تفسير من وحي القرآن - ج ١٧

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٠

وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٠٤)

* * *

معاني المفردات

(عاكِفِينَ) : العكوف : الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم.

(وَأُزْلِفَتِ) : قرّبت.

(وَبُرِّزَتِ) : من التبريز وهو الإظهار.

(لِلْغاوِينَ) : جمع غاو وهو من ضلّ عن طريق الهداية والحق.

(فَكُبْكِبُوا) : تكرار لكب ، ومعناه الطرح والإلقاء.

(نُسَوِّيكُمْ) : نجعلكم سواء معه.

(حَمِيمٍ) : خالص الود.

* * *

إبراهيم يتحدى قومه

وتعود لنا قصة إبراهيم بصورة جديدة ، لتوحي لكل جيل ، لا سيما جيل الدعوة الأوّل ، كيف كان النبي إبراهيم في بدايات عمره في الموقع القويّ الصلب المنفتح على حقائق العقيدة في توحيد الله ، أمام السلوك المنحرف الذي كان يتحرك به قومه وأبوه في عبادة الأصنام ، ليناقش المسألة معهم بالطريقة التي تفضح جهلهم وتخلّفهم في فهم الخط التوحيديّ، وكيف كان يملك الشجاعة والجرأة الفائقة في مواجهة المجتمع كله من دون خوف ولا وجل.

* * *

١٢١

اتل عليهم نبأ إبراهيم

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) فإن تلاوة مثل هذا الحديث قد يترك تأثيره الكبير على ذهنيتهم الإشراكية ، فيغيّرون عقلية الشرك إلى عقلية توحيدية ، لما يملكه إبراهيم من احترام وتقدير عندهم ، باعتبار انتسابهم إليه ، ولما يتمثل في الحديث من لمعات فكرية ، وإشراقات وحدانية ، تضيء لهم طريق التوحيد في حركة العقيدة ، (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ) في حوار جماعيّ معهم جميعا ، أو في حوارين منفصلين ، مع أبيه تارة ، ومع قومه أخرى ، فيكون الجمع بينهما من قبيل الإيجاز. فقد بدأ السؤال بطريقة ساذجة تثير علامات الاستفهام في الموقع الذي يملك فيه الجواب البسيط عن كل الأسئلة ، ولكنه يريد استنطاق هؤلاء عن الحقيقة المعروفة لديه ، لتسجل عليهم اعترافا بالعقلية الصنمية ، ليكون ذلك مدخلا للحوار على أكثر من صعيد.

وربما احتمل البعض ، أن هذه المحاجّة كانت من إبراهيم أوّل ما خرج من كهفه ودخل في مجتمع أبيه وقومه ، ولم يكن شهد شيئا من ذلك قبل اليوم ، فحاجّهم عن فطرة ساذجة طاهرة.

(قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) لأننا نرى أنها تختزن في داخلها أسرارا مقدّسة توحي بالعبادة التي تقربنا إلى الله زلفى ، أو إلى الملائكة أو الجن أو الكواكب وغيرها ، مما لا يحيطون بكنهه ، ولا يملكون الاتصال به بشكل مباشر.

(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) ليكون هذا أساسا للعبادة من خلال القوى الخفية المخزونة فيها حيث تحتوي إمكانات النفع والضرر ، ليكون في ذلك استجلاب للنفع أو دفع للضرر ، فهل يملك هؤلاء ذلك لكم؟

(قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) فلم تكن العبادة ناشئة من حالة عقلانية

١٢٢

واعية مرتكزة على الدراسة والتأمل والتحليل ، بل هي ناشئة من إرث الآباء والأجداد الذي تركوه لنا ، هذا الإرث الذي يحوي عقائد وشرائع وعادات وتقاليد وأوضاعا وعلاقات خاصة أو عامة ، نشعر بضرورة المحافظة عليه بشكل مقدّس لقداسة ذكراهم عندنا ، فلا نحتقر شيئا احترموه ، ولا نحترم شيئا احتقروه ، لأن ذلك ـ وحده ـ يعبر عن الوفاء لهم ، ويجعل لنا تواصلا وامتدادا طبيعيا معهم في كل أمورهم.

* * *

إبراهيم يعلن العداوة للأصنام

(قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) من الموقع العقيدي الملتزم بالإيمان بالله ، كعقيدة وعبادة ومنهج للحياة .. الذي يتنافى مع كل اتجاه آخر ، بحيث تتحول الساحة إلى صراع مرير بين الاتجاهين ، لينسحب أحدهما لمصلحة الآخر ، بكل الوسائل الممكنة ، بالرفق تارة ، وبالعنف أخرى. ولذا فإن موقفي هو موقف العدوّ الذي يتحدى الأصنام ويرفضها ويعمل على تدميرها وإبعادها عن ذهنية الناس وحياتهم ، حتى لا تترك أيّ تأثير على الفكر والممارسة معا من دون ملاحظة لأية مسألة عاطفية ذات صلة بالقرابة ، كما تدرجون عليه في ربط الجانب العقيدي بالجانب العاطفي في التزامكم بعقائد الآباء من موقع الإخلاص لهم ، فإن ذلك لا يربطني بشيء ، ولهذا فإنني لا أشعر بمسألة النسب ، كحالة عاطفية عند ما تقف أمام مسألة العقيدة ، مما يجعلني أتحدث عنهم بصفة أنهم آباؤكم ، مع أنهم آبائي أيضا (١).

__________________

(١) جاء في تفسير الكشاف .. وإنما قال «عدو لي» تصويرا للمسألة في نفسه ، على معنى أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو ، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أوّلا وبنى عليها تدبير ـ

١٢٣

وعلى ضوء هذا ، فإننا نستطيع استيحاء القاعدة في اعتبار التضاد في العقيدة أساسا للعداوة القلبية والفكرية والعملية ضد رموز الكفر والضلال ومقدّساتها ، في ما تمثله العقيدة من قاعدة مصيرية على مستوى واقع الإنسان والحياة ، مما يجعل لها علاقة ووثيقة بكل القضايا المتصلة بهذا الجانب في الموقع الصميم. فإذا كان الناس يضمرون العداوة للأشخاص الذين يصطدمون بمصلحة قريب أو نسيب أو وطن أو سياسة ، فإن من الطبيعي أن توجّه مشاعر الإحساس بالعداوة للذين يرفضون الله ، أو يشركون به أو يحاربون دينه وشريعته ، أو يضطهدون أولياءه بطريق أولى ، لأن ذلك أكثر أهميّة في حساب المصير.

ولكن ليس معنى العداوة التعسف والفوضى ، بل معناها الرفض والمواجهة التي تتحرك بحسابات دقيقة قد يمكن بعضها في داخل النفس ، وقد تخرج ـ في بعضها الآخر ـ إلى دائرة العلن ، تبعا للمصلحة العليا لقضية الإيمان ، مما يجعل المسألة تدخل في دائرة الحركية في الأسلوب ، بينما يبقى لها عمقها الحاسم ، المتمثل بالمبدأ.

وهكذا أعلن إبراهيم العداوة بشكل حاسم ليحدد الخطوط الفاصلة بين موقفه وموقفهم ، فيكون فريقا مميزا في الساحة ، في نظرته إلى الآخرين ، وفي نظرتهم إليه ، لتبدأ ساحة الصراع المريرة التي تثير علامات الاستفهام لدى الناس حول القضايا التي يدور حولها الصراع ، ولتبدأ عملية الاختيار من ذلك الموقع.

* * *

__________________

ـ أمره لينظروا فيقولوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه ليكون أدعى لهم إلى القبول ، وأبعث على الاستماع منه ، ولو قال : فإنه عدو لكم ، لم يكن بتلك المثابة ولأنه دخل في باب من التعريض ، وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح. الزمخشري ، أبو القاسم جار الله محمود ابن عمر (الخوارزمي). الكشاف ، دار الفكر ، ج : ٣ ، ص : ١١٦.

١٢٤

كيف نستوحي الموقف؟

وهذا ما قد نستوحيه في كثير من المواقف المتصلة بالمبدأ في خطوط التمايز الواقعي للأشياء ، فقد لا يجوز إغفال القاعدة التي ترتكز عليها المواقف التفصيلية ، وإبعادها عن الإعلان ، بحجة أن ذلك قد يثير الحساسيات ، والمشاعر المتوترة ، مما قد يوحي بضرورة الهروب إلى عناوين وشعارات أخرى .. تحجب الحقيقة عن الناس.

إننا نعتقد أن مسألة الهويّة العقيديّة لا بد من أن تعلن ، ليكون التوافق والتخالف من خلالها ، وليعترف بها الناس من موقعها الفكري والسياسي ، لتتحرك التفاصيل من ذلك الموقع. فذلك هو السبيل لتحقيق التوازن في الحركة ، لأن المشاعر المتوترة التي يثيرها الإعلان الحاسم سوف تتبخر وتهدأ ، لتفسح المجال للأمر الواقع أن يفرض نفسه.

* * *

إبراهيم يعلن التزامه بربّ العالمين

(إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) قيل : إنه استثناء منقطع ، لعدم دخوله في المستثنى منه ، لأنه ليس ممن يعبدونه ، فيكون المعنى : إنهم عدوّ لي ، لكن ربّ العالمين ليس كذلك ، فإنه الرب الذي أعبده وأخلص له لأنه يملك مني ما لا يملكه أحد ، وينعم علي بما لم ينعم به أحد عليّ.

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) فهو الذي أعطاني سرّ الحياة بكل عمقها وحركتها وتفاصيلها ، فلم يكن الخلق وجودا ضائعا في الفراغ ، بل كان نظاما شاملا للحياة ، في كل حركة الهداية التي يهتدي بها الوجود إلى طعامه وشرابه وجميع أوضاعه في حياته الخاصة والعامة ، حتى حركة الفكر عند ما يفكر ،

١٢٥

والقلب عند ما ينبض ، والإحساس عند ما يرتبط بما حوله ، حتى ذلك كان في نطاق نظام الهداية الذي أعده الله في تكوين الإنسان بطريقة واعية تتغذى بعفوية الحياة في الجسم ، وحركة الإرادة في العقل والشعور.

(وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) في ما أعدّه لي من مواقع الطعام والشراب في الأرض التي أعيش عليها مما يتفجر منها من الماء ، أو يهطل عليها ، أو ينبت فيها من النبات أو يتحرك فيها من الحيوان ، وما هيّأه من وسائل اكتشافها وتحريكها وترتيبها بالأسلوب الذي يحس فيه الإنسان بأن الله هو الذي يطعمه ويسقيه .. بشكل غير مباشر.

(وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) فهو الذي يلهم الطبيب الذي يكتشف نوع المرض ، ونوع الدواء ، أو يلهم المريض كيف يتصرف بطريقة وبأخرى ليكتشف العلاج بنفسه من حيث يدري ولا يدري ، أو يحرّك الصحة في جسده بطريقة غير عادية. وفي هذا لفتة إيحائية إلى العمق الروحي الذي يختزنه المؤمن في روحه بأن الله هو الذي يشفي المريض ، وأن الأطباء والأدوية ونحوها هي من الأدوات العادية أو غير العادية التي تتحرك بأمر من الله ، من ناحية تكوينية أو من ناحية إعجازية ، فهو الذي يقصد بالرغبة ، ويبتهل إليه بالدعاء من أجل ذلك كله.

(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) فإن الذي بيده سرّ الحياة في البداية ، يملك سرّ الموت في النهاية ، ثم يملك القدرة على إعادة الحياة في الجسد من قلب الموت من أجل بعث جديد وحياة جديدة.

(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) فهو الرحيم الغفار الذي لا ييأس عباده من رحمته ومغفرته إذا أخطئوا معه بالمعصية ، بل هم يأملون بأنه سيغفر لهم خطاياهم فلا يؤاخذهم بها يوم القيامة لأن رحمته سبقت غضبه ، ولأنه يتقبل عباده التائبين إذا رجعوا إليه ، وأخلصوا التوبة له.

١٢٦

وإذا كان إبراهيم معصوما عن الخطأ ، فهو لم يكن في سياق التأكيد على وجود خطيئة صادرة منه ، بل كان في مجال الإيحاء بالغفران الإلهي للخاطئين في مقام التأكيد على صفة الرحمة التي تفتح قلوب عباده ، على محبته وتقواه.

* * *

إبراهيم يناجي ربه

ثم انطلق إبراهيم بعيدا عن خطابهم وعن الحديث الذاتي الذي كان يوحي به إلى نفسه وإلى من حوله في مناجاته الذاتية ، فقد أشرق الله في قلبه فاندفع إليه يدعوه ويستعين به ويتحدث إليه عن تطلعاته وأمانيّه الروحيّة :

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) أواجه به الأشياء والقضايا والأشخاص بالرؤية الواضحة التي تتوازن فيها المعطيات التي تحيط بالأمور ، أو تتعمق في داخلها ، فيصدر عني الحكم عليها بطريقة متوازنة سديدة ، لا تخضع للخطأ في التقدير ، ولا للخلل في فهم الموقف ، في ما يتصف به الحسّ الاجتماعي من وعي للمجتمع لما يصلحه ، ولما يفسده ، وما يختزنه العقل من عمق الحكمة ، ودقة المعرفة ، ولما تتحرك به الخطى من تركيز واستقامة. وهذا ما يطلبه المؤمن لنفسه عند ما يريد العيش بين الناس كعنصر حيّ فاعل في إدراكه للأمور وتقديره لحدودها ، وفي إصدار الأحكام عليها بشكل حاسم دقيق ، حتى لا يبقى حائرا أمام الجهل ، ومهتزا أمام العواصف ، فيكون الإنسان الذي يعرف ما يريد لنفسه ، وما يريده للناس في ميزان المسؤولية العامة والخاصة ، وهذا ما يعطيه الله للأنبياء الذين يرسلهم إلى الناس ليقودوا الحياة من خلال رسالاتهم ، التي أوحى الله بها إليهم ، وليعرفوا كيف يحركونها في وعي الناس وضمائرهم وحياتهم ، من خلال ما ألهمهم الله من الحكمة البليغة ، وما عرّفهم من نتائج التجربة الواعية.

١٢٧

(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) بتوفيقي للأخذ بأسباب الصلاح في أفكاري وأعمالي ، بأن تقودني إلى السير في طريق الصالحين ، فأقدم إليك الطاعات وأجتنب المعاصي ، حتى أكون جزءا من المسيرة الطويلة التي يخلف فيها الصالحون الصالحين ، حيث يجتمعون غدا في جنتك ، ويعيشون معا في رضوانك.

(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) ليتحدث الناس عني من موقع الصدق الذي أجسّده في حياتي رسالة ودعوة وسلوكا عمليا في خدمة الناس وإصلاح أمرهم وتوجيه حياتهم إلى ما فيه رضاك في الدنيا والآخرة ، فأكون الإنسان الذي لا تتجمد شخصيته في حياته الخاصة ، بل تكون ممتدة في حياة الناس الآخرين من بعده ، لتكون النور الذي يضيء عقولهم بما أعطاهم من معرفة شاملة واسعة.

وقد نستوحي من هذه الآية أن الأنبياء والصالحين لا يطلبون الذكر الممتد من موقع الحالة الذاتية ، حيث تتطلب النفس زهو الذات الطامحة للخلود ، بل يطلبون الذكر الخالد في خط الصدق الذي يلتزمونه في حياتهم ويدعون إليه في رسالاتهم. فلا تكون القضية قضية ذات تبحث عن اسم خالد ، بل قضية رسالة تبحث عن امتداد في ضمير الإنسان المستقبلي وحياته ، وبذلك تكون صفة الرسالة في حركة الذات هي المطلوبة لديه ، وهذا هو الذي يمثل خلود الأنبياء بخلود رسالاتهم.

(وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) الذين يمنحهم الله الحق في الإقامة فيها ليكونوا من عمّارها وسكانها والمتنعمين في نعيمها ، جزاء للعمل الصالح المنطلق في خط الإيمان.

(وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) وذلك بأن توفقه للسير في طريق الهدى ، ليكتشف ذلك بنفسه ، فيلتزم به في فكره وعمله ، فيكون ذلك سببا

١٢٨

لحصوله على مغفرتك ورضوانك. وقد كان هذا الاستغفار منطلقا من وعد إبراهيم لأبيه بذلك في قوله تعالى ، كما نقل القرآن عن إبراهيم : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) [مريم : ٤٧].

(وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) بما تخزي به عبادك الخاطئين الذين لم يلتزموا التقوى في إيمانهم وعملهم ، وذلك بأن تجعلني من المطيعين الذين إذا أخطئوا فإنهم لا يفعلون ذلك من موقع التمرد والإصرار ، بل من موقع الغفلة والنسيان ، فإذا انتبهوا عادوا إلى طاعتك. فلا توقفني ـ يا رب ـ في مواقف الخزي هناك ، عند ما يقوم الناس لك يوم القيامة (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من الكفر والضلال والعداوة والبغضاء والشر لعباد الله. فالقلب السليم يمثل ملامح الشخصية الإنسانية الإسلامية التي تختزن في داخلها الخير كله ، والنصيحة لله ولرسله ولأوليائه ولعباده. في الكافي بإسناده عن سفيان بن عيينة قال : سألته ـ ويقصد الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ـ عن قول الله عزوجل : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) قال : السليم الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه. قال : وكلّ قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط ، وإنما أرادوا الزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة (١). وفي مجمع البيان روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : هو القلب الذي سلم من حب الدنيا (٢). باعتبار أن الخير في حياة الناس تابع للدوافع الروحية للإنسان.

وهكذا تتمثل القيمة الإنسانية التي يتميز بها الإنسان في يوم القيامة ، في القلب السليم الذي ينبض بالحق والخير والصلاح ، فيتجسد خيرا وبركة ورسالة وإصلاحا للعالمين ، لأن القلب السليم لا ينتج إلا العمل الصالح والخط السليم.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٥ ، ص : ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

(٢) مجمع البيان ، م : ٤ ، ص : ٢٥٤.

١٢٩

أمّا قيم الدنيا من المال والبنين ونحوهما ، فلا قيمة لهما في ميزان الأعمال ، لأنهما لا يمثلان أيّة رابطة وثيقة بالمعنى الإنساني ، في ما هي الذات والعمل ، بل يمثلان شيئا منفصلا عنها ، فلا يتحوّلان إلى قيمة في ميزان الرضا والعمل.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) وقرّبت إليهم لينالوها من أقرب موقع من دون جهد ، فلا يكلّفون أن يبذلوا جهدا للوصول إليها ، (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) فأظهرت إليهم ليواجهوها من مكان بعيد ، ليندفعوا إليها خاشعين خشوع الذل في ساحات الضلال جزاء على ما قدّموه بين أيديهم من أسباب الغواية والبعد عن الله.

(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) فيدفعون عنكم العذاب (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) لأنفسهم عند ما يواجهون عذاب النار.

(فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ) أي ألقوا على وجوههم مرّة بعد أخرى ، وهذا معنى الكبكبة ، والضمير فيها للأصنام ـ على الظاهر ـ والغاوون هم الذين عاشوا في الغيّ بعبادتهم لهم.

جاء في الكافي عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام في قول الله عزوجل : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ) هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره (١).

(وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) وهم قرناء الشياطين من الجن والإنس (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) عند ما يواجهون الحقيقة الصعبة التي عاشوا حركة المسؤولية من خلال ما عاشوه في الدنيا من علاقاتهم الاجتماعية ، فيستذكرون في وعيهم الذاتي كيف كانوا يخضعون لبعضهم البعض في التوجيه السيئ الذي

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٥ ، ص : ٢٩٣.

١٣٠

كانوا يتحركون فيه.

(تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث أشركنا ، وانحرفنا في سلوكنا (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) فنطيعكم من حيث تريدون ، ونعصي الله من حيث تأمرون ، (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) الذين عاشت الجريمة في كيانهم فكرا وحياة وسلوكا وضلالا وإضلالا ، فلم يكن لهم إيمان يمنعهم من السير في خطوات الكفر ، ولم تكن لهم تقوى تجنّبهم التحرك في ساحات المعصية ، ولم يكن لهم انفتاح روحيّ على الله ليبعدهم ذلك عن أجواء الشيطان .. وهكذا كانوا يستفيدون من غفلة الناس عن الإيمان والتقوى والروحانية ، ليضلوهم عن سبيل الله ، وليذهبوا بهم بعيدا عن مواقع رضاه.

وجاء في الكافي عن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام قال : وقولهم : (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) إذ دعونا إلى سبيلهم ذلك قول الله عزوجل فيهم إذ جمعهم إلى النار : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ). وقوله : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) [الأعراف : ٣٨] برىء بعضهم من بعض ولعن بعضهم بعضا يريد بعضهم أن يحج بعضا رجاء الفلج فيفلتوا جميعا من عظيم ما نزل بهم وليس بأوان بلوى ولا اختبار ولا قبول معذرة ولا حين نجاة (١).

(فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) يشفعون لنا في ذنوبنا فنتخفف ـ بشفاعتهم ـ من نتائجها القاسية في عذاب النار ، كما كنا نأمل في الدنيا من شفاعة الشافعين الذين يملكون الوسائل المادية والمعنوية التي يتوسلون بها إلى تخليص أصدقائهم وأحبائهم من السجن والعقاب ، (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) ينفتح على آلامنا وحسراتنا فيخفف عنا ثقل ذلك كله بعطفه وشفقته ، (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) إلى الدنيا فنرجع إلى ما كنا فيه من فرص وظروف ملائمة ، لنصحح ما فسد منا سابقا ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٥ ص : ٢٩٣.

١٣١

ولنقوّم ما انحرفنا فيه ، ولنكمل ما نقص من إيماننا وأعمالنا ، فيستقيم لنا السبيل ، (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الذين ينالهم الله بكرامته ، ويرحمهم برحمته ، ويدخلهم في جنته.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) في ما يسمعه الناس من قصة إبراهيم ، التي توحي بمعرفة وسائل الإيمان في توحيد الله في العقيدة والعبادة ، والتي تتمثل فيها المعاناة القاسية في سبيل الله ، والحركية المتنقلة في أكثر من موقع للفكر والعمل ، فيتعرفون أفاق الحق في حركة المعرفة ، حتى إذا ما انفتحوا عليها بوعي وعمق وإخلاص ، آمنوا بكل قوّة وامتداد. ولكن الأكثرية الغارقة في أطماعها وشهواتها ، والبعيدة عن مواقع نجاتها ونجاحها ، لا تنفتح على ذلك كله ، (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) لأنهم آثروا الحياة الدنيا ولم يخافوا مقام ربهم ، ولم ينهوا النفس عن الهوى.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) فلا ينتقص من عزته أحد ، ممن يكفر أو يشرك به أو يتمرد عليه ، ولا يمنعه ذلك من رحمة من يستحق الرحمة من هؤلاء.

* * *

١٣٢

الآيات

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٢٢)

* * *

معاني المفردات

(الْأَرْذَلُونَ) : جمع أرذل ، وهم اسم تفضيل من الرذالة. والرّذالة :

١٣٣

الخسة والدناءة. ومرادهم أن متبعيه هم من ذوي الأعمال الرذيلة والخسيسة.

(الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) : السفينة الممتلئة.

* * *

حوار نوح مع قومه

ومن قبل ذلك كان نوح النبي أحد أنبياء أولي العزم ، الذي كانت له جولة طويلة مع قومه عبر الرسالة الّتي أرسله الله بها إليهم يدعوهم إلى الإيمان بالله وتوحيده ونهجه السليم وصراطه المستقيم ، ولكنهم لم يؤمنوا بذلك كله بل تمردوا عليه ، وساروا شوطا طويلا في خط المواجهة معه بكل أساليب السخرية والتمرد والعصيان في كل مواقعهم ومواقفهم.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) الذين يمثلهم هذا النبي الكريم في دعوته التي تلتقي في عناصرها الأساسية برسالاتهم. وبذلك كان تكذيبهم له تكذيبا لهم لأنهم يتفقون في دعوة التوحيد ، ولذا عدّ الله سبحانه الإيمان ببعض رسله دون بعض كفرا بالجميع ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً* أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) [النساء : ١٥٠ ـ ١٥١].

(إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) الله في ما أمركم به ونهاكم عنه في شريعته ، وتراقبونه ، وتخافون مقامه ، ليكون في وجدانكم الشعور بالمسؤولية الفكرية في كل معتقداتكم ، وبالمسؤولية العملية في عملكم. والتعبير بالأخوّة فيه بعض الإيحاء بالعمق الإنساني الذي يربط النبيّ بقومه ، لأن الأخوّة تمثل التواصل الشعوري الذي يحتضن آلام الإخوة وآمالهم ، ويتعهد حياتهم باللطف

١٣٤

والخير والصلة.

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) فقد تحملت الرسالة بمسؤولية وصدق ، وسأبقى أمينا لما تحملته من مفاهيمها وأحكامها ومناهجها ، لأن المسألة ليست هي طبيعة العلاقة الذاتية التي تربطني بكم ، بل هي عمق العلاقة الروحية التي تربطني بالله الذي أوحى بها إليّ ، وشرّفني بحملها ، ثم تربطني بكم من خلال الارتباط بالله ، (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) في ما أبلغكم من رسالته ، وأقودكم إليه من السير على الصراط المستقيم الذي يبدأ من الله وينتهي إليه. وإذا كنتم قد تعوّدتم ـ في بعض تجاربكم ـ على الأشخاص الذين يتخذون الدعوة وسيلة إلى تحصيل الربح المادي ، فإني لست من هؤلاء ، لأنني حامل رسالة ولست طالب مال.

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) الذي أرجو رحمته ، وأتطلع إلى لطفه ورضاه ، وأطمع بالنعيم في جنته في دار قدسه. (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) إنها الدعوة الدائمة التي تتكرر وتمتد في وجدانكم لتهزّ أعماقكم ومشاعركم ، وتوجّه حياتكم إلى الالتزام والانضباط في خط المسؤولية في رحاب الله.

(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ) في دعوتك لنا ، لنكون معك ، (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) وأنت لا تملك جمهورا مميزا من الطبقة العالية في المجتمع من أصحاب السلطة والمال والنفوذ ، بل كل ما لديك هم هؤلاء السفلة الأراذل الذين يتميزون بالخسّة والدناءة ، فكيف تريدنا أن نتبعك وليس معك أحد من طبقتنا ، فكيف نقبل أن ندخلهم في مجتمعنا من خلالك ، أو ندخل ـ نحن ـ في مجتمعهم ، لحسابك؟

(قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) فلست مسئولا عن أعمالهم التي تنسبونها إليهم من رذالة ودناءة ، لأن مهمتي هي الدعوة إلى الله ، الذي كلفني بدعوتهم

١٣٥

إلى ذلك كما كلفني بدعوتكم ، لأن الجميع عباد الله الذين فرض عليهم الإيمان به وبرسله والإطاعة له في أوامره ، فلا أملك أن أطردهم من ساحة الإيمان العملية المحيطة بي ، ولا أملك حسابهم على ما يعملونه من موقع ذاتيّ ، لأفتح التحقيق حول ما تتحدثون به عنهم.

(إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) بالمعنى العميق لحركة المسؤولية في حياة الناس ، فالرسالة رسالة الله ، والخلق عباد الله ، فهو الذي يتولى حسابهم ، في ما كلفهم فيه من مواقع طاعته.

(وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) الذين آمنوا بالله وانفتحوا على الحق في مواقع الرسالة ، (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) جئت لأنذر الجميع وأخوّفهم عقاب الله بكل وضوح وأمانة. وهذا كل شيء لديّ ، فلا تكثروا الكلام في ذلك ، ولا تفكروا بأن من الممكن أن أستجيب لكم في كل ما تطرحونه من مشاريع.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) فقد تمرّدت على تقاليدنا وعقائدنا وأوضاعنا ، وجئت بطريقة جديدة في العقيدة والعبادة والشريعة ، بما لا ينسجم مع تاريخنا ومجتمعنا ، فإذا لم ترجع إلى ما ندعوك إليه من الآن ، فسنرجمك بالحجارة وتكون من الهالكين.

وهكذا لم يجدوا الكلمة المعبّرة عن الفكرة المتزنة ، والحجة القوية ، التي يجابهون بها فكرته وحجّته ، كما هو شأن الضعفاء في الفكر ، الأقوياء بالمال والرجال والسلاح ، فيضغطون من خلال القوّة الغاشمة ، لا من خلال الحجة البالغة. وبذلك أغلقوا باب الحوار ، ولم يبق هناك مجال لحديث دعوة أو كلمة هداية ، بعد أن استنفدت كل أساليب الدعوة ، وكل كلمات الهداية.

(قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) وأغلقوا كل الأبواب عليّ ، فلا أجد أية ثغرة في الموقف مما يمكن أن أنفذ منه إلى عقولهم وقلوبهم ومواقعهم ، (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) يفصل بيننا ، ويحسم الأمر كله ، ليعرفوا النتائج العملية الصعبة

١٣٦

التي يواجهونها في موقع الكفر والتمرّد ، على أساس إنذارك لهم بالعذاب إذا كفروا وتمردوا ، (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) مما تنزله عليهم من العذاب ، واجعلني بمنأى عن ذلك كله.

(فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) المملوء منهم ومن كل زوجين اثنين مما حدثنا الله عنه في سورة هود ، (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) الذين كفروا بالله ، وتمردوا على رسله ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

* * *

١٣٧

الآيات

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٤٠)

* * *

معاني المفردات

(رِيعٍ) : بكسر الراء وفتحها : المكان المرتفع ، وأيضا الطريق المنفرج ، ويطلق الرّيع بالفتح على نحو الزّرع.

(مَصانِعَ) : المراد بالمصانع هنا : القصور التي لا خير فيها.

١٣٨

(بَطَشْتُمْ) : البطش : العسف قتلا بالسيف ، وضربا بالسّوط ، وهو في صفته تعالى مدح ، وفي صفة العبد ذمّ.

* * *

هود مع قومه عاد

وهذه قصة نبي آخر من الأنبياء ، قصة هود الذي أرسله الله إلى قومه عاد وهم من العرب العاربة الأولى الذين كانوا يسكنون الأحقاف من جزيرة العرب ولهم مدينة راقية وأراض خصبة وديار معمورة ، فطغوا وبغوا وتجبّروا وكذبوا الرسل ، فأهلكهم الله بالريح العقيم وخرب ديارهم وعفّى آثارهم.

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) إنه المنطق نفسه الذي جاء به نوح لقومه في الدعوة إلى الإيمان من موقع التقوى الذي يقود الإنسان إلى التفكير في كل ما يعرض عليه من أفكار وآراء ، ولا بد له من أن يخاف الابتعاد عن الحق إذا أنكرها من خلال الإهمال واللّامبالاة والهروب من مواجهتها بالفكر الواعي المسؤول ، فيقع في النتائج الصعبة التي يواجهها كل من أنكر الحق والتزم الباطل ، بإرادة أو بإهمال ، ثم الإعلان عن الرسالة الأمينة من خلال أمانة الرسول ، والدعوة ـ بعد ذلك ـ إلى التقوى في حركة الإيمان وفي حركة الطاعة في ما يمثله ذلك من التزام بربوبية الله لعباده ، وقيادة الرسول للأمة ، والإعلان عن رفض الأجر المادي الذي قد يفكرون بأنه هاجس الرسول في دعوته ، لأن الرسل لا يطلبون الأجر إلا من الله وحده.

وهكذا نستوحي وحدة التوجّه الرسالي لدى الأنبياء في خط الدعوة إلى الله ، ووحدة الأجواء التي كانت تهيمن على أممهم ، مما لا يدفع إلى تغيير التفاصيل في الطروحات العامة إلا بمقدار ضئيل.

١٣٩

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ) حيث كانوا يقومون بالبناء على رؤوس الجبال ، (آيَةً تَعْبَثُونَ) لأن ذلك لم يكن عن هدف معقول ، وحاجة ملحّة ، بل كانت المسألة استعراضا ولهوا واتباعا للمزاج الذاتي الذي يبحث عن الزهو في الشكل دلالة على الرفعة والقوّة ، مما يجعل من القضية قضية عبث يمارسونه في ما يبنونه ، وليست قضية حاجة في ما يحتاجونه ، (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) وهي ـ كما قيل ـ الحصون المنيعة والقصور المشيّدة والأبنية العالية التي تمثل الثبات والدوام لقوتها وصلابتها وامتناعها عن الاهتزاز والخلل والسقوط (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) إذ يخيّل إليكم أن خلود البناء وتمرّده عن السقوط ، يؤدّي إلى خلود الإنسان الذي يقيم فيه ، أو أن خلوده يوحي بامتداد الذكر الخالد في التاريخ أو ما أشبه ذلك.

(وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) في استعراض القوّة الجسدية والماديّة ، والطغيان في استعمال وسائلها بالتعسف والقسوة والظلم للناس من خلال العقلية المتجبّرة المتحركة في مواقع الاستعلاء الذاتي على الناس ، تماما كما هم الجبارون الذين لا يعيشون إنسانية الإنسان في حياتهم ، بل يتقمصون شخصية الوحش في واقعهم ، فإذا بطشتم بالناس الذين هم أضعف منكم فإنكم تبطشون بطش الجبارين الذين يبغون في الأرض بغير الحق ، فيستغلّون قوتهم لإضعاف الآخرين لا لمجرد الدفاع عن أنفسهم ، ولا يتوقفون عند حدّ معين ، بل يتجاوزون كل الحدود المعقولة التي يتبعها الناس في أمثال ذلك.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) وراقبوه في كل أموركم ، فإذا كنتم أقوياء ، فإن الله هو الأقوى ، وإذا كانت النعم المتوافرة لديكم هي الأساس في سلوككم المنحرف لأنها توحي لكم بالعلوّ والرفعة ، فإن الله هو الذي أعطاكم ذلك كله ، وهو القادر أن يسلبكم كل ذلك ، (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ* أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ* وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) مما تأكلون منه وتشربون وتستمتعون به من حاجات الحياة الذاتية في المال والبنين والشهوات الحسية. فكّروا جيدا بوعي التقوى أن

١٤٠