تفسير من وحي القرآن - ج ١٧

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٠

آفاق القرآن ودوره

ما هي آفاق هذا القرآن؟ وما هو دوره؟ وما هي طبيعته؟ إنه ليس كتابا تجريديا يتحدث عن الفكر في مجالات الفراغ ، ويحلّق في آفاق الخيال ، بل هو كتاب يرصد الواقع في الماضي والحاضر ، لينفتح فيه على طبيعة المجتمعات التي يكثر فيها الخلاف وتتحرك فيها مواقع الصراع ، ليعالج ذلك كله بأسلوبه المرتكز على الحكمة في الفكرة والمنهج ، فيجد فيه كل مجتمع نفسه ، ويحسّ بأنه يمثل صورته الحقيقية في كل مفرداته وأوضاعه ، وهو في الوقت نفسه يخطط للطريق المستقيم الذي يصل بالناس إلى أهدافهم القويمة ، ويوحي لهم بكل المعاني الخيّرة التي تفيض بالحب والرحمة والسعادة والطمأنينة.

* * *

القرآن هدى ورحمة للمؤمنين

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) الذين يمثلون الامتداد التاريخي لمجتمع الرسالات (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من قضايا العقيدة والحياة. ولكن لا لتكون القصة سبيلا للمتعة واللهو وملء الفراغ ، كما يتحدث القصاصون عن التاريخ وحكاياته ، بل لتكون منطلق حديث عن عمق الجذور الفكرية والروحية لتلك الخلافات وعما يمكن أن يصل إليه من النتائج الحاسمة في قضايا الحق والباطل ، والخير والشرّ ، والانحراف والاستقامة ، وذلك من أجل تصحيح الخطأ ، وتقويم الانحراف ، لأنه يستهدف تثبيت القواعد الفكرية والأخلاقية التي جاءت بها الرسالات في حركة الحياة ، (وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) الذين يتدبرون آياته ويحوّلونها إلى قناعات في أفكارهم وأحاسيسهم ومشاعرهم ، ومواقف في خطواتهم ، وحركة في مواقعهم ، فتنطبع بها حياتهم

٢٤١

العملية ويعيشون في رحابها اللطف والرحمة والحنان. أمّا غير المؤمنين الذين يمرون عليه مرورا عابرا ، فلا يتوقفون أمام مشارق النور في فكره ، ولا عند مواقع الحق في نهجه ، ولا يتحركون في خطوط الاستقامة في طريقه ، أمّا هؤلاء ، فإنهم لا يكتشفون فيه الهدى ، ولا يعيشون فيه الرحمة ، بل يبقون في تخبطهم يتحيرون ، وفي ضلالهم يتيهون.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) الذي يفرق فيه بين الحق والباطل ، فيدحض الباطل بالحق ، ويؤكد الحق بالحجة ، ويفصل بين الناس في ما اختلفوا فيه في شؤون الدين والدنيا ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) الذي يملك القوّة التي لا يدنو إليها أحد ، فتؤكد مواقع العزة لديه ، ويملك العلم الذي يحيط بكل شيء ، فلا يغيب عنه شيء من أمور الأرض والسماء والحياة والإنسان ، فهو الملجأ والمقصد.

* * *

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) واتجه إليه وأقبل عليه ، ولا تتوكل على غيره ، لأنه الذي يملك الأمر كله ، ولا يملكه أحد معه ، فهو الذي يملك كل أحد. وذلك هو النهج الذي يريد الله لك أن تسير عليه ، (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) الذي تعيش فيه الوضوح في الفكرة ، والإشراق في الموقع ، والاستقامة في الطريق ، فلا يهمك من أنكر ، ولا يضعفك من تمرّد ، فليس هناك موقع للضعف في حياة الرسول إذا كان واثقا من موقع الحق في رسالته حتى لو أنكره الناس كلهم. وقد يكون في هذا التأكيد ـ بأنه على الحق ـ لون من ألوان الإيحاء بقوّة الموقف عند ما يقنع الإنسان بالحقيقة في فكره وفي نهجه وموقعه ، لأنه يرتكز على القاعدة الثابتة التي لا اهتزاز فيها ، ولذلك فإنه ينطلق من خلال الثقة الكبيرة بالخط

٢٤٢

المستقيم ، فلا يبقى له إلا أن يجمع كل طاقاته ، ويحرّك كل مواقعه ، ويواجه كل التحديات ويتوكل على الله ، لتتأكد له الثقة بالوصول إلى الهدف الكبير من خلال الله.

* * *

الموتى والصّمّ والعمي لا يعقلون آيات الله

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) الذي لا تتحرك الحياة في أفكارهم ومشاعرهم من موقع الوعي ، بل تتحرك فيها من موقع اللهو والبعث واللامبالاة ، فلا يواجهون الحقيقة من قاعدة المسؤولية ، في إحساس متبلّد ، وتفكير ميّت ، فمثلهم مثل الموتى في نتائج الموقف وإن اختلفوا عنهم في شكل الحياة ، في الحركة المادية في الجسد ، لأن المسألة في انطلاقة الانفعال بالرسالة هي مسألة الحياة المنفعلة بالمسؤولية من خلالها لا مسألة الحياة في ذاتها ، في ما تبتعد فيه الروح عن التفاعل مع الفكرة التي تواجهها في خط الدعوة ، لأن فقدان الاهتمام بالشيء يعني فقدان الإحساس به.

(وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) الذي تدعوهم إليه ليفكروا فيه ويناقشوه ، ليقتنعوا به من خلال الحجة القائمة عليه ، مما يمكن أن يكون هؤلاء مثلا حيّا له ، على أساس أن السمع الذي يملكه الإنسان لا قيمة له إذا لم يعمل على التوجه لما يثأر حوله من القضايا التي يتحدث بها الآخرون ، فإذا فقد التوجه إلى ذلك ، كان السمع وعدمه على حدّ سواء ، وكان الإنسان الذي يملك السمع بمنزلة الأصم في النتيجة العملية للموقف. وهكذا كان هؤلاء الفكرة بمنزلة الصمّ عند ما يدعوهم النبي إلى الإسلام (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) ومعرضين عن سماع الدعوة الرسالية ، من خلال أجواء العناد الروحي الذي يرفض الانفتاح على كل دعوة للتفكير وللحوار حول الرأي الآخر.

٢٤٣

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) من هؤلاء الذين يعيشون العمى العقلي والقلبي ، في ما يمكن أن يثيره النبي من القضايا الرسالية في العقيدة والعمل ليدلهم على الطريق المستقيم الذي يدعوهم إلى رؤيته في ما يواجهونه من الطرق المتنوّعة ، ليعرفوا كيف تتحرك البدايات نحو النهايات في خط الاستقامة ومجالات التوازن ، في قضايا الإنسان والحياة ، والعلاقة بالله. ولكنهم أغلقوا عيون عقولهم وقلوبهم عن ذلك كله ، تماما كما هم العمي في مواجهتهم للأمور التي تحتاج إلى بصر ، ولذلك فإن من غير الممكن أن يتمكن النبي من هدايتهم ، لأن الشرط لذلك أن تكون لديهم إرادة الرؤية والاهتداء ، فإذا فقدوا ذلك ، فإن المحاولة تتحول إلى نوع من البعث.

(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) لأن الإيمان المنطلق من الفطرة المنفتحة على حقائق الإيمان ، يجعل الإنسان المؤمن في حركة دائمة نحو المعرفة التفصيلية لكل ما يريده الله للإنسان وللحياة ، في عمق المسؤولية وامتدادها ، ليحدد موقفه من ذلك كله في خط الطاعة المطلقة لله ، والخضوع الخاشع لإرادته ، وهذا هو دور المؤمنين في حركة الحقيقة القادمة من وحي الله (فَهُمْ مُسْلِمُونَ).

* * *

القول ... ودابة الأرض

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) وثبت الوعد الإلهي ، وجاء موعد القيامة ، واندفع الناس إلى الحشر ليواجهوا نتائج أعمالهم ، وربما كان المراد منه العذاب الذي وعد الله المشركين به ، (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ) وتعلن لهم النتائج العملية لما عاشه الناس مع الأنبياء ، في ما أنزل الله عليهم من

٢٤٤

رسالات ، وأقام لهم من بيّنات وأظهره لهم من دلائل وآيات ، وتقول لهم : (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) لأنهم لم ينفتحوا على الحق النازل من الله والمنطلق من خلال الفطرة والمتحرك في دائرة العقل ، بل فضّلوا العناد والتمرّد والبعد عن الله ، وتعطيل كل عقولهم وحواسهم عن اكتشاف الحق. وهذا التفسير مبني على ظهور الآية في اعتبار قوله تعالى : (أَنَّ النَّاسَ) إلخ يمثل مضمون كلام البداية في ما أراد الله لها أن تعلنه على الناس كنداء موجّه من الله ، أو كنداء موجه منها ، ولكن الله الذي أسند الإخراج إليه بضمير المتكلم ، أسند الآيات إليه بالضمير نفسه. وهناك تفسير آخر ذكره صاحب الميزان ، قال «وأما ما هو هذا القول الواقع عليهم ، فالذي يصلح من كلامه تعالى لأن يفسّر به قوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت : ٥٣] فإن المراد بهذه الآيات التي سيريهم غير الآيات السماوية والأرضية التي هي بمرآهم ومسمعهم دائما قطعا ، بل بعض آيات خارقة للعادة تخضع لها وتضطر للإيمان بها أنفسهم في حين لا يوقنون بشيء من آيات السماء والأرض التي هي تجاه أعينهم وتحت مشاهدتهم.

وبهذا يظهر أن قوله : (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) تعليل لوقوع القول عليهم والتقدير لأن الناس ، وقوله : (كانُوا) لإفادة استقرار عدم الإيقان فيهم ، والمراد بالآيات الآيات المشهودة من السماء والأرض غير الآيات الخارقة ، وقرئ «إنّ» بكسر الهمزة ، وهي أرجح من قراءة الفتح ، فيؤيد ما ذكرناه وتكون الجملة بلفظها تعليلا من دون تقدير اللّام.

وقوله : (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ) بيان لآية خارقة من الآيات الموعودة في قوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) وفي كونه وصفا لأمر خارق للعادة ، دلالة على أن المراد بالإخراج من الأرض إمّا الإحياء والبعث بعد الموت ، وإما أمر يقرب منه ، وإما كونها دابة تكلمهم ، فالدابة ما يدب على الأرض من ذوات الحياة إنسانا كان أو حيوانا

٢٤٥

غيره ، فإن كان إنسانا كان تكليمه الناس على العادة ، وإن كان حيوانا أعجم كان تكليمه ، كخروجه من الأرض ، خرقا للعادة ...»

ثم قال : «ومحصل المعنى : أنه إذا آل أمر الناس ـ وسوف يؤول ـ إلى أن كانوا لا يوقنون بآياتنا المشهودة لهم ، وبطل استعدادهم للإيمان بنا بالتعقل والاعتبار ، آن وقت أن نريهم ما وعدنا إراءته لهم من الآيات الخارقة للعادة المبيّنة لهم الحق بحيث يضطرون إلى الاعتراف بالحق ، فأخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم» (١).

ولكن هذا التفسير غير ظاهر من الآية ، وذلك بلحاظ السياق الذي دلّ على أن المقصود ليس هو اضطرارهم للإيمان من خلال كلام الدابة ، لأن الوقت هو وقت الحساب على الكفر والضلال ، لا وقت الهداية للإيمان ، مع ملاحظة أن أمر هذه الدابة لا يزيد في دلالته عما قدّمه الله لهم من آياته الكونية أو آياته الإعجازية ، بل قد تكون من خلال النظرة السريعة ، أقلّ منها ، وأن مسألة الاضطرار إلى الإيمان في موعد القيامة أو في موعد العذاب ، لا يحتاج إلى هذه الآية ، لأن كل ما في القيامة من مشاهد يؤدي إلى اليقين كل اليقين بالحق كله.

إن السياق يوحي بأن المقصود هو إعلان الأمر على الناس بما كانوا يتحركون فيه من الأخذ بالكفر ، للإيحاء إليهم بأن النتائج ستكون تابعة لذلك لأنهم كفروا ، من موقع رفض الحجة ، لا من موقع الشبهة. وثانيا : إن قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) إلخ لا يظهر منه أن ذلك سيكون في نهاية العالم وأن المقصود به هو غير الآيات التي أودعها الله في الكون وفي الإنسان ، بل إن الظاهر هو جلاء تلك الآيات الخفية بما يمكن أن يظهره الله منها من خلال وسائل المعرفة التي يحصل عليها الناس بعد ذلك من خلال تطوّر العلم ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٥ ، ص : ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

٢٤٦

في وسائله ومكتشفاته ، والله العالم.

وقد أفاض المفسرون كثيرا في الحديث عن الدابة ، في طبيعتها الإنسانية ، والحيوانية ، وفي صفاتها الغريبة وفي كيفية خروجها ومضمون كلامها ، مما لم يثبت به حجة قاطعة ، وقد لا حظنا أن القرآن وضعها في موضع الإبهام ، ولم يفصل أي شيء من هذه الأمور ، فلنترك الخوض في ذلك كله ، لأنه مما لا فائدة فيه على مستوى النهج القرآني في مضمونه وإيحاءاته.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا) فلا يقتنع بما تفرضه من الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر ، بل يبقى مستمرا في غيّه وعناده (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يحبسون ويوقفون بحيث يرد أولهم على آخرهم ـ كما هو معنى الإيزاع ـ وذلك هو يوم القيامة الذي يحشر الله فيه الناس كلهم ، المؤمنين منهم بآياته ، والمكذبين.

(حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) لأنكم لم تتعمقوا في دراستها ، ولم تفكروا بمضمونها ولم تدخلوا مع الأنبياء في حوار حولها ، ليكون لكم العلم بها بالمستوى الشامل الذي تعرفون من خلاله كل مفرداتها وتفاصيلها ، وبذلك كان التكذيب مستندا إلى الجهل لا إلى حجّة ، (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في كل ما كنتم تفيضون فيه؟ فقد كانت كل مواقفكم العقيدية والعملية ، وعلاقاتكم الاجتماعية ، توحي بالتكذيب القولي والعملي ، مما لا تستطيعون إنكاره ومما لا بد لكم من مواجهته في النتائج الصعبة في عذاب يوم القيامة.

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) وصدر الحكم عليهم بالعذاب من الله سبحانه (بِما ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والتكذيب ، فلا يملكون دفاعا عن موقفهم ، ولا يجدون ناصرا من دون الله (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) لأن الناطق بين يدي الله يوم القيامة ، هو الذي يملك الحجة على موقفه.

* * *

٢٤٧

الآيات

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) (٨٨)

* * *

معاني المفردات

(داخِرِينَ) : أذلاء صاغرين.

* * *

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ)

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) كيف يمكن أن ينكروا الله وهم يرون كيف تتجلى عظمته في حركة الزمن ، في هذا الليل الذي يختزن الظلام في عمقه ، فيوحي بالهدوء والاسترخاء والصفاء الذي يعيش فيه الإنسان السكينة الجسدية والروحية التي تمنحه القوّة ليوم جديد ، وفي هذا

٢٤٨

النهار الذي يفتح النور عينيه ، فيبصر الكون كله من خلال الشمس التي تشرق في عيون الكون ، ليعيش الإنسان معها كل عظمة الله عند ما تلمع عيناه بكل شيء جديد ..

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فهي العلامات الواضحة التي يجد فيها الإنسان الدليل على وجود الله ووحدانيته بما يتحرك فيه النظام الكوني الذي يوحي بعظمة الخالق المبدع لقوم ينفتحون على الإيمان من خلاله ..

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) هناك حيث ينطلق الصوت الغيبيّ الذي يؤذن بالقيامة التي يقف فيها الناس للحساب ليواجهوا نتائج أعمالهم ، فيفزع الكافرون والخاطئون ويرتجف الخلق كلهم من خلال عظمة المسؤولية بين يدي الله ، (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) من عباده الذين أودع السكينة في قلوبهم ، من خلال ما عاشوه من الصفاء الروحي للإيمان في وجدانهم ومشاعرهم الروحية ، ممن اختارهم الله لرسالته ، ولرحمته ورضاه (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) خاشعين خاضعين لله في حال من الذلة والصغار الذي يحس به العبد عند ما يسعى إلى لقاء مولاه ، في معنى العبودية التي يعيش فيها الانسحاق أمام الله ، ولكنه ينطلق بالحرية أمام الكون كله ، على أساس الفكرة الإيمانية التي تؤكد أن الإنسان يكون حرا في نفسه ومع الناس بمقدار ما يكون عبدا لله.

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) في أجواء يوم القيامة ، في ما يظهر من سياق الآية بأن الله يسيّر الجبال ويحركها من أماكنها في سرعة قياسية ، تماما كما هو السحاب عند ما يسير في الفضاء في خفته وسرعته ، ولكنها لفرط سرعتها لا يحس بها الإنسان فيحسبها ثابتة ، وذلك لأن الجرم الكبير إذا سار في سمت واحد وخطّ مستقيم ، فلا تدرك الأبصار حركاته لضخامته وبعد أطرافه ، لا سيّما إذا كان الرائي بعيدا عنه.

٢٤٩

وقد حاول بعض المفسرين الاستدلال بهذه الآية على دوران الأرض وحركتها ، ولكنها على خلاف ظاهر السياق ـ كما أشرنا إلى ذلك آنفا ـ لا سيما أن هناك أكثر من آية تتحدث عن تسيير الجبال كعلامة من علامات يوم القيامة.

(صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) في وجوده وحركته وذلك بما أودعه في داخله من القوانين الطبيعية التي تنظم حركة الوجود كله في جميع مفرداته وتفاصيله ، وهذا ما يلاحظه العلماء في دراستهم للظواهر الكونية ، حيث يرون النظام الدقيق يحكم كل واحد منها ، من دون أيّ انحراف أو ميل عن الوضع الطبيعي المتقن.

(إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) فهو الذي خلقكم كما خلق الأشياء كلها ، ويعلم كل ما تفعلونه من خلال إحاطته بكل ما تتحرك فيه عقولكم وأجسادكم في ما تخفيه وتعلنه من أقوال وأفعال.

* * *

٢٥٠

الآيتان

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٠)

* * *

ليست الحسنة كالسيئة

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) لأن الله يريد أن يقوّي عمل الخير في حياة الإنسان ، ليعيش من أجله ، فكرا وشعورا وعملا ، من أجل أن يتجسد في ذاته ويمتد في حركته وينطلق في أهدافه ، ولهذا أكد الله في أكثر من آية أن (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠]. وأن الإنفاق في سبيل الله (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) [البقرة : ٢٦١] ، كما ورد في الحديث أن درهم القرض بثمانية عشر. وهكذا يحس العاملون بالحسنات أنهم موضع رعاية الله وكرامته في عالم الثواب ، (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) فقد أعطاهم الله الأمان جزاء على أعمالهم التي كانوا يعيشون فيها السلام مع أنفسهم ومع ربهم ومع الناس.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي فكبوا على وجوههم في النار

٢٥١

لأنّ السيئة توحي بالتمرد على الله في جانب العقيدة والعمل ، فتستتبع غضبه الذي يؤدي إلى دخول النار حيث ينادي المنادي هناك ، لكل هؤلاء الكافرين والمتمردين (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فلا ظلم هناك ولا ابتعاد عن الحق.

ومن خلال ذلك ، نفهم أن علاقة الإنسان بربه ، تنطلق من خلال العمل الذي يوحي بالإيمان من مدلوله الروحي الإيجابي ، أو الذي يوحي بالكفر من خلال المدلول نفسه في جانبه السلبي ، وأن الله يشجع المحسن على إحسانه بزيادة الأجر عليه.

* * *

٢٥٢

الآيات

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣)

* * *

معاني المفردات

(الْبَلْدَةِ) : المراد بالبلدة هنا : مكة.

* * *

سيريكم الله آياته

(فَإِنَّما) يا محمد ، قل لكل قومك الذين اتخذوا هذه البلدة المقدسة وكعبتها المشرّفة موقفا لعبادة الأصنام (أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) فهو الذي خلقها بجبالها وسهولها وناسها وحيوانها ونباتها ، وهو الذي أعطاها صفة القداسة عند ما جعلها حرما آمنا يأوي إليه كل الناس من دون أن يخافوا عدوّا ، حينما حرّم فيها القتال على كل من في داخلها أو خارجها ،

٢٥٣

وهو الذي يستحق العبادة ، فإذا دعوتكم لعبادته وحده ، فإنني أول من يلتزم بذلك ويقوم به ، وإذا دعوتكم لرفض عبادة الأصنام من موقع أنها مصنوعة من الأحجار أو الأخشاب ، فإنني أول الرافضين لذلك كله (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) في الكون كله ، فلا يملك أحد معه شيئا ، من هذه البلدة ، ومن غيرها ، فما ذا تملك هذه الأصنام منه ، (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذين عاشوا إسلام الفكر والقلب والحياة لله ، وهذا ما يجعل النبيّ ملتزما دعوته من موقع الانتماء ، ومتحركا في خطها العملي من موقع الانقياد.

(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) على الناس كلهم ، لأفتح عيونهم وعقولهم وحياتهم على مواقع الهدى ليفكروا بحرّية ، ليختاروا الموقف الذي يناسبهم من خلال وعيهم للنتائج الخيّرة التي تترتب عليه في جانب الخير ، وليعترفوا الموقف الآخر الذي يحتوي النتائج السلبية المترتبة عليه ، (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) لأن نتائج الهدى تخص حياته في ما يصل من خلالها إلى مواقع الخير والسلام ، (وَمَنْ ضَلَ) وانحرف عن الخط المستقيم ، ولم يأخذ بأسباب الهدى فاتركه لاختياره وأبلغه أنك لست مسئولا عن ضلاله ، لأنك أبلغته كل كلام الله وحذرته من عقابه ، (فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) ليدلوا الناس على مواقع الهوّة السحيقة التي يهلك من وقع فيها ، ثم يترك لهم حرية اختيار المصير الذي يريدونه.

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ما اصطفاني لرسالته ، وهداني إلى دينه ، وحمّلني مسئولية تبليغ الرسالة ، وأعلن لهؤلاء الذين يتطلعون إليك ويستمعون لحديثك ، أو يعرضون عنك (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) في أنفسكم وفي الكون من حولكم وتعرفون الحقيقة الإلهية من خلالها ، ولا تستطيعون إنكارها بعد ذلك عند ما يقف الجميع للحساب أمام الله (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فحاذروا أن تكونوا في الموقع الذي تتعرضون فيه لسخطه ، وحاولوا أن تكونوا في مواقع رضاه ، لأن مسألة المصير لا تحتمل العبث واللّامبالاة ، لا سيما إذا

٢٥٤

كانت المسألة متصلة بالله سبحانه وتعالى ، الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وهو الذي يحاسب ويعاقب وهو شديد العقاب ، كما أنّه الغفور الرحيم.

* * *

٢٥٥
٢٥٦

سورة القصص

مكيّة

وآياتها ثمان وثمانون

٢٥٧
٢٥٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (٦)

* * *

معاني المفردات

(عَلا فِي الْأَرْضِ) : العلو في الأرض كناية عن التجبر والاستكبار.

(شِيَعاً) : الشيع : جمع شيعة وهي الفرقة ، قال في المجمع : الشيع : الفرق ، وكل فرقة شيعة ، وسموا بذلك لأن بعضهم يتابع بعضا (١).

__________________

(١) مجمع البيان ، م : ٤ ، ص : ٣١٠.

٢٥٩

(نَمُنَ) : الأصل في معنى المنّ ـ على ما يستفاد من كلام الراغب ـ الثقل ومنه تسمية ما يوزن به منّا (١) ، والمنّة : النعمة الثقيلة ، ومنّ عليه منّا : أي أثقله بالنعمة.

* * *

صراع النبوّة والطغيان

(طسم) من الحروف المقطعة في القرآن التي تقدم الحديث عنها.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) التي ينبغي للمؤمنين أن يقرءوها ويتأملوها ويستلهموا معانيها في حياتهم بوعي ووضوح ، لأنها تقدم الفكرة بعمق وجلاء ، من دون غموض ولا تعقيد (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِ) اللذين كانا يمثلان الصراع الحاسم ، بين النبوّة المتمثلة بموسى عليه‌السلام في إيمانها بالله والتزامها بقضية الإنسان في حريته وعدالة قضاياه ، وفي انطلاقها في خط المواجهة للمستكبرين من موقع المسؤولية للدفاع عن المستضعفين ، وبين ما هو الطغيان والاستكبار المتمثل بفرعون الذي عاش عبوديته لذاته ، فتعقدت أفكاره ومشاعره تجاه الناس ، وتضخمت شخصيته في نفسه حتى ظن أنه إله وطلب من الناس أن يعبدوه ، ولذلك كان رد فعله عنيفا أمام الدعوة التوحيدية لله والإعلان النبوي الحاسم له بأن يترك الناس لحرياتهم في الفكر والحياة ... إنه الموقف المتحرك بين الإنسان الذي يعيش لربه وللناس من حوله ليؤكد حركة الرسالة في الحياة ، بعيدا عن ذاته ، وبين الإنسان الذي يعيش لذاته وللنوازع الشرّيرة في مجتمعة ، بعيدا عن الله.

وهذا الموقف لا يمثل حالة تاريخية فريدة ، بل هو الموقف الدائم في صورة الصراع الدائر في الحياة ، بين الإيمان والكفر ، والحرية والاستعباد ،

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٤٩٤.

٢٦٠