه هنا يوحي بالرنين والشدّة ، وهو تعبير آخر عن بعث الموتى وإحضارهم للوقوف بين يدي الله لفصل القضاء في يوم القيامة.

(فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) لأنه يوم الحسم الذي لا مجال فيه لأيّة عودة إلى الوراء ، ولا حلّ فيه لمشكلة الكافرين بالله لأن قضية الكفر ليست من المسائل الفرعية التفصيلية التي يمكن التسامح معها ، بل هي من المسائل الأصلية في العقيدة ، فالكافر يتحدى الله بشكل مباشر في رفض الإيمان به ، وهو ينتمي إلى دائرة الإشراك به أو بعبادته ، مما لا يلتقي بالمغفرة التي هي المظهر البارز لليسر في مواقع العسر ، لأن الشرك ذنب لا يغفر ، خلافا للذنوب الأخرى التي يمكن أن تلحقها المغفرة ، ولذلك كان (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) ... وتترك الآية الموقف من غير تحديد ، فكيف يكون العسر النازل عليهم؟ وكيف يتمثل في العذاب؟ ما هو مقداره؟ وما هو حجمه؟ وما هي مدّته؟ إنها علامات استفهام تضيع في المجهول الذي يريد الله للكافر أن يغرق فيه من دون فائدة ليعيش الكافرون في الدنيا هذا الهاجس المرعب ، فلعلهم يستفيقون من غفلتهم ، ليرجعوا إلى الإيمان قبل فوات الأوان.

* * *

٢٠٨

الآيات

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) (٣٠)

* * *

معاني المفردات

(مَمْدُوداً) : أي : مبسوطا كثيرا ، أو ممدودا بمدد النماء.

(تَمْهِيداً) : التمهيد : التهيئة.

(سَأُرْهِقُهُ) : الإرهاق : الغشيان بالعنف.

٢٠٩

(صَعُوداً) : الصعود : عقبة الجبل التي يشق مصعدها.

(عَبَسَ) : العبوس : تقطيب الوجه ، قال في المجمع : وعبس يعبس عبوسا : إذا قبض وجهه ، والعبوس والتكليح والتقطيب نظائر ، وضدها الطلاقة والبشاشة (١).

(وَبَسَرَ) : البسور : بدو التكرّه في الوجه.

(أَدْبَرَ) : الإدبار عن شيء : الإعراض عنه.

(وَاسْتَكْبَرَ) : الاستكبار : الامتناع كبرا وعتوّا.

(سِحْرٌ يُؤْثَرُ) : أي : يروى ويتعلّم من السحرة.

(سَأُصْلِيهِ) : سأدخله.

(سَقَرَ) : من أسماء جهنم في القرآن ، أو دركة من دركاتها.

(لَوَّاحَةٌ) : اللوّاحة من التلويح ، بمعنى تغيير اللون إلى السواد ، وقيل : إلى الحمرة.

(لِلْبَشَرِ) : البشر جمع بشرة ، وهي ظاهر الجلد.

* * *

مناسبة النزول

جاء في الدر المنثور : «أخرج الحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس ، أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقرأ

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١٠ ، ص : ٥٨٣.

٢١٠

عليه القرآن ، فكأنه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عمّ ، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوه لك ، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله. قال : قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالا.

قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر أو أنك كاره له.

قال : وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ، ولا برجزه ولا بقصيده مني ، ولا بشاعر الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، وو الله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته.

قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال : دعني حتى أفكر ، فلما فكّر قال: هذا سحر يؤثر ، يأثره عن غيره ، فنزلت : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (١).

* * *

طريقة المشركين في إبعاد الناس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

هذه هي قصة هذه الآيات في سبب نزولها ، كما رواها الرواة ، فإذا صحت ، فإنها تعطينا الفكرة عن الطريقة التي كان يحاول أبو جهل والمشركون معه أن يحاصروا النبي في دعوته ، فلا يسمحون لأحد أن يلين قلبه للقرآن ، أو تنفتح روحه للنبي في عملية تأثر ورقّة ، لأنهم يخشون أن يتحوّل هذا التعاطف إلى انفتاح على الإسلام من نافذة القلب والشعور ، من خلال كلمات القرآن القريبة للعقل والوجدان. فلما رأوا الوليد بن المغيرة ، وهو من شيوخ قريش ، قد رقّ قلبه ولان لكلمات الإسلام ، أرادوا أن يخوّفوه من غضب قومه عليه ، بعد أن عرضوا عليه المال ـ وهو في غنى عنه ـ وقد اتهموه بأن رقّته أمام

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٨ ، ص : ٣٣٠.

٢١١

القرآن لم تكن عن قناعة ، بل كانت عن طمع بالمال الذي يمكن أن يقدّمه إليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لم يعهد فيه أنه يملك المال الوفير الذي يؤلّف به قلوب الكافرين ، في تلك المرحلة وهي مرحلة الدعوة الأولى التي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعاني فيها قسوة الأحوال المادية ... فما كان منه ، بعد أن حاول الدفاع عن تهمة النبي بالشعر ، إلا أن يطلق عليه كلمة السحر التي وجد لها مخرجا باعتبار أنها تشبه السحر في تفريق الأب عن ابنه ، وتفريق الابن عن أبيه ، مما أرضى أبا جهل وقومه ، سيّما بعد أن عاد إلى مواقعه الكافرة.

* * *

استيحاء الآيات في حركة الإسلام المعاصرة

وهذا هو ما نلاحظه في الطريقة التي يحاول فيها أعداء الإسلام أن يثيروا الناس حول العاملين لله ، المجاهدين في سبيله ، حيث يعمل على محاصرة كل كلمة خير يمكن أن تنطلق وتتحرك من أيّة جهة إعلامية أو سياسية أو اجتماعية ، مما يدخل في الإشادة بالإسلام وبالدعاة إليه ، ليحوّلوا هذا الجانب الإيجابيّ إلى جانب سلبيّ ، كما أننا نلاحظ أسلوب اختيار أجهزة المخابرات في الجانب الإعلامي الكلمات التي تعمل على تشوية صورة الإسلاميين الملتزمين ، مما يمكن أن يثير الناس ضدّهم ، وذلك عند ما يثيرون المضمون السياسي أو الديني الذي يمثل الصورة السلبية المنفّرة للفكر والشعور.

* * *

تهديد إلهيّ للمعتدي المتكبّر

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) إنه التهديد الإلهي الذي يطبق على هذا الإنسان

٢١٢

المعتد بقوّته ، المنفتح في كبريائه ، فيتحوّل إلى حشرة صغيرة لا تتماسك في شيء. إن الله يذكّره بأنه قد خلقه وحده من دون أن يشاركه أحد في ذلك ، أو يكون المعنى أن يدعه مع هذا المخلوق الذي خلقه وحده لا مال له ولا بنين ، معلنا : إنني الذي أتكفل بعذاب هذا الذي لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا.

(وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) أي مبسوطا كثيرا أو ممدودا بنمائه ... (وَبَنِينَ شُهُوداً) لهم حضورهم البارز في حركة القوّة لديه ، (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) أي سهّلت له الحياة ، وهيأت له كل شروطها في سعة المال والجاه وانطلاق الأمور العامة والخاصة.

* * *

جزاء المكابر المعاند لآيات القرآن

(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) في ماله وجاهه ، لأنه لا يقنع بما أعطيته ، بل يطلب المزيد ، وهو في الوقت نفسه ، سادر في غيّه ، ممتدّ في كفره.

(كَلَّا) كلمة ردع عنيفة توحي بالرفض الشديد له ، فلن يرحمه‌الله أو يفيض عليه من لطفه ، وإنما يملي له ليزداد إثما في دخوله التجربة الحيّة التي يتميز بها الشاكر من الكافر.

(إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) فهو لا يواجهها بمنطق التفكير الباحث عن الحقيقة من خلال التأمّل والحوار مع الآخرين ، بل يواجهها من موقع العناد المستكبر الناتج عن العقدة الذاتية المستعصية التي تصرّ على الاستغراق في الفكر الموروث من خلال علاقته بأنانيته الذاتية.

(سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي سأثير في حياته الإرهاق الذي يحرّك الآلام القاسية

٢١٣

واللهاث الشديد ، كتعبير عن المشقة التي يعانيها الإنسان عند صعود الجبل ، وقد يكون ذلك واردا على سبيل الكناية عن العذاب الذي ينتظره في جهنم في عقبات النار الوعرة الصعبة الصعود.

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) لقد كان يعيش في حيرة الإنسان الباحث عن ثغرة في شخصية النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لينفذ منها لتشويه صورته في نظر الآخرين ، وعن ثغرة في آيات القرآن ، في كلماته وأسلوبه ومعانيه ، ليجد فيها بعض النقص الذي يستطيع من خلاله أن يبعد الفكرة التي توحي للناس بأنه وحي من الله ، وهكذا فكّر ... وعصر فكره ، وأثار كل الاحتمالات ، فلم يصل إلى نتيجة ... وتنظر إليه يقطب وجهه تارة ، ويمسك رأسه بيديه أخرى ، ويقلب عينيه في السماء ثالثة ، لعلّ فكرة تأتي من هنا وهناك ، فأدار القول في نفسه في عملية ترتيب للأفكار الحائرة الباطلة في حركة المواجهة للحقّ ، (فَقُتِلَ) إنه الدعاء عليه بالهلاك لإساءته إلى معنى الفكر في عقل الإنسان الذي يريد أن يبني الخير في الحياة ، ويفسح المجال لاكتشاف المزيد من مواقع الحق ، (كَيْفَ قَدَّرَ) وأعطى خيال الشرّ في ذاته ليثير كلمة الباطل في المجتمع.

ويتكرر الدعاء والاستنكار لتأكيد خطورة القضية (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) ... ثم تتبدل ملامحه في صورة كريهة ، (ثُمَّ نَظَرَ) في موقف استعراضيّ يوحي بالحيرة التي تطوف به في جولة حول الخيال ، (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) أي كلح وجهه ونظر بكراهة شديدة ، متهيئا لأخذ وضعية متحفزة ، (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن الحقيقة التي كانت واضحة في وحي الله ، (وَاسْتَكْبَرَ) عن الإذعان له في ما يفرضه الوجدان من قناعة مؤكدة ، لأن المشكلة في هؤلاء المستكبرين أنهم يعتبرون ذاتهم كل شيء في تقييم الحقيقة ، فلا يتحركون أبعد من تلك الدائرة التي يحصر بها الكافرون ذواتهم.

* * *

٢١٤

اتهام النبي بالسحر

وماذا بعد كل هذه الحصيلة من الجهود الجسدية والذهنية التي بذلها في محاولة اكتشاف الكلمة التي يردّ بها على القرآن وعلى النبي ، (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي يروى عن السحرة ، وقيل : هو من الإيثار ، أي سحر تؤثره النفس وتختاره لحلاوته ، (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) تماما كما هو كلام السحرة وفعلهم ، وليس من قول الله. ولكن كيف كان هذا الاستنتاج؟ وكيف هو معنى السحر فيه ، وللسحر قواعده وأصوله وأشكاله؟؟! ما هي إلّا الكلمة التي يطلقها صاحبها لتثير جوّا من الشك والحيرة والإنكار من دون تركيز على العمق في مضمون الحقيقة الصارخة ، لأن المقصود هو إثارة الارتباك في الساحة ، لا محاولة الوصول إلى النتائج الحاسمة من خلال الحوار. وهذا هو ما يفعله الكثيرون من الناس الذين يعملون في أجهزة المخابرات التي تثير الإشاعات والأقاويل بطريقة تستفزّ بها مشاعر الناس وغرائزهم بعيدا عما تدركه عقولهم ، وذلك من خلال الأجواء الانفعالية التي تصنعها من أجل الوصول إلى الأهداف السيّئة.

ولو كان الجوّ جوّ حوار ، لأمكنهم أن يفهموا بأن كلام السحرة يمكن أن يتحداه السحرة الآخرون ، لأنهم يعرفون أصول السحر من الناحية الفنية ، ولكنهم لم يفعلوا ذلك ، فالقضية فوق مستوى البشر ، لأنها من كلام الله.

* * *

ترهيب المكابرين بوصف جهنّم

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) التي هي اسم من أسماء جهنم ، أو منطقة من مناطقها ،

٢١٥

(وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) وليس هذا التساؤل للاستفهام ولكنه للتهويل الذي يهزّ مواقع الخوف في الذات ، ويحرّك مكامن الرعب في الجوّ المحيط به ، (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) لأنها تجتاح كل شيء ، فلا تبقى لحما إلا أكلته ، ولا يبقى وراءها شيء ، ولا يفضل منها شيء ، (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي لافحة للجلود حتى تدعها أشد سوادا من الليل ، (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) من الملائكة الذين يحرسون جهنم ويقومون بالمهمات الموكلة إليهم من قبل الله ، فينفذونها بكل دقّة وإخلاص ، لأنهم من عباد الله المخلصين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

وهكذا ينتهي الحديث عن هذا الإنسان الحاقد الذي يبثّ كل حقده في وجه الرسالة والرسول ... ولنا ملاحظة مفادها أن الصورة التي تنقلها الرواية عن الوليد تختلف عن الصورة التي تنقلها السورة في هذه الآيات ، لأن صورته في الرواية هي صورة الإنسان الذي خشع قلبه ورقّ لآيات الله ، ولم ينطلق في حديثه عن النبي إلا بطريقة موضوعية تناقش كل ما أثاروه حوله من صفة الشعر والكذب والكهانة ، ولم ينطق بتهمة السحر إلا بعد الضغط عليه من أبي جهل في كلمات مثيرة تهديدية ، تشير إلى ما يمكن أن يتعرض له من أعمال ضاغطة صعبة يمارسها قومه ، أمّا في السورة ، فإن الصورة تمثل الإنسان العنيد الذي لا ينفتح قلبه لآيات الله ، فيبادر من خلال حقده الذاتي ، وعقدته الخاصة ، ليثير الموقف ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بكل الوسائل العدوانية التي تبعد الناس عن الانفتاح عليه كرسول من قبل الله.

* * *

٢١٦

الآية

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ) (٣١)

* * *

معاني المفردات

(أَصْحابَ النَّارِ) : خزنتها الموكلون عليها المتولّون تعذيب المجرمين فيها.

(فِتْنَةً) : الفتنة : المحنة والاختبار.

(لِيَسْتَيْقِنَ) : الاستيقان : وجدان اليقين في النفس.

(جُنُودَ رَبِّكَ) : الجموع الذين خلقهم الله وسائط لإجراء أوامره.

* * *

٢١٧

وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) حدد الله ما أراد أن يقوموا به من أدوار في عالم الآخرة ، وذلك هو غيب الله الذي يعلم أبعاده سيّما من جهة ما يعلمه من طاقة الملائكة على المهمّات الصعبة التي قد لا يستطيع البشر القيام بها ، مما لا يمثل فيه العدد شيئا مهمّا ، لأن من الممكن أن يقوم ملك واحد بما لا يستطيع البشر أن يقوموا به ، كما نلاحظه في حالة الملك الموكل بمهمة قبض أرواح العباد ، وهذا ما لم يدركه الكفار في مكة عند ما سمعوا أنّ الملائكة الذين يشرفون على النار تسعة عشر ، فخيّل إليهم أن ذلك يمثل حالة ضعف في الموقف في النار ، فاستهانوا بها في أسلوب ساخر ، وذلك في ما روي عن ابن عباس ، أنه لمّا نزلت (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) قال أبو جهل لقريش : «ثكلتكم أمهاتكم أسمع ابن أبي كبشة (١) يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم» (٢) فقال أبو الأسد بن أسيد بن كلدة الجمحي ، وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم الاثنين ، وهذا هو ما جعل المسألة اختبارا وامتحانا للكافرين الذين يسارعون إلى الاعتراض والاستهزاء بما لم يفهموا طبيعته وأبعاده الغيبية ، وذلك هو ما أشار إليه الله سبحانه في قوله : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الذين لم يتابعوا الفكرة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليسألوه عن تفاصيلها ، ليعرّفهم ما عرّفه الله إياه ، لأنهم ليسوا في موقع التفاهم القائم على الحوار ، بل كانوا في مواقع الإنكار والسخرية ، أمّا الذين يملكون علم الغيب من خلال الوحي الذي أنزله الله على الأنبياء ، فإنهم يؤمنون بمصادر العلم اليقينية في رسالات الله.

__________________

(١) يقصد النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) الدر المنثور ، ج : ٨ ، ص : ٣٣٣.

٢١٨

(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود والنصارى عند ما يجدون ذلك موجودا في كتبهم وفي معلوماتهم فيعرفون التطابق بين الكتب السماوية حول هذه الحالة التي ذكرها الله في التوراة والإنجيل والقرآن.

* * *

استسلام المؤمنين المطلق لله ورسوله

(وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) في تسليمهم المطلق لله ولرسوله ، ممّا أخبرهم به الوحي الإلهي ، وفسره لهم النبي من تفاصيله ، وما سمعوه من حوارهم مع أهل الكتاب الذين يؤكدون لهم تلك المعلومات ... كل ذلك يقوي إيمانهم في القاعدة الإجمالية والتفصيلية للمعرفة الدينية.

(وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) عند ما يعرفون حقيقة المسألة ، بالتدبّر والتأمل العميق ، (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) من المنافقين الذين يعتمدون سياسة الإرجاف وإثارة الشكوك في المجتمع المسلم ليزيدوه حيرة وإرباكا ، (وَالْكافِرُونَ) الذين ركّزوا موقفهم على الإنكار من دون حجة ، لأنهم انطلقوا من مواقع العناد التي تعمل على إسقاط الموقف بمختلف الوسائل الموجودة عندهم ، ولذلك فإن ردّ الفعل لديهم هو أنهم بدأوا يقولون : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) همهم إثارة الكلمات لا الاستفهام ، والتحقير لا المعرفة.

إنهم يتساءلون بخبث كيف يمكن لهؤلاء الخزنة أن يكونوا بهذا العدد القليل الذي لا يمكن له أن يقوم بتعذيب الجن والإنس كما يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهكذا كان هؤلاء الذين عاشوا الغفلة عن الحق ، وتحرّكوا في مشاعر الخبث ، وانطلقوا في أجواء العبث الفكري الذي يواجه الحقائق بمنطق السخرية واللّامبالاة ، الأمر الذي أدى إلى ضلالهم ، في الوقت الذي يواجه فيه المؤمنون الحقائق الدينية بالفكر والتأمّل ، فيهتدون بذلك ، لأنهم أخذوا

٢١٩

بأسباب الهدى ، (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) له الضلالة من خلال اختياره للأخذ بأسبابه ، (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) له الهدى عند ما يختار لنفسه من أسباب الهدى إلى الله بالمعنى الذي لا يمنع من الاختيار ، لأن النسبة تنطلق من طبيعة القوانين التي جعلها الله للأشياء من خلال الرابط بين الأسباب ومسبباتها ، بما جعل فيه السبب بيد الإنسان واختياره.

* * *

ما يعلم جنود ربك إلّا هو

(وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) فهو الذي خلقهم بإرادته وبقدرته ، وجعلهم في عالم الغيب الذي لا يعرف الناس منه إلا ما عرفهم به من وحيه ، فليس لهم أن يطلقوا خيالاتهم ليصوروهم بما يثيره الخيال في أذهانهم من أوهام ليقيسوهم على أنفسهم ، بما يتصورونه لهم من قدرة معينة في حجم قدرتهم البشرية.

(وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) فليس الهدف إلا إثارة حقائق الآخرة التي تتمثل النار في جنباتها كموقع لعذاب الكافرين والمشركين ، كما تنطلق الجنة في رحابها كموقع للنعيم والرضوان الذي يناله المؤمنون من رب العالمين ، مما لا مجال فيه للجدل ، بل الغاية كل الغاية فيه ، هي الذكرى التي تفتح العقل والقلب والروح على ذلك كله ، لينطلق الإنسان بعيدا عن أجواء الغفلة ، ليتقي الله في أمره وفي نهيه.

* * *

٢٢٠