تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

الآيات

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً(٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ(٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) (٣٥)

* * *

معاني المفردات

(هَلُوعاً) : صفة مشتقة من الهلع بفتحتين ، وهو شدة الحرص. وقيل : إن الهلوع تفسره الآيتان بعده ، فهو الجزوع عند الشر ، والمنوع عند الخير. وهذا التفسير يناسبه السياق.

(حَقٌّ مَعْلُومٌ) : بحسب ما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام هو ليس من الزكاة ، وإنما مقدار معلوم ينفقونه للفقراء.

١٠١

(لِلسَّائِلِ) : هو الفقير الذي يسأل.

(وَالْمَحْرُومِ) : الفقير الذي يتعفف ولا يسأل.

(مُشْفِقُونَ) : خائفون.

(بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) : القيام بالشهادة : عدم الاستنكاف عن تحمّلها ، وأداء ما تحمل منها كما تحمل من غير كتمان ولا تغيير.

(عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) : المحافظة على الصلاة : رعاية صفات كمالها على ما ندب إليه الشرع.

وقيل : المحافظة على الصلاة غير الدوام عليها ، فإن الدوام متعلق بنفس الصلاة ، والمحافظة متعلقة بكيفيتها ، فلا تكرار في ذكر المحافظة بعد ذكر الدوام عليها.

* * *

الإنسان في صورته السلبية

وهذا حديث عن الإنسان في صورتيه السلبية والإيجابية من خلال استجابته لدعوة الله والتزامه بها ، ورفضه لها وابتعاده عنها ، في ما يواجهه يوم القيامة من نتائج خيّرة أو شرّيرة.

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) والهلع ـ في ما ذكره في الكشاف ـ «سرعة الجزع عند مسّ المكروه ، وسرعة المنع عند مسّ الخير» (١) ، فلا صبر له أمام النوائب التي تحلّ به ، ولا توازن لديه أمام الخيرات التي تقبل عليه ، (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً) فيصرخ من الألم ، ويسقط أمام الشدائد ، وينهار أمام الهزاهز ، فلا

__________________

(١) الكشاف ج : ٤ ، ص : ١٥٨.

١٠٢

يملك أن يتماسك أو يثبت في إحساسه بالمشكلة التي تحيط به ، (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) فلا يمنح غيره شيئا مما أنعم الله به عليه من نعم الحياة ، لأنه يخاف على نفسه الفقر ، ويضيق بالناس الذين يتطلعون إليه ليحصلوا على بعض ما عنده مما يلبي حاجاتهم ويحلّ مشكلة حرمانهم.

وهكذا يؤكد القرآن المسألة النفسية للإنسان ، في جانبها السلبي ، عند ما تتحول إلى

مسألة عملية واقعية تنعكس على الجانب السلوكي من حياته ، فهي ليست مجرد حالة طارئة خاضعة للظروف المحيطة به ، بل هي حالة غريزية في طبيعة تكوينه الغريزي في الضعف الشعوري الذي يقوده إلى الجزع والسقوط ، وإلى البخل والحرص. ولكن هذه الغريزة ككل الغرائز الإنسانية ، لا تمثل حتمية الحالة السلبية في نتائجها العملية ، لأنها يمكن أن تتحول إلى حالة إيجابية من خلال التهذيب الروحي الذي ينعكس إيجابا على التهذيب العملي ليتوازن السلوك الأخلاقي في شخصيته ، فيأخذ بأسباب القوّة عند ما ينفتح على الله في انفتاحه على قوّة الله ، كما يعيش روحية العطاء عند ما يتطلع إلى امتداد حركة النعمة في المستقبل ، كما امتدت في الماضي ، لأن الله الذي أعطى الإنسان في الماضي هو الذي يعطيه في المستقبل ، فيزداد ثقة بالأمن المستقبلي بالرزق ، فلا يمنع ولا يبخل على عباد الله.

* * *

الإنسان في صورته الإيجابية

وهذا ما جعل استثناء المصلّين في قوله تعالى : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) أمرا طبيعيا من خلال ما ترمز إليه الصلاة في حياة الإنسان المؤمن من إيمان بالله ، وثقة به ، وتوكل عليه ، واستسلام له ، وانفتاح على معنى العبودية في ذاته ، في

١٠٣

ما يؤكده ذلك من إحساس بمعنى الحرية الإنسانية أمام الكون كله ، لأنه يتساوى معه في كونه مخلوقا لله تعالى.

وفي ضوء ذلك ، يمكن للقيم الروحية الإنسانية في جانبها العملي أن تؤثر إيجابيا في شعوره بالقوّة وحركة الخير والعطاء في حياته ، من خلال الإيمان بأن الله يرعاه في نقاط ضعفه وقوّته ، وأنه يعوّض عليه كل ما يقدمه للآخرين من ماله ، وهذه هي الصفات التي يمكن أن يتّصف بها المصلّون في حركتهم الأخلاقية العملية التي ترتفع بهم إلى مستوى الإنسانية القريبة من الله سبحانه.

(الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) فلا يهملونها ولا يتهاونون بها ولا يتركونها ، لأنها تمثّل مسئوليتهم الروحية بما تمثله من العروج الروحي إلى الله ، مما يؤدي إلى الشعور بالحضور الدائم لله في وعيهم العقيدي ، فيدفعهم ذلك إلى الانضباط والالتزام العملي ، وإلى الشعور بالقوّة المنفتحة على الله.

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ* لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) فهم يرون أن ملكية المال لا تمنحهم درجة متقدمة على الناس ، في ما هو مضمون الامتيازات الحقوقية عليهم ، بل تحمّلهم مسئولية الحق الذي يملكه الناس عليهم ممن يعيشون الحرمان من العيش الكريم من خلال ضغط الحاجات عليهم. ولذلك فإنهم يفرضون على أنفسهم حقّا ماليّا معيّنا اختياريا من خلال ما فرضه الله عليهم فأطاعوه في قيامهم به ، أو من خلال ما فرضوه على أنفسهم مما استحبّه الله لهم أو أحلّه لهم ، ليعيشوا روح المشاركة للآخرين من الذين تدفعهم حاجاتهم إلى سؤال الآخرين ، أو تمثّل المستوى المعيشي الذي يجعلهم في هذه الدرجة حتى لو لم يسألوا الناس ، ومن المحرومين الذين عاشوا الحرمان المالي من خلال ضيق اليد وضغط الحاجات ، وبذلك يتحمّلون مسئولية المال في ما يؤمنون به من أنه مال الله الذي آتاهم ، فلا بد من أن يمنحوا بعضه لعباد الله ،

١٠٤

أو أنه الرزق الذي جعلهم وكلاء عليه ، وأراد لهم أن يعطوه للسائل والمحروم ، فارتفعوا بذلك عن الحالة الضيّقة التي كانت تمنعهم من إعطاء الخير الذي أعطاهم الله إيّاه للناس الذين يحتاجون إليه ، (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) فيدفعهم ذلك إلى العمل من أجل الاستعداد له في الدنيا من أجل الحصول على الدرجات العليا فيه ، (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي خائفون حذرون ، فيتمثّل ذلك في دقة العمل الذي يعملونه حتى يكون مطابقا لرضى الله سبحانه ، ليكون ذلك هو الأساس للأمن من العذاب (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) فقد يستسلم الإنسان للثقة بعمله ، فيخيّل إليه أنه على الحق ، ولكنه يتخبّط في الباطل ، فلا يدقّق في طبيعة العمل وفي خلفياته ونتائجه والشروط الإيمانية لسلامته في حركته نحو الهدف.

وهكذا يشعر المؤمن دائما بالخوف من الله ، والحذر من عقابه ، اتّهاما لنفسه التي يعمل دائما على أن لا يخرجها من حدّ التقصير في جنب الله.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) من العلاقات المحرّمة في ما يدخل في باب الزنى واللواط ونحوهما مما يمثل التعدي على حدود الله في العلاقات الجنسية التي حصرها الله بالزواج وملك اليمين ، (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) لأن هذا هو الحدّ الطبيعي الذي أباح الله للإنسان إرواء ظمئه الغريزي فيه ، وحرّم عليه ما عدا ذلك.

* * *

من هم العادون؟

(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) ، من الوسائل المحرّمة التي أشرنا إليها ، وفي الاستمناء الذي تصلح الآية دليلا عليه وعلى حرمة نكاح الحيوان ونحو ذلك ، (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الذين تعدّوا حدود الله ، وابتعدوا عن دائرة مباحاته إلى

١٠٥

دائرة محرّماته.

وفي ضوء ذلك ، نفهم أنّ العفّة عن العلاقة المحرّمة تمثّل وحيا من إيحاءات الصلاة ، في ما تؤكده في شخصية المصلّي من مراقبة الله سبحانه في حركة الحلال والحرام في حياته.

* * *

من هم المكرمون في الجنة؟

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) فقد أراد لهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وأن يراعوها حق رعايتها ، كما أمرهم الله برعاية العهد بالحفاظ عليه في كل مفرداته ، وبالوفاء به بكل التزاماته ، لأن ذلك هو ما يفرضه الإيمان على الإنسان المؤمن من احترام تعهداته للناس باعتبار أنها تمثل لونا من ألوان تعهداته لله ، من خلال علاقة العهد الإنساني بالله وبالناس ، فيما هي حركة المسؤولية المزدوجة في سلوكه العملي ، (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) لأن الشهادة التي يحملها الإنسان في حياته في ما يعرفه من قضايا الناس المتصلة بالحقوق التي يملكها البعض لدى الآخر ، هي نوع من الأمانة التي لا يملك أن يمنعها عن صاحبها ، فيجب عليه أداء الشهادة إذا دعي إلى إقامتها ليؤدي ذلك إلى وضوح الحق ووصوله إلى صاحبه ، بينما يمثّل كتمانها ضياع الحق بسببه فيكون نوعا من الخيانة المعنوية التي لا يريد الله للمؤمن أن يعيش فيها في ما يتحمّله من المسؤولية. (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) فيؤدونها كاملة غير منقوصة للاهتمام بها في كل أجزائها وشروطها وأذكارها وروحيتها ، لأن ذلك هو الذي يحقّق النتائج الروحيّة والعمليّة منها ، باعتبار أن كل ما فرض فيها من أفعال وتروك فهو داخل في العناصر المؤثرة في الغايات المترتبة عليها (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ).

* * *

١٠٦

الآيات

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ(٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) (٤٤)

* * *

معاني المفردات

(مُهْطِعِينَ) : قال في المجمع : «قال الزجاج : المهطع : المقبل ببصره على الشيء لا يزايله ، وذلك من نظر العدو. وقال أبو عبيدة : الإهطاع : الإسراع» (١).

(عِزِينَ) : جماعات في تفرقة ، واحدتهم عزة ، بالكسر فالفتح ، وأصله من عزوته فاعتزى أي : نسبته فانتسب.

(بِمَسْبُوقِينَ) : يراد بها الغلبة على سبيل الاستعارة.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١٠ ، ص : ٥٣٦.

١٠٧

(يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) : يراد بها التدليل على ما ليس وراءه من الأمور نفع حقيقي.

(الْأَجْداثِ) : جمع جدث وهو القبر.

(سِراعاً) : جمع سريع.

(نُصُبٍ) : النّصب : ما ينصب علامة في الطريق يقصده السائرون للاهتداء به.

(يُوفِضُونَ) : الإيفاض : الإسراع.

(خاشِعَةً) : الخشوع : تأثر خاص في القلب عند مشاهدة العظمة والكبرياء ، ويناظره الخضوع في الجوارح.

(تَرْهَقُهُمْ) : غشيان الشيء بقهر.

* * *

فما للذين كفروا قبلك مهطعين؟

وهذا حديث عن فريق من الناس الذين كانوا يجتمعون حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلقا حلقا ، ليستمعوا إليه ، لا ليهتدوا بكلامه ، بل ليستطلعوا كل ما يصدر عنه ليتفرقوا بعد ذلك ويكيدوا للإسلام والمسلمين في اجتماعاتهم التآمرية.

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) أي مسرعين إليك مادّين أعناقهم كالمقود ، محدّقين بك بأبصارهم وذلك ـ في ما قيل ـ نظرة العدوّ (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) وهو جمع عزة كفئة وزنا ومعنى. ماذا يريدون من ذلك؟ وما هو الهدف الذي يستهدفونه من إسراعهم إليك ، ومن اجتماعهم حولك؟ لأن الجلوس إلى النبي والإسراع في الوصول إليه واللقاء به ، لا بد من أن يرتبط بالرسالة التي

١٠٨

يدعو إليها ليستمع إليها بأذنه ويقبل عليها بقلبه ، ليتحرك من خلالها في حركة حياته. ولكنّ هؤلاء لا ينطلقون من هذا المنطلق ، ولا يسيرون في اتجاه هذا الهدف ، فهل فكّر هؤلاء في الجنة ، وكيف يفكرون بها وهم لا يؤمنون بها؟ وهل يمكن أن يفصلوا بين الإيمان بالرسول وبين الطمع في الجنة ، فيكفروا به ، ولكنهم يتقربون منه ويتحلقون حوله ، ويدنون من مجلسه ليدخلوا الجنة ببركته؟ ولكن ذلك لا قيمة له إذا كانوا قد فكروا بمثله ، لأن الجنة ليست للكافرين ، ولكنها للمؤمنين العاملين بما يرضى الله. (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) فهل المسألة مسألة طمع تقوده التمنيات ، أو مسألة عمل صالح يقوده الإيمان؟ (كَلَّا) فليس لهم ذلك كله ، وعليهم أن يفكروا كيف بدأ خلقهم ، وممّ خلقوا ، ليعرفوا سرّ عظمة الله في ذلك ، من خلال عظمة الخلق الذي تحوّلت فيه النطفة الحقيرة المهينة إلى إنسان سويّ.

(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) وقد تكون الإشارة القرآنية مسوقة للتعبير عن حقارة الماء المهين الذي كان البذرة الأولى لبداية النموّ في وجودهم ، ممّا يجعل تفكيرهم الماديّ الذي يقيسون به الأشياء مشدودا إلى تحطيم حالة الكبرياء التي يعيشونها ضد الرسالة والرسول ، ليفكروا بالمسألة من موقع متوازن يضع الأمور في نصابها الصحيح ، فيفكر بالرفعة من قاعدة المعاني الروحية التي تشد الإنسان إلى السموّ ، لا من قاعدة الأمور المادية التي تشد الإنسان إلى الأسفل.

* * *

رب المشارق والمغارب

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) لأن الأمر ليس بحاجة إلى القسم لتأكيده ، لأنه من حقائق العقيدة التي يفرضها الإيمان بالألوهية التي تملك القدرة

١٠٩

المطلقة بطبيعة ذاتها ، لا سيّما إذا لاحظنا تعدد الشروق والغروب في مواقع النجوم التي تمتد في الفضاء ، ولكل واحد منها مشرق ومغرب يختلف عن الآخر في آفاقه ومميزاته. وربما كان المراد مشارق الشمس ومغاربها المتوالية على بقاع الأرض ، فإن الشمس قد تغرب عن قوم ، لتشرق على قوم آخرين ، وهكذا تتوالى في كل لحظة أثناء دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس ، ليطلع مشرق هنا ، ويختفي مغرب هناك. فإذا كان الله قادرا على أن يحرّك الشروق والغروب في الكون عن قانونه الطبيعي ، فإن من الطبيعي أن يوحي للناس بقدرته على ما هو أقلّ شأنا من ذلك ، أو ما هو مماثل لذلك ، (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ* عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) فإن الذي خلقهم من العدم قادر على أن يعيدهم إليه ، ويخلق خلقا جديدا يتميز عنهم بالإيمان والوعي والعمل الخيّر والانفتاح على عبوديته لله ، ولن يستطيعوا أن يعطلوا إرادته ، أو يسبقوه في تقديره.

إن المشكلة التي تواجه القلب الإنساني الذي ينحرف في تصوراته إلى غير المسار الطبيعي الذي يجب أن ينفتح عليه ، هي أنه يستغرق في فكرة واحدة بعيدا عن الانطلاق إلى أفكار أخرى مماثلة أو مقارنة يستدل ببعضها على بعض آخر ، تمتد آفاقه إلى أبعد من الأفق الذي يطوف فيه عقله ، ولذلك كانت التحديات القرآنية توجه الإنسان إلى التجوّل الفكري في رحاب الكون ليشاهد عظمة خلق الله ، فينتقل منها إلى آفاق عظمته ليؤمن بأن الله لا يعجزه شيء في كل مواقع الخلق في كل مفرداته المتنوعة.

* * *

ذرهم يخوضوا ويلعبوا

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) في ما اختاروه لأنفسهم من الخوض في الباطل ومن

١١٠

الاستغراق في اللعب ، فلم تكن الحياة عندهم حالة جدّية تنطلق لتحدّد للإنسان نظام حياته الذي يركز وجوده على قاعدة ويقود مسيرته في خط الصراط المستقيم ، بل كانت حالة لهو ولعب وعبث وخوض في وحول الباطل الذي لا يخدم أيّ شيء في واقع الحياة وحركتها ، فلا تتوقف عندهم لتتجمد ولتعتبر أن دعوتك قد وصلت إلى طريق مسدود ، لأنهم لا يمثّلون أوّل الخلق وآخره ، فهناك خلق كثير آمنوا قبلهم ، كما أن هناك خلقا كثيرا سيؤمنون من بعدهم. فتابع مسيرتك واتركهم لتدبير ربك في ما يدبّره من شوؤنهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم القيامة الذي كانوا ينكرونه ، ليواجهوا الحقيقة المائلة أمام أعينهم في ما يشبه الصدمة أو المفاجأة ، (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) وهي القبور ، (سِراعاً) يحثّون الخطى إلى لقاء الله في موعد الحساب (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) وذلك عند ما كانوا في الدنيا يسرعون إلى الأنصاب وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها. وقد أطلق ذلك على سبيل التهكم والاستهزاء في سرعة سيرهم إلى الموقف الصعب الذي ينتظرهم. ولكن هناك فرقا بين هذا الموقف وذلك الموقف.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) لأنهم لا يملكون أن يفتحوا عيونهم على مشاهد العذاب التي تنتظر المجرمين في الآخرة. ولذلك فإن أبصارهم تحدّق في الأرض تحديقة ذليلة متعبة خاشعة ، (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) وكانوا يشكّون فيه وينكرونه ويستعجلونه استعجال سخرية واستهزاء.

* * *

١١١
١١٢

سورة نوح

مكيّة

وآياتها ثمان وعشرون

١١٣
١١٤

في أجواء السورة

وهذه السورة المكية نزلت على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين معه ، وهو يعاني من قسوة النتائج السلبية التي واجهها نتيجة إصراره على دعوة الحق في دين الله ، في ما عاناه من المشركين المتمردين على دعوته من ضغط وتهويل واتهام غير مسئول ، وسباب وحصار ومحاولة للطرد من بلده ونحو ذلك. فكانت هذه السورة حديثا عن نوح ـ النبي ـ الداعية الذي عاشت تجربته الرسالية ما يقارب الألف سنة ، وحاول من خلالها أن يثير أمامهم كل الأساليب الحكيمة المقنعة التي تفتح قلوبهم على الله وعلى خط التقوى في الإيمان به ، وعلى أجواء العبادة التوحيدية في عبادته ، وعلى طاعة الرسول الذي يدعوهم إلى الاستجابة للوحي الذي يخطط لهم نهج الحياة السليم ، من خلال اطّلاع الله على ما يحتاجونه من الأمور التي تخدم حياتهم وترتفع بهم إلى الدرجات الرفيعة ، كما يدفعهم إلى السير في خط القيادة في ما تتحرك به الحياة من تفاصيل كثيرة تحتاج إلى الهدى التفصيلي في تعليمات القائد ، وفي توجيهات الرسول.

١١٥

وهكذا كانت دعوته بسيطة بساطة العقيدة التوحيدية في طبيعتها ونهجها وإيحاءاتها وصفاء النور المشرق في داخل مفاهيمها ، وكانت إرادته الرسالية في دعوته التغييرية أقوى من كل الضغوط الداخلية التي تضغط على مشاعره ، والضغوط الخارجية التي تضغط على حريته في حركته. فلم يسقط أمام كل القوى الطاغية ، بل حاول أن يفتح عقولها على الحق من دون أن ينفذ اليأس إلى قلبه ، لأنه كان يرى من مسئولية الداعية أن يتحرك في اتجاه المواقف العنيدة المتحجرة ليفتح ثغرة في داخلها هنا وثغرة هناك ، لأن النفس الإنسانية مهما تحجرت فإنها تبقى قريبة للكلمة الحانية والأسلوب الجميل والروح الرسالية الواعية في دائرة أفكارها ومشاعرها ، فإنه ما من إنسان إلّا وفي داخله بعض مواقع الصفاء ومنطلقات الخير التي يمكن للداعية أن يستثيرها وينفذ منها ليبعث الإيمان في القلب ، والتقوى في الموقف.

* * *

دعوة لتدمير المجتمع المتمرّد

وهكذا كانت تجربة نوح ـ النبي ـ من التجارب الفريدة في تاريخ النبوّات ، فقد كانت كلمات الرسالة كلمات محدودة في ما حدثنا الله عن عناوينها ، لأن الحياة ـ كما يبدو ـ لم تكن معقّدة آنذاك ، فلم تكن بحاجة إلى شريعة تفصيلية واسعة. وكان يكرّر الكلمات في أسلوب متنوّع من دون ملل ولا كلل ، وكانوا يكرّرون الرفض في أسلوب واحد. وكان ينتهز كل فرصة ليدخل معهم في حوار ، وكانوا يرفضون ذلك ، حتى أنهم كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم ، ويغطون وجوههم ، ويعلنون الإصرار على موقفهم المتمرّد ، للإيحاء له بأنهم ليسوا مستعدين لاحترام موقعه وموقفه معهم ، فضلا

١١٦

عن احترام دعوته والإيمان بها ، حتى وصل إلى نهاية التجربة التي لم يترك أيّ باب من أبوابها إلّا ودخل فيه ، ولم يدع أسلوبا من أساليب الإقناع إلّا واستعمله ، فكان تقريره النهائي الذي قدّمه إلى الله ـ سبحانه ـ في نهاية التجربة الطويلة المريرة ، دعوة إلى تدمير كل هذا المجتمع ، لأن المسألة لم تعد تحتمل التجربة الجديدة بعد استنفاد كل التجارب ، وأصبح الواقع الكافر يمثل أعلى مستوى من الخطورة على الأجيال القادمة التي سوف تعيش في مجتمع مغلق على الكفر ، ممنوع من الانفتاح على الإيمان ، بفعل مراكز القوى المتحالفة ضد الرسالة والرسول.

وهذا هو ما فكر فيه نوح النبي الداعية ، عند ما دعا الله أن لا يدع من الكافرين ديّارا ، فقد أثار بعدها الحيثيات الواقعية التي تؤكد ذلك : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) ولهذا فلم تكن القضية لديه قضية اليأس الطارئ في ما يمثله من الحالة النفسية المتعبة التي يعيشها بعض الدعاة عند ما يواجهون التمرّد العنيف القاسي من الناس الذين يحيطون بهم ، بل كانت القضية لديه قضية الواقعية العملية التي استكملت كل عناصر التجربة فلم تجد هناك أيّ مجال لتجربة جديدة توحي بالأمل ، بينما كان الدعاة الآخرون اليائسون يمتلكون الفرصة في أكثر من تجربة قادمة في ما يختزنه مستقبل الدعوة من التجارب الواقعية ، مما يجعل من تجربة نوح التجربة الرائدة التي تمثّل الإصرار على السير في الدعوة بعيدا عن كل تهاويل اليأس الذاتي الذي ينطلق من الملل والتعب وحبّ الابتعاد عن الضغوط والتحدّيات المضادّة.

* * *

نموذج نبوي

وهكذا قدّم الله لرسوله وللمؤمنين معه ومن بعده هذه التجربة الرسالية ،

١١٧

ليجدوا فيها النموذج الأمثل الذي يصرّ على الاستمرار في الدعوة إلى نهاية المطاف ، من دون أيّة حالة صعبة من التعب النفسي ، فقد نلاحظ فيها أن نوحا النبي الداعية لم يتعب ولم يطلب من الله السماح له بالابتعاد عن ساحة الدعوة ، بل طلب منه تدمير هذا المجتمع ، وخلق مجتمع جديد ينفتح على الرسالة لتنفتح الرسالة عليه في تجارب جديدة نحو واقع إيمانيّ متحرك في خط الإيمان والتقوى والطاعة.

وقد نحتاج إلى أن نستوحي هذه السورة التي تتميز بأسلوبها الذي ينطلق فيه النبي ليقدم تقريره إلى الله بأسلوب الدعاء ، لينتظر أوامره الجديدة في المرحلة المقبلة ، على أساس ذلك ، لنجعل منها وثيقة رسالية حيّة نتعلم فيها الصبر والمعاناة والاستمرار في الدعوة إلى الله ، حتى نستفيد من التجارب كلها ، كما نأخذ منها التجربة الروحية التي يلجأ فيها الداعية إلى ربه ، ليستلهمه الرأي السديد والروحية الصافية المنفتحة على مواقع رضاه ، وليفتح قلبه له ، ليشهده على أنه لا يزال في الموقع الرسالي ، بالرغم من كل أثقال الضغوط التي تسيطر عليه من كل جانب.

* * *

١١٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) (١٤)

* * *

معاني المفردات

(جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) : كناية عن استنكافهم عن الاستماع إلى دعوته.

١١٩

(وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) : أي : غطوا بها رؤوسهم ووجوههم .. وهو كناية عن التنفر وعدم الاستماع.

(جِهاراً) : النداء بأعلى الصوت.

(أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ) : متقابلان وهما : الإظهار والإخفاء.

(مِدْراراً) : كثير الدرور بالأمطار.

(وَيُمْدِدْكُمْ) : إلحاق المدد ، وهو ما يتقوى به الممدّ على حاجته.

(لا تَرْجُونَ) : الرجاء : هو ما يقع مقابل الخوف ، وهو الظن بما فيه مسرّة.

(لِلَّهِ وَقاراً) : الوقار : العظمة.

(أَطْواراً) : جمع طور ، وهو حدّ الشيء وحاله التي هو عليها.

* * *

الإنذار في خلفياته التاريخية والفكرية

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لأنهم كانوا مقيمين على الشرك ، رافضين لعبادة الله ، سائرين على خط الأهواء الضالة التي تدفعهم إلى الانحراف عن التوازن في أوضاعهم العامة والخاصة على مستوى العقيدة والعمل.

وقد يكون الإنذار ناشئا من تمرّدهم على رسالات سابقة على رسالة نوح في ما تمثلّه من قيام الحجة عليهم بها ، الأمر الذي يجعلهم في موقع العذاب الذي يستحقه كل رافض للرسالات بعد إبلاغه إياها ، من دون أن يملك أيّة

١٢٠