تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

سورة الجنّ

مكيّة

وآياتها ثمان وعشرون

١٤١
١٤٢

مفهوم الجنّ في القرآن

وهذه السورة المكية نزلت لتعالج مفهوم الجنّ كحقيقة وجودية أكّدها القرآن في أكثر من سورة ، فقد تحدث عن الجنّ كمخلوقات حيّة عاقلة مسئولة ، تماما كما تحدث عن الإنس ، وخاطبهما معا ، وجعلهما مسئولين عن عبادة الله الواحد ، وحذّرهما من الكفر به والانحراف عن خط طاعته تحت تأثير الإنذار بدخول النار والوقوع في دائرة غضبه. وأثار الحديث عن وجود الشياطين من الإنس والجن الذين يوسوسون في صدور الناس ، واعتبر إبليس من الجن ، وتحدث عن ذريته وأنكر على الناس أن يتخذوه وذريته أولياء ، وقصّ علينا القصص المتنوّعة التي تدل على وجود طاقات متنوّعة قد تفوق طاقة الإنسان حتى ليستطيع أن يقترب من السماء ليسترق السمع.

وتلك هي الصورة التي يمكن لنا أن نؤمن بها على أساس الحقيقة القرآنية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، كما في الكثير من حقائق الغيب التي لم تقع تحت إدراك حواسّنا الظاهرة ، فلا نزيد عليها وعلى ما جاءت به السنّة الصحيحة من النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. أمّا العقائد الشعبية التي تتحدث عن الجنّ بما يشبه الخرافة ، وترى أن لهم تأثيرا في الحياة العملية

١٤٣

للناس في ما قد يحدث للناس من حالات غير طبيعية ، أو في تسخيرهم وإيجاد علاقات معيّنة بهم ، ممّا قد يتحدث به البعض ، فلم يثبت لنا ذلك بطريق صحيح ، ولذا فإننا لا نستطيع أن نجد فيه أيّ أساس للحقيقة. ونحذّر المؤمنين من أن يخضعوا لمثل هذه الأحاديث التي قد يحرّكها الكثيرون من الجاهلين ، أو من الذين يعملون على استغلال جهل الناس للإيحاء لهم بالجوّ الخفيّ للجنّ بادّعاء علاقتهم بأمراضهم وأحلامهم وآلامهم وقضاياهم الحياتية المتنوعة.

كما أنّ علينا أن نلاحق بعض التصوّرات عن الجنّ التي حفلت بها أقاصيص ألف ليلة وليلة ونحوها ، بحيث أثارت في الوجدان الشعبي عقلية خرافية تركت آثارها على كثير من أوضاع التصوّر والسلوك.

* * *

في أجواء السورة

وقد انطلقت آيات هذه السورة لتثير الحديث عن بداية إيمان نفر من الجنّ بالإسلام من خلال استماعهم إلى النبي وهو يقرأ القرآن فآمنوا به ، واهتدوا إلى الحق من خلاله ، وتحدّثوا بعد ذلك فيما بينهم عن الانحرافات التي كانت تعيش في حياتهم ، وعن الأوضاع المتغيّرة في حرية حركتهم في الكون ، وأنهم كانوا يختلفون في طرائقهم وانتماءاتهم.

ثم كان ختام السورة في حديث النبي مع الإنس عن الدعوة التي يحملها لتوحيد الله ، فهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا إلا به ، وأن عليهم أن يؤمنوا بالله ويطيعوه ليتخلصوا من عذاب النار في يوم القيامة الذي لا يعلم وقته لأنه

١٤٤

من غيب الله الذي لم يطلع عليه إلا من اختصّه برسالاته في ما يمكن أن يطلعه عليه ممّا قد يحتاجه في حركة الرسالة في الحياة.

* * *

١٤٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) (٧)

* * *

معاني المفردات

(نَفَرٌ) : النفر : الجماعة من ثلاثة إلى تسعة على المشهور ، وقيل : بل إلى الأربعين.

(عَجَباً) : ما يدعو إلى التعجّب منه لخروجه عن العادة الجارية في مثله.

(الرُّشْدِ) : إصابة الواقع ، وهو خلاف الغيّ.

١٤٦

(جَدُّ) : فسّر بالعظمة ، وفسّر أيضا بالحظّ.

(سَفِيهُنا) : السفه : خفّة النفس لنقصان العقل.

* * *

مناسبة النزول

وقد جاء في مجمع البيان ـ في أسباب نزول هذه السورة ـ في ما رواه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : «ما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الجن وما رآهم ، انطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فمرّ النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ، فرجعوا إلى قومهم ، وقالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) فأوحي الله تعالى إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) (١).

وقد نلاحظ على هذه الرواية عن ابن عباس أنها تتحدث عن حوار الجن في مشكلتهم التي فاجأتهم وهي عدم استطاعتهم استراق السمع ، ومحاولتهم البحث عن ذلك ، فكيف استطاع ابن عباس معرفة ذلك ، وما هي تجربته الحسية التي عاشها في هذا الموضوع الغيبي ، فهو لم يلتق بالجن ، أو بمن التقى بهم ليحدثوه عنه ، ولم يروه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما قد يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عرفه من الجن أو من الله. ثم ما هي الطريقة التي فهم منها

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١٠ ، ص : ٥٥٤.

١٤٧

الجن السبب في انقطاع خبر السماء عنهم بمجرد سماعهم للقرآن؟

إنّ مثل هذه الروايات أقرب إلى الأحاديث الموضوعة على ابن عباس وأمثاله لإرضاء الفضول الذي يعيشه الناس في أسباب النزول. ولهذا فإن علينا أن ندقق فيها ، لما قد تترك من تأثيرات سلبية على فهمنا للقرآن ، في ما قد يثيره من أجواء خاصة بعيدة عن الجوّ القرآني الرائع.

* * *

النبي يتعرف وحيا على إيمان الجن

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) فلم يعش النبي تجربة اللقاء بهم والحديث معهم ، بل كانت معرفته بالموضوع ناتجة عن تعريف الله له ذلك من طريق الوحي ، مما قد يثير فينا التفكير حول الكثيرين من الناس الذين يتحدثون عن تجربتهم الحسية مع الجن بشكل تفصيليّ شامل ، في الوقت الذي كان من المفروض ، أن يكون النبيّ هو الأولى بمثل هذه التجارب لا سيّما في ما يتصل بعلاقته بهم من جهة إيمانهم به وبرسالته ، لما يفرضه ذلك من حاجتهم إلى سؤاله والحديث معه ، ومن حاجته إليهم في ما يمكن أن يعاونوه به في التحديات التي واجهته من المشركين ، لا سيّما في مكة التي كانت ساحة اضطهاد الدعوة والمسلمين من قبل المشركين.

ومن خلال ذلك ، قد نستوحي أن العلاقات لم تكن متصلة بينهم وبين النبي والناس معه أو من بعده ، لأن المرحلة التي كانوا يلتقون فيها ببعض الأنبياء وهو سليمان أو غيره قد انتهت ، مع ملاحظة نقطة مهمة ، وهي أن طبيعة العلاقة بالنبي كانت تفرض حديثا قرآنيا متنوعا عن قضاياهم ومسائلهم ،

١٤٨

كما جرى الحديث في القرآن عن الناس في ذلك كله.

وهكذا جاء الوحي للنبي ليحدّثهم عن هؤلاء الذين استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن : (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) في أسلوبه وحلاوته ومفاهيمه العميقة الرائعة ، (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) في براهينه ودلائله على الله وتوحيده وشرائعه التي تبني الوجود على أساس النظام المتوازن في ما يدعو إليه من العمل على أساس الخير والابتعاد عن الشر ، (فَآمَنَّا بِهِ) لأننا لا نملك أن نتوقف أو نتردد أمام الحقيقة الإيمانية التي فرضت نفسها علينا من موقع القناعة اليقينيّة ، فعرفنا أن الله وحده هو ربنا ورب كل شيء فآمنا به (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) لأن كل موجود غيره فهو مخلوق له ، محتاج إليه ، فكيف يمكن أن يكون شريكا له؟!

* * *

حديث الجن عن الله

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) أي حظه من العظمة والعلو والمجد والتنزّه عن مماثلة الآخرين له ، (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) لأن ذلك شأن المخلوق في حاجته الطبيعية إلى ذلك ، لا شأن الخالق الذي لا يحتاج إلى شيء ، لأنه الغني عن الحاجات ، من خلال غناه في ذاته.

(وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) فقد كان في مجتمعنا جماعة من السفهاء الذين لا يلتزمون المنطق العاقل المتّزن في تصورهم لله وفي حديثهم عنه ، فقد كانوا يشركون بالله من دون علم ، ويتحدثون بذلك فيما بينهم ، ويخرجون عن خط التوازن في ذلك كله ، فيتجاوزون الحدّ المعقول في الفكرة والكلمة.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) لأنه ليس من المعقول أن

١٤٩

يكذبوا عليه وقد دلّهم على مواقع المعرفة في داخل وجودهم ، وفي كل المظاهر الكونية المحيطة بهم والموجودة فوقهم ، لأن مقتضى ذلك أن يحبّوه ويخافوه ويعرفوه بما له من العظمة والكبرياء والجبروت ، فيمنعهم ذلك من الافتراء عليه بغير علم ، وعن نسبة الشريك إليه من دون أساس. ولكن الظاهر أن الواقع هو غير ذلك ، فنحن نجد الجن كما هم الإنس ، يكذبون على الله اتّباعا للمترفين منهم وللمستكبرين في ساحتهم ، غفلة عن الحق وعن النتائج المترتبة عليه.

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) في ما كانوا يعتقدونه من قدرة الجن على تخليصهم من المشاكل التي يتخبطون فيها ، والأخطار التي يتخوّفون منها ، والأمراض التي تحلّ بهم ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يتعوذون بالجن بواسطة الكهان الذين يعتقدون بأنهم على علاقة بالجن ، فيوحون إليهم بما يزعمون أن الجن توحي إليهم به ، وقيل: إن الرجل من العرب كان إذا نزل الوادي في سفره ليلا قال : أعوذ بعزيز هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه ، ونقل عن مقاتل أنّ أول من تعوّذ بالجن قوم من اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا في العرب.

(فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أي أوصلوهم إلى الحالة الصعبة التي قد لا يطيقونها ، وفسر البعض ذلك بالطغيان الذي يمارسه الجن عليهم ، ولكن من الممكن أن يكون المقصود به النتائج السلبية التي قد تحصل لهم من خلال هذه الذهنية غير المتّزنة التي تقودهم إلى الخضوع لأفكار غير واقعية وللاعتماد على الكهان الذين لا يملكون أساسا في الاعتماد عليهم ، أو على بعض الجهال الذين يدّعون علاقة بالجن ، فيخيّلون للناس بأن هناك أوضاعا معينة لا بد من أن يأخذوا بها ليتخلصوا ـ بفضل الجن ـ من بعض مشاكلهم ، مما قد يؤدي بهم إلى كثير من حالات السقوط على أكثر من صعيد ، والله العالم.

(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) الظاهر أن المراد هو أن هؤلاء الإنس ظنوا كما

١٥٠

ظننتم ـ أيها الجن ـ والخطاب لقومهم من الكفرة إذا كان الكلام من كلام الجن ، كما هو الظاهر ، أو أن المقصود ـ على غير الظاهر ـ هو خطاب الإنس بأن الكافرين من الجن ظنوا كما ظننتم.

(أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) فهم ينكرون المعاد كما تنكرونه من دون أساس علمي ، ولذلك فإنهم لا يتحركون من منطق المسؤولية في ما يفرضه عليهم الإيمان بالآخرة.

* * *

١٥١

الآيات

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) (١٧)

* * *

معاني المفردات

(لَمَسْنَا السَّماءَ) : لمس السماء : الاقتراب منها بالصعود إليها.

(حَرَساً) : اسم جمع ـ على ما قيل ـ لحارس ، ولذا وصف بالمفرد ، والمراد بالحرس الشديد : الحفّاظ الأقوياء في دفع من يريد الاستراق منها.

١٥٢

(رَشَداً) : بفتحتين ، والرشد بالضم فالسكون : خلاف الغي. وتنكير «رشدا» لإفادة النوع ، أي نوعا من الرشد.

(الصَّالِحُونَ) : الصالح : مقابل الطالح.

(دُونَ ذلِكَ) : غير ذلك.

(طَرائِقَ) : جمع طريقة ، والطّريقة : السيرة. وطريقة الرجل : مذهبه.

(قِدَداً) : القطع ، جمع قدّة بمعنى قطعة ، من القد بمعنى القطع.

ووصفت الطرائق بالتعدد ، لأن كل واحدة منها مقطوعة عن غيرها تنتهي بسالكها إلى غاية غير ما ينتهي به إليه غيرها.

(ظَنَنَّا) : الظن هنا يراد به العلم اليقيني.

(الْقاسِطُونَ) : هم المائلون إلى الباطل. في المجمع القاسط : هو العادل عن الحق. والمقسط : هو العادل إلى الحق (١).

(تَحَرَّوْا) : تحري الرشد : توخيه وقصده.

(اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) : الاستقامة على الطريقة : لزومها ، والثبات على ما تقتضيه من الإيمان بالله وآياته.

(ماءً غَدَقاً) : الماء الكثير.

(عَذاباً صَعَداً) : هو الذي يتصعد على المعذّب ويغلبه. وقيل : هو العذاب الشاقّ.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١٠ ، ص : ٥٥٨.

١٥٣

حال الجنّ مع السماء

ويتابع هؤلاء النفر من الجن حديثهم عن أوضاعهم التي كانوا عليها وعن المتغيّرات الجديدة التي حدثت لهم بعد نزول الرسالة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيتحدثون عن عدم وجود أيّة مصادر للمعرفة الغيبيّة عندهم ، مما كان يعتقده فيهم الناس ، أو مما كان ينسبه الكهان إليهم ، ليرتبط الناس بهم لذلك من خلال ما يرونه فيهم ، أو يدّعونه لأنفسهم من الصلة بالجن أو في ما يوحي إليهم الجن من ذلك.

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) كما كنا نلمسها سابقا عند ما نقترب منها لنستمع أخبار الملأ الأعلى ، من خلال ما أطلع الله سكانه عليه ، عما يمكن أن يحدث في الأرض مما قدّره الله فيها. فوجدنا الأمر قد تغير عما كنا عليه ، فلم يعد هناك مجال للاقتراب من آفاق السماء ، (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً) يطردوننا عنها (وَشُهُباً) تلاحقنا لتحرقنا بنارها إذا فكرنا بالاقتراب منها ، (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) في ما مضى من الزمان (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) يمنعه من ذلك.

وقد يتحدث البعض أنّ الجن لم يتحدثوا عن تفاصيل ما يسمعونه ، فهل كانوا يعلمون الغيب بذلك في ما قد يطّلعون عليه من أخبار السماء؟ لعل المسألة كانت أصواتا يعتبرونها غيبا وما هي بالغيب ، لأن الله لم يطلع على غيبه أحدا. ولكن الظاهر من الآية أن المسألة تتصل بالمعلومات التي يمكن أن يطلعوا عليها في ما يمكن أن يفسر لهم بعض الأوضاع من خلال قدرتهم على الارتفاع بعيدا عن الأرض في ما يسمعونه من بعض أخبار السماء ، مما لا نعرف طبيعته وخصوصياته ، تماما كما هي المعلومات التي يعرفها بعض الناس الذين يملكون التجارب التي لا يملكها الآخرون ، مما لا يعتبر غيبا بالمستوى الذي ينفيه الله عن غيره ، والله العالم.

١٥٤

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) من خلال هذه المتغيرات الجديدة ، (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) لأنّا لا نملك معرفة أسرار ذلك ، ويمكن أن يكون المراد نفيهم لعلم الغيب ، بعيدا عن مسألة منعهم من استراق السمع ، فهم لا يملكون أيّة معرفة غيبية في ما قدره الله للناس في أمور حياتهم مما قد يكون خيرا أو شرّا.

* * *

مناقشة لبعض المناهج التفسيرية في مسألة الجن

وقد يحاول البعض من الناس تأويل هذه الظواهر الغيبية على أساس بعض الموازين التجريبية التي استحدثها الناس ، أو على أساس اعتبارها حالة تمثيلية أو تصويرية في أسلوب الأدب الرمزي ، لأنهم لا ينطلقون من موقع الإيمان بالغيب في ما ينزله الله على رسله من الحديث عما لا يملك الناس علمه ، لأنهم لا يملكون وسائل الوصول إليه ، وذلك من خلال الأفكار السابقة التي يحملونها في تربيتهم الثقافية.

إنّ الإسلام يريد أن يربط الإنسان في تفكيره بالعقل تارة في ما يمكن أن يدركه العقل ، وبالتجربة أخرى في ما يمكن أن تبلغه التجربة ولا يريد أن يربطه بالمألوف والمحسوس ، لأن عدم الألفة في ما هي الظاهرة ، أو عدم الحس في ما يتحرك فيه الواقع ، لا يعني عدم الوجود ، لأن الوجود أوسع من ذلك في ظواهره وفي خفاياه. فإذا أدرك العقل إمكان شيء وجاء الوحي الصادق بوقوعه ، فلا بد من الإيمان به ، لأن الحقيقة قد استكملت وسائل الوصول إليها ، فلا قيمة لما يرفضه الناس منها على أساس المعرفة السطحية التي لا

١٥٥

تنفذ إلى العمق في وسائل المعرفة. وهذا هو أساس الإيمان بالغيب في مصادره العقلية ، وفي مصادر الوحي الذي أكد العقل وجوده ، في تأملاته للحالة التي يعيشها الرسول في ما يثبت رسالته.

* * *

في الجن صالحون وطالحون

ثم يتابع هؤلاء النفر من الجن الحديث عن طبيعة مجتمعهم من حيث الانتماء ، فهناك الذين يندفعون إلى الإيمان من موقع القناعة المطمئنة المنفتحة على الحقيقة المتصلة بالله ، وهناك الذين يبتعدون عن الحقيقة ، ويتّبعون الهوى ، ويستغرقون في ملذاتهم وشهواتهم ، فينحرفون عن خط الإيمان ، ويسيرون مع الكفر والشرك في حياتهم ، كأيّ مجتمع آخر.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) الذين عاشوا الصلاح فكرا وسلوكا من خلال القاعدة الإيمانية التي أدركوا ثباتها على صعيد الحقيقة ، فتحركوا من خلالها ليكون كل قول أو فعل أو علاقة مرتبطا بها ومشدودا إليها ، ومتفرعا عنها.

(وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) ممن لم يلتزموا الصلاح كقاعدة للحياة ، بل انطلقوا في خط الانحراف تماما كما هم الإنس الذين يختلفون في الخطوط العقيدية والعملية.

(كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي طرقا مختلفة مقطّعة ، أي مذاهب مختلفة. وقد لا يكون من الضروري أن يكون هؤلاء الصالحون من الذين آمنوا بالرسول ، فكان صلاحهم من خلال ذلك ، فربما كانوا منفتحين على الصلاح قبل ذلك ، لأن هؤلاء النفر الذين استمعوا إلى القرآن كانوا يتحدثون عن واقع المجتمع في

١٥٦

دائرة الجن ليؤكدوا أن الجن لا يمثلون مجتمع الشر ، بل يمثلون المجتمع المختلط الذي يشتمل على الخيّرين ، كما يشتمل على الشريرين ، على خلاف الفكرة الشائعة عنهم في ذلك ، ولو كان الأمر كما يظن الناس في أجواء الشائعات ، لما كانوا موضعا للتكليف من قبل الله.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) فقد عرفنا معنى الألوهية في معنى الله الذي يحيط بكل شيء علما ، ويهيمن على الوجود كله ، فلا يغيب شيء عن علمه ، ولا يخرج شيء عن قدرته ، فإذا أراد الله بنا شرّا فلن نستطيع الخلاص منه ، ولن يعجز الله عنه ، ولن نتمكن من الهروب من سلطته ، لأن أعماق الأرض ورحاب الفضاء جزء من ملكه ، فإلى أين المفرّ وكيف الخلاص؟!

ومن خلال ذلك نفهم أنّ علينا الخضوع له في كل أوامره ونواهيه ، لأن ذلك وحده هو سبيل النجاة من عقابه في الدنيا والآخرة. وإذا كان بعض الناس ينحرفون عن هذا الخط ، فإنهم كانوا يعيشون الغفلة المطبقة على عقولهم التي تبتعد بهم عن وعي الحقيقة الإيمانية التي تعرّفهم مقام ربهم في الكون ، وموقعهم منه في ضعفهم المطلق أمام القوّة المطلقة لله.

(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) لأن وجداننا الصافي ، وفطرتنا المنفتحة ، كانا الدليل على الهدى في العقيدة والشريعة والمنهج ، فلا مجال لإنكاره ، لأنه لا مجال للريب فيه ، لا سيّما وأن الهدى الديني التوحيدي لا يمثل حالة فكرية تجريدية لا دخل لها بالحياة في مسألة المصير ، بل يمثل الحالة المتصلة بالمصير كله في الدنيا والآخرة ، بحيث يتحرك الهدى والضلال في دائرة النعيم الدائم ، والشقاء الخالد ، فكيف يمكن أن نعيش جوّ اللّامبالاة تجاه الرسالة وأن نواجه حالة العناد في حركتنا عندها لنتمرد عليها ، كما يفعل المعاندون في خط الرسالات ، (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً) أي نقصا (وَلا رَهَقاً) أي

١٥٧

ظلما ، لأن الله تكفل للمؤمنين بالرحمة والعدل والإحسان ، وعاهدهم على أن لا يضيع عمل عامل منهم من ذكر أو أنثى ، فلا ينقص أحدا أجره ، ولا يظلم عبدا حقه ، مما يجعل من مسألة الإيمان مسألة تتصل بالعلاقة العميقة بين المؤمن وبين ربّه ، في ما هي النتائج العظيمة على مستوى المصير السعيد في رحاب الله في الدار الآخرة.

* * *

في الجن مسلمون وقاسطون

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) الذين أسلموا وجوههم لله ، فلم يلتفتوا إلى غيره ، (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) وهم الجائرون العادلون عن الحق ، (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) لأن الإسلام في معناه العميق يفتح الإنسان بكل آفاقه على الله ، فلا يبقى له أفق مفتوح على غيره ، ولا إرادة له إلا الإرادة الخاضعة لإرادة الله. ولذلك كانوا المصدّقين بالرسالات ، التابعين للرسل ، السائرين في الخط المستقيم الذي يبدأ من الله وينتهي إليه ، ويؤدي بهم في نهاية المطاف إلى الجنة التي وعد الله بها عباده الصالحين ، هذا بالإضافة إلى ما في الإسلام ، كدين شامل ، من مضمون فكريّ وروحيّ وعمليّ ، يطلّ على واقع الإنسان كله ، من موقع التوازن الذي يرعى كل جوانبه وكل تطلعاته ، بحيث لا يشعر بالغربة معه في كل مفرداته الفكرية والشرعية ، وهذا هو الرشد الذي تحراه هؤلاء المسلمون في سعادة الدنيا والآخرة.

وقد نستوحي من كلمة (تَحَرَّوْا) أن وصولهم إلى هذه النتيجة في قناعاتهم الإيمانية في ما أسلموا به حياتهم لله ، لم يكن حالة انفعالية ناشئة من

١٥٨

تأثير البيئة المحيطة بهم ، أو من الخضوع الغريزي للتاريخ العاطفي المتصل بآبائهم وأجدادهم ، بل كان حالة إرادية واعية ناشئة من البحث والتطلع إلى كل الاحتمالات المتنوعة في أذهانهم ، وإلى كل الأفكار المطروحة في واقع الحياة ، ليكون الاختيار من موقع القناعة المرتكزة على التأمل العميق ، والتفكير الواسع. وهذا ما يتّصف به المسلمون الذين يحملون مسئولية الانتماء قبل أن يختاروا الإسلام كعقيدة ومنهج حياة ، كما يحملون مسئوليته بعد ذلك ليحافظوا عليه في أنفسهم وفي المجتمع الذي يلتزمون فيه خط الدعوة من أجل هدايته إليه.

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) الجائرون العادلون عن الحق ، الذين ابتعدوا عن الله ، وأسلموا حياتهم كلها للشيطان ، ليعبث فيها ما شاءت له الشيطنة أن يعبث ، وليبتعد بالإنسان عن الإيمان بالرسالات ، وليدفعه إلى التمرد على الله وعلى رسله ، (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) لأن ذلك هو الجزاء العادل للكافرين الذين أقام الله عليهم الحجة في مسألة الإيمان ، فتمردوا عليها وساروا في خط الضلال ، وهذه هي مشكلة الذين عاشوا في حياتهم عقلية الخضوع للآخرين في التلاعب بوجودهم وبأفكارهم ومشاعرهم ، مما جعلهم يعيشون الذهنية الحطبية التي تجعلهم وقودا لكل نار يريد الآخرون أن يشعلوها ليحرقوا بها خصومهم ، أو ليحرقوهم بها في الدنيا والآخرة.

* * *

لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) الحقة في ما تخطط له شريعة الله من

١٥٩

التشريعات التي تحدد للناس حقوقهم وواجباتهم فلا يطغى أحد في حقوقه ، ولا يضيع في واجباته ، وفي ما تثيره العقيدة في أسلوبها التربويّ الإيحائي من اختلاف وروحيّات وأفكار تجعل من الإنسان المسؤول عن الحياة ، فلا يحاول أن يسيء إليها أو يفسد فيها أو يبتعد بها عن الخط الذي أراد الله لها أن تسير فيه ، سواء في ذلك في علاقته بالأرض والإنسان والحيوان ، أو بكل المفردات التي تقع في نطاق مسئوليته. وهذا ما يفرض انفتاح الحياة في حركة الإنسان على الخير كله ، لأن الاستقامة على الخط ، تفرض توجيه الطاقات كلها نحو البناء لا الهدم ، والخير لا الشر ، والحياة لا الموت ، مما يجعل الخير يتحرك في الإنسان ، كما هي الأمطار وكما هي الينابيع ، في هطولها على الأرض الميتة لتحييها ، وفي تفجرها في رحاب الوديان والسهول لتبعث فيها الخضرة والرخاء العميم. وهذا هو قول الله سبحانه : (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) أي كثيرا ، وهو ـ على الظاهر ـ وارد على سبيل الكناية تعبيرا عن الرخاء والسعة في الرزق ، باعتبار أن الماء هو الأساس في ذلك كله.

وهذا هو التلازم بين الاستقامة وبين الرخاء ، وهو الذي يريد القرآن تأكيده في وعي الإنسان ، على أساس أن ذلك هو الوضع الطبيعي الذي يفرضه اتجاه الطاقات في مجراها العادي الذي يملأ الحياة خيرا وبركة ، بينما يتمثل الانحراف في ابتعاد الطاقات عن النتائج الطيبة لتحل محلها النتائج الخبيثة البعيدة عن مصلحة الإنسان.

وخلاصة ذلك ، أن خراب الحياة وعمرانها بيد الإنسان ، فإذا أخلص لله فيها على منهاجه كانت الحياة جنة الله على الأرض ، وإذا سار بعيدا عن منهاج الله ، وانحرف عن خطه ، تحولت الحياة عنده إلى جحيم من الشقاء ، في ما ينتجه من الحروب والدمار والفساد.

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لأن الرضى كما يمثل النعمة التي أنعم الله بها على الناس ،

١٦٠