تفسير من وحي القرآن - ج ١٧

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٠

حاجات الحياة ، ولطلب الرزق ، (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) تبشر بهطول المطر (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) والمراد بالسماء جهة العلو في أجواء الفضاء التي تطل على الأرض ، فجعلنا السحاب المرتفع يحمل ماء طهورا يطهّر كل شيء يصل إليه ، إذ يزيل الأوساخ ويذهب بالأرجاس والأحداث.

(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) لا نبات فيها ولا حياة ، فتدب فيها الحياة من جديد ، فيهتز العشب ، وتنفتح البذور ، ويخضرّ الزرع وينمو ويمتد ، ويتدلى الثمر ، (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) وكلهم يحتاجون الماء الذي هو سرّ بقاء الحياة في الجسد ، فلولاه لما أمكن للحياة أن تبقى أو تنمو وتتحرك ، وذلك كله دليل عظمة الله في خلقه ، ورحمته في نعمته ، وحاجة الحياة كلها في النبات والحيوان والإنسان إليه ، في تدبيره وحكمته ، مما يجعل ارتباط الجميع به بالمستوى الذي يستمد كل شيء حياته منه ، في البدء والامتداد ، وهذا ما يجب على الناس أن يتأملوه ويفكروا فيه ، ليتعرفوا حقيقة التوحيد ، في مواجهة خط الكفر والرشد ، من خلال النظرة الواعية العميقة ، والتفكير الصافي المنفتح.

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا) قيل : إن الضمير في كلمة (صَرَّفْناهُ) يعود إلى الماء الذي تقدم ذكره في الآية السابقة ، ليكون المعنى ، صرفه من قوم إلى قوم في عملية توزيع عادلة ، فلا يدوم نزوله على قوم ليهلكوا ، أو ينقطع عن قوم دائما ليهلكوا ، بل يدور بينهم لينال كل قوم نصيبهم منه بحسب المصلحة.

ويمكن أن يكون المراد تصريف الذكر وتنويعه بحسب الأساليب المختلفة في تقريب الفكرة إلى النفوس ، وذلك عبر ما تقدم من الحديث عن القرآن بطريقة وبأخرى. أمّا ارتباط التذكير ، كهدف ، من خلال المعنى الأول ،

٦١

فهو ملاحظة هذا التوزيع العادل في إنزال الماء على العباد ، ليتعرفوا منه عظمة الله ورحمته ، فيذكروا الله في إيمانهم. أمّا من خلال المعنى الثاني ، فواضح في تكرّر أمثال هذه الآية في القرآن ، حيث تتنوع أساليب القرآن في توعية الناس بالمفاهيم التوحيدية ، وإذا ما عاشوها ، تذكروا وخرجوا عن أجواء الغفلة التي يعيشون فيها ، ولكن (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) لأنهم لم ينفتحوا على المعاني المتنوعة بوعي وفكر وتأمّل ، بل واجهوا ذلك مواجهة اللامبالاة ، فأعرضوا ، وكان نتيجة ذلك الكفر بالنعمة ، والعقيدة التوحيدية.

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) فقد كان لكل أهل قرية نبيّ يبلغهم رسالات الله ، ولكن المسألة ليست تعدد الأنبياء والمنذرين ، لأن العدد ليس هو الأساس ، بل المسألة هي قيام النبي برسالته في امتداد الساحات التي تمثل خط المسؤولية لديه ، فيما يقوم به من إبلاغ وإنذار ، وفي إبلاغها وإنذار الناس بعذاب الله لمن يجحد ويكفر ، واستعداد الناس للاستماع إليه ، ولذلك أرسلناك ـ يا محمد ـ إلى القرى كلها ، وإلى العالمين كلهم .. لأنك النبيّ الذي يستطيع الاضطلاع بالمهمة الكبرى في إيصال الرسالة إلى كل قلب ، وفي إدخال القرآن إلى كل أذن ، قد اطلع على امتداد فكرك وروحك وحركتك بما يشمل الحياة كلها ويحتوي الرسالة كلها بطريق مباشر أو غير مباشر.

(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) الذين يريدون لك الانسحاب من ساحة الدعوة إلى توحيد الله ، وإلى مواجهة الوثنية في أصنامها وفي تقاليدها وفي شرائعها ، لتحصل على رضاهم ، فإنهم لا يريدون لك ، وللناس كلهم ، خيرا من ذلك كله ، بل يريدون الشر كله عبر انحرافهم عن خط الإيمان بالله وبوحدانيته ، ودعوتهم إلى الالتزام بالخط المنحرف في العقيدة والشريعة والسلوك ، فلا تطعهم ، وأطع الله في كل ما أمرك به أو نهاك عنه ، وأراده لك من حمل رسالته وإبلاغها إلى الناس كافة ، ومجاهدة كل من يقف في مواجهتها ، ليكون الحاجز

٦٢

الذي يحول بين الناس وبين سماع كلمة الله.

(وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) فليكن القرآن بمفاهيمه الحقة ، ووسائله القوية الدامغة ، وأساليبه المتنوعة ، هو القوّة التي توجهها إلى مفاهيمهم الزائفة ، وخططهم الضالة ، وأفكارهم المنحرفة ، وذلك هو الخط الذي يجب على الدعاة إلى الله حمله ، في مواجهتهم للكفر كله ، وللشرك كله ، وهو خط الجهاد بالكلمة والحركة والممارسة على مستوى الفكرة والحياة ، وبكل الوسائل التي تمثل الصدمة القويّة في ساحة الصراع.

وتعود الآيات من جديد لتثير أمام الوعي الفكري للإنسان ، مظاهر قدرة الله في الكون ، لينفتح على عظمة الله ، فيقوده ذلك إلى الإذعان بتوحيده ، عند ما يدخل في مقارنة دقيقة ، بين ما هو الله في قدرته ، وما هو الإنسان في عجزه ، وما هي الأصنام في جمودها وحقارتها.

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) وخلط بينهما من دون أن يفقد كل واحد منهما خصوصيته الذاتية (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) طيب الطعم ، كثير العذوبة (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي ماء شديد الملوحة (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) حاجزا خفيّا من صنع قدرته بحيث يمنع التفاعل بينهما في عملية تأثر وتأثير ، (وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي حراما محرّما أن ينفذ أحدهما إلى عمق الآخر ، فيختلط به ويبدّل طعمه.

وربما كان في ذلك «تنظير لأمر الرسالة من حيث تأديتها إلى تمييز المؤمن من الكافر مع كون الفريقين يعيشان على أرض واحدة ، مختلطين ، وهما ـ مع ذلك ـ غير متمازجين ..» كما يقول بعض المفسرين (١).

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) إذ خلق النطفة التي هي ماء مهين يخرج من الرجل فيلقح بويضة المرأة ، فيتحوّل إلى بشر ، (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) الذي

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٥ ، ص : ٢٢٨.

٦٣

يحصل به التحريم من جهة الرجل ، وهو النسب ، ومن جهة المرأة ، وهي المصاهرة.

ويذكر صاحب تفسير الميزان ، أن «هذا تنظير آخر يفيد ما تفيده الآية السابقة ، أن لله سبحانه أن يحفظ الكثرة في عين الوحدة ، والتفرق في عين الاتحاد ، وهكذا يحفظ اختلاف النفوس والآراء بالإيمان والكفر ، مع اتحاد المجتمع البشري الذي بعث الله الرسل ، لكشف حجاب الضلال الذي من شأنه غشيانه لو لا الدعوة الحقة» (١) ، وهو أمر طريف ، ولكن ذلك غير ظاهر من سياق الآية ، فإن الظاهر منه ، أن الحديث موجّه للإيحاء بالجانب الفكري العقيدي للتوحيد ، في مواجهة الشرك.

(وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) قادرا على إبداع حياة متنوعة متحركة من الماء ، وينشئ من ذلك علاقات مختلفة في المجتمع الإنساني ، في علاقاته المتشابكة المعقّدة ، وذلك هو البرهان القاطع على أن الله ـ هو وحده ـ القادر على الكون كله وعلى الحياة كلها ، في النفع والضرر. وبذلك كان هو ـ وحده ـ المعبود الذي يستحق العبوديّة ، ويتفرد بالألوهية ، ولكن هؤلاء المشركين الذين استسلموا لتقاليدهم المتحجرة الموروثة عن الآباء والأجداد ، يعيشون التخلف في العقيدة والعبادة ، عند ما يلتزمون الأصنام في مواقع الآلهة ، ويعبدونها من دون معنى ..

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) فلا يملكون أساسا لذلك في براهين الفكر أو إحساس الوعي ، ولا في الواقع في عطائه وحركته ، لأن هذه الأصنام تمثل الجمود كله ، والعجز كله ، والتخلف كله ، في الشكل والمضمون.

وهذا يوحي إلينا بأن الكفر لم ينشأ من حالة وعي منفتح على الوثنية ،

__________________

(١) (م. س) ، ج : ١٥ ، ص : ٢٢٨.

٦٤

خاضع للحجة المنطلقة من الفكر ، بل هو الاستسلام اللّاواعي للتخلف الفكري والروحي من خلال الالتزام بتقاليد الآباء ، بعيدا عما هو الحق والباطل في ذلك ، مما يخلق في العمق الذاتي للإنسان الكافر ، حالة شعورية عدوانية ضد كل الإيمان والتوحيد ، (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) يعيش التمرد في نفسه على الله في الشرك والمعصية ، ويعمل على معاونة الشيطان وجنوده وأتباعه على محاربة الله في دينه ورسله وشريعته.

* * *

٦٥

الآيات

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) (٦٢)

* * *

معاني المفردات

(بُرُوجاً) : المراد بالبروج منازل الشمس والقمر ، وقيل : المراد بها الكواكب السيارة المعروفة عند العرب.

(خِلْفَةً) : أي أن أحدهما يخلف الآخر.

* * *

٦٦

حدود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حركة الدعوة

كيف يريد الله للنبي أن يعيش دوره الحركي في الدعوة إليه حتى يواجه التحديات من دون تعقيد أو تشنج ، فلا تهزمه حالات التمرد والعناد ، ولا يرى في التجاوب معه من قبل المؤمنين به حالة غير طبيعية؟ وكيف يتابع سيره في جميع الأحوال؟ وما الآفاق التي يعيشها ، وهو يتحرك في خط الدعوة؟

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) حيث ينطلق دور الداعية في شخصيتك مبشرا برضوان الله ونعيمه لمن سار في اتجاه الإيمان وتحرك في أجواء الطاعة ، وبغضب الله وعقابه لمن انحرف عن ذلك الاتجاه ، وسار في خط التمرّد على الله ، فلا تملك بعد ذلك أيّة قدرة على تغيير قناعاته ، المتصلة بالفكر أو الشعور ، وإذا قمت بدورك في هذه الدائرة ، فقد انتهت مهمتك التي أرادك الله أن تحققها في رسالتك.

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) فلست الشخص الذي يعمل للحصول على امتيازات مادية أو معنوية من خلال الرسالة ، تماما ، كالكثيرين ممن يستهدفون الوصول إلى مطامع دنيوية ، من دعواتهم ، أو مشاريعهم ، لأنني لم أنطلق من مبادرة ذاتية في كل ما أقوم به ، أو أسعى إليه في دائرة الدعوة ، بل انطلقت من خلال رسالة الله التي حمّلني إيّاها ، وأرادني أن أعمل في سبيل إبلاغكم آياتها ومفاهيمها وأحكامها ، مما يجعل من موقعي فيكم ، موقع الرسول المسؤول الخاضع لمولاه الذي كلفه القيام بهذه المهمة ، بعيدا عن كل الحسابات الذاتية ، فلا أسألكم أيّ أجر ، أو مطمع ، من جهة الرسالة ، بل الأجر لكم من الله في الدنيا والآخرة ، إذا تجاوبتم مع الله في شريعته ومنهجه ، وليس لي مصلحة مع أيّ فريق منكم في أية علاقة خاصة.

(إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) فهذا ما أتحرك في الدعوة من أجله ،

٦٧

وأعيش له من أجل استكمال هدايته ، وأشعر بأني قد حصلت على نتيجة إيجابية للرسالة من خلاله ، عند ما استطعت أن أوجّه إرادته الحرة في اتجاه الإيمان الذي يدفعه إلى أن يتخذ إلى ربه سبيلا يربطه به ويوصله إلى رحمته ورضوانه ، وهذا هو الأجر الذي أسعى للحصول عليه ، لأن أعظم أجر للرسول في رسالته ، أن يتجاوب الناس معه ، ويؤمنوا برسالته.

ولعل هذا الاستيحاء التفسيري أقرب إلى جوّ السياق في الآية مما ذكره جمهور المفسرين من أن الاستثناء منقطع ، والمعنى ، هو أن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ، أي بالإنفاق القائم مقام الأجر كالصدقة والإنفاق في سبيل الله ، فليفعل ، وهذا مما لا دليل عليه. وهناك وجوه أخر ، يرجع بعضها إلى ما ذكرناه ، ويبتعد بعضها عن السياق.

وربما كان ذكر الشخص المؤمن في مقام الاستثناء ، بدلا من الإيمان نفسه ، للتأكيد على أنه يمثل كل هدفه في الدعوة من إيجاد الإنسان المؤمن الذي يتحرك في خط الإيمان في ما يستجيب له من دعوة الرسالة في موقف الرسول ، والله العالم.

* * *

التوكل على الله

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) واعتمد عليه في كل أمورك ، وتابع سيرك في رعايته ، ولا تلتفت إلى كل المعوّقات التي تواجهك في الطريق ، وإلى كل الأشخاص الذين يتمردون عليك أو يسخرون منك ، فهو الذي يكفيك الأمر كله ، لأنه خالق الجميع ورازقهم ، وهو الحي الذي لا يموت ، وهو الباقي لك ، الذي يشرف على الجميع ، ولا يفوته أحد منهم في أيّ زمان ومكان. وذلك هو سبيل اختزان القوّة في عمق شخصيتك ، لأن الإنسان الذي

٦٨

يتوكل على الحيّ الذي لا يموت ، لا يمكن أن يخشى أو يخاف من الذي يعيش المدة المحدّدة التي تنتهي بالموت.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) وأذكره بالتعظيم في موقف الثناء عليه ، لتتعرف على دلائل عظمته وآفاق حمده من خلال صفاته في كماله وجلاله وجماله ، مما يملأ روحك وعقلك وضميرك بالخشوع بين يديه ، والخضوع لقدرته التي لا نهاية لها ، وتطلع إليه في عمله الذي لا حدّ له في إحاطته بشؤون عباده إن أحسنوا أو أساؤوا.

(وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) فهو المطّلع على سرّهم وعلانيتهم ، فلا يفوته شيء مما يضمرونه أو يخفونه أو يظهرونه ، مما يفرض عليهم أن يراقبوه في كل أعمالهم ، فإن غفر لهم ، فبرحمته ، وإن عاقبهم فبعدله وحكمته من غير حاجة إلى من يعينه أو يعرّفه أيّ شيء.

(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وقد كان قادرا أن يخلقها بلحظة واحدة ، ولكن المسألة تتعلق بحاجة المخلوق إلى الوقت في وجوده ، لا إلى حاجة الخالق إليه في طبيعة قدرته ، انطلاقا من حدود الموجود في شروط وجوده ، لا من حدود قدرة الخالق في ذلك.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الذي هو كناية عن الملك ، باعتباره من لوازمه ، وقد يجسد الموقع الأعلى في الوجود من خلال استتباع سيطرته عليه وعلى كل ما تحته من موجودات بطريقة كنائية. وفي كلتا الحالتين ، فإن الاستواء لا يعني التجسد الذي توحي به الكلمة في مدلولها الحرفي ، بل يعني السيطرة التي يوحي بها معناه من الاستيلاء على الموقع كله ، كإشارة للسيطرة في الملك والقدرة والاحتواء ، (الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) إن هذا الخالق هو الرحمن الذي أنشأ الخلق برحمته والذي أبدع التدبير من خلالها أيضا. فهل تريد أن تعرفه بدلائله وبراهينه ومواقع معرفته؟ فتعال إلى الرسول الذي يملك معرفة

٦٩

ذلك كله ، فاسأله واستمع إليه وهو يبلّغ آيات ربه التي تفصل الكثير من صفات الله ، فهو الخبير بذلك كله.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) الذي خلقكم من موقع رحمته التي امتدت إلى كل جوانب حياتكم فأفاضت عليكم النعم الوفيرة ، في كل زمان ومكان ، (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) كأنّهم لا يعرفون عنه شيئا ، كما لو كنت تحدثهم عن شخص بشري مسمّى بهذا الاسم ، إمعانا منهم في العناد والتجاهل والابتعاد عن مواجهة الحقيقة المطلقة المتمثلة بالله في إشراق نور معرفته التي تمتد في العقل والقلب والشعور ، وتتحرك في كل ظاهرة كونية من ظواهر الوجود ، ناطقة بعظمته ، دالة على وجوده ، ويتصاعد جوّ الاستكبار والإصرار في منطقهم ، ليتحدثوا معه من منطق الاستعلاء الذي يشعرون به تجاهه.

(أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) هل أنت الشخص الذي يفرض إرادته علينا بالسجود لمن لا نعرفه ، أو لما لا نعرفه ، وإن لم نقتنع به ، فمن أنت؟ وما موقعك؟ وبم امتزت علينا لنطيعك في ما تأمرنا ، ولنتعبد بأقوالك وتعليماتك؟

(وَزادَهُمْ نُفُوراً) وهروبا منه وابتعادا عنه ، لأنهم لا يريدون الالتزام بالخط المستقيم الذي يحررهم من كل عوامل الانحراف ، ومن نوازع العبودية والخضوع للشيطان.

* * *

الداعية ومواجهة أسلوب المشركين

وقد نلاحظ في أسلوب المشركين ، أن المسألة عندهم لم تكن مسألة مناقشة الرسول في طرحه عليهم عبادة الله الرحمن ، بل كانت مسألة هروب من الدخول في البحث الجدّي للقضية ، لأنهم كانوا يستهدفون مواجهة الدعوة بكل

٧٠

الأساليب المتعنتة ، أو الساخرة ، من أجل إسقاط روح الرسول ، وتشوية صورة الرسالة.

وهذا ما يجب للداعية أن يعيشه عند ما ينطلق أعداء الدعوة لمواجهته بالأساليب المماثلة بغية إسقاط روحه ، وتشوية دعوته ، فلا ينفعل ، ولا يسقط ، ولا يتزلزل ، بل يواجه ذلك كله ، بما يستحقه من الردّ الحاسم بالحكمة والقوّة ، والأسلوب المتّزن المنفتح على كل جوانب القضية وأعماق المشكلة.

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) وقد يكون المراد منه منازل الشمس والقمر من السماء أو الكواكب المتناثرة في الفضاء ، (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً) وهي الشمس التي تضيء الكون كله فتطرد الظلام منه ، (وَقَمَراً مُنِيراً) ينير الليل بضيائه الهادىء الذي يوحي بالأجواء الحالمة ، والوداعة الروحية (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) يخلف كل منهما صاحبه ، في خصائصه الكونية التي تحتوي حياة الإنسان والحيوان والنبات ، فتبعث فيها روح التوازن ، حيث جعل الليل لباسا والنهار معاشا ، مما يفرض على الإنسان أن يفكر فيه ، ليكتشف جوانب الدقة في الخلق ، والعظمة في الإبداع ، (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) فيدفعه ذلك إلى وعي مسألة الإيمان في ذاته ، وإلى موقع الله في حياته وحياة الكون كله ، فلا يغفل عنه طرفة عين ، أمام هذا الوجود الذي ينفذ إلى كل لحظة من لحظات وجوده ، فيستوعب كل جوانبه ، فيرى الله في كل شيء حوله ، في إشراقة النهار ، وفي ظلام الليل ، (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) عند ما يرى حركة النعمة في ذلك عبر أجواء الراحة التي تحتوي جسده ، فتدفعه إلى الهدوء في النوم الذي يطبق على حواسه ، فيبعث فيها الخدر اللذيذ ، والراحة المنعشة ، أو عبر ما هيّأه له من حركة اليقظة المندفعة المتوثبة بالانطلاق نحو معاشه بما يكفل له الاكتفاء الذاتي ، لتستمر حياته (١).

__________________

(١) وقد جاء عن الإمام الصادق عليه‌السلام : كل ما فاتك بالليل فاقضه بالنهار ، قال الله ـ

٧١

وهذا ما ينبغي للإنسان أن يواجه به حركة الوجود في حياته ، ليلتفت إلى مظاهر عظمة الله ، وإلى مواقع نعمه ، فيحسّ بالإيمان من حوله ، وهو ينطلق بالوحي الذي يملأ العقل والوجدان ، ويلتقي بالحياة ، بما يملأ الحسّ والشعور ، ليجعل من الكون مدرسة للعقيدة ، ومنطلقا للّقاء بالله في كل نعمه الظاهرة والخفية.

وقد تكون مشكلة أولئك الكافرين بالله ، والمتمردين على طاعته ، أنهم لا يواجهون الوجود من موقع المسؤولية في الفكر ، والوعي في الإحساس ، والحركة في مواجهة الواقع.

* * *

__________________

ـ تبارك وتعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل بالنهار وما فاته بالنهار بالليل. تفسير الميزان ، ج : ١٥ ، ص : ٢٣٧.

٧٢

الآيات

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) (٧٧)

* * *

٧٣

معاني المفردات

(هَوْناً) : الهون ـ على ما ذكره الراغب ـ هو تذلّل الإنسان في نفسه لما لا يلحق به غضاضة (١). وذكر البعض ، أنه الرفق واللين .. وجاء عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام : «هو الرجل يمشي بسجيته التي جبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر» (٢).

(يُسْرِفُوا) : الإسراف : مجاوزة الحدّ.

(يَقْتُرُوا) : التقتير : التضييق.

(قَواماً) : القوام : الوسط العدل بين الإنفاق والتّقتير.

(مَتاباً) : مرجعا حسنا.

(قُرَّةَ أَعْيُنٍ) : السرور ، لأن العين تستقر عنده.

(الْغُرْفَةَ) : كناية عن الدرجة الرفيعة ، والغرفة ـ لغة ـ : البناء فوق البناء ، مما يجعلها تختزن معنى العلو في مفهومها.

(لِزاماً) : لازما.

* * *

عباد الرحمن .. ملامح الشخصية الإسلامية

ما هي الصورة التي يريد الله لعباده ، أن يتمثلوها في سلوكهم العملي في الحياة وفي أنفسهم ، وعلاقاتهم بالله والآخرين؟ ومن هم هؤلاء الذين اختصهم

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٥٤٥.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ١٥ ، ص : ٢٤٥.

٧٤

الله بانتسابهم إليه في كلمة (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) وجعلهم من المقربين إليه ، ووعدهم بجنته في الدار الآخرة؟

إن هذا الفصل الأخير من السورة يلخص لنا بعضا من هذه الصفات التي تتنوّع في مواقعها من حياة الإنسان وحركته العملية في كافة جوانبها الروحية والمادية ، وتكسبه ألوانا من الحركة في مواجهة الواقع.

* * *

عباد الرحمن

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ) بما تعنيه الصفة الإلهية من معنى الرحمة التي تمثل عمق المعنى في ذاته المقدّسة ، وما توحي به من لطف الله بالإنسان في روحيته وفي حركة حياته ووعيه لوجوده وفي عمق المسؤولية ، التي تربطه بالله ، وتجعله يتطلّع إلى آفاق الرحمة الإلهية آملا أن تحتويه بالخير والبركة والتوازن ، والانضباط في السلوك العملي بين يدي الله.

(الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) فلا يرون المشي حركة استعراضيّة ، ولا تنفيسا عن عقدة ذاتية في انفتاح الذات على شعور العظمة ، على طريقة الخيلاء والتكبّر ، ولكنهم يرونه مجرّد وسيلة طبيعية للانتقال ، ولذا فإنهم يتحركون فيها بالطريقة الطبيعية التي تحقق الهدف ، من دون زيادة ولا نقصان ، فلا يثقلون الأرض بضربات أقدامهم ، ولا يثقلون على أجسادهم بالزهو والخيلاء ولا يسيئون إلى مشاعر الناس الذين يلتقونهم بحركات الكبرياء ، بل يتحركون برفق وتواضع ، في تذلل المؤمن عند نفسه ، وتواضعه للناس.

(وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) فهم لا ينطلقون مع الناس ، الذين يثيرونهم بالكلام القاسي اللامسؤول ، من مواقع ردّة الفعل الغريزية التي تتحرك بطريقة الإثارة ، في مواجهة الكلمة القاسية الغليظة بالكلمة المماثلة في قسوتها وغلظتها ، أو في مقابلة الشتم والسباب ، بكلمات الشتم والسباب المماثل أو

٧٥

غير المماثل ، بل يدرسون المسألة من موقع العقل المتأمّل الواعي المنفتح على الواقع من جميع جوانبه ، فإذا رأوا للموقف خطورة تستدعي الردّ ، كان ردهم لطيفا حماسا ، وإذا لاحظوا أن الجاهلين يتحركون في كلامهم من مواقع الجهل الذي يتعمد الإثارة ، ليخلق مشكلة ، أو يثير فتنة ، أعرضوا عن الردّ المباشر وكانت روح السلام الذي يتفادى المشكلة والفتنة والإثارة ، هي موقفهم ومنطقهم ، فاكتفوا بكلمة (سَلاماً) هذا الردّ العاقل المتزن الموحي الذي يقول للجاهلين : لسنا هنا في معرض الانفعال للدخول معكم في حرب ، بل نحن هنا ، في موقع الإعراض عن جهلكم ، بروح السلام.

وهذه هي الطريقة الحكيمة التي يواجهون بها خطاب الجاهلين ، عند ما يحتاج الموقف إلى ذلك ، على سبيل الكناية إمساكا منهم بالموقف وتحقيقا لمبتغى المصلحة في ذلك.

(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) فهم المؤمنون بالله ، المنفتحون على ألوهيته في حقيقة التوحيد ، الخاشعون في إحساسهم العميق لله سبحانه وتعالى ، المتحركون في مشاعرهم وأفكارهم في خط الممارسة العملية الواعية ، الراكعون أمام الله ، بالخضوع له ، الساجدون مع انسحاق الإرادة وذوبانها في جنبه ـ تعالى ـ القائمون في استسلام الروح والجسد والقلب والضمير ، بين يديه ، حيث ينام الناس في غفوة الغفلة. واسترخاء الجسد ، ويبيتون هم في يقظة منفتحة واعية في سجود خاشع ، وقيام خاضع لله سبحانه ، كرمز للقيام الدائم أمامه في حركة الحياة كلها.

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) في توسل العبد بمولاه ، وخوفه من عقابه ، عند ما يعيش قلق المصير أمام خطاياه ، فيبتهل إلى الله ليغفر له ذلك ويوفّقه للاستقامة ، ليصرف العذاب عنه من موقع المغفرة ، والطاعة.

(إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) وهو المصيبة التي تصيب الإنسان ، والنائبة

٧٦

التي تنوبه وتلازمه في حياته ، ويمثل عذاب جهنم الخلود فيها. (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) وأيّ مكان أسوأ من المكان الذي يعيش فيه الإنسان العذاب من جميع جهاته ، وأيّ استقرار هو هذا الاستقرار الذي يهتز الإنسان فيه أمام لهيب النار؟

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا) ولم يخرجوا عن الحد الطبيعي في الإنفاق ، (وَلَمْ يَقْتُرُوا) في حالة بخل غير طبيعية ، (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) وهو الحد الوسط الذي يمثل خط التوازن بين الزيادة المفرطة والتقليل المفرط ، بحيث يعيش الوضع الطبيعي في مصرفه على صعيد الحاجة العادية في مثل ظروفه وموقعه في دائرة الضروريات والكماليات (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) فلا يؤمنون بإله آخر مع الله ولا يشركون به أحدا ، ولا يقدّمون فروض العبادة لغيره في جانب الشرك في العبادة ، ولا يرفعون أكفّهم بالدّعاء إلّا له ليقضي لهم حاجاتهم ، وييسّر أمورهم ، ويخفّف آلامهم ، فهو وحده الإله الذي يعبد ، وهو وحده الإله الذي يدعى في قضاء الحاجات ، وحلّ المشكلات.

(وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) الذي قرره الله في الشريعة ، مما يوحي بأن الأصل في الإسلام هو احترام النفس وعدم جواز إزهاقها إلّا في الحالات التي وردت الرخصة فيها في الكتاب والسنة ، بحيث تكون إباحة الدم استثناء على القاعدة.

(وَلا يَزْنُونَ) فالزنى هو مسألة انحراف عمليّ وخلقيّ عن خط الاستقامة الذي حدده الله للإنسان في العلاقات الجنسية القائمة على مبدأ الزوجية بين الرجل والمرأة وفق ما أراده الله من التوازن في النظام الاجتماعي ، من هنا كان الزنى تجاوزا لحدود الله ، وتمرّدا على شريعته ، (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) وهو نتيجة الخطيئة ، وهو الجزاء بالعذاب الذي يلقاه يوم القيامة ، وربما يراد به غضب الله الذي يستلزم الخطيئة ، إذ توحي الكلمة بمعنى الحرام

٧٧

الملازم لسخط الله ، وقد يكون هذا أقرب ، باعتبار أن المعنى الأول مذكور في الآية التالية : (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) بما يمثله العذاب من إهانة واحتقار.

وقد نلاحظ في الآية التأكيد على الخلود في النار للمشرك والزاني والقاتل للنفس المحترمة ، مما قد يتنافى مع الآية الكريمة (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) [النساء : ٤٨] التي تدل على اختصاص الخلود في النار بالمشرك ، وأما غيره فإن المغفرة تلحقه في نهاية الأمر بالإضافة إلى ما اشتهر بين العلماء ، بأن المسلم لا يخلّد في النار حتى لو كان زانيا أو قاتلا.

وقد أجاب عنه بعض المفسرين بأنه محمول على اقتضاء طبع المعصية ، لذلك فالقاتل والزاني يستحقان الخلود في النار ، باعتبار أن الزنى وقتل النفس المحترمة من الكبائر ولكن المغفرة تلحقهما ، أو يحمل الخلود على المكث الطويل الذي هو أعم من المؤبد أو المنقطع أو على غير ذلك (١).

ولكن يمكن أن يقال ، إن هذه المحامل ليست بأولى من حمل المغفرة لما دون الشرك ، على قابلية ذلك للمغفرة ، لا على فعليتها ، وإلا لكان مقتضيا لعدم دخول النار ، لأن ذلك ينافي المغفرة للذنب ، مع ملاحظة أن الإشارة إلى الخلود في النار قد صرّح بها في القرآن في هذه الآية وفي غيرها في القتل غير المشروع وفي الزنى ، مما يرجح ما استظهرناه على ما ذكر من المحامل في الاتجاه الآخر ، فتكون النتيجة أن كل شيء قابل للمغفرة ما عدا الشرك. ولكن بعض الجرائم قد لا تلحقها المغفرة بطبيعتها ، بل لا بد في الحصول عليها من التوبة ، كما هو الحال في الشرك. فالأمر فيها قد يكون مثل الشرك في النتيجة مع اختلافه عنه في الطبيعة ، والمسألة محتاجة إلى التأمّل الدقيق ، والله العالم.

__________________

(١) يراجع تفسير الميزان ، ج : ١٥ ، ص : ٢٤٠.

٧٨

(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) يؤدي به إلى تبديل الموقف على مستوى الحالة الروحية ، والممارسة العملية ، (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) لأنهم بدّلوا السلوك المنحرف ، بالسلوك المستقيم ، وانتقلوا إلى رضوان الله بالانتقال إلى طاعته. وبذلك يظهر أن التبديل لا يعني أن السيئة تكون بمنزلة الحسنة ، بل المقصود ـ والله العالم ـ أن الله يمحو أثر السيئة السابقة ويعطيه ، بعمله الصالح ، الحسنة ، وهي المغفرة التي لا يبقى معها شيء من نتائج المعصية.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) فلا يغلق باب رحمته عن عباده ، ولا يحجب مغفرته عن التائبين منهم والعاملين في سبيل رضاه ، بل يتلقاهم برحمته ومغفرته ورضوانه بكل محبة وعطف ورضوان.

(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) إذ التائب عن الذنب بإعلانه عن الندم الذي يوحي بالعزم على التراجع ، وبالعمل الصالح الذي يوحي بتبديل الموقف في اتجاه آخر ، يجسد الرجوع إلى الله في عملية تصحيحية واعية على أكثر من صعيد ، فلا غرابة في أن يتقبله الله ويبدّل سيئاته حسنات.

(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) وهو الباطل الذي قد يتمثل بصورة الحق ، وربما كان الظاهر منه شهادة الزور وهو الكذب في مقام الشهادة ، مما يريد أن يوحي به الشاهد بأنه صدق ، وقد يراد منه اللهو الباطل كالغناء ونحوه ، مما جاءت به بعض الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلامفقد جاء في الكافي عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليهما‌السلام في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال : الغناء (١) .. فيكون المعنى ، والذين لا يحضرون الزور ، أي مجالس الباطل .. وقد يكون ذيل الآية في الفقرة التالية يتناسب مع

__________________

(١) (م. س) ، ج : ١٥ ، ص : ٢٤٦.

٧٩

هذا المعنى ـ كما يقول صاحب تفسير الميزان ـ (١).

(وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) والمراد بالمرور باللغو ، المرور بالذين يمارسون اللغو ، ويشتغلون به ، فلا يتوقفون عندهم ليستمعوا إليهم ، أو ليخوضوا معهم فيه ، بل يعرضون عنه ويتابعون طريقهم إلى ما يريدون تنزها عن ذلك ، لأن الإنسان المؤمن لا يفكر في الحياة إلا من موقع الحصول على الفائدة في الدنيا والآخرة ، فلا يتوقف ولا يستغرق في ما لا فائدة فيه ولا منفعة لنفسه وللآخرين (٢).

(وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) التي أنزلها الله على رسله مما يفتح قلوبهم على الله وعلى طاعته ، وعلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم من حكمة أو موعظة حسنة ، من قرآن أو وحي سابق منزل ، فإذا دعاهم الناس إلى شيء من ذلك ليسمعوه ، وليفكروا فيه ، وليعملوا به ، أصغوا إليها بمسامع قلوبهم ، وفتحوا لها كل عقولهم ، ولم يعرضوا كما يعرض الكافرون. (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) كما يفعل الذين لا يسمعون إذا قرئ القرآن عليهم ، أو الذين لا يبصرون إذا قدّم إليهم القرآن ليقرأوه. وهكذا يتحرك المؤمن في مصادر المعرفة ليوجّه إليها كل عقله وشعوره ليبني شخصيته ـ من خلالها ـ على أساس العلم والإيمان ، وليهتدي بها إلى مواقع الهدى ، لأن المعرفة عنده مسئولية وليست مجرد حالة طارئة في حركة الحياة من حوله (٣).

__________________

(١) (م. س) : ج : ١٥ ، ص : ٢٤٢.

(٢) جاء في كتاب عيون أخبار الرضا عليه‌السلام بإسناده إلى محمد بن أبي عباد كان مشتهرا بالسماع وبشرب النبيذ قال : سألت الرضا «الإمام علي بن موسى» عليه‌السلام عن السماع فقال : لأهل الحجاز رأي فيه وهو في حيّز الباطل واللهو ، أما سمعت الله عزوجل يقول : «وإذا مروا باللغو مرّوا كراما ..». البحار ، المجلسي ، ج : ٦٦ ، باب : ٣٧ ، ص : ٦٣١.

(٣) في روضة الكافي عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله «جعفر الصادق» عليه‌السلام عن ـ

٨٠