تفسير من وحي القرآن - ج ١٧

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٧

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٠

ويخضعون لسلطانه ، تماما كما هو متاع البيت وأثاثه. ثم حديثه عن كفره للنعمة ، نوع من التذكير بالنعم التي كان يغدقها على قومه وعليه. ويمكن أن يكون الحديث بهذا الأسلوب منطلقا من كلام لم ينقله القرآن ، مما جرى التداول عليه ، ليكون الجواب دليلا على ذلك.

* * *

منطق الأنبياء أمام منطق الطغاة

وقد نجد في هذه الكلمة القوية الحاسمة المتحدية ، الرد على الروح المتعالية التي يحملها الطغاة في نظرتهم إلى ما يقدمونه لشعوبهم من موارد استهلاكية ، وحاجات معيشية في دائرة الحصار الذي يطبق على حريتهم في ما يريدونه للشعوب أن تتحول إلى أدوات صمّاء عمياء لأطماعهم وأغراضهم ، وللوصول إلى غاياتهم الظالمة. وهنا تأتي الكلمة الرسالية لتقول لهؤلاء إن مسألة الحرية هي أغلى من كل المتع والمنافع التي يقدمها السادة للعبيد ، لأن الحرية تعني الارتفاع بالإنسانية إلى المستوى الأعلى في رحاب الحياة ، بينما العبودية تعني الانحطاط بإنسانية الإنسان إلى أسفل دركات الحياة. ولهذا فإنهم يرفضون الشبع مع العبودية ويفضلون الجوع مع الحرية على ذلك كله. إنها كلمة ثورة الحرية المنطلقة من روح القيادة الرسالية في مواجهة الظلم والطغيان.

* * *

١٠١

الآيات

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ

١٠٢

ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) (٥١)

* * *

معاني المفردات

(لا ضَيْرَ) : لا ضرر.

(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) : تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف : أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ، والعكس بالعكس.

(يَأْفِكُونَ) : الإفك هو صرف الشيء عن وجهه ، في ما يمثله السحر من تخييل الصورة الزائفة للإيحاء بأنها صورة واقعية.

* * *

موسى عليه‌السلام وفرعون يتبادلان التحدي

وهكذا كانت إثارة موسى عليه‌السلام لقضية بني إسرائيل في ما طلبه من فرعون من إرسالهم معه ، مدخلا للدخول في قضية الوحدانية الإلهية.

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) إنه يتساءل عن هذه الكلمة الجديدة على سمعه ، فقد كان يعرف أنّ هناك أكثر من ربّ تبعا لتعدد البلدان ، فهو ربّ مصر ، وهناك ربّ آخر لبلد آخر ، أمّا أن يكون هناك ربّ واحد للعالمين

١٠٣

جميعا ، فهذا ما لم يسمع به ولم يخطر له على بال.

وربما كان يحاول أن يشغل الجوّ من حوله بعلامات الاستفهام التي تحوّل المسألة إلى جدل بيزنطيّ يخفف من تأثير موسى عليه ، وذلك بالإيحاء بأن المسألة التي يثيرها موسى عن رب العالمين من خلال دعواه بأنه رسول من قبله ، من المسائل المثيرة للجدل ، لإبعاد الوجدان الشعبي العفوي عن الارتباط بها من أقرب طريق ، كما يفعل الكثيرون الذين يعملون على المناقشة في الأمور البديهية ، لتوجيه الأنظار بعيدا عن طبيعة البداهة فيها ، بالإيحاء بأنها قابلة للأخذ والرد.

* * *

مناقشة مع صاحب الميزان

وقد يثير بعض المفسرين المعنى التفسيري الإيحائي في اتّجاه آخر ، وهذا ما ذكره صاحب تفسير الميزان ، وذلك من خلال الانطلاق من طريقة الوثنيين في تصوّر مسألة الألوهية «فهؤلاء يرون أن وجود الأشياء ينتهي إلى موجد واجب الوجود هو واحد لا شريك له في وجوب وجوده ، هو أجلّ من أن يحدّه حدّ في وجوده ، وأعظم من أن يحيط به فهم أو يناله إدراك ، ولذلك لا يجوز عبادته ، لأن العبادة نوع توجّه إلى المعبود ، والتوجّه إدراك.

ولذلك بعينه ، عدلوا عن عبادته والتقرب إليه إلى التقرب إلى أشياء من خلقه ، ذوي وجودات شريفة نورية أو نارية هي مقرّبة إليه ، فانية فيه ، من الملائكة والجنّ والقدّيسين من البشر المتخلصين من ألواث المادّة الفانين في اللّاهوت الباقين بها ، ومنهم الملوك العظام أو بعضهم عند قدماء الوثنية ، وكان من جملتهم فرعون موسى ، وبالجملة ، كانوا يعبدونهم بعبادة أصنامهم

١٠٤

ليقرّبوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم ، بمعنى أن يفيضوا إليهم من الخير الذي يفيض عنهم ، كما في الملائكة ، أو لا يصيبوهم بالشر الذي يترشح عنهم ، كما في الجن ، فإن كلّا من هؤلاء المعبودين يرجع إليه تدبير أمر من أمور العالم الكلية ، كالحب والبغض والسلم والحرب والرفاهية وغيرها ، أو صقع من أصقاعه ، كالسماء والأرض والإنسان ونحوها.

فهناك أرباب وآلهة يتصرف كل منهم في العالم الذي يرجع إليه تدبيره ، كإله عالم الأرض ، وإله عالم السماء ، وهؤلاء هم الملائكة والجن وقدّيسو البشر ، وإله عالم الآلهة وهو الله سبحانه ، فهو إله الآلهة وربّ الأرباب.

إذا عرفت ما ذكرناه ، بان لك أن لا معنى صحيحا لقولنا : رب العالمين ، عند الوثنيين ، نظرا إلى أصولهم ، إذ لو أريد به بعض هذه الموجودات الشريفة الممكنة بأعيانهم ، فهو رب عالم من عوالم الخلقة ، وهو العالم الذي يباشر التصرف فيه كعالم السماء وعالم الأرض مثلا ، ولو أريد الله سبحانه ، فهو رب عالم الأرباب ، وإله عالم الآلهة فقط دون جميع العالمين ، ولو أريد غير الطائفتين من الرب الواجب الوجود ، والأرباب الممكنة الوجود ، فلا مصداق له معقولا.

فقوله : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) سؤال منه عن حقيقة رب العالمين ، بيانه أن فرعون كان وثنيا يعبد الأصنام ، وهو مع ذلك يدعي الألوهية. أمّا عبادته الأصنام فلقوله تعالى : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف : ١٢٧] ، وأمّا دعواه الألوهية ، فللآية المذكورة ولقوله تعالى : (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤].

ولا منافاة عند الوثنية بين كون الشيء إلها ربا وبين كونه مربوبا لربّ آخر ، لأن الربوبية هو الاستقلال في تدبير شيء من العالم ، وهو لا ينافي الإمكان والمربوبية لشيء آخر ، وكل ربّ عندهم مربوب لآخر ، إلا الله

١٠٥

سبحانه ، فهو رب الأرباب لا ربّ فوقه ، وإله الآلهة لا إله له.

وكان الملك عند الوثنية ظهورا من اللاهوت في بعض النفوس البشرية بالسلطة ونفوذ الحكم ، فكان يعبد الملوك كما يعبد أرباب الأصنام وكذلك رؤساء البيوت في بيوتهم ، وكان فرعون وثنيا يعبد الآلهة وهو ملك القبط يعبده قومه كسائر الآلهة.

فلما سمع من موسى وهارون قولهما : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) تعجب منه ، إذ لم يعقل له معنى محصّلا ، إذ لو أريد به الواجب وهو الله سبحانه ، فهو عنده ربّ عالم الأرباب دون جميع العالمين ، ولو أريد به بعض الممكنات الشريفة من الآلهة كبعض الملائكة وغيرهم ، فهو أيضا عنده ربّ عالم من عوالم الخلقة ، دون جميع العالمين فما معنى رب العالمين. ولذلك قال : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) فسأل عن حقيقة الموصوف بهذه الصفة ، بما هو موصوف بهذه الصفة ، ولم يسأل عن حقيقة الله سبحانه ، فإنه لوثنيته كان معتقدا بوجوده ، مذعنا له ، وهو يرى كسائر الوثنيين ، أنه لا سبيل إلى إدراك حقيقته ، كيف ، وهو أساس مذهبهم الذي يبنون عليه عبادة سائر الآلهة والأرباب كما سمعت» (١).

أمّا تعليقنا على ذلك فهو : إن هذا التحليل طريف ودقيق ، ولكننا لا نستطيع فهمه من جوّ الآية ، فليست القضية عنده هي مفهوم رب العالمين ، أو رب عالم الأرباب ، بل الظاهر أن القضية هي طرح مفهوم الإله الشامل للكون كله وللعوالم كلها في مواجهة ربوبية فرعون وأمثاله. ولهذا رأيناه يتهدد موسى بأنه سيتعرض للسجن إذا اتخذ إلها غيره ، كما رأيناه يتحدث مع هامان في قوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ

__________________

(١) تفسير الميزان ج : ١٥ ، ص : ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

١٠٦

السَّبِيلِ) [غافر : ٣٦ ـ ٣٧]، مما يوحي بأنه ينظر إليه كإله منافس ، فهو يثير مسألته من هذا الجانب استغرابا لوجود إله غيره ، أو لطرح عبادة رب سواه في المنطقة التي يسيطر عليها.

(قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) فهو الرب المسيطر على الكون كله الذي لا بد من أن يعبده الجميع من موقع عبوديتهم له ، وليس لأحد أن يدّعي الربوبية لنفسه معه. فإذا كان كل واحد يدير منطقته ، فهل يعقل أن لا يوجد هناك من يخلق الكون وما فيه ويديره؟ فهل وجد الكون صدفة؟ وهل هو ذرّة ضائعة في الفراغ؟ أما قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) فقد يكون إشارة إلى ما قد يختزنونه في داخلهم بأن للسماوات والأرض وما بينهما ربا ، ولكنهم غافلون عنه بالاستغراق في آلهة الأرض ، فأراد أن يقول لهم بأن رب العالمين الذي أدعوكم إلى الإيمان به وإلى عبادته من خلال رسالتي التي أحملها إليكم منه ، هو رب السماوات والأرض وما بينهما ، الذي توقنون به ، فكيف توقنون بهذا وتنكرون ذاك؟!

ويعلق السيد الطباطبائي على هذه الآية في تفسير الميزان فيقول : «وقوله (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) جواب موسى عليه‌السلام عن سؤاله : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) وهو خبر لمبتدأ محذوف ، ومحصّل المعنى ، على ما يعطيه المطابقة بين السؤال والجواب : هو (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) التي تدل بوجود التدبير فيها ، وكونه تدبيرا واحدا متصلا مرتبطا ، على أن لها مدبرا ـ ربا ـ واحدا على ما يراه الموقنون السالكون سبيل اليقين من البرهان والوجدان.

وبتعبير آخر : مرادي بالعالمين السماوات والأرض وما بينهما التي تدل بالتدبير الواحد الذي فيها على أن لها ربا مدبرا واحدا ، ومرادي برب العالمين ، ذلك الرب الواحد الذي تدل عليه ، وهذه دلالة يقينيّة يجدها أهل اليقين الذين

١٠٧

يتعاطون البرهان والوجدان.

فإن قلت : لم يطلب فرعون من موسى عليه‌السلام إلا أن يعرّفه ما هذا الذي يسميه ربّ العالمين؟ وما حقيقته؟ لكونه غير معقول عنده ، فلم يسأل إلا التصور ، فما معنى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)؟ واليقين علم تصديقي لا توقف للتصور عليه أصلا.

على أنه عليه‌السلام لم يأت في جواب فرعون بشيء ، غير أنه وضع لفظ السماوات والأرض وما بينهما موضع لفظ العالمين ، فكان تفسيرا للفظ الجمع بأسماء آحاده كتفسير الرجال بزيد وعمرو ، فلم يفد بالآخرة إلا التصور الأوّل ولا تأثير لليقين في ذلك.

قلت : كون فرعون يسأله أن يصوّر له (رَبُّ الْعالَمِينَ) تصويرا مسلّم ، لا شك فيه ، لكن موسى بدّل القول بوضع (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) مكان العالمين ، وهو يدل على ارتباط بعض الأجزاء ببعض ، والاتصال بينها بحيث يؤدي إلى وحدة التدبير الواقع فيها ، والنظام الجاري عليها ، ثم قيّده بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ليدلّ على أن أهل اليقين يصدّقون من ذلك بوجود مدبّر واحد لجميع العالمين. فكأنّه قيل له : ما تريد برب العالمين؟ فقال : أريد به ما يريده أهل اليقين إذ يستدلون بارتباط التدبير واتصاله في عوالم السماوات والأرض وما بينهما ، على أن لجميع هذه العوالم مدبرا واحدا ، وربّا لا شريك له في ربوبيته لها ، وإذ كانوا يصدّقون بوجود ربّ واحد للعالمين ، فهم يتصورونه بوجه تصورا إذ لا معنى للتصديق بلا تصور» (١).

ولكن هذا الذي ذكره المفسر الجليل لا يوحي به اللفظ (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) لأن المسألة المطروحة ليست الاستدلال على أن للسماوات والأرض وما بينهما ربّا من موقع طبيعة الموضوع ، بل المطروح فيما بينهم

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٥ ، ص : ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

١٠٨

هو تطبيق فكرة مخزونة في داخل عقولهم على الفكرة التي يطرحها عليهم لإخراجهم من الاستغراب ، بتذكيرهم بما يؤمنون به وإخراجهم من أجواء الغفلة عنه ، من دون الدخول في جدل حوله ، بإثارة علاقة الحاجة إلى المدبر بالإيمان به ، والله العالم.

(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) إلى ما يقوله موسى عليه‌السلام عن ربّ العالمين ، ربّ السماوات والأرض وما بينهما مما لم نسمعه ولم نألفه في عقائدنا وأوضاعنا العامة والخاصة؟ فكأنه يريد أن يثير فيهم الاستنكار الشديد نحوه ليهزم دعوته بأساليب الإثارة ضدّه.

ولكن موسى لم يأبه لذلك كله ، بل بقي مستمرا في دعوته في مواجهة التحدي بالتحدي ليجعل الصفة الإلهية في ربوبيته مرتبطة بهم في وجودهم الذاتي في الحاضر ، وفي وجود آبائهم في الماضي.

(قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) فكيف تجهلون خالقكم وخالق آبائكم الذي تستمدون وجودكم من خلال إرادته ، أو كيف تتجاهلونه؟

(قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) فهو يهذي بكلام غير مفهوم ، ولكن موسى يتابع كلامه في الإصرار على ذلك بأساليب متنوعة من دون تقدير للنتائج السلبية المتعلقة به في حاضره ومستقبله ، (قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) هل تتطلعون ـ جيدا ـ إلى الشمس عند ما تشرق في الكون في جهة معينة منه فتكشف لكم جانبا كبيرا منه يسمى بالمشرق ، وعند ما تغرب في جهة أخرى فتكشف جانبا آخر يسمّى بالمغرب ، ألا يثير ذلك فيكم الشعور بأن هناك قوّة تحرّك ذلك كله في حركة النور والظلام؟ لما ذا لا تفكرون بعقولكم لتلتقي بالحقيقة الإلهية المطلقة في الكون ، لتعرفوا أن رب العالمين الذي أدعوكم إلى عبادته في ما أحمله من رسالته هو رب السماوات والأرض وما بينهما ، وهو رب المشرق والمغرب وما بينهما ، وأن تنوّع الأسماء يشير

١٠٩

إلى تلك الحقيقة الواحدة التي تشرق على الكون كله وتدبره بكل ظواهره ومفرداته؟

إنها كلمات الإصرار على الموقف ، المنفتحة على نوافذ العقل والوجدان واليقين التي توحي بالقوّة الرسالية في الموقع الثابت الذي يقف فيه موسى في وجه التحدي الكافر الذي يمثله فرعون وقومه.

* * *

فرعون يلجأ إلى التهديد بعد سقوط حجته

ولم يستطع فرعون أن يتمالك نفسه ، فقد خاف أن يظهر عجزه لقومه ، لو استمر بهذا الأسلوب المتحرك مع علامات الاستفهام ، ومواقف الاحتجاج والاستنكار ، فالتجأ إلى أسلوب الأقوياء الضعفاء عند ما يريدون أن يغطّوا ضعف مواقفهم الداخلية بمظاهر القوّة الخارجية الاستعراضية ، وذلك بإطلاق كلمات التهديد بالسجن. (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) فليست لك حرية اختيار الإله الذي تعبده ، لأن اختيار عبادة غيري في الأرض التي أملكها وأستبعد أهلها وأشرف عليها من موقع الربوبية العليا ، تسيء إلى نظام المجتمع كله في قضية العبادة والطاعة والانقياد ، ولذا فإن الحرية الفردية التي تتيح لك أن تقول ما تريد أو تفعل ما تشاء ، تخضع لقيود النظام العام للأمة كلها ، فتسيء إلى الناس كلّهم ، فمن حق الرب الذي يدبّر أمور عباده أن يمنع الذين يسيئون للنظام ، ويعرضون السلامة العامة للخطر ، فلا بد لك من أن تتراجع عن دعوتك وعن التزامك وتبدّل مواقفك بالرجوع إلى عبادتي والاعتراف بألوهيتي ، وإلّا فمصيرك السجن الذي يتيح لك فرصة الاصطدام بالحقيقة ، في لحظات الهدوء التي تمنحك التفكير الواقعي في الأمور ، بعيدا

١١٠

عن الخيالات اللّاواقعية في قضايا الكون والحياة.

ولكن موسى لم يستسلم للتهديد ، فقد كانت رساليته تفرض عليه التنقل من جوّ إلى جوّ ، بطريقة ذكيّة ، تجعل الجميع مشدودين إلى آفاق الرسالة. فإذا كان فرعون يهدّده بالسجن ، فإنه يطرح عليه الآيات البيّنات المنطلقة من عالم الغيب الدالّة على ارتباطه بقوّة الله ، مما لا يستطيعه أيّ بشر مهما كانت قوته ، ليكون ذلك حركة متقدمة في التحدي بالقوّة أمام التهديد بالسجن من موقع القوة الفرعونية.

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) يوضح لك الحقيقة ، ويدلك على صدق الدعوى ، فلا تبقى القضية بيننا قضية علامات استفهام تبحث عن أجوبة ، بل تتحول إلى حركة الحقيقة التي تفرض نفسها على العقل والشعور والواقع في صدمة حاسمة لا تترك مجالا للجدل؟ فهل تبقى على أسلوب التهديد والوعيد إن جئتك بذلك المعجز الخارق؟

(قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) قالها وهو يشك في قدرته على ذلك ، مع قلقه في إمكانية ذلك ، ولكنه لا يستطيع أمام الملأ من حوله ، إلا أن يستجيب للطلب المتحدّي لئلا يسجلوا عليه بذلك نقطة ضعف.

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) وكانت هذه الآية الأولى التي أثارت الرعب والفزع في نفس فرعون ، لما تمثله من الخطورة والقوة غير العادية ، (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) وقد كانت موضوعة في جيبه فأخرجها منه ، وهذه هي الآية الثانية التي أثارت الدهشة في عيون الحاضرين.

(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) فقد أسقط ما في يده ، ولم تعد له أيّة حجة يجابه بها موقف موسى القويّ ، فلم يكن ينتظر أن يكون الرد بهذه الطريقة ، بل كان ينتظر جدلا ومناقشة واستغراقا في التفاصيل التي يستطيع فرعون معها أن يلعب على الألفاظ ويستثير المشاعر ، لذا لم يبق لديه إلّا

١١١

عنصر التهويل والإثارة ومواجهة المسألة على أنها حالة سحر ، لأنها تشبه ألا عيب السحرة ، لتكون شخصية موسى ـ في نظرهم ـ شخصية الساحر لا شخصية الرسول ، وبذلك يأخذ حجمه المحدود في نظرهم ، فلا يترك أيّ أثر إيجابي على مستوى القداسة الروحية من خلال الرسالة مما قد يؤثر سلبا على علاقة الناس بفرعون.

ثم حاول أن يثير هؤلاء الجالسين حوله ، من خلال خطورة الخطة التي تستهدف إخراجهم من أرضهم بالسيطرة عليها بواسطة سحره الذي يتميز بقدرات غير مألوفة ، الأمر الذي يفرض التفكير في الأمر بطريقة جدية توحي بالاهتمام في مستوى الخطر ، وهذا ما توحي به الآية التالية : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ) وتشيرون به عليّ ، حتى نتفق على الخطة المضادة التي تهزم خطته وتبطل سحره؟ ولعلّ في التعبير بالأمر الصادر منهم إليه ، نوعا من الإيحاء بالتنازل الذي يستهدف الوصول الذي تأييدهم بشكل يستوعب ذواتهم ، في ما يرفع منزلتهم عنده.

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) فإن السحر لا يبطله إلا السحر ، وإذا كان موسى ينطلق من خلال شخصية الساحر في موقعه ، فهناك أكثر من ساحر لدينا ممن يملك علم السحر بالمستوى الرفيع ، فلنمهل موسى وأخاه مدة من الزمن من دون اتخاذ أي إجراء سلبيّ بحقهما حتى نستطيع إبطال سحرهما لئلا يتأثر الناس بهما ، ولنجمع كل ما نستطيع جمعه من هؤلاء السحرة ثم نتصرف بما نراه بعد ذلك.

وهكذا كان ، (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) وهو يوم الزينة ، كما تقدم في سورة طه ، (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) في اجتماع جماهيري حاشد ، (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) حيث يظهر بطلان دعوة موسى ، فيتأكد الخط الفرعوني الذي يلزمه السحرة في دينهم ، فيزداد رسوخا في التزام الناس

١١٢

خلال قوّته وأصالته.

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) لنعرف أن جهدنا لن يكون جهدا ضائعا ، ولنتصرف من موقع المهنة التي تريد أن تؤكد ذاتها في الربح الكبير ، مما يزيد الجهد حماسا وقوّة ، (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) فلن تقتصر المسألة على الأجر المادي ، بل سيتبع ذلك الأجر المعنوي ، وهو القرب إلى مواقع الحظوة والسلطة من فرعون ، لأنهم استطاعوا أن ينقذوا الملك من عوامل الاهتزاز الذي قد يهدد أساسه ، ويسقط قوّته.

(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ* فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) وهكذا أطلق موسى التحدّي ليوحي إليهم بقوّة موقفه وثقته بأن النتيجة الأخيرة ستكون لصالحه ، فليلقوا كل ما لديهم من وسائل السحر. واندفعوا في عملية إيحائية بالدور الموكل إليهم في الدعاية لربوبية فرعون ، وللتأكيد في وعي الجماهير أن قوته السحرية الخارقة هي التي تجلب الحظ ، وهي التي تحقق الغلبة لأتباعه ، تماما كما يفعل العبيد مع أربابهم. وهكذا كانوا مستغرقين في أحلام القوة الذاتية من خلال ما يملكونه من عناصر الفن السحري ، وتمنيات الربح الوفير على المستوى المادي والمعنوي من خلال وعود فرعون لهم بالجائزة وبالقرب منه. وهنا كانت المفاجأة التي قلبت الأمور رأسا على عقب ، وأسقطت كل حساباتهم ، وهزمت كل قواعد السحر عنده ، لأن ما يرونه ليس سحرا ، ولكنه غيب من الغيب الذي لا يملكه إلا الله (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) استطاعت العصا التي تحوّلت إلى ثعبان عظيم بقدرة الله أن تبتلع كل تلك الحبال والعصيّ ، بطريقة غامضة لا يملكون لها تفسيرا في ما يعرفونه من قواعد السحر.

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ* قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) فقد رأوا عظمة الله في عظمة المعجزة ولم يروا فيها شخصية موسى في قدراتها

١١٣

الذاتية ، لأنهم يعلمون من خلال اختصاصهم ، أنه لا يملك علم ذلك ولا القدرة عليه ، ولهذا رأوا فيه الرسالة المنطلقة من الله الذي كان يصفه موسى بأنه رب العالمين ، الذي عرفوه من خلال المعجزة فآمنوا به من خلال الرسالة التي يمثلها موسى وهارون.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) فقد اعتاد أن يضغط على تفكير الناس في ما يؤمنون به أو يكفرون ، وما يتحركون فيه من مواقف ومشاريع ، فلا بد من أن يستشيروه في مسألة الإيمان ليأخذ النتائج بما واجهه من موقف موسى ، فليس لهم أن يأخذوا موقفا حاسما قبله ، ولهذا فإنه لا يفهم أن من الحق لأتباعه أن يكون لهم فكر مستقل وإرادة مستقلة في وعي الأشياء التي تحدث في حياتهم ، أو يواجهون بها القضايا التي تتحداهم. ولهذا لم يحاول أن يفهم المسألة في اتجاه القناعة الذاتية في موقف الإيمان ، بل حاول أن يفسره بالتامر عليه ، في ما يفرضه من علاقة خفية بينهم وبين موسى ، لتكون القضية تمثيلية في غلبة موسى عليهم ، لا حقيقية لتوحي بما أوحت به إليه ، وهكذا أطلق التهمة الصارخة في وجوههم ، ليخرج ـ من خلالها ـ من مأزقه المحرج.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) كيف أعاقبكم على هذه المؤامرة الخطيرة التي تعرّضون فيها كيان الملك للخطر ، (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) وذلك بأن تقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس ، (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) لتموتوا موثوقين مرتبطين بالحبال على الصليب.

ولكن ذلك لم يهزم إيمانهم ولم يضعف موقفهم ، بل واجهوه بصلابة في الإرادة واستهانة بتهديده ، وارتفاع بالموقف إلى المستوى الرفيع في آفاق الله (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) فلن يضرنا تهديدك وعذابك ، لأننا سننتقل منه إلى الدار الآخرة التي يشملنا فيها ربنا برحمته ، (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا)

١١٤

التي أخطأناها عند ما آمنا بك وعملنا بخدمتك ، وكنا أعوانا لك على إضلال الناس ، والإيحاء لهم بأنك صاحب القوّة التي لا تقهر وبأنّ قوتنا مستمدّة من قوتك ، وأن انتصاراتنا خاضعة لبركة عزتك وقداستك. إننا نبتهل إليه ونخضع له ونخشع بين يديه ليغفر لنا خطايانا ، لأننا أحسنّا العمل وأخلصنا التوبة ، وأعلّنا الندم بصوت عال في الموقع الذي كنا نعلن فيه الإصرار من قبل. ونحن نطمع أن يستجيب لنا انطلاقا من (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) بربوبيته ووحدانيته وبالكفر بك ـ يا فرعون ـ وبأضاليلك.

* * *

١١٥

الآيات

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٦٨)

* * *

معاني المفردات

(أَسْرِ) : سرى : سار ليلا.

(لَشِرْذِمَةٌ) : الشرذمة : الطائفة القليلة من الناس.

(لَغائِظُونَ) : غائظون : جمع غائظ ، يقال : غاظه واغتاظه وغيظه إذا

١١٦

غضبه.

(حاذِرُونَ) : جمع حاذر ، وهو المحترز المتيقظ ، وقال الطبرسي : الحاذر الفاعل للحذر ، والحذر المطبوع على الحذر (١).

(مُشْرِقِينَ) : مشرقين : داخلين في وقت شروق الشمس.

(تَراءَا) : تراءى الجمعان : تقابلا ورأى كل منهما صاحبه.

(فِرْقٍ) : بكسر الفاء : الجزء.

(كَالطَّوْدِ) : الطود : الجبل.

(وَأَزْلَفْنا) : قربنا.

* * *

هلاك فرعون وانتصار موسى عليه‌السلام

وجاءت نهاية المطاف .. فقد قرر فرعون بعد هذا العناء الطويل في صراعه مع موسى أن يستعمل القوّة القاهرة المسلّحة للقضاء على موسى وأتباعه ليحفظ هيبة موقعه الإلهي وقوّة ملكه. وبدأ يعدّ العدة لذلك ، وأوحى الله إلى موسى بالأمر ليأخذ له عدّته.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) من بني إسرائيل ، فتحرك بالليل لتغطي انسحابك ، لتخرج بني إسرائيل معك من دون استشارة فرعون ، لأنك في موقع القوة لا الضعف الذي يضطرك إلى أخذ موافقته. ولكن ذلك لن يخفف من طبيعة المجابهة المسلحة التي قرر فرعون مواجهتك بها (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)

__________________

(١) مجمع البيان ، م : ٤ ، ص : ٢٤٩.

١١٧

ومطاردون وذلك من خلال المجموع الغفيرة التي دعاها للقيام بتلك المهمة ضدكم.

(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) يجمع الناس ويحشرهم إليه ، ليثيرهم ضد موسى وقومه بطريقة إعلانية مضلّلة (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) فلن يكلفنا القضاء عليهم جهدا كبيرا ، ولا مدّة طويلة ، لأنهم جماعة قليلة لا تمثّل أيّة قوّة في العدد والعدّة والموقع. (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) يأتون بالأعمال والمواقف التي تجلب لنا الغيظ ، بما تثيره من النتائج السيئة على مستوى قضايا العقيدة والعمل ، (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) نؤكّد الحذر الذي يفرض علينا متابعة التحديات في مواقعها الكبيرة والصغيرة ، لنهزمها وندمّر كل مواقع قوتها قبل أن تطبق علينا بالخطة الموضوعة المرسومة التي يعمل أصحابها على اغتيالنا وتدمير مصالحنا بطريقة وبأخرى.

(فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) في خروجهم الذي أرادوا من خلاله ملاحقة موسى وقومه ، فكانت النتيجة أنهم خرجوا من كل ملكهم وفارقوا كل تلك الجنات والعيون والكنوز الكثيرة الغنية والسلطة الواسعة ، فلم يرجعوا إليها (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) فأبقيناهم بعدهم وكانوا هم الوارثين لذلك كله. (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) أي في وقت شروق الشمس ليلا حقوهم في الضوء ، وكانوا قد قطعوا مرحلة كبيرة في سيرهم بالليل ، (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) ودنا بعضهم من بعض ، وأبصر بعضهم بعضا ، (قالَ أَصْحابُ مُوسى) الذين عاشوا القهر والاستعباد من فرعون حتى تأصّل الخوف في نفوسهم ، وتعمّق الرعب منه في قلوبهم ، ففقدوا الثقة بأنفسهم ، وابتعدوا عن التفكير في قوّة الله من فوقهم ، (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) فسيدركنا فرعون بجنوده وسيقبضون علينا ويقتلوننا أو يرجعوننا إلى العبودية من جديد.

(قالَ كَلَّا) فلن يستطيعوا اللحاق بنا مهما حاولوا ، لأن القضية ليست في

١١٨

مستوى القضايا العادية التي ترتكز على القدرة البشرية ، بل هي في مستوى التدبير الإلهي الذي لا يخضع للأمور المألوفة في قوانين الطبيعة (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) فهو الحافظ لي من الأعداء وهو الناصر لي عليهم ، في ما وعدني به في بداية الرسالة. ولذلك فإني واثق بأنه سيدلني إلى الطريق الآمن الذي لن يستطيعوا اللحاق بي من خلاله.

(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) وانشق ، (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ) أي قطعة منفصلة من الماء (كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي كالجبل العظيم. وهكذا دخل موسى في قلب البحر ، ولكن في أرض يابسة يحيط بها الماء من كل جهة.

(وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) وهم فرعون وجنوده وقربناهم إلى المنطقة التي سار فيها موسى وقومه حتى يشعروا بالأمن في ملاحقتهم لهم (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) فأخرجناهم من البحر إلى البر (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) فقد انطبق البحر عليهم بعد خروج موسى وقومه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) فقد رفضوا كل ما قدمه لهم موسى من آيات وبيّنات ، من دون أن يملكوا أيّ أساس للرفض. فكان جزاؤهم العقاب في الدنيا والآخرة. وعلى الأمم اللاحقة لهم أن تتفهم هذا الدرس في ما تواجهه من دعوات الأنبياء ، فتعرف كيف يأخذ الله المتمردين أخذ عزيز مقتدر ، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) فلا يستطيع أحد أن ينتقص من عزته ، كما أن رحمته تتسع لكل خلقه.

* * *

١١٩

الآيات

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً

١٢٠