تفسير من وحي القرآن - ج ١٧

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٠

الآيات

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) (٤٨)

* * *

معاني المفردات

(الْقُرُونَ) : جمع قرن ، والمراد به أهل عصر من العصور ، فإذا

٣٠١

انقضى أكثرهم قيل : انقضى القرن.

(فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) : أي طال عليهم الأمد الذي بينهم وبين القرون الماضية.

(ثاوِياً) : مقيما.

* * *

الله يعطي موسى كتاب الهداية

وبدأ موسى دورا جديدا في إثارة وعي الرسالة في عقول قومه المستضعفين الذين حرّرهم من استعباد فرعون لهم ، وأنقذهم من طغيانه ، ليبدأوا حياة إنسانية حرة وعادلة ، وكان لا بد للحركة الجديدة في خط النبوة من كتاب يحدّد للناس مفاهيم الحق والباطل ، والخير والشرّ ، والظلم والعدل ، ويفصّل لهم ما يفعلون وما يتركون ، مما يأمر به الله مما يصلحهم ، ومما ينهى الله عنه مما يفسد حياتهم ، وهكذا كان الأمر (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) التي سبقت زمنه ، كقوم نوح وإبراهيم وغيرهم في فترة زمنية لم يكن للناس فيها عهد بالرسالات والرسل ، فكان هذا الكتاب الذي أنزل على موسى عليه‌السلام (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) يبصر الناس الحق في مفهومه الكلي ، وفي جزئياته العملية ، (وَهُدىً) في ما يهديهم إليه من سبل الخير لئلا يضلوا عنه في سبل الشرّ ، (وَرَحْمَةً) في ما يحلّ لهم من مشاكل الحياة الصعبة في قضاياهم المتنوعة ، مما كانوا يعانون منه من متاعب وآلام ، في تحديات الواقع ، وفي ما يخطط لهم من مناهج وشرائع.

(لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) في ما تثيره آياته في عمق شخصياتهم من أفكار ومشاعر ، وما تفتحه لهم من آفاق ومشاريع ، فتنقذهم من الغفلة المطبقة عليهم.

٣٠٢

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) عند ما أنزلنا عليه في الوادي الغربي ، أو الجبل الغربي ، التوراة التي جعلت من النبوّة حركة في تنظيم الحياة من حوله ، بعد أن كانت مجرد عقيدة في الفكر (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) عليه ، (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) وامتد التاريخ من بعده حتى كاد الناس أن ينسوا ذلك الخط في مضمونه وقصته (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) لتعرف كيف عاش موسى بينهم مدة طويلة (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) لك إلى قومك لتقص عليهم ذلك ، ليعتبروا به.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) موسى لنبلّغه الرسالة التي يحملها إلى فرعون وقومه وليمتد بها ـ بعد ذلك ـ إلى الناس كافة (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أنزلها عليك ، بما عرّفك من قصته ، في ما أنزله من آياته (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) في المجتمع الذي عشت فيه ، وفي ما حوله من هؤلاء الذين ابتعدت عنهم الرسالات ، لبعد الزمن الذي انطلقت فيه عنهم (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) في ما ينطلقون به ـ من خلالها ـ من وعي وفكر وإيمان.

وهكذا تؤكد هذه الآيات في الحديث مع النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ما أنزله الله عليه من قصة موسى ، هو الوحي المبين الذي لا ريب فيه ، ليكون ذلك أساسا للإيمان في قومه من خلال الحق الذي يتحرك في الفكر والشعور ، لأن النبي إذا لم يكن شاهدا على ذلك التاريخ كله شهادة حضور ، فلا مجال لديه للمعرفة به إلا من خلال الوحي ، لأن كثيرا من التفاصيل الموجودة فيه لم تذكر في أيّ مصدر من المصادر الأخرى عند الناس.

وربما كانت هذه التأكيدات منطلقة من اللغط الذي كانت تثيره قريش حول الرسول ، عند ما يحدثهم عن قصص موسى عليه‌السلام لتثير الشك فيه.

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) جزاء أعمالهم وتمردهم

٣٠٣

على الرسول والرسالة ، (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فيكون ذلك حجة منهم على الله في ما يتساءلون به : كيف ينزل الله عليهم العذاب على ضلالهم قبل أن يقيم عليهم الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب؟ ولهذا أرسل الله إليهم الرسول ليواجهوا الموقف من خلال المسؤولية المباشرة للإيمان (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) مما أنزله الله من آيات القرآن على رسوله (قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) من المعجزة الخارقة للعادة أو من التوراة ، وهذا هو المنطق الذي أرادوا به من أن يهربوا من التفكير بالآيات في مضمونها ووحيها الروحي والفكري ومنهجها العملي ، ليطلقوا الكلمة التي تربك الجوّ العام للرسالة من دون أن يدركوا معناها. فإن الذين يطلبون أن يؤتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمثل ما أوتي موسى عليه‌السلام ، لا بد من أن يكونوا مؤمنين بما أنزل على موسى ، ولكنهم ليسوا كذلك (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) فلم ينطلقوا في حياتهم الفكرية والعملية من موقع التوراة ، لأنهم يلتزمون الشرك كمنهج للفكر وللعمل (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا) سحر التوراة وسحر القرآن ليدعم بعضهما البعض (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) فلا نؤمن بهذا ولا بذاك.

* * *

٣٠٤

الآيات

(قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (٥٥)

* * *

معاني المفردات

(وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) : بيّناه آية بعد آية.

(مُسْلِمِينَ) : منقادين.

(وَيَدْرَؤُنَ) : يدفعون.

٣٠٥

(اللَّغْوَ) : ما لا فائدة فيه.

(لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) : لا نخالطهم.

* * *

اتّباع الهوى

لقد كانوا يتكلمون ويعارضون من موقع اللّاحجة ، ولهذا كان الأسلوب الأمثل في مواجهتهم هو أن يطلق التحدي في وجوههم ليقفوا في موقف الحيرة التي تمثل حالة من الضعف الذي يجعلهم حائرين مذهولين ، (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ) إن الذي يكفر بكلا الكتابين ، لا بد من أن يكون منطلقا من وجهة نظر في معرفة عناصر الهدى في الفكر والمنهج والعمل ، من خلال موازين الحق والباطل ، فإذا كان رفضكم لكلّ منهما على أساس أن أيّا منهما لا يمثّل الحق ، فلا بد من أن يكون الحق في غيرهما ، لأن الله لا يمكن أن يترك الساحة فراغا من الحق. وهنا يفرض السؤال نفسه : أين الكتاب الآخر النازل من عند الله ، في ما ينزل على عباده من الحق حتى نتبعه إذا ثبت لديكم أنه الأفضل والأهدى؟! (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم ، وفي منطقكم المثير ، (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) لأنهم لا يملكون الحجة على ما أنكروه ، ولا يملكون المنطق في الاستجابة لما تطرحه عليهم ، (فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) لأن الذي يتبع العقل لا بد من أن يتحرك في منطقه ، من موازينه الدقيقة ، أمّا الذي يتبع الهوى ، فهو الذي يتحرك من انفعالاته الذاتية الشهوانية ، وهذا الذي يضعهم في مواضع الضلال.

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) لأنه لا يجد قاعدة يقف عليها ، ولا ملجأ يلجأ إليه ، ولا نهاية ينتهي إليها ، في نهاية الطريق ، بل يبقى

٣٠٦

في حالة ارتباك واضطراب ، لأن هدى الله وحده هو الذي يثبّت الأقدام وهو الذي يركّز الخط الصحيح في الاتجاه السليم ، وبدونه يقع الإنسان في قبضة الضلال الذي يظلم به نفسه ، كما يظلم به غيره ، (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأنهم أغلقوا على عقولهم أبواب الهداية ، ورفضوا الوحي القادم من الله الذي يهديهم إلى سواء السبيل ، وبذلك كانوا رافضين للهدى النازل عليهم من الله.

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) أي أنزلنا عليهم القرآن ـ وهو القول الإلهي ـ موصولا بعضه ببعض ، متتابعا لا انقطاع فيه ، في تواصل زمنيّ فكريّ بين الآية والآية ، وبين السورة والسورة ، في مضمون فكريّ روحيّ ينفذ إلى عمق العقل والحسّ والحياة ، ويخاطب كل اهتماماتهم الفردية والاجتماعية ، في ما يحبونه ويكرهونه ويحذرونه من مستوى حاضرهم ومستقبلهم ، (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فلا يندفعون في عمل لا يعرفون صلاحه ، ولا ينطقون بكلمة لا يعرفون صدقها ، أو ينطلقون في علاقة لا يعرفون شرعيّتها على أساس من غفلتهم عن ذلك كله. فإن مشكلة الانحراف الإنساني في كثير من مظاهره ، هي مشكلة الغفلة التي تحجب وضوح الرؤية في كثير من الأشياء ، مما يؤدّي إلى الاستغراق في الشهوات والنوازع الذاتية ، من دون التفات إلى النتائج السلبية المترتبة عليها على صعيد قضايا الدنيا والآخرة.

ولذلك كان الاهتمام القرآني باللمسات الروحية والفكرية التي تلامس العقل والروح والشعور ، لتفتحها على الله من أوسع الآفاق. ولكن بعض الناس لا يواجهون القرآن بالاهتمام الجدّي ، بل يواجهونه باللامبالاة في قراءته ، وفي تدبّر معانيه ، وفي استلهام وحيه في قضايا الحياة كلها ، فيكفرون به ، وبحقائق العقيدة والشريعة فيه ، بينما نجد بعض الناس يؤمنون به من موقع الوعي المنفتح على كل كلمات الحقيقة فيه ـ وكلّ كلماته حقيقة ـ ، كما نجد ذلك في بعض مؤمني أهل الكتاب الذين لم يرتبطوا بالكتاب من موقع الانتماء القائم

٣٠٧

على العصبية ، بل من موقع الإيمان القائم على الاقتناع بالمضمون الروحي بالوحي النازل من الله ، وعلى الالتزام العملي به في حياتهم الخاصة والعامة ، مما يجعلهم ينطلقون بشخصية أخلاقية متينة لا تهتز للانفعالات الطارئة ، بل تثبت للحقائق الثابتة ، فإذا رأوا داعية للحق ونذيرا بالوحي ، أقبلوا عليه ، ليستمعوا إليه بكل قلوبهم ، ليعرفوا طبيعة الصدق لديه ، ليتبعوه ، وليؤمنوا به. وهذا ما يريده الله للناس كلهم في مسألة الإيمان بالرسالات وبالرسل. وهذا ما أشار إليه كنموذج حيّ في هذه الآية (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) لأنهم يعرفون صدقه من مقارنته بما يعرفونه من الكتاب ، فيؤمنون به عن معرفة عميقة به. وقد يكون المقصود به بعض نماذجهم ، وقد يكون المقصود به ، كل أهل الكتاب ، الذين يملكون علمه ، كما ذكره بعض المفسرين ، ولكن الأقرب هو الاحتمال الأول ، لأن الواقع خلاف ذلك ، باعتبار أن الكثيرين منهم قد كفروا به ، وعاندوا الرسول.

(وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) من خلال وضوحه في عقولهم ، في ما فكّروا به وناقشوه مع العالمين به. ويتابعون قولهم : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) لأننا نعرف حقائق الدعوة فيه ، في ما نعرفه من تعاليم الأنبياء في الكتب المنزلة من قبله ، وما تتضمنه من ملامح النبي القادم في آخر الزمان ، مما يجعلنا نتطلع إلى ملامحه في الواقع ، في ما عرفناه منها في الكتاب.

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) لأنهم آمنوا ، قبل أن ينزل عليهم وحي القرآن ، بما أنزله الله من الكتاب على موسى عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام ، ثم آمنوا بما أنزله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصبروا على مشاكل التحدي أوّلا ، وثانيا.

(وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) فيدفعون الكلمة الخبيثة بالكلمة الطيبة ،

٣٠٨

والأسلوب القاسي بالأسلوب اللّيّن ، ويواجهون الخلق السيّئ المتحرك في دائرة الجهل ، بالخلق الحسن المتحرك في دائرة العلم ، لأنهم ينطلقون من منطق الواقع الذي يوحي بأن الدخول في المشاحنات الكلامية ، وفي ردود الفعل العملية ، على أساس العصبية والانفعال ، لا يؤدي ـ غالبا ـ إلى النتائج الإيجابية في إيمان الكافرين وفي إقناع المتمردين وفي انفتاح المتعصبين ، بل يزيد الكافر كفرا ، والمتمرد تمردا ، والمتعصب تعصبا ، ويثير المشاعر في أجواء العداوة والبغضاء ، مما يمكن أن يدفعه الإنسان ، بكلمة حلوة ، وابتسامة مشرقة ، وبأسلوب متوازن محبّب (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فهم ينفقون مما أنعم الله عليهم ، لأنّ ما يملكونه هو لله تعالى (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) لأنه لا يحقّق شيئا للكمال الإنساني في فكره وعمله ، بل يندفع بالكلام الباطل الذي لا جدوى منه ولا نفع فيه ، مما تعارف عليه الناس في أوقات فراغهم من لغو القول ، أو في ما يثيرونه في خلافاتهم من سقط الكلام من الهذر والسب والفحش وخشونة القول ، مما يدخل معه الإنسان في متاهات روحية واجتماعية. ولذا يبادر هؤلاء المؤمنون ، إلى مجابهة اللّاغين الذين يريدون أن يجروهم إلى معركة كلامية أو إلى مشادّة ذاتية ، بإغلاق الملف كله ، بالإعراض عن كل ما سمعوه من اللغو الباطل.

(وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) فليتحمل كل واحد منا مسئولية عمله ، وليرض بنتائجه الإيجابية والسلبية ، فلن يحاسب أحد منا على عمل الآخر ، إلا إذا قصّر في هدايته ، مع تمكنه من ذلك ، ولنترك الحديث الدائر بيننا إذا كان يؤدي إلى مشاجرة ومباغضة ، من دون فائدة أو حاجة إليه.

* * *

٣٠٩

الافتراق على سلام

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ) وتلك هي التحية المفتوحة على العلاقة الإنسانية ، التي يبسط فيها الإنسان الأمن من جانبه للإنسان الآخر ، فيصدقه القول ، بأنه سيمارس معه علاقة السلام ، فلا يعتدي عليه في أيّ شيء مما يحترمه الناس في حياتهم الخاصة من نفس أو مال أو عرض .. ، وهذا هو أبلغ الأساليب في إنهاء العلاقة ، بالافتراق على كلمة السلام التي تجعل كل واحد آمنا على حياته عند ما ينفصل عن اللقاء بالآخر ، فلا يحمل همّا لعدوان مقبل ، ولا يفكر بنوازع البغضاء. ولذلك جعلها الإسلام ، التحية التي تبدأ العلاقة بروح السلام ، وتنهي الموقف المعقّد بروحيته أيضا ، (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) ولا نريد أن نعقد بينهم علاقة صداقة ، أو باب معاشرة ، بل نريد أن نبتعد عنهم حتى لا نستغرق في جهلهم ، فنكون مثلهم ، وذلك هو الخلق العظيم.

* * *

٣١٠

الآية

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٥٦)

* * *

إنك لا تهدي من أحببت

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) لأن مسألة الهدى تتصل بالفكر والقلب والشعور ، وليس لك سلطة على ذلك ، فأنت لا تملك منها ، إلا الكلمة التي تلقيها ، والأسلوب الذي تحركه ، والوجه الذي تطلقه بالبشر ، والجوّ الذي تحيط به الناس الذين تريد هدايتهم بالعطف والحنان. ولكن ذلك قد يصطدم بالكثير من النوازع الذاتية في ما تتحرك به الشهوات وفي ما تثيره المطامع ، وبالكثير من الضغوط الخارجية ، في ما تعقده العلاقات العاطفية ، في ارتباط الإنسان بأفراد المجتمع من أصدقاء ، وأقرباء ، وأصحاب مصالح ، وغير ذلك ، ممّا يضغط على فكره وحياته ، أو في ما تثيره الأجواء المتحركة من حوله ، ممّا ينظره ، أو يسمعه ، أو يلمسه ، أو يشمّه ، أو يذوقه .. ، فيتغير تفكيره ، وتتبدل قناعاته من خلال ذلك بين لحظة وأخرى ، لأن النفس الإنسانية لا تخضع لترتيب هندسيّ في انفعالاتها أو معتقداتها ، فقد تحصل لها القناعة بالفكرة من لمسة عاطفية ، بما لا تحصل مثلها من معادلة فكرية.

٣١١

ولهذا فقد كان أمر الهداية القلبية ، بإفاضة الإيمان على القلب ، راجعا إلى الله الذي يهيمن على الإنسان بكل كيانه ويسيطر على أسباب الهداية في الداخل والخارج بكل قدرته (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فلا تتعقّد من كفر من كفر ، وضلال من ضلّ ، وانحراف من انحرف ، ولا تحزن من ذلك ، ولا تعتبر أن ذلك يعني فشلا في المهمّة الموكولة إليك ، فقد قمت بأداء رسالتك خير قيام ، ولم يكن ما حدث منهم ناشئا عن تقصير منك ، بل عن عوامل أخرى في داخل التكوين الذاتي لشخصيتهم ، مما تنفعل به وتنطلق معه ، مما يعلمه الله ولا تعلمه أنت ، فهو القادر على الهداية (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) من خلال ما يطّلع عليه من خفايا النفوس ، وغوامض الأسباب.

أمّا الحديث عن كيفية هداية الله للمهتدين الذين يشاء هدايتهم ، فهو من الأحاديث التي لم تأت الآية لتثيرها ، لأن الاتجاه فيها ، هو تأكيد العمق الذي تنطلق منه الهداية مما لا يملك الأنبياء والدعاة إلى الله إلا القليل منه. وتبقى للآيات القرآنية الأخرى أن تتحدث عن عنصر الاختيار الإنساني الذي يلتقي باللطف الإلهي الذي يفيض لطفه على الإنسان الذي يريد بالإيمان ويسعى إليه ، ليكون الإيمان من الله ، في ما هو اللطف منه والأسباب من تدبيره ، وليكون من الإنسان من خلال الفكر والإرادة ، والحركة النابعة من كيانه الذاتي.

وقد تحدثت بعض الروايات عن سبب نزول هذه الآية ، كما رواه في الدر المنثور عن أبي هريرة قال : لما حضرت وفاة أبي طالب ، أتاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا عماه قل : أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد لك بها عند الله يوم القيامة ، فقال : لو لا أن تعيّرني قريش يقولون : ما حمله عليها إلا جزعه من الموت لأقررت بها عليك ، فأنزل الله عليه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ...) (١).

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٦ ، ص ٤٢٨.

٣١٢

وقد نلاحظ على ذلك :

أولا : لم يسند ذلك عن رسول الله ، ولا عن أحد من الصحابة الموثوقين الذين عاصروا القضية المذكورة ، فلعله سمعها من شخص غير موثوق ، هذا مع التحفظ الذي نسجله على شخصية أبي هريرة ، التي اختلف الرأي في توثيقها وعدم توثيقها. ونحن نميل إلى الرأي السلبي ، ونحتمل أن يكون الحديث من موضوعاته ، لا سيّما أنه يمسّ الإمام عليعليه‌السلام ، مما قد يغلب الظن فيه ، أنه كان يتحرك في دائرة الصراع بين علي ومعاوية ، كما قيل : إن معاوية أراد من بعض الرواية أن يضعوا أحاديث تنتقص من علي وأهل بيته.

ثانيا : إن الحديث يبعث على التساؤل ، فكلام أبي طالب يدل على أن مسألة الإيمان بالوحدانية كانت واردة عنده ، من حيث المبدأ ، والحديث يوحي في أن المانع منه خوف التعيير ، فكيف يخاف من ذلك ، ولا يخاف من عذاب الله ، في الوقت الذي يعرف أنه صائر إليه ، وأن التعيير لا يضره شيئا؟

ثالثا : إن دراستنا لتأريخ أبي طالب في ملامح شخصيته القوية التي كان الآخرون يخافونها ويحترمونها ، تجعلنا نقتنع بأنه ليس بهذا المستوى من ضعف الشخصية التي تجعله يترك إيمانه الذي يمثل عمق مصيره ، كما يمثل عمق عاطفته تجاه النبي وموقع شرفه العائلي ـ لو كان للقضية بعد ذاتي ـ لمجرد الخوف من تعيير قريش إيّاه بعد الموت.

رابعا : إن دراسة علاقته بحركة الإسلام في ساحة الصراع بين النبي وبين قريش ، تؤكد لنا أنه كان مسلما بدرجة عالية ، من خلال ما نستكشفه من كلامه وطريقته في إدارة المسألة.

خامسا : إن أجزاء الآية التي سبقت هذه الآية ، تدل على أن القضية المثارة هي قضية إيمان قومه الذين كانوا يواجهونه بالأساليب المتنوعة من

٣١٣

خلال الكفر ، بحيث تكون جزءا من هذا الفصل من السورة ، مما تريد تأكيده من حدود الدور النبوي في مسألة الإيمان ، بعيدا عما يحبه وعما لا يحبه في الساحة ، والله العالم.

* * *

٣١٤

الآيات

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (٦١)

* * *

معاني المفردات

(نُتَخَطَّفْ) : من التخطف ، وهو أخذ الشيء على وجه الاستيلاء.

(بَطِرَتْ) : البطر : الطغيان عند النعمة.

٣١٥

(أُمِّها) : المراد بأمها هنا : أكبرها أو عاصمتها.

(الْمُحْضَرِينَ) : المحشورين للحساب والجزاء عند الله.

* * *

قريش تبرّر كفرها بالخوف على موقعها من العرب

إنهم يفكرون الآن في مواقعهم ، كموقع اقتصاديّ يحافظون على قوّته ، وكموقع سياسيّ يعملون على الحفاظ على سلامته ، وهذا ما يناقشه القرآن في هذا الفصل.

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) هذه هي الحجة التي خرجوا بها بعد أن أبطل القرآن في آياته ، والنبي في أحاديثه ، كل ما قدموه من حجج مضادة في مسألة العقيدة ، فها هم الآن يتحدثون عن موقعهم الثابت كقوّة كبيرة مهيمنة على الواقع كله ، وعلى الناس كلهم ، في ما حولهم من المناطق ، وفيمن حولهم من العرب ، وذلك من خلال قيادتهم لخط الشرك ، وإشرافهم على القيم المنحرفة التي تتحكم بالذهنية العامة للناس بالإضافة إلى الكعبة التي تكرّست كموقع توحيدي من لدن إبراهيم ، ولكنها تحوّلت كمركز للأصنام في دائرة الجاهلية ، وذلك في مزج غامض بين الإيمان بالله الذي تمثله الكعبة ، وبين الشرك به ، الذي تمثله الأصنام. وقد استطاعوا أن يستفيدوا من ذلك موقعا اقتصاديا متقدما ، وموقعا ثقافيا بارزا ، فكانوا سادة العرب ، وأشراف المنطقة.

إنهم حرّاس القيم العربية المنحرفة المتخبّطة في أجواء الشرك والجاهلية ، ولأن كل امتيازاتهم تقوم على هذا الدور ، فقد كانوا يراجعون حساباتهم المادية قبل أن يفكروا بالدخول في الإسلام ، لأنهم بذلك سوف

٣١٦

يفقدون كل دور مميّز ، لأن الدين سيكون لله ، وستكون الحياة كلها في خدمة القيم التي أوحى بها الله ، وستتحرك قيم جديدة لا مجال فيها للباحثين عن ذواتهم في حركة الواقع ، لأن الذات سوف تكون في دائرة الإيمان في خدمة الله والحياة لتؤكد وجودها لدى الله ، بقدر ذوبانها في خدمة عباده في ساحة رسالاته.

ولكنهم كانوا يريدون التعبير عما في داخلهم بطريقة أخرى ، فهم يحتجون بالخوف من التشريد والابتعاد عن أرضهم عند ما يهجم عليهم الناس انتقاما منهم ، لأنهم تركوا الشرك واتبعوا التوحيد وتحوّلوا من دائرة الضلال إلى رحاب الهدى.

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) فلا يبقى منا أحد فيها ، ولا يبقى لنا شيء منها ، عند ما تهجم علينا العرب من كل جانب فتقتلنا وتنهب أموالنا ، لأننا سوف نواجههم معك عند ما تنشب الحرب بينك وبينهم ، فنكون في موقع الضعف ، ويكونون في موقع القوّة. وهذا ما يمنعنا من الدخول في دينك ، لأننا لا نتحمل النتائج الصعبة المترتبة على ذلك ، ولكن ، هل هم جادّون في ذلك؟ وهل أن العرب ستقف هذا الموقف لو دخلت قريش في الإسلام؟ أو أن المسألة ستتطور لمصلحة الإسلام ، باعتبار التأثير الكبير لقريش على القرار العربي ـ آنذاك ـ لما تمثله من موقع متقدم في مصالح الناس هناك؟

إن منطقهم هو منطق التهرب من المسؤولية ، لأنهم يعرفون أنهم يملكون أكثر من موقع قوّة في المنطقة المحيطة بهم ، وأن العرب سوف تدخل في الإسلام إذا سارت قريش معه. فإن أكثر الحروب التي خاضها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت بتدبير قريش وتآمرها على الإسلام والمسلمين ، وإذا كان النبي قد انتصر على العرب بدون قريش ، فكيف إذا كانت معه؟!

* * *

٣١٧

القرآن يردّ عليهم بمنطق الإيمان والواقع

ولكن الله يرد عليهم بطريقة أخرى ، ليوجّه تفكيرهم إلى جانب الثقة به ، فهو الذي أعطاهم من فضله الكثير ، وسهّل لهم العسير من أمورهم ، وهو القادر على حمايتهم كما هو القادر على حماية دينه ، فلا بد لهم من أن يتجهوا في اتجاه الثقة به في تركيز مستقبلهم على أساس قويّ ، فهو الأساس للقوة والأمن والثروة والجاه الكبير.

وإذا كان الإيمان هو الحقيقة الأصلية ، كما يعترفون به بمنطقهم التبريري ، فما قيمة الدنيا أمام عمق الحركة الإيمانية التي تربطهم بالله من أقوى المواقع وأوسع الأبواب؟ ففيه الخير كل الخير ، والطمأنينة كل الطمأنينة ، والحياة كل الحياة ، فأين يذهبون بعيدا عنه ، وكيف يهربون منه إلى من دونه؟

(أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) فمن الذي جعل لهم هذا البلد الحرام الذي يشعر أهله بالأمن من خلال احترام الناس لهم ، في ما تعبدهم به من الحج إلى بيته المحرّم ، فهل حققوا لأنفسهم ذلك الموقع ، ولبلدهم ذلك المستوى ، أو أن الله هو الذي حقق لهم ذلك؟ فكيف يخافون الضياع إذا ساروا مع الله؟ (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) مما يجلبه الناس من أرزاقهم وأرباحهم وزروعهم وصناعاتهم ، (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) مما سهّل الله لهم أمره ، ويسر لهم مصادره وموارده ، فهو الرزاق لعباده ، بأسبابه ، وهو اللطيف بهم في رحمته ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ولا يلتفتون إلى عمق التدبير الإلهيّ في امتداد حياة الإنسان ، فيحسبون أن الأسباب الظاهرة المتحركة في سطح الواقع هي كل شيء ، ويشتبه عليهم الأمر في ما يألفونه من ذلك ، فيخيّل إليهم أن الشرك

٣١٨

وعبادة الأصنام هما السبب في النعم التي يتقلبون فيها ، ويخافون أن تزول عنهم عند ما يتحولون إلى عبادة الله وحده ، انطلاقا من الجهل الكامن في شخصيتهم على أساس التخلّف الروحي والعقلي الذي يطبق عليهم من كل جانب.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) فاتخذت الترف قيمة اجتماعية ، يتفاضل الناس بها ، وتحركت في ألوان البطر كأسلوب من أساليب انتفاخ الشخصية بين أفرادها ، وامتد الأمر بهم حتى خيّل إليهم أن الحياة قد استسلمت لهم بكل لذائذها وشهواتها ، وأنها باقية لهم في ما يستقبلونه من الزمن في رحاب الخلود ، في غفلة من وعي القلب والفكر لحقائق الحياة والإيمان ، فما ذا حدث لهم؟

(فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) فقد تركوها جميعا ، وسيطر عليها الخراب والدمار ، ولم تتماسك من بعدهم إلا زمانا قليلا ، ثم تساقطت على عروشها ، وأحاط بها الموت من كل مكان.

(وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) الذين نرث الأرض وما عليها ، لأننا المالكون للحياة ولمن يتحرك فيها ، وكل الخلق مملوكون لنا ، ونحن الباقون ، والآخرون من عبادنا يسقطون تباعا في امتداد الموت في أجسادهم ومساكنهم ، وكل ما يتعلق بعلاقتهم في الدنيا ، ونحن الذين نرث الكون كله ، فلا يبقى إلا الله. وإذا كانت القضية هي هذه النهاية ، فما هي القيمة في كل هذا البطر الذي تتقلبون فيه ، وهذه النعم المادية التي تستغرقون في لذائذها وشهواتها؟ وما هو جانب الخلود فيها؟ فإذا لم تبق القرى التي طغت في معيشتها في أجواء البطر ، فهل يبقى لكم ما أنتم فيه ، وهل تبقون ـ أنتم ـ في ما تتمنون من الخلود؟ فكيف تفضلون القيمة الفانية ، التي هي المادة ، على القيمة الباقية التي هي رسالة الإيمان؟

* * *

٣١٩

إهلاك القرى بعد إقامة الحجة عليها

(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي حتى يقيم عليها الحجة بإرسال الرسول في عاصمة القرى التي يرجع الناس إليها في أمورهم ، وينطلقون منها في انتماءاتهم العقيدية ، وخطوطهم العملية ، باعتبارها ملتقى الأفكار ، وقاعدة القيادات ، وبهذا كانت الدعوة التي يقوم بها الرسول ، منطلق تأمّل وحركة حوار ، وقاعدة حجّة ، حتى لا يبقى لأحد عذر في كفر أو ضلال.

(وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) بما يأخذون من أسباب الكفر ويتحركون من أوضاع الضلال ، فيظلمون أنفسهم لما يعرضونها له من الانحراف عن خط الاستقامة ومن العذاب في يوم القيامة ، فتكون الحجة من الله عليهم ، ولا تكون لهم حجّة على الله. (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) فهي مجرد حاجة طارئة تعيش مع الناس برهة من الزمن ، في ما يستمتعون به منها من شهوات ، وما يتزينون به من زينة ، ثم تتبخر الشهوات مع الموت ، فتموت ، وتزول الزينة ، مع كل غبار العمر ورياح الفناء. (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) لأنه النعيم الخالد في جنة الرضوان وفي رحمة الله ورضوانه ، فليس هناك موت يفني النعمة ، وليست هناك طوارئ تزيل الزينة وتفسدها ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) لتفكروا كيف تختارون مواقعكم في ما تختارونه من مواقفكم ، وكيف تميّزون بين ما تبقى تبعته وتزول لذته ، وبين ما يفنى تعبه وعناؤه ويبقى أجره وثوابه؟! وليست المسألة هي أن تتركوا طيبات الحياة ، كأساس للقرب عند الله ، ولكن المسألة هي أن لا تتركوا الإيمان في فكره وحركته ، لتأخذوا

٣٢٠