تفسير من وحي القرآن - ج ١٧

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٠

النعمة الوافرة تفرض شكر المنعم ، وأن كفرانها يعرّضها للزوال. (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) في الدنيا والآخرة ، لأن مالك الدنيا والآخرة هو الله الذي أعطاكم ذلك كله وحملكم مسئوليته.

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) فلن يغيّر من المسألة شيئا ، وهي أننا ماضون في عقيدتنا وعبادتنا للأصنام وعاداتنا وتقاليدنا ، فلا قيمة لكلامك ، لأنه لن يهز أي شيء من الثوابت التي عمّقناها في ذاتنا مما اعتقدناه واعتدناه وألفناه ، فلا مجال للمناقشة والجدل في ذلك كله ، (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) الذين نلتزم أخلاقهم من عادات وأفكار وقضايا وأوضاع ، لأنهم القاعدة التي ننطلق منها ونرتكز عليها في أعمالنا ومعتقداتنا. فإذا كانوا قد عبدوا الأصنام ، فلا بدّ من أن نعبدها.

وربما فسّرها البعض بأن المراد هو الإشارة إلى دعوة هود إلى التوحيد والموعظة ، باعتبارها من عادة الأنبياء السابقين عليه ، أو البشر الأوّلين الماضين من أهل الأساطير والخرافات وهذا كقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥]. والتفسير الأوّل أقرب إلى الفهم من التفسير الثاني ، والله العالم.

(وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) لأن الحياة التي نعيش فيها هي نهاية المطاف ، فلا بعث بعدها ولا حياة حتى يتحدث المتحدثون ، كما تحدّثت ، بأن هناك عذابا على الكفر والضلال (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ) بتكذيبهم وكفرهم وعنادهم ، بعد قيام الحجة عليهم من الله ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) لمن اعتبر بما أصاب من قبله من الأمم السالفة ، ليتخذها دليلا على النهج الحق الذي يلتقي برضا الله سبحانه ، (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) فلن ينتقص كفرهم من عزة الله التي تتحرك في حياة الناس مع الرحمة ، فهو العزيز الذي لا يكلّف عباده من موقع ضعف ، وهو الرحيم الذي يفتح لهم أبواب رحمته ، ولكن الأكثرية منهم تبتعد عن رحمته ، فلا بد من أن تلاقي نتائج ذلك في ما يصبّ عليهم من سياط نقمته.

١٤١

الآيات

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٥٩)

* * *

معاني المفردات

(طَلْعُها) : طلع النخل : عنقود التمر في أول تكوينه وقبل أن يخرج من كمّه.

١٤٢

(هَضِيمٌ) : اليانع الناضج ، والداخل بعضه في بعض.

(فارِهِينَ) : من الفره ، وهو النشاط والفرح.

(الْمُسَحَّرِينَ) : مبالغة في المسحورين.

(شِرْبٌ) : بكسر الشين ، النصيب.

* * *

حوار صالح مع قومه ثمود

ويعود الحديث إلى قصة صالح مع قومه ثمود في دعوته إلى التوحيد ، والالتزام بأوامر الله ونواهيه ، على النهج الذي دعا به هود مع عاد ، فكذبوه في ذلك كله (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) وهذا هو عنوان الدعوة وإجمالها وأمانة الرسول واستغناؤه عنهم ليؤكد لهم معنى الأصالة في رسالته في امتدادها في حركة خط الأنبياء الذين تقدموه ليستذكروا الكلمات نفسها والمواقف نفسها والدور نفسه.

(أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ) هلّا نظرتم إلى ما أحاطكم الله به من النعم الكثيرة التي لا تقف عند حد ، فهل تتصورون أن الله يترككم لأنفسكم فيها لتمارسوا حريتكم في اللهو والعبث والابتعاد عن الإيمان والتقوى ، من دون أيّة مسئولية في ما تأخذون به أو تدعونه؟

(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) والطلع في النخل كالنور في سائر الأشجار ، والهضيم ـ على ما قيل ـ المتداخل المنضمّ بعضه إلى بعض.

١٤٣

(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) فيما تمثله الفراهة ، من معنى البطر ، أو الاتصال وانفتاح النفس على سعة الأفق ورحابته.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) فإن هذه النعم المحيطة بكم هي المدخل الذي يطلّ بكم على عظمة الله ورحمته ، ويقودكم إلى طاعته عبر شكر النعمة.

* * *

لا تطيعوا أمر المسرفين

(وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) الذين أسرفوا على أنفسهم بالكفر والشرك والانحراف عن طاعة الله ، لتأكيد امتيازاتهم واستكبارهم وظلمهم للمستضعفين ، وهم الطبقة المترفة من أفراد المجتمع ، من أشراف القوم وساداتهم الذين أصرّوا على البقاء في مواقعهم الفكرية والعملية ، بعيدا عن التغيير المنطلق من الدليل والحجة والبرهان (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) من خلال أفكارهم الكافرة ، وعباداتهم المشركة ، وتقاليدهم المنحرفة ، وعلاقاتهم الفاسدة ، وأفعالهم الشرّيرة ، مما يؤدي إلى اختلال النظام العام في الوجود الإنساني في الأرض ، وإلى إفساد الحياة من حولهم مما يرفضه الله من كل عباده ، إذ حمّلهم مسئولية الإصلاح في أنفسهم وفي الناس ، على مستوى الدعوة والعمل ، لينسجم النظام الإنساني مع النظام الكوني في عملية تكامل وتوافق وامتداد.

وإذا كان الله يريد الحياة على أساس إقامة النظام العام في حركة الإنسان ، فلا بد من أن يتحمل الناس البسطاء مسئولية التمرد على هؤلاء المسرفين المفسدين في الأرض.

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) الذين خضعوا لألاعيب السحرة في عقولهم

١٤٤

وأفكارهم ، فلا تستطيع أن تفكر بعقل متوازن ، أو تتكلم بكلام موزون معقول ، وهذا ما جعلك تدّعي النبوّة والرسالة من الله سبحانه مما لا يقبله عقل ولا منطق ، و (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فهل يمكن أن يكون البشر نبيا ، وكيف يتصل البشر بالله في مواقع الغيب ، وكيف يميز الله بشرا عن بشر في ذلك من دون أن يكون هناك امتياز ذاتي في الصورة والقدرة ، كما هي الحال بيننا وبينك ، فإنك بشر مثلنا ، فلا يميزك أيّ شيء عن أيّ واحد منا ، فإذا كنت صادقا في ذلك (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لنعرف صدق دعواك من صدق دليلك ، لأن الدعوى التي لا يملك صاحبها دليلا عليها ، لا قيمة لها في حساب الفكر والإيمان.

(قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) فهي آية من آيات الله التي لم يسبق لكم أن رأيتم مثلها ، لأن في داخل شخصيتها معجزة إلهيّة ، فهي تستطيع أن تسقي البلد كلها من لبنها ، مما لم يعهد في أيّة ناقة أخرى ، ولكنها إذا أرادت أن تشرب ، فلا بد من أن لا يشرب معها أحد طيلة اليوم ، فلا بد من تقسيم اليوم بينكم وبينها ، فلها شرب يوم كامل ترتوي فيه من الماء ليتحول إلى لبن ، ولكم شرب يوم معلوم.

(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) لأن ذلك يمثل التمرد على الله في مواجهة آياته التي يتطلبها الناس ويقترحونها ، فإذا استجاب لهم ، فمعنى ذلك أن الله لا يمهلهم إذا كذبوا وتمردوا وأساؤوا.

ولكنهم تآمروا في ما بينهم على قتلها ، لأنهم لم يطيقوا انتصار صالح عليهم بهذه المعجزة العجيبة التي لا يملكون لها أيّ تفسير مادّي معقول ، (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) لأنهم كانوا خاضعين في اندفاعهم العدواني لقتل الناقة ، لحالة انفعالية مجنونة ، بفعل تأثير التوجيه الضّال الذي قادهم إليه المستكبرون من أصحاب الامتيازات الظالمة من رؤسائهم المنحرفين ، للحفاظ على امتيازاتهم دون مصالح المستضعفين ، عبر ما يوحون به إليهم من أفكار

١٤٥

عدوانية وأوهام مريضة وما يثيرونه في أجوائهم من الغفلة عن عواقب الأمور ، حتى إذا أكملوا الجريمة ، ونفذوا كل ما خطط المنحرفون ، انتبهوا إلى هول النتائج السلبية التي يواجهونها في حرمانهم من اللبن الذي كانوا يشربونه منها ، ومن العذاب الذي توعدهم به الله على لسان نبيه صالح ، الذي استهانوا به وبوعيده وإنذاره ، فلم يحاولوا أن يلتفتوا إلى أن الذي جاء بهذه المعجزة الخارقة ، يملك السر الذي يؤهله لمعرفة النتائج المستقبلة للتمرد والجحود والكفران ، (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) وقد تقدم تفسيره.

* * *

١٤٦

الآيات

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٧٥)

* * *

معاني المفردات

(الذُّكْرانَ) : جمع ذكر.

(عادُونَ) : جمع عاد : وهو المعتدي.

(الْقالِينَ) : القالون : جمع القالي ، وهو المبغض.

١٤٧

(الْغابِرِينَ) : جمع الغابر ، وهو الباقي.

* * *

لوط يحاور قومه من موقع الرسالة

وهذا نبيّ آخر جاء برسالة الله إلى قومه ليواجه الانحراف الأخلاقي الذي يتميزون به في سلوكهم الجنسي الشاذ المذكّر ، فأراد أن يعالج المسألة الأخلاقية لديهم من خلال المسألة العقيدية الروحية التي يرتبط الإنسان فيها بالله ليطلّ على تفاصيل الحياة ومفرداتها العملية من هذا الموقع الثابت في الفكر والإحساس والواقع ، الأمر الذي يوحي إلينا ، أنّ الانحراف العملي لا يعالج بالطريقة المباشرة التي تخاطب مفرداته وخصوصياته بشكل مباشر ، بل بالطريقة الفكرية التي تمتد إلى جذور العقيدة والروح والإحساس وتتحرك في مفردات الحياة كلها ، لأن ذلك هو الذي يخلق الحوافز العميقة التي تدفع إلى الطاعة في أوامر الله ونواهيه. فإذا كان الإنسان لا يعيش روح التقوى لله ، فكيف يمكن أن تقنعه ـ بشكل أساسي ـ أن يترك لذاته وشهواته التي يحبها ويرتاح إليها؟

* * *

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ)

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) لأنهم انطلقوا في حياتهم من القاعدة الغريزية في حركة الفكر والسلوك ، ولم ينطلقوا من الرسالات الإلهية التي تتابعت في مدى الزمن بتتابع الرّسل لتأمر الناس بتقوى الله وطاعة رسله في كل قضايا الحياة وأوضاعها ، (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ) وقد ذكر البعض أن لوطا لم

١٤٨

يكن أخا لهم في النسب ، حيث كان من بلد آخر بعيد عنهم ، إذ جاء مع عمه إبراهيمعليه‌السلام من بابل إلى مصر ثم إلى فلسطين حوالي القرن التاسع عشر قبل الميلاد ـ كما يقال ـ وأقام في وادي الأردن. وبذلك كان أخا لهم من خلال اندماجه معهم في المجتمع حتى عاد كواحد منهم في الحياة الاجتماعية العامة ، ولكنه كان منفصلا عنهم في التفكير وطريقة الحياة والسلوك على أساس حمله لرسالة الله التي بدأها بالدعوة إلى التقوى الفكرية والعملية في السير على خط الاستقامة الذي يبدأ من الله من خلال وحيه وينتهي إليه في مواقع طاعته ورضاه.

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أحمل رسالة الله كما أوحى بها إليّ من دون زيادة أو نقصان ، لأن أمانة الرسالة تفرض عليّ ذلك ، باعتبارها الأمانة التي أراد الله لي أن أؤديها إلى الناس بكل صدق وإخلاص ، (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) لأن تقوى الله تتمثل في حركة الواقع باتباع الرسول وطاعته في كل أوامره ونواهيه ، لأنه لا يمثل نفسه في ذلك كله ، بل يمثل وحي الله وإرادته في جميع الأمور.

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) فليست لي أيّة مصلحة ذاتية عندكم مما يدعوكم إلى الاستجابة لي في دعوتي ، بل هي مصلحتكم في ما أودع الله في عمقها من مصالحكم الحقيقة في حركة الحياة على خط الله ، فلا أطلب منكم مالا ولا جاها ولا شهوة ، لأنّ كل همي هو الله في رضاه عني في أداء رسالته كما يريد ويحب. ولن تخسروا شيئا في الاستجابة لي ، إلا ما تفقدونه من جهلكم وتخلّفكم وانحرافكم الذي سيتحوّل إلى علم وتقدّم واستقامة.

* * *

١٤٩

(أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ)

(أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) مما يدل على انحراف طبيعي في حركة الغريزة التي تنطلق لتلبية حاجاتها الذاتية لدى المرأة من خلال ما أعدها الله له من التكامل الروحي والجسدي مع الرجل على أساس العناصر الطبيعية الحيويّة في الإنسان ، (وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) في الحاجات الطبيعية في التنوع الجسدي في وظائفه الخاصة المميزة؟! (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) تتحركون في مواقع الاعتداء على الطبيعة والفطرة والشريعة ، وعلى حق الله عليكم بالإطاعة له في أوامره ونواهيه.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) المطرودين من أرضنا ، لأنك تدعو إلى تغيير عاداتنا ، وتسفيه أحلامنا ، وتشوية صورتنا ، والتنكّر لرغباتنا ، وتتدخل ـ بعد ذلك ـ بما لا يعنيك ، لأننا نملك الحرية في التصرف بأجسادنا بالطريقة التي تحلو لنا ، بعيدا عن القيود والحدود. وما دخل الله في ذلك كله ، وما دخل الشريعة في تبديل الأمزجة الإنسانية؟ لقد تعدّيت حدودك ـ يا لوط ـ وتجاوزت الخطوط الحمراء التي لا يجوز لإنسان متوازن أن يتجاوزها ، بل يجب عليه مراعاة اللياقات الاجتماعية ، فلا يسيء لعاداته وتقاليده.

* * *

منطق دعاة حرية الشذوذ الجنسي

ولكن الحقيقة ، أمام المنطق الذي يمكن أن يستوحى من تصورات قوم لوط ، في ما ينطق به أتباعهم المعاصرون من الداعين إلى حرية الشذوذ الجنسي المذكر ، كقضية من قضايا الحرية الفردية المقدّسة ، أن ذلك لا يمثل

١٥٠

أيّة حجّة مقنعة ، لأن الله ـ من وجهة النظرة الدينية التوحيدية ـ هو الخالق للإنسان والمدبّر له والمالك لأموره كلها ، فلا بد من أن يأذن للإنسان بما يأخذ به أو يدعه من أفعال ، لأنه يملك منه ما لا يملكه من نفسه ، وهو الذي يتدخل ليحمي الإنسان من نفسه ، كما يحميه من عدوان غيره.

ثم إن الحرية ليست حالة مزاج منفصل عن النظام العام للفرد في مواقع فرديته ، لأن الفردية المطلقة لا وجود لها ما دام الإنسان مرتبطا بالأفراد الآخرين في الهيكل الاجتماعي المشترك المترابط في حاجاته وأوضاعه ، المتكامل في غرائزه المتحركة من أجل استمرار وجوده في النوازع الخاصة ، أو في العلاقات العامة ، فهناك خطّ يتصل في حركته بالفطرة الإنسانية الداخلية والخارجية في تواصل الحاجات الجسدية وتفاعلها ، فلا بد من دراسة ذلك في التخطيط لقاعدة الحرية الفردية بالمستوى الذي لا تتحول فيه إلى خطر على الحرية الاجتماعية في حفاظ المجتمع على وجوده في علاقاته الأخلاقية والغريزية والعاطفية.

وهكذا لم يكن لديهم أية حجة مقنعة في مواجهة دعوته ، بل كانت القواعد المهدّدة بالنفي والتشريد والقتل هي سبيلهم إلى إسكات صوته وإسقاط موقفه ، ولكن النبي لم يتراجع ، ولم يسقط ، ولم يغيّر موقفه ، بل رفع أمره إلى الله في تقريره الأخير بعد أن أعلن لهم بأنه رافض لعملهم ، وبريء منهم ، ليحدّد الفواصل التي تفصله عنهم في ما يفصل المؤمن عن الكافر ، وفي ما يفترق به التقي عن الشقي ، والمستقيم عن المنحرف.

(قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) المبغضين الرافضين له جملة وتفصيلا. (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) من انحراف وعصيان ، ومما يهددونني به من نفي وتشريد ، (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) وهي زوجة لوط التي بقيت على عهدها لقومها لأنها كانت منسجمة معهم في تفكيرهم وانحرافهم ، (ثُمَ

١٥١

دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) من قوم لوط ـ بعد خروج لوط ـ بما أنزله الله عليهم من العذاب المدمّر ، (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) مما أمطره عليهم من حجارة قاتلة مدمرة ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) لمن أراد أن يعتبر ويتعظ به (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

* * *

١٥٢

الآيات

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٩١)

* * *

معاني المفردات

(الْأَيْكَةِ) : الشجر الملتفّ الكثيف.

(الْمُخْسِرِينَ) : بكسر السين والراء : جمع المخسر ، وهو الذي إذا

١٥٣

عامله أحد الناس خسر لأنه يأخذ منه أكثر من حقه.

(بِالْقِسْطاسِ) : القسطاس : الميزان.

(تَبْخَسُوا) : البخس : النقص.

(وَالْجِبِلَّةَ) : الخلقة والطبيعة.

(كِسَفاً) : جمع كسفة : وهي القطعة.

(الظُّلَّةِ) : بضم الظاء : هي السحابة التي استظلوا بها من العذاب فأحرقتهم.

* * *

حوار شعيب مع قومه

وهذا نبيّ آخر عاش مع جماعة من الناس في منطقة قريبة من مدين فيها شجر كثير ، وكانوا يمارسون الانحراف الأخلاقي في علاقاتهم الاقتصادية بالناس ، فيسيئون إليهم في مسألة التعامل المالي إذ يأكلون بعض حقوقهم بعد أن يأخذوا لأنفسهم القدر الوافي ، ثم يدفعون لهم الناقص. فكانت رسالة شعيب إليهم أن يتقوا الله في ذلك وفي غيره ، ليتوازنوا في السلوك العام مع أنفسهم ، ومع الناس ، وكانت النهاية معه ، كما هي النهاية مع غيره ، أن يكذبوه ، فأنزل الله بهم عذابه في الدنيا دون أن ينجيهم ذلك من عذاب الآخرة.

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) الغيضة الملتف شجرها (الْمُرْسَلِينَ) بتكذيبهم بأساس التوحيد للرسالات ، (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) الذي لم يكن قريبا إليهم ـ كما يبدو ـ ولذا لم يقل أخوهم ، (أَلا تَتَّقُونَ) الله في الخط الفكري والعملي في حركة الحياة في مستوى الرسالات في ما يحبه الله ويرضاه ، (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ

١٥٤

أَمِينٌ) لا يخونكم في نصيحة ، ولا يخون الله في رسالته ، فأنا الأمين على حياتكم من خلال ما حمّلني الله من الرسالة الهادية ، (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) فذلك هو المظهر العملي للإيمان بالله والاعتراف بألوهيته.

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) لأنكم لا تملكون لأنفسكم ولا لأحد غيركم نفعا ولا ضرّا إلّا بإذن الله ، فلما ذا أطلب الأجر منكم ولا أطلبه من الله سبحانه ، فلا أريد منكم شيئا إلا الاستجابة لله في تفاصيل الرسالة كلها. ويا قوم (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) الذين ينقصون الناس أشياءهم فيوقعونهم في الخسارة ، (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) وهو الميزان الدقيق الذي تتوازن كفتاه في الأخذ والعطاء ، على أساس العدل في الحقوق. (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي لا تنقصوهم حقوقهم ، (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) لا تفسدوا في الأرض بالإخلال في التوازن العام في السلوك الاقتصادي المنحرف ، الذي قد ينتهي إلى الانهيار في التعامل من ناحية مالية وأخلاقية ، فقد أراد الله للحياة أن تتوفر فيها الطاقات الإنسانية على إصلاح الواقع والحركة والفكر في كل ما يحيط بالإنسان ، وما يتحرك في حياته ، وما يفكر به.

وهكذا كانت رسالة شعيب لقومه ، أن يواجهوا الحركة التجارية في معاملاتهم من مواقع الإصلاح لا الإفساد ، وذلك بإقامة التوازن في كل ما لهم وما عليهم ، من خلال المسألة الموضوعية التي تنظر إلى طبيعة الحق في المعاملة ، لا من خلال المسألة الذاتية التي تنظر إلى طبيعة الذات في الربح والخسارة. وأن تكون التقوى حافظا لخطواتهم من الزلل ، ومواقعهم من الانحراف ، إذا اقترب الشيطان منهم في عملية إغواء وتضليل.

(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) والمراد بالجبلّة الطبيعة والفطرة الإنسانية التي أقام عليها أمر الخلق في ما أودعه في فطرتهم من الرغبة في

١٥٥

الخير واتقاء الشرّ ، فإذا كان الله هو الذي خلقكم وخلق آباءكم الأولين ، فيجب عليكم أن تتقوه وتراقبوه في كل أموركم ، لترتبوا قضايا الربح والخسارة على أساس رضاه ، لا على أساس ما تحصلون عليه من نتائج مادية ، أو ما تخسرونه منها ، لأنه يملك منكم ما لا تملكونه من أنفسكم وما لا يملكه منكم غيركم. فكما أهلك الأقدمين من آبائكم فأصبحوا تحت رحمته في مماتهم ، فإنه سيهلككم ويهلك أموالكم ولا يبقى لديكم شيء إلا رحمته ، فاتقوه لتحصلوا عليها.

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) الذين لا يملكون عقولهم ، ليميزوا بين الحق والباطل ، فقد استطاع السحر أن يترك تأثيره على شخصيتك ، فأصبحت تتحرك كالمسحور الحائر الذي لا يعرف كيف يتصرف ، وكيف تتوازن الأشياء في ذهنه وسلوكه ، فكيف نستمع إليك باحترام ، ونقبل دعوتك بإذعان؟ ثم من أنت في المقياس الحقيقي للرسالة؟ وما الذي يميزك عنا ليكون لك حق الطاعة علينا من خلال صفة الرسالة التي تدعيها لنفسك؟ (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) الذين ينطلقون من الكذب ليحصلوا على الامتيازات الذاتية في المجتمع ، على أساس ما يمنحونه لأنفسهم من صفات عظيمة ، لأن ما تدعيه لا ينسجم مع مقياسنا للرسالة وللرساليين.

(فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي قطعا من السماء المتناثرة لتكسر رؤوسنا ، وتحرق أجسادنا ، (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في ما تدعيه من علاقتك المميزة بالله التي تتيح لك أن تملك السيطرة على الكون ، في ما تريد ، وما لا تريد. (قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) فلست الديّان الذي يفرض عليكم ما يشاء من عقاب على أعمالكم ، لأني لا أملك علم ذلك ، ولا السلطة عليه ، فلله الأمر كله ، وإنما أنا رسول من قبله لأحمل لكم رسالته ، ويبقى له ما يريد أن يفعله بكم من خلال اطلاعه عليكم وعلى أعمالكم ، فإن شاء عجّل وإن شاء أمهل ، ولن يفوته شيء من أمركم على كل حال.

١٥٦

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وقد ذكر المفسرون أنها سحابة استظلوا بها من حرّ أصابهم ، فأمطرتهم نارا أحرقتهم عن آخرهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) وقد تقدم تفسيره.

* * *

١٥٧

الآيات

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (٢١٢)

* * *

معاني المفردات

(الرُّوحُ الْأَمِينُ) : جبريل عليه‌السلام.

(زُبُرِ) : الزبر : الكتب.

١٥٨

(الْأَعْجَمِينَ) : بياء النسبة وياء الجمع جمع الأعجمي ، وقال الطبرسي : العجمي نقيض العربي ، والأعجمي نقيض الفصيح (١).

(لَمَعْزُولُونَ) : ممنوعون ومصروفون.

* * *

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ)

وهكذا انتهى الأمر إليك ـ يا محمد ـ لينزل الله عليك رسالته ، لتبلّغها للناس كما بلّغ الأنبياء من قبلك رسالاتهم ، وليواجهك قومك بالمنطق الذي واجه به أقوام الأنبياء أنبياءهم بالرغم من وضوح الحجة على الحق في موقفك ورسالتك.

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) إذ تتمثل في هذا القرآن أسرار الإعجاز التي توحي بأنه كلام الله الذي لا يستطيع أن يدنو منه كلام المخلوقين ، (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) والمراد به جبرئيل الذي كان ينزل بالقرآن على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكل أمانة ودقّة وإتقان ، فلا مجال للشك في زيادته أو نقصانه. وقد جاء في بعض الآيات ما يدلّ على ذلك في قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٩٧] وقد أطلق عليه صفة روح القدس في قوله تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : ١٠٢].

(عَلى قَلْبِكَ) توحي كلمة القلب بمعنى الوعي والإدراك في شخصية

__________________

(١) مجمع البيان ، م : ٤ ، ص : ٢٦٥.

١٥٩

الإنسان ، من خلال ما تمثله النفس في احتضانها لكل المدركات والمعقولات ، بكل مفاهيمها وإحساساتها. ولعل السرّ في عدوله عن كلمة (عليك) إلى كلمة قلبك ، للإيحاء بالجانب العقلي من شخصية النبيّ ، الذي هو الأساس في اختزان الإنسان للوحي في ما يريده الله منه من إدراك وتعقّل وإيمان.

وقد ذكر صاحب الميزان في تفسير ذلك وجها آخر فقال : «ولعلّ الوجه في قوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) دون أن يقول : عليك ، هو الإشارة إلى كيفيّة تلقّيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن النازل عليه ، وأن الذي كان يتلقّاه من الروح هو نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواسّ الظاهرة التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية.

فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرى ويسمع حينما كان يوحى إليه من غير أن يستعمل حاسّتي البصر والسمع ، كما روي أنه كان يأخذه شبه إغماء يسمّى برحاء الوحي.

فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرى الشخص ويسمع الصوت مثل ما نرى الشخص ونسمع الصوت ، غير أنه ما كان يستخدم حاسّتي بصره وسمعه الماديتين في ذلك كما نستخدمهما. ولو كان رؤيته وسمعه بالبصر والسمع الماديين ، لكان ما يجده مشتركا بينه وبين غيره ، فكان سائر الناس يرون ما يراه ويسمعون ما يسمعه. والنقل القطعي يكذّب ذلك ، فكثيرا ما كان يأخذه برحاء الوحي وهو بين الناس فيوحى إليه ، ومن حوله لا يشعرون بشيء ولا يشاهدون شخصا يكلمه ولا كلاما يلقى إليه» (١).

وهذا معنى طريف في ذاته ، ولكنه غير ظاهر من سياق الكلام ، بل كل ما هناك أن الآية تشير إلى أن الله قد أنزله عليه ليعي كل مفاهيمه وليلقيه للناس من خلال عمق الوعي الشامل في شخصيته ، ليكون القرآن في شخصيته عقلا يعي

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٥ ، ص : ٣١٧ ـ ٣١٨.

١٦٠