تفسير من وحي القرآن - ج ١٧

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٠

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) بحيث يعيش الإنسان الشعور بالسرور عند ما ينظر إليهم وهم يؤمنون بالله ويتحركون في خط طاعته ورضاه على أساس الالتزام بالحق في كلّ أقوالهم وأفعالهم ، لأن الإنسان المؤمن لا يفكر في القضايا بطريقة ذاتية ، من خلال العلاقات الخاصة في الحياة بزوجه وولده ، بل يفكر بطريقة إيمانية مسئولة. وهذا هو ما يخصص التمنيات بالجانب الإسلامي من شخصية الأزواج والأولاد بالإضافة الى ما يحبه الإنسان من جوانب أخرى.

(وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) في ما يحبه المؤمن لنفسه من التقدم في مجالات الخير ، والدعوة إلى الله والعمل في سبيله ، والالتزام بالخط المستقيم في العقيدة والشريعة والحياة ، بحيث يبلغ الدرجة العليا في ذلك ، حيث الإمامة والقيادة. وذلك هو طموح المؤمنين في الحياة ، في عملية التسامي في آفاق التقوى في ما يجاهدون به أنفسهم ، ويطوّرون به معارفهم ، فلا تتوقف طموحاتهم على شؤونهم الذاتية في الحاجات الدنيوية الطبيعية ، بل تنطلق إلى مواقع رضوان الله ، انطلاقا مما دعا الله إليه عباده المؤمنين من استباق الخيرات ، والمسارعة إلى المغفرة والجنة والتنافس في درجات الحصول على رضاه.

* * *

بالصبر نوال النعم

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) لعل كلمة الغرفة واردة على سبيل الكناية عن الدرجة العالية في الجنة ، والمقصود بالصبر الذي يبلغ به هؤلاء علوّ

__________________

ـ هذه الآية .. قال : مستبصرين ليسوا بشكّاك ، الكافي ، الكليني ، ج : ٨ ، باب : ٨ ، ص : ١٧٨ ، رواية : ١٩٩.

٨١

الدرجة في الجنة ، الصبر على طاعة الله ، والصبر عن معصيته ، والصبر على ما يصيبهم من البلاء ، لأن ذلك يدل على الالتزام الكامل ، والروحية العالية ، والإرادة الصلبة ، والوعي الكامل ، والارتباط بالله من أوثق المواقع ، ليكون لهم السعادة في الحصول على رضاه ، في مواجهة غضب كل الناس مع كل ضغوط الحرمان المادية والنفسية والمعنوية على حياتهم. وهكذا تؤكد هذه الآية وغيرها من الآيات أن الصبر يمثل الإطار للمضمون الإيمانيّ في حياة الناس الذي يحتوي كل مواقع الحياة الرسالية ومواقفها. فبالصبر يحصل الفلاح ، وبالصبر يتأكد الخير والحق والصلاح ، وبالصبر ينال الناس ما عند الله من النعيم والسعادة والرضوان في الجنة .. ويلقّون فيها التحية من الله ، والسلام من ملائكته ، في ما يعبر عنه من اللطف والرعاية والرحمة والحنان.

وهكذا نرى أن عباد الرحمن الذين يختصهم الله برحمته ، ويدعوهم إلى جنته ، ويشملهم برضوانه ، هم الذين تتجسد فيهم ملامح الشخصية الإسلامية في الإيمان بالله الواحد واليوم الآخر ، وفي التجسيد العملي في التزام طاعة الله في أمره ونهيه ، وتطلّعهم إلى السموّ الروحي في آفاقه ، والارتفاع المتحرك في طريقه ، وفي الاندماج بالمجتمع الذي يلتقي على كلمته.

وإذا كان الله قد تحدث عن بعض صفات هؤلاء الفتية من عباد الرحمن المخلصين ، فإن الحديث يطرح هذه الأمور كنماذج للصفات الإيجابية والسلبية التي تمتد في كل أحكام الله في ما تمثله من قاعدة أخلاقية متحركة في مفرداتها العملية في حياة الإنسان ، فإن الله يريد له أن يتخلق بأخلاقه ويلتزم بكل أحكامه ويجعل كل حياته صورة حية لما هو الإسلام ، ولما هو الإيمان في مفاهيمه العقيدية والروحية والعملية.

* * *

٨٢

الدعاء يمنح الرعاية الإلهية

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) أي إن الله لا يبالي بكم ولا يعتني بشأنكم ولا يجعل لكم منزلة عنده ، لو لا دعاؤكم. وهذا المعنى واضح لا يحتاج إلى تفسير ، ولكن ما هو المراد من كلمة (دُعاؤُكُمْ)؟ هل المراد بها الدعاء إلى الله في ما يدعو الإنسان إليه من الإيمان به وعبادته والعودة إليه من الضياع الذي يلف الإنسان في أجواء الضلال ، فيكون المعنى أن الله لا يعبأ بكم في أيّ وضع من الأوضاع ، لو لا دعاؤه لكم لتهتدوا ، ولتعبدوه وحده لا شريك له؟ أو أن المراد بها دعاء العبد لله في ما يهمّه من أمور الحياة ، أو في ما يحسّه من مشاعر الإيمان به ، والخشوع له ، والخضوع إليه ، ليعبر عن توحيده ، بالكلمة ، والحركة والابتهال ، فيكون المعنى أن الله لا يعبأ بكم ، لو لا دعاؤكم إياه ، في ما يمثله ذلك من التصديق بوجوده ، والإذعان بوحدانيته ، والإخلاص لعبادته؟

هناك من يختار الوجه الأول ، لأن الفقرة التالية لا تتناسب مع الوجه الثاني ، وهي قوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) لأن تفريع ذلك على ما قبله من تفريع السبب على المسبب بمعنى انكشافه بمسببّه ، أي أن السبب في عدم اعتناء الله بكم هو تكذيبكم به ، فلا خير يرجى منكم ، فسوف يكون هذا التكذيب ملازما لكم أشد الملازمة ، إلا أن الله يدعوكم ليتم الحجة عليكم أو يدعوكم لعلكم ترجعون عن تكذيبكم.

أما المعنى الثاني ، فإنه لا يلائم تفرّع قوله (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) عليه ، وكان عليه من حق الكلام أن يقال : وقد كذبتم ، على أن المصدر المضاف إلى فاعله يدلّ على تحقق الفعل منه وتلبّسه به ، وهم غير متلبسين بدعائه وعبادته تعالى ، فكان من حق الكلام على هذا التقدير أن يقال : لولا أن تدعوه.

ولكننا نلاحظ على هذا الاختيار التفسيري ، أن المعنى الثاني أقرب ، لأن

٨٣

الظاهر من الآية هو التركيز على العنصر الذي ينال به الناس اعتناء الله بهم ورعايته لهم ، مما يصدر عنهم ، لا مما يصدر منه ، تماما كما تقول : لا قدر لك عندي لو لا فعلك الكذائي ، أو لو لا قرابتك ، أو ما أشبه ذلك ، مما يوحي بأن مدخول «لو لا» هو الشيء الذي يستحق بلحاظه القرب إليه والاعتناء به ، ليكون المعنى أن الدعاء هو الذي يمنحكم رعاية الله وعنايته بكم ، باعتبار ما يمثله من الدلالة على إيمانكم به وخضوعكم له .. ولكنكم لم تفعلوا ذلك لأنكم لم تلتزموا خط الإيمان ، فقد كذبتم به وبرسله ، وتمردتم عليه ، وخضعتم لغيره ، ودعوتم سواه ، فسوف يكون إبعاده لكم لزاما لأنكم لم تأخذوا بسبب القرب إليه.

أمّا حديث اقتضاء إضافة المصدر إلى فاعله ووقوعه منه ، فقد يكون ذلك لو كان الحديث عن الماضي ، أمّا عند ما يكون الحديث عن العلاقة بين شيء وشيء في ما يجب أن يكون أو يحدث من أجل تحققه ، فإنه لا يقتضي ذلك ، أو ليس ظاهرا فيه على الأقل.

وقد وردت الرواية عن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام كما ذكره العياشي في تفسيره بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال : قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) كثرة القراءة أفضل أو كثرة الدعاء؟ قال : كثرة الدعاء؟ أفضل ، وقرأ هذه الآية (١).

وهكذا نفهم أن الدعاء هو الوسيلة التي يتوسّل بها الإنسان إلى تجسيد الصلة بربه والشعور العميق بحضور الله في حياته. فهو الذي يحصل من خلاله على العلاقة الحميمة بالله ، وعلى الرعاية الإلهية له ، وهذا مما لم يحصل منهم لتكذيبهم لرسالته ، وعكوفهم على عبادتهم للأصنام ، وامتناعهم عن عبادة الله الواحد ، الأمر الذي أبعدهم عن الدعاء فابتعدوا عنه ، فابتعد الله عنهم وانقطعت الصلة بينهم وبينه إلى الأبد.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٥ ، ص : ٢٤٧.

٨٤

سورة الشّعراء

مكيّة

وآياتها مائتان وسبع وعشرون

٨٥
٨٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٩)

* * *

معاني المفردات

(باخِعٌ) : الباخع : المهلك ، وبخع نفسه أهلكها.

(أَعْناقُهُمْ) : الأعناق : الرقاب ، وتطلق على الجماعات.

(زَوْجٍ) : الزوج : الصنف.

* * *

الله يطمئن رسوله

في بداية السورة ، يبقى القرآن في آياته عنوان الرسالة ، لأنه الكتاب المنزّل من الله على رسوله بالوحي ليبلّغه للناس ، فيؤمن به بعض ، ويكفر به

٨٧

بعض ، ويتألّم النبيّ لكفر الكافرين ، لأن المسألة عنده ، ليست نجاحه الذاتي في ما يمثله ذلك من امتيازات تبعث على الزهو والرضا والسرور ، بل هي نجاح الرسالة في اختراقها الحواجز النفسية والفكرية المضادة التي تحول بينهم وبين الانفتاح على الحق في الدعوة ونجاح الإنسان الضال في التمرّد على نقاط ضعفه ، والانتصار على نوازعه المنحرفة. فقد كان كل همّه أن يصل الناس إلى الله من أقرب طريق ، ويأتي القرآن ليمسح على قلبه ، وليفتح روحه على الله في ما يقدّره من آفاق الرسالة في المستقبل.

* * *

تلك آيات الكتاب المبين

(طسم) من الحروف المقطعة التي تقدم الحديث عنها في أوائل سورة البقرة. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) التي تنفتح على الهدى في الفكر والحياة لتقود الضالين إلى مواقع الحق ، ولترتفع بإعجازها إلى آفاق السموّ في فصاحة الكلمة وبلاغة الأسلوب وإعجاز الكلام.

(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) البخوع هو إهلاك النفس عن وجد ، وهذه هي اللفتة الإلهية الموحية التي تلمس قلب النبيّ بالحنان والعطف في ما كان يستشعره من الألم العميق الذي يأكل روحه ، لأنه ينظر إلى مستقبل هؤلاء الناس ، فيرى فيه أكثر من مشكلة تتحدى سلامهم الروحي وأمنهم المادي ، في ما هو القلق الذي يفترس اطمئنانهم ، والحيرة التي تأكل حياتهم ، والضياع الذي يهدّد نجاتهم ، فيتألم لهم لأنهم ابتعدوا عن خط الإيمان الذي هو مصدر سعادتهم في الدنيا والآخرة ، ويتعمق الألم في داخله ، من موقع الرحمة في قلبه ، وحركة المسؤولية في روحه وفكره ، حتى ليخيّل للناظر إليه والمطّلع عليه ، أنه يكاد أن يهلك حزنا وأسفا. ولهذا خاطبه الله بأسلوب الترجي الذي يوحي بقرب حدوث ذلك ، أو بإمكانه.

٨٨

وقد توحي هذه الكلمات للنبيّ بأن عليه أن لا يأخذ المسألة مأخذ الأهمية القصوى بالمستوى الذي يضغط على حياته ، بل ينبغي له أن يتقبلها بشكل طبيعيّ لأنه قد بذل كل جهده في هدايتهم ، ولأن الرفض الذي يواجه به ، ليس رفضا له بصفته الذاتية بل بصفته الرسالية ، مما يجعل القضية موجهة إلى الله سبحانه ، ولأنهم قد اختاروا الكفر بعد إقامة الحجة عليهم ، في وضوح الرسالة ، فلم يكفروا من موقع غموض أو شبهة ، فلا حجة لهم في ذلك. وإذا كان النبي ينطلق في شعوره العميق بالألم من موقع النصرة لله ، فإن الله قادر على أن يهلكهم جميعا ، على أساس قدرته المطلقة ، ولكن حكمته في تنظيم حركة الناس في الإيمان والكفر ، جعلته يؤخرهم إلى أجل مسمّى ، فلا ضعف في الموقف ، بل هي القوة التي لا تخاف الفوت.

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) مما كان ينزل على الأمم السابقة التي كانت تكذب الأنبياء ، فيضطرهم ذلك إلى الإيمان في مواقع التحدي ، أو يهلكهم بما تشتمل عليه من العذاب ، (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) إذعانا وخضوعا وانسحاقا أمامها. ولعل ذكر الأعناق هنا ورد على سبيل الكناية أو المجاز في التعبير عن ذواتهم ، باعتبار أن الخضوع أول ما يظهر في عنق الإنسان حيث يطأطئ رأسه ، فهم خاضعون لله في ما يريد أن يصنع بهم أو ينزله عليهم ، فإذا شاء ذلك في أيّ وقت ، فلا بد لهم من أن يخضعوا له ، ولكنه لم يشأ ذلك من خلال حكمته ورحمته.

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) من القرآن الذي جاءهم به رسول الله والذي كان حدثا جديدا في حياتهم مما لم يألفوا أسلوبه ولم يعرفوا مضامينه ، (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) لأنهم لا يطيقون الإيمان بالوحي الجديد النازل على رجل منهم لا يملك الموقع الطبقي الذي يملكه علية القوم ، كما هو المجتمع المتخلف الجاهلي الذي يخضع للأجواء الثقافية التقليدية المرتكزة على عقائد

٨٩

الآباء والأجداد وتقاليدهم ، من دون نظر إلى المستوى الثقافي لمصادر المعرفة التي يملكونها ، والدخول في مقارنة حادة بين ما هو موجود لديهم وما هو مطروح في الرسالات الجديدة. إنه الفكر المتحجر والأفق الضيّق والاستغراق في حديث الماضي القابع في كهوف الظلام.

(فَقَدْ كَذَّبُوا) بالذكر المحدث النازل على الرسول ، (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) مما لم يحيطوا بعلمه ، ولم ينتظروه من العقوبات العاجلة في الدنيا والآجلة في الآخرة ، فإن الله قد يمهل الكافرين والمكذبين والضالين من عباده ولكنه لا يهملهم ، بل يلاحقهم بالبلاء والعذاب من حيث لم يحتسبوا ، كما يرزقهم من خلال ذلك.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) فكيف يصرّون على التكذيب وهم يتحركون في الأرض وينظرون إلى ما أودعه الله فيها من عجائب القدرة وآيات العظمة وملامح الإبداع في هذه النباتات المتنوعة بأشكالها وخصائصها وأوضاعها وثمارها في قانون الزوجية في الكون الذي يشمل الإنسان والحيوان والنبات والجماد ، مما يستطيع الإنسان أن يلمسه بحسّه المادي ، أو يكتشفه بحسّه العقلي ، في ما يكتشفه من تنوّع الملامح في الزوجين؟ وكيف يمكن لمن أدرك وحدة الإبداع في التنوع ، أن يبقى على الكفر والتكذيب؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) لمن أراد أن يهتدي ويتعرف الحقيقة من مصادرها اليقينية لأنها تشتمل على كل عناصر الإقناع بحقائق العقيدة التي جاء بها الرسول ، ولكن هؤلاء الذين يواجهون هذه الآية الواضحة لا يريدون أن يقرءوا فيها حقائق الإيمان ، انطلاقا من نوازعهم الذاتية المنحرفة المتمردة على الحقيقة في مواقع العقيدة (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) لأن الأكثرية تبقى ـ في الغالب ـ خاضعة للأجواء الانفعالية التي تجعلهم يتأثرون بالضوضاء التي يثيرها قادة الكفر والضلال الذين يتعاملون مع نقاط الضعف الشعورية والفكرية الكامنة في أعماق الجماهير ، في عملية إثارة وتضليل. وتبقى الأقلية التي تعيش مسئولية الحق

٩٠

والإيمان بكل هدوء الفكر وصفاء الوجدان ورهافة الشعور ، لتلتقي به في العمق الهادىء المتزن من الفكر ، فترتبط به من قاعدة الجدّية في مواجهة نتائج المسؤولية في حسابها الدقيق أمام الله.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) فهو القادر من موقع عزته أن يأخذ المكذبين والمستهزئين بعذابه ونقمته ، وهو الرحيم الذي لا يتركهم لضلالهم ، بل ينزل عليهم الوحي المبين ، ويرسل إليهم الرسل المبشرين والمنذرين ليفسحوا لهم المجال لاكتشاف الهدى القادم من الله ، ولينفتحوا عليه بكل صفاء الإيمان ووضوحه.

* * *

٩١

الآيات

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ(١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٢)

* * *

موسى يتلقى الرسالة ويذهب الى فرعون

وتبدأ حركة القصة في السورة في قصص الأنبياء ، في ما بلّغوه من رسالاتهم ، وما عانوه من أممهم ، وما عاشوه من مشاكل ذلك كله ، لتكون درسا للعاملين في سبيل الله من خلال تجربة النبوّة في حركة الدعوة وفي

٩٢

مواجهة التحديات ، ولتؤكد للمعاندين قدرة الله على إنزال العذاب بهم في الدنيا ، كما أنزل على غيرهم من الأمم السابقة لو لا مشيئته في تأخير ذلك لحكمة يعلمها ـ سبحانه ـ.

وتقف ـ بداية ـ قصة موسى في الواجهة ، في تفصيل واف يرصد مفرداتها بشكل دقيق ليوحي بالمواقف من مواقع العبرة الحيّة الفاعلة.

* * *

الدين يواجه الظلم

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا الناس وعاثوا في الأرض فسادا. وقد انطلق النداء ليؤكد على حقيقة دينيّة حاسمة في موقف الدين من الظلم والظالمين ، وهي أن الرسالة تتحرك في إرادة الله لإرسال رسول ، على أساس وجود ظلم ضاغط على حرية الناس وحياتهم ، مما يفرض مواجهة الموقف برسالة كاملة شاملة تنطلق في حركتها من قاعدة التوحيد لله الذي يوحد الألوهية في ذاته ، ويحصر العبادة به ، ويرفض عبادة غيره ، مهما كانت منزلته ودرجته ، ليكون التحدي للظلم والظالمين من خلال القاعدة ، لا من خلال الحالة الطارئة ، مما يجعل الموقف أكثر قوّة ، وأشد صلابة ، لأن انطلاق التحدي من الجذور يختلف عن انطلاقه من السطح. وهكذا أراد الله لنبيه موسى أن يتوجه إلى موقع السلطة الأقوى في ساحات الظالمين (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) الذي سعى ليفرض نفسه ربّا على المستضعفين من الناس من خلال قوته وملكه ، وذلك بفعل طاعة قومه له وانقيادهم لإرادته ، وخضوعهم لسلطاته والتفافهم حوله على خط العصبية العائلية أو على الطمع في حطام الدنيا ، (أَلا يَتَّقُونَ) الله ، ويخافونه ، ويحسبون حساب الدار الآخرة ، في ما يمكن أن

٩٣

يتعرضوا له من عذاب النار جزاء معاونتهم للظلم والظالمين.

* * *

هل استعفى موسى عليه‌السلام من ربه؟

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) لأنني أعرف فيهم الطغيان الذي يمنعهم من الإذعان للرسالة ويدفعهم إلى احتقار الناس من حولهم ، ممن هم دونهم في الطبقة الاجتماعية ، الأمر الذي يدعوهم إلى تكذيبي لما أبلّغهم من رسالاتك ، فلا فائدة من إرسالي إليهم ، لأن النتيجة معلومة بالرفض ، (وَيَضِيقُ صَدْرِي) في مواجهة الضغط الذي أتعرض له منهم مما لا أستطيع تحمّله في قدرتي الذاتية (وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) مما أعانيه من حالات احتباس الكلام حيث لا يسمح لي بالحوار والجدال وإدارة الصراع بالكلمات القويّة والأسلوب اللبق (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) ليكون عونا لي على أداء الرسالة ، لما يتميز به من صفات تسد النقص الذي أعاني منه كفصاحة اللسان ونحوها ، (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) فقد قتلت شخصا منهم (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) ثأرا له.

ونتساءل ، هل هو استعفاء من موسى عليه‌السلام وهروب من تأدية الرسالة على أساس نقاط الضعف الذاتية التي تحدث عنها ، وعن المخاوف التي تطوف في ذهنه أمام القيام بهذه المهمة الصعبة؟ وكيف يرفض رسالة الله إليه ، وكيف يهرب من مسئوليته؟ والجواب : إن المسألة ليست مسألة استعفاء وهروب ورفض ، بل هي مسألة شعور بالحاجة إلى المساعد والمعين بالنظر إلى المشاكل التي تنتظر المهمة والمخاوف التي تحيط بها. وبذلك فإنه يبحث عن الوسيلة التي تحقق للرسالة قوّتها وسلامتها ، ولذلك لم يطلب من الله إعفاءه من الرسالة ، بل طلب مشاركة هارون له في ذلك.

٩٤

(قالَ كَلَّا) لن ينالوا منكما بسوء ، لأن الله سوف يحميكما من بطشهم بحمايته ، فتقدما معا إلى فرعون وقومه ، (فَاذْهَبا بِآياتِنا) التي ستقهر موقفه وموقفهم ، فلن تذهبا مجردين من السلاح ، بل تكون الآيات المعجزة الدالة على العمق الإلهي للرسالة هي السبيل إلى هزيمة جبروته ، (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) في إيحاء إلهيّ بالرعاية المباشرة من الله لهما ، فلا مجال للخوف من سطوة فرعون ، لأن الله رب العالمين يشرف من موقع علمه وقدرته المطلقة على الساحة كلها ، فهو يسمع كل الكلمات ويعرف كل نتائجها ومداليلها ، فعليهما أن يطمئنا ويأمنا ، وعلى الجميع أن يدركوا قوة الموقف الذي يملكه موسى في مواجهة فرعون أمام قوة الله سبحانه الذي يمنحهما قوة التحدي.

(فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) قولا له إن صفتكما التي تقابلانه بها ، ليست صفة الأتباع الذين يطلبون بركته ، ويتطلعون إلى عظمته ، ويتحركون طوع إرادته ، بل هي صفة رسول رب العالمين ، التي توحي بالقوّة والرهبة ، والعلوّ المهيمن على الموقع والكلمة والسلطة ، فهناك رب العالمين الذي يملك الأمر كله ، والحياة والموت بيده ، فلا موجود غيره ، إلا وهو مخلوق له ومفتقر إليه ، وخاضع لسلطانه ، وعبد له ، وخاشع أمامه ، ونحن هنا نتحدث إليك باسمه لأننا نحمل رسالته.

وجاء التعبير بالمفرد ، بدلا من المثنى ، إمّا باعتبار كل واحد منهما ، أو باعتبار وحدة الرسالة ، أو على أساس أن الرسول مصدر في الأصل ، فالأصل أن يستوي فيه الواحد والجمع.

* * *

٩٥

معنى المطالبة بإرسال بني إسرائيل في بداية المواجهة؟

(أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) لأن الله أراد أن يخرجهم من استضعافهم الذي فرضته عليهم ، لتدعم ملك باستغلال قوتهم التي تحركها في خدمتك وخدمة مشاريعك لتكون أنت القويّ من خلال قوتهم ، ثم لترتد عليهم لتستضعفهم على هذا الأساس ، بما توحي إليهم بالأسرار المقدّسة التي تختزنها شخصيتك بالطاعة المطلقة التي يفرضها موقعك ، وبما تخنق به وعيهم بأضاليلك كما يفعل الطغاة من أمثالك في تضليل الشعوب وتجهيلهم من أجل أن يكون ذلك سبيلا للسيطرة عليهم ، فيستسلمون لك باعتبار أنك وليّ النعمة ، في الوقت الذي يكونون فيه هم أولياء نعمتك ، في ما أعطوك من ثروة وقوة وسيطرة.

ولكن ، لا بد من أن نضع حدّا لذلك ، لأن المستضعفين لا بد من أن يأخذوا بأسباب الوعي ويتخلصوا من مواقع التخلف ويفهموا طبيعة الظروف المحيطة بهم ، والقدرات التي يملكونها ، ليعرفوا ماذا يريدون ، وماذا يراد بهم وما هي حقوقهم ، وما هي مسئولياتهم ، ليتحركوا من مواقع الحرية. ولن يستطيعوا الوصول إلى هذا المستوى من الوعي والمسؤولية والحركة إلّا إذا خرجوا من هذه الأجواء وتخلصوا من هذه الظروف واستبدلوا بها أجواء جديدة وظروفا مميّزة حتى يتنفسوا الهواء الطلق البعيد عن الوباء والعفونة ، الذي يغتسل بشروق الشمس من جميع جوانبه ، فتنفذ إليه ليتعرفوا معنى الحرية في حركته. ولذلك فإن المطلوب هو أن ترسلهم معنا ، لأننا سوف نفتح عيونهم على الحياة من خلال الله ورسالته ، ليكونوا جيل الدعوة إلى الله ، والعمل في سبيله ، والمدافعين عن قضية العدل في الكون ، في مواجهة مسألة الظلم في

٩٦

ساحات الظالمين ، لأن الذين عاشوا تجربة الظلم ، هم من أكثر الناس معرفة بالبشاعة التي تتمثل بالظلم ، وبالجمال الرائع الذي يتحرك في شخصية العدل.

وقد نلاحظ أنه كيف يكون الطلب الذي يقدمه رسول رب العالمين هو إرسال بني إسرائيل معه لا الرسالة الموجهة إلى فرعون وقومه؟ ولكن هذه الملاحظة تزول إذا عرفنا أن ذلك هو الأسلوب الذي يراد به الإيحاء بالقوة ، ليكون المدخل للحديث عن رب العالمين وعن معنى التوحيد ، وعن الرسالة التي تتحرك في حياة العالمين جميعا ، في مفاهيمها وشرائعها ، كما ستجده في ما نستقبله من آيات ومما قدمناه في ما سبق منها.

* * *

ماذا نستوحي من هذا الأسلوب؟

وقد نستطيع أن نستوحي من هذا الأسلوب ، كيف يمكن للداعية أن يبحث عن المدخل للحديث عن الفكرة ، وتوجيه الحوار إليها ، من خلال المفردات الواقعية المثيرة للاهتمام التي تدعو إلى إثارة كثير من علامات الاستفهام حول الركائز التي ترتكز عليها هذه الأمور ، وإلى الدخول في جدل حولها ، في ما تمثله من مشاكل الساحة ، أو الناس الذين يعيشون فيها. فقد لا يكون من الضروري ـ دائما ـ أن نثير القضايا بشكل مباشر ، إذ ربما كان التفكير العام غير معنيّ بها في الأساس لعدم وجود ظروف ملائمة لذلك من ناحية نفسية وعملية ، مما يجعل من البحث عن موضوع مثير ، أمرا يحرّك الحديث عن أكثر الأمور اهتماما وحساسية وواقعية.

* * *

٩٧

فرعون يذكر موسى عليه‌السلام بنعمه عليه

(قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) فنحن نعرفك منذ كنت طفلا رضيعا ، وقد عشت معنا كما يعيش الولد في أحضان أهله ، فهم يعرفون نقاط ضعفه ، وطبيعة موهبته ، ومدى إمكاناته الفكرية ، وتطلعاته الروحية ، وعلاقاته ، ومواقعه ، فمن أين جاءتك هذه الأفكار المثيرة ، وكيف حدث لك مثل هذا الحدث العجائبي الذي تدّعي وجوده في شخصيتك ما لم نلمح له أيّ أثر لديك في ملامح تطوّرك ونموّك على مستوى المعرفة والسلوك؟! فلست إلا واحدا من هذا الشعب الضعيف المسحوق الجاهل ، الذي يدين بنعمته لمواقع الألوهية عندنا ، (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) في قتلك للإنسان القبطيّ الذي يتميز بأصله وطبقته عليك مما يؤكد وجود طبيعة الجريمة في تفكيرك وأخلاقك ، بالإضافة إلى نزعة الفساد والإفساد الاجتماعي في سلوكك العملي ، فخلقت لنا المشاكل الأمنية من دون مبرّر ، ولم ترع حرمة التربية والرعاية التي منحناك إياها ، (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) بالنعمة التي أغدقناها عليك ، فكيف يتناسب ذلك مع ما تدّعيه من الرسالة التي تستهدف الصلاح والإصلاح والخير والفلاح للناس كافة؟ وكيف يكون رسولا من يكفر بنعمة سيّده الذي ربّاه وأنعم عليه بعد أن أنقذه من الهلاك؟

* * *

كيف اعترف موسى عليه‌السلام على نفسه بالضلال؟

(قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي الجاهلين بالنتائج السلبية التي تترتب عليّ مما أدّى إلى أكثر من مشكلة اعترضت حياتي وأبعدتني عن أهلي وبلدي ، مع أن القضية كانت تحلّ بغير ذلك ، فلم أفعلها في حال الرسالة ، لتكون تلك

٩٨

نقطة سوداء تسجّلها عليّ في موقعي الرسالي ، بل فعلتها قبل أن يلهمني الله الهدى المتحرك في خط الرسالة ، عند ما كنت ضالا لم أحدد لنفسي الطريق الواضح المستقيم المنطلق من قواعد الشريعة المنزلة القائمة على التوازن في ما يصلح الإنسان أو يفسده. وبذلك نستوحي من الفقرة في الآية ، أن الضلال ليس بالمعنى الوجودي المضاد الذي يعبر عن الانحراف ، بل بالمعنى السلبي المعبر عن عدم معرفة طريق الهدى ، الذي يضيء به عمق الأمور على أساس المصلحة الحقيقية للإنسان.

* * *

القرآن يثير نقاط الضعف البشري في الأنبياء

وفي ضوء ذلك ، نفهم كيف يرينا القرآن الكريم نقاط الضعف البشري قبل النبوّة في شخصية النبي ، عند ما كان بعيدا عن الاهتداء التفصيلي بالشريعة والمنهج ، خلافا للفكرة المعروفة لدى الكثيرين من العلماء الذين لا يوافقون على أن النبي يمكن أن يضعف أمام عوامل الضعف الذاتي قبل النبوّة أو بعدها ، حتى في ما لا يشكل معصية أو انحرافا خطيرا عن الخط المستقيم.

وهكذا واجه موسى الموقف بشجاعة الاعتراف بما فعله قبل أن يبعث بالرسالة ويهتدي بالحق من خلال الوحي النازل من الله ، فلم يسقط أمام التحدي الذي وجهه فرعون للرسالة على أساس ما وجهه لشخصه من عمل سابق ، بل أكده في مواقعه الذاتية ، قبل الرسالة ، أي قبل أن ينزل عليه الهدى الذي يدعو إليه الناس الآن ، فارتكب ما ارتكبه في الجوّ الذي لو كان في الموقع الذي هو فيه الآن لما فعله ، لا لأنه فعل حراما ، فلم يكن متعمدا للمسألة ، وربّما كان الشخص يستحق القتل ، بل لأنه لم يكن ضروريا

٩٩

بالمستوى الذي وصلت إليه القضية في نتائجها السلبية على مستوى حياته الشخصية في ما أدت إليه من إرباك وتعقيد.

(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) خوفا من أن تقتلوني جزاء لما فعلته ، وتشرّدت مدة طويلة من الزمن ، (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) في ما ألهمني من الحق ، وما أوحى به إليّ من النور الذي يضيء لي وللناس الطريق المستقيم الذي يكفل السلامة لمن سار فيه واهتدى بهداه ، (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الذين يحملون مسئولية الدعوة إلى الله والعمل في سبيله ، والإعلان بكلمة الحق الصارخ أمام الناس أجمعين ممن كان في أعلى درجات السلّم الاجتماعي أو في أسفلها أو في وسطها.

ولماذا تستغرب أن يكون لي هذا الموقع الرسالي ، فتحاول أن تستذكر طفولتي التي عشتها معكم؟ فهل هي قضية ذاتيّة أو اكتسابية لتتلمس ملامحها ـ سلبا أو إيجابا ـ في حياتي الخاصة التي كنت تعرف قسما منها ، أو هي قضية ربانية متحركة من وحي الله ولطفه ورحمته؟ ثم كيف تكون التربية الأولى أساسا للحكم على الشخصية بعد غياب طويل ، وسنين عديدة ، قد يحصل الإنسان فيها على معارف جديدة ومواهب عالية تؤهله الأكثر المواقع تقدّما في الحياة مما يجعل منطقك بعيدا عن التوازن والتركيز والواقعية؟

(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) وجعلتهم عبيدا تستخدمهم في سبيل تثبيت ملكك وتقوية سلطانك ، وتقهر إنسانيتهم بمصادرة حريتهم ليتحولوا إلى أدوات مقهورة لتلبية رغباتك وتحقيق مرادك ، في ما تحبه وما لا تحبه.

وقد يتساءل الإنسان : كيف يتحدث موسى عن شيء لم يسبق الحديث عنه في حوارة مع فرعون؟ وقد يجاب عن ذلك بأن تذكيره بأنه كان قد تربى في بيته ، يحمل بعض الإيحاء بأنه جزء من هؤلاء القوم الذين يتقلبون في نعمته

١٠٠