تفسير من وحي القرآن - ج ٥

السيد محمد حسين فضل الله

الآيات

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما

* * *

٨١

تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢٦٦)

* * *

معاني المفردات

(سُنْبُلَةٍ) : على وزن فنعلة ، كقولهم أسبل الزرع ، بمعنى سنبل إذا صار فيه السنبل ، والأصل فيه الإسبال ، وهو إرسال الستر ونحوه ، فكما يسترسل الستر بالإسبال ، يسترسل الزرع بالسنبل ، ولأنه صار فيه حب مستور كما يستر بالإسبال.

منا : المن : ذكر ما ينغّص المعروف بأن يعتدّ على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه أوجب عليه حقا له ، وأصل المنّ القطع (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [فصلت : ٨].

(أَذىً) : الأذى : الضرر العاجل أو اليسير ، في النفس أو الجسم.

(خَوْفٌ) : الخوف توقّع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة.

(يَحْزَنُونَ) : الحزن : الغم من مكروه واقع أو كالواقع.

(رِئاءَ) : مراءاة وتظاهرا ، من الرؤية ، كأنه يعمل ليري غيره ذلك أو يري الناس أعماله حتى يروه الثناء عليه والاحترام له.

(صَفْوانٍ) : الحجر الأملس ومفرده صفوانة.

(وابِلٌ) : مطر ثقيل غزير عظيم القطر ، ولمراعاة الثقل ، قيل للأمر

٨٢

الذي يخاف ضرره وبال ، والوبيل الشديد.

(فَطَلٌ) : الطلّ : أخف المطر وأضعفه ، وقيل : الرذاذ أقوى منه ثم الهطل ثم الوابل.

(جَنَّةٍ) : البستان الكثير الشجر ، لأن الشجر يجنّه بكثرته فيه.

(إِعْصارٌ) : ريح تثير الغبار ، سميت بذلك لأنها تلتف كما يلتف الثوب المعصور.

(بِرَبْوَةٍ) : الربوة : الأرض التي تزيد وتعلو في نموّها ، من الربا بمعنى الزيادة.

* * *

الإنفاق في سبيل الله : فكر ومثل

للإنفاق في سبيل الله ، دور كبير في مفاهيم الإسلام وتشريعاته ، من حيث قيمته الكبرى في الحياة وثوابه العظيم عند الله. وقد تنوعت الآيات الكريمة في أكثر من سورة في تصوير أهميته ، والحديث عن أبعاده وحدوده ، ودعوة الإنسان إلى الإقبال عليه كما يقبل على قيمة روحية وعبادة إسلامية في ما فرضه الإسلام من عبادات ، لأن الله لم يقتصر في العبادة على ما يؤديه الإنسان من صلاة في ما يقوم به من حركات ، أو يتكلم به من أذكار وابتهالات ، بل انطلق ليجعل الإنفاق عبادة مفروضة لا بد من أن يؤديها الإنسان بقصد القربة كما يؤدي صلاته في ما افترضه من خمس وزكاة وصدقة ، وذلك في نطاق التخطيط الشامل للعبادة التي تتسع حتى تشمل الحياة كلها في خضوعها لله في ما يريده وفي ما لا يريده.

وفي هذه الآيات جولة في أفق الإنفاق في سبيل الله ، في ثوابه عند الله ، وفي قيمته وحدوده وطبيعته ، في ما تتحدث عنه الآيات من تفاصيل.

٨٣

الإنفاق بين القيمة الذاتية والقيمة الاجتماعية

وقد يبدو لنا ـ في بداية الحديث ـ أن نتساءل عن المعنى الذي يمثله الإنفاق في سبيل الله في تخطيط حركة الإنسان في الحياة. فهل هي القيمة الذاتية التي تتمثل في الدوافع والأجواء النفسية التي يعيشها المنفق ، ليكون الثواب جزاء على ما يجسده العمل من معنى روحي إنساني ، بعيدا عن أيّة حالة إنسانية عامة تتصل بالواقع الاجتماعي للمجتمع ككل ، أو هي القيمة الاجتماعية في ما يحققه الإنفاق من رعاية المجتمع في حاجاته العامة والخاصة؟

والجواب عن ذلك ، أن التشريع الإسلامي الذي أنزله الله للحياة لا ينحصر في جانب واحد ، بل يشمل الجوانب كلها ، لأن الحياة لا تمثل في مسيرتها الإنسانية جوانب منفصلة عن بعضها البعض ، بل تمثل التشابك والارتباط بين مختلف الجهات ، فلا نتصور الجانب الذاتي الروحي منعزلا عن الجانب الاجتماعي ، لأن قوة الروح الاجتماعية في الإنسان تكمن في القيمة الروحية الذاتية لشخصيته ، كما أن للأعمال المنطلقة من خلال الدوافع الروحية في حركة الإنسان في المجتمع تأثيرا كبيرا في نموّها وسلامتها وتطويرها ... وهذا ما نلاحظه في الصلاة التي هي عبادة روحية ، فإنها تشتمل على بعد ذاتي روحي ، يحقق معنى العبودية لله في أعماق النفس ، وعلى بعد أخلاقي اجتماعي يحقق إبعاد الإنسان عن الفحشاء والمنكر في ما يعنيه من قيمة فردية واجتماعية ، بل قد يكون للبعد الأول أثر كبير في تعميق البعد الثاني ، باعتبار أن عبودية الإنسان لله تمثّل مسئوليته العملية في الانضباط أمام إرادة الله في ما يحبه وفي ما لا يحبه ، في حياة الفرد والمجتمع ... ونلاحظه في الصوم الذي أريد له أن يحقق للإنسان معنى

٨٤

العبودية لله الذي يلتقي بالإرادة الصلبة المبنية على التقوى ، كما يلتقي بالروح الإنسانية في مشاعرها الطاهرة إزاء مظاهر البؤس والجوع والعطش في حياة الناس الآخرين بما يثيره الصوم من هذه المشاعر من خلال إثارته للجوع والعطش والحرمان في داخل النفس والجسد ، فتلتقي فيه القيمة الفردية والاجتماعية.

ومن خلال ذلك ، نستطيع أن نقرر الفكرة التالية ، وهي أن التشريعات الإسلامية ـ بما فيها التشريعات العبادية ـ قد لاحظت جميع الأبعاد الإنسانية في ما تشتمل عليه من جوانب روحية ومادية في آفاق الفرد والمجتمع ، انطلاقا من أن الإنسان كلّ مترابط الأجزاء في ما ينطلق فيه من إيجابيات وسلبيات. وعلى ضوء ذلك ، نجد أن الإنفاق يمثل النموذج الحيّ لهذا الخط في التشريع ، فإن القيمة فيه لا تتمثل في الحجم المادي له ، بل تتمثل في تحقيق الشخصية الإنسانية الإسلامية في ما تعيشه من روح العطاء الذي تنساب معه كل المشاعر الإنسانية التي تلتقي بالهموم الكبيرة للإنسان في الحالات الفردية الصعبة التي يعاني فيها الفرد آلام الحرمان ، وفي الحالات الاجتماعية القاسية التي يفقد فيها المجتمع عوامل الكفاية والاستقرار الاقتصادية والحياتية ، وفي الحالات العامة التي تعيش فيها الأمة الاهتزاز المادي والسياسي والاقتصادي والأمني ، وفي الأمور الأخرى التي تتصل بالعناصر التي تمنح الإنسان قوّته واستقراره وكرامته الإنسانية. وبذلك يتحرك الإنفاق ، من خلال روح العطاء ، في بعدين : البعد الروحي الذاتي الذي يدخل في تكوين شخصية الإنسان في دوافعه وحركاته من موقع القيمة الروحية الفردية في ما تمثله من خصائص الذات في حساب التقويم الإنساني ، والبعد الاجتماعي ، في ما تحققه من عناصر الاستقرار والأمن والقوة للمجتمع وللأمة.

إن القرآن الكريم في منهاجه التربوي للإنسان ـ يريد أن يصنع الإنسان

٨٥

الذي يعيش هموم المجتمع ، بحيث يشعر أنها همومه الذاتية ، ويتحمل مسئوليته ، في قضاياه الاجتماعية ، على أساس أنها مسئوليته في قضاياه الخاصة ، ليتم الاندماج بين الشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية في عملية تكامل إنساني روحي عملي. ولهذا كان العطاء الذي يتمثل في روح الإنفاق ، يحقق للإنسان هذه الشخصية ، الأمر الذي يجعل القيمة للمبدأ بدلا من أن يجعلها للمقدار ، وهذا هو ما نفهمه من الآيات الآتية التي تحدثت عن الثواب من خلال المبدأ والنوعية في الإنفاق ، ولم تتحدث عنه من حيث المقدار والكمية ، كما أثارت موضوع المضاعفة للثواب من دون تحديد ، للإيحاء بتصاعد القيمة النوعية للإنفاق الذي يستوجب التصاعد في الثواب والقرب من الله.

وإذا كانت قيمة الإنفاق تتمثل في هذا الجو الروحي والعبادي والاجتماعي ، فلا بد من أن يكون متحركا في خط المفاهيم الإسلامية التي يعيشها الإنسان المسلم في حياته العامة ، لأن ذلك هو الذي يحقق الهدف في تربية الشخصية الإسلامية ونموّها الروحي والعملي. ولهذا أكّدت الآيات على خط سبيل الله الذي يمثل الأعمال والأجواء والأهداف التي يحبها الله ويرضاها ويريد للإنسان أن يحققها ويحياها ، فالإنفاق في الجهاد سبيل من سبل الله ، لأن الجهاد فرض فرضه الله على عباده ، والإنفاق في سبيل رفع المستوى الثقافي والصحي والاجتماعي والديني لعباد الله سبيل من سبل الله ، لأن الله أراد للإنسان أن ينفع عباده في ما يملكه من طاقات ، والإنفاق في سبيل إعانة السائل والمحروم واللهفان ، هو سبيل من سبل الله ، لأن الله أراد للإنسان أن يحمل همّ الضعيف والمحروم والملهوف. وهكذا يتسع سبيل الله ليشمل كل عمل خير ينفع البلاد والعباد في شؤون الدنيا والآخرة.

إن التأكيد على خط سبيل الله ، يمثل الفكرة التي تربط القيمة الإنسانية في العمل الإنساني بالخط الذي يتحرك فيه العمل ، لا في ذات العمل بعيدا

٨٦

عن حركة الخط الرسالي. ومن هنا نفهم الأحاديث التي تتحدث عن الكرم والسخاء من حيث تمثيلها لروح العطاء التي تصب في مجرى الحياة الاجتماعية في ما تسدّ به خلّة أو تقضي به حاجة أو تغيث به ملهوفا أو تطعم به جائعا أو تكسو به عريانا ، وما إلى ذلك من قضايا الإنسان المحروم أو الضعيف. فليست هناك قيم مطلقة في حساب الإسلام ، بل كل ما هناك هو انطلاق القيمة من المواقع الإسلامية في حياة الإنسان.

وفي هذا الإطار ، نعرف أن الإنفاق من أجل الحاجات الذاتية ؛ المادية والمعنوية ، أو من أجل العصبيات الفردية الضيقة ، تتحول إلى عمل تجاري يبحث فيه الإنسان عن العوض لما يقدّمه للآخرين ولا يعيش الروح الإلهي في ما يعطيه ، وبذلك يبتعد عن سبيل الله ، الذي يريد للإنسان أن ينفق طلبا لمرضاة الله ، ولما عند الله من ثواب.

وإذا كان الإنفاق في سبيل الله ، فلا معنى للمنّ والأذى على الإنسان المنفق عليه ، لأن ذلك هو شأن الإنفاق الشخصي الذي ينطلق من عوامل ذاتية تتعلّق به ، أما سبيل الله ، فيجعل العمل من أجل الله ، بحيث لا يكون للشخص دخل فيه إلا على أساس ارتباطه بالفكرة العامة والعنوان العام ، من حيث هو مسئولية وفريضة وحقّ للآخرين عليه ، في ما يطرحه الإسلام من مفهوم المال بأنه مال الله الذي آتاه للإنسان واستخلفه عليه وأمره بأن ينفق منه على نفسه وعلى الآخرين ، مما يبعد الإنفاق عن معنى المبادرة الذاتية ، ويحوّله إلى وكالة عن صاحب المال في إيصاله إلى مستحقيه ، الأمر الذي يرفع القضية عن دائرة المنّ في الأساس. وقد أفاضت هذه الآيات بأكثر من أسلوب في اعتبار ذلك مبطلا للصدقة في معناها وفي ثوابها ، تماما كصدقة المرائي الذي لا يستهدف من صدقته إلا رضا الناس عنه ، لأن القضية واحدة في النتيجة في كلا الحالين.

٨٧

أما كيف عالجت الآيات هذه المعاني ، فهذا ما سنعرض له في الوقوف أمام مفردات الآيات.

* * *

جزاء الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) إن الآية تتحدث عن الجزاء على الإنفاق في سبيل الله ، بأسلوب ضرب المثل بالصورة الحسيّة التي يواجهها الإنسان في حياته ، وهي صورة الحبّة ـ البذرة التي يلقيها الزارع في الأرض ، فتنبت سبع سنابل تشتمل كل واحدة منها على مائة حبة. وهكذا يتحوّل كلّ مورد للإنفاق من الإنسان إلى سبعمائة حسنة له قابلة للزيادة عند الله ... والحديث عن الثواب في مجال الترغيب في العمل أسلوب ديني ينطلق من فطرة الإنسان على محبّة الذات في ما تحصل عليه من الربح والخسارة ، وقد أبقاها الله فلم يكبتها في داخله عند ما كلفه بما كلفه مما قد يؤدي إلى الخسارة المادية ، ولكنه وجهها توجيها صالحا يدفع الإنسان إلى طلب الربح في ما عند الله بدلا من الاقتصار على ما في الحياة الدنيا ، وذلك من خلال حركة الإيمان بالله واليوم الآخر ، فيبتعد بذلك عن ووساوس الشيطان التي تثير أمامه احتمالات الخسارة عند ما يريد ممارسة الإنفاق.

وقد يتساءل بعض الناس ، أنه لا يوجد في العالم سنبلة تحمل مائة حبة ، فإن أكثر الأرقام التي شوهدت هو ثمانون حبّة. فكيف نفهم وقوع هذا الفرض غير الموجود في الآية الكريمة؟ والجواب : أولا ، إن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ، فلا مانع من وجود مثل هذه السنبلة في ما لم نعثر

٨٨

عليه. وثانيا ؛ إن أسلوب ضرب المثل لا يفرض واقعية الصورة ، بل كل ما هناك هو تقريب الفكرة من خلال الصورة التي تنقل الموضوع من الواقع إلى المثال ، فإن المقصود هنا هو الحديث عن حجم ثواب الله على الإنفاق في سبيله بالمستوى الذي يبلغ فيه هذا الرقم ، ولكن بأسلوب مؤثر في صورة الواقع المحسوس.

* * *

علاقة الثواب بحجم العمل

وقد يتساءل الإنسان عن طبيعة هذا الجزاء أو تفسيره ، هل هو مجرد تفضّل من الله على عبده ، أو أنّ هناك سرّا يقترب فيه حجم الثواب من حجم العطاء؟

وقد يبدو لنا ـ في الجواب عن هذا التساؤل ـ أنه تفضّل من الله ينطلق من سر في نتائج العطاء ، فإن قيمة العطاء تتمثل في الحل الذي يقدمه لمشاكل الفرد والمجتمع والأمة ، مما يعني أن استمرار هذه المشاكل يخلق للحياة مشاكل جديدة ومآسي كثيرة ، لأن المشكلة إذا امتدت في الزمن ، أحدثت أوضاعا سلبيّة على حياة الإنسان الذي يعيشها ، مما يوجب خللا كبيرا في توازن الحياة ، وبذلك يعمل الحل على تفادي أكثر من مشكلة ، كما أنه يؤثر في الجانب الإيجابي ويعطي دفعة جديدة للحركة المبدعة في حياة الإنسان ونموّه وتطوّره ، مما يعني أن العطاء المادي يفسح المجال للعطاء الروحي من جانب الإنسان المحروم بطريقة منتجة واسعة ... وهذا ما نستوحيه من الأحاديث التي تتنوّع فيها كميّة الثواب تبعا لنوعية الحرمان

٨٩

وتأثيره على طاقة الإنسان وحياته العامة والخاصة ...

وهناك نقطة أخرى ، قد تضاعف الثواب على العمل من حيث دلالتها على عمق المعنى الروحي الذي يتمثل في إخلاص المؤمن لربه ، فإن للنية قيمتها الأساسية في طبيعة العمل وفي نوعية المعنى المتمثل فيه ، بل هي روح العمل ، وهذا ما وردت به الأحاديث الكثيرة القائلة «فإنما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امرئ ما نوى» و «يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة» وغيرها الكثير. وفي ضوء هذا ، قد تلتقي النية الطيبة المخلصة المنفتحة على إنسانية الإنسان من خلال انفتاحها على الله في ما يحبه ويرضاه ، بالحلّ الأمثل للمشكلة الاجتماعية الخانقة في حياة الفرد والمجتمع ، مما يعزز الجانب الذاتي الروحي بالجانب الموضوعي الاجتماعي ، ولعل كلمة (سَبِيلِ اللهِ) تختصر الأمرين معا ، فإن العمل الذي ينطلق من الإنسان في سبيل الله ، هو العمل الذي يريد الله للحياة أن تحققه في واقع الناس من خلال الإنفاق ونحوه ، وهذا ما يجعل مضاعفة الثواب مرتبطة بمشيئة الله التي تراقب الإنسان في دوافعه وتنظر إلى العمل في نتائجه المؤدية إلى حل المشكلة الفردية والاجتماعية من خلال الخصوصيات التي تتنوع هنا وهناك في الحجم والعمق والإخلاص.

ومن خلال ذلك ، نعرف أن حجم الثواب كان منطلقا من حجم النتائج الإيجابية التي يحققها العطاء والنتائج السلبية التي يمنعها ، بعيدا عن طبيعة الرقم الذي يتمثل فيه العطاء في ذاته. وفي ضوء ذلك ، نعرف معنى الفقرة التالية في الآية (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) على أساس ما ينتجه العطاء من نتائج وما يكشف عنه الموقف العملي في دوافعه وأهدافه من معان قريبة إلى الله حبيبة إليه (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) لا يضيق بأي عطاء ، وهو العالم بنواياكم وأفكاركم في ما تعطون وتمنعون.

٩٠

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) هؤلاء الذين ينفقون من موقع مسئولية العطاء أمام الله ، ويشعرون أنهم قاموا بواجبهم الملقى عليهم ، فلا مجال عندهم للمنّ على أحد ممن أنفقوا عليه ، لأن القضية لا تتعلق بهم كأشخاص ، بل كمورد من موارد الإنفاق الواجب والمستحبّ ، كما أن القضية لا تمثل موقفا شخصيا يرتبط بالذات ليتحوّل إلى موقف من مواقفها الخاصة. وبذلك يريدون لعملهم أن يستمر في روحه المنطلقة من محبة الله ، فلا يسمحون لأنفسهم بأية كلمة تؤذي مشاعر من أنفقوا عليه ، هؤلاء الذين يعيشون القيم الروحية والعملية التي أراد الله للإنسان أن يعيشها في برنامج حياته اليومية كخطّ عمليّ مستقيم ، هم الآمنون عند الله ، الفرحون بما أفاض عليهم من قربه ورضاه ، المتقلّبون في نعمائه يوم القيامة ، بما أغدقه عليهم من نعمه وألطافه.

(وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). هل الآية في أجواء الحديث عن نفي الخوف والحزن عن الإنسان في الآخرة جزاء لعمله ، باعتبار أن الغاية التي يبتغيها المؤمن في كل أعماله في الدنيا هي الأمن والراحة والطمأنينة والفرح في الآخرة ، أو أنها شاملة للدنيا والآخرة معا ، لأن الله سبحانه جعل للالتزامات الشرعية التي ألزم عباده بها أو استحبّها لهم ، نتائج إيجابية على مستوى الدنيا من خلال الخصائص المميزة التي تؤدي إلى الخير في حياتهم الخاصة والعامة ، وتبتعد بهم عن حالات الخوف من الأخطار ، والحزن من المصائب؟

إن الجواب عن ذلك ، هو أن السياق العام لهذا التعبير القرآني في أكثر استعمالاته يوحي بأجواء الآخرة ، لأنها غاية الغايات في وعي الإنسان ، ولكن لا مانع من أن تطل المسألة على أبعاد الخوف والحزن في الدنيا من

٩١

ناحية المبدأ.

(* قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ). إن الله يقول لأولئك الذين يتصدقون وتتحول صدقتهم إلى عقدة ذاتية في أنفسهم تجاه الإنسان الذي أعطوه ، وتنطلق العقدة لتلاحقه بالكلمة التي تسيء إلى كرامته في ما يثيرونه معه من الإيحاء بالفوقيّة في إحساسهم تجاهه ، ومن التذكير الدائم له بحالة الحرمان التي كان يعيشها وبفضلهم عليه في إنقاذه من نتائجها الوخيمة مما يجعله مسحوقا من الناحية النفسية أمام ذلك كله. إن الله يقول لأولئك : إن هناك من يعيش حسّ الكرامة في نفسه بالمستوى الذي يفضل فيه أن يجوع بدلا من أن يشبع على حساب كرامته ، ويحب أن يعاني الحرمان المادي الذي يشعر معه بالكرامة بدلا من أن يتقلب في الرخاء على حساب عزّته ومكانته. فإذا كنتم تريدون أن تهدروا كرامته بالعطاء من خلال كلمة المنّ والأذى ، فوفروا عليه ذلك ، واحملوا إليه الكلمة الطيبة والقول المعروف والمغفرة الروحية ، فإن ذلك أفضل من صدقاتكم التي يتبعها الأذى ، (وَاللهُ غَنِيٌ) عنكم لا يحتاج إلى أعمالكم التي تسيء إلى الآخرين (حَلِيمٌ) لا يعجّل للمذنب عقوبته ، بل ربما يغفر له إذا استقام على الخط المستقيم.

* * *

إبطال الصدقات بالمنّ والأذى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى). إن الفكرة تتحول إلى نداء إلهي يستثير صفة الإيمان في نفوس المؤمنين ، ليعرّفهم أن المنّ والأذى ، لا يتناسب مع طبيعة هذه الصفة التي توحي للمؤمن بأن يحفظ لعمله روحانيته ومعناه ، ويصون لأخيه المؤمن كرامته ، ويحذرهم بأن ذلك

٩٢

يبطل صدقاتهم في ما يريدونه من ثواب ، لأنه يكشف عن طبيعة الدوافع الكامنة في داخل النفس ، البعيدة عن خط التقرب إلى الله في العمل ، تماما كما هو عمل المرائي في إنفاقه لماله على الناس من أجل أن يحصل مدحهم له ورضاهم عن سيرته ، مما يجعل عمله بعيدا عن المنطلقات الخيّرة التي تربطه بالله.

إن الإنفاق يفقد قيمته ، في هذه الحال ، كقيمة روحية ترتفع بالإنسان إلى خط السموّ الروحي ، في أجواء القرب من الله ، ويتحوّل إلى عمل مادّيّ لا يستهدف الإنسان فيه إلا الحصول على عوض مادّيّ مماثل أو مضاعف ، أو التنفيس عن عقدة مرضيّة ذاتية ضد الآخرين ...

(كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). يصف الله هؤلاء المتصدقين المنّانين المرائين ، بأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، لأن الإيمان ليس مجرد كلمة يقولها ، أو عمل يعمله ، بل هو موقف يستمد حركته من الإيمان بالله كحقيقة تحرّك كيانه بالدوافع الروحيّة ، وتدفع خطواته إلى الآفاق الرحبة في مجالات القرب من الله ، فلا قيمة للكلمة الحلوة الخاشعة إذا لم تنطلق من قاعدة الإخلاص في أعماق النفس ، ولا قيمة للعمل الكبير أو الصغير إذا لم يكن ممتدا في الخط المستقيم الذي يحبه الله ويرضاه مما يحقق للحياة سلامتها وكرامتها وانطلاقها في الأهداف العظيمة الكبيرة. وبذلك يفقد الإنسان حركة الإيمان في داخله ، فلا تكون أعماله صدى لنداء الإيمان هناك ، لأنها تحركت من موقع الإخلاد إلى الدنيا ، ولم تتحرك من موقع الرغبة في الآخرة من خلال ثواب الله.

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ). إن الله يضرب لهؤلاء المثل ليعمّق الفكرة من خلال الصورة الحسية ، التي توحي بالعمل المتعب الذي

٩٣

يفقد نتائجه بسرعة في نهاية المطاف. فكيف نتمثل الصورة ، لنضع أمامنا صخرا أملس ينزلق عنه الماء بسهولة ونضع فوقه طبقة رقيقة من التراب ، ثم نلقي البذور فيه ونتابعها بالرعاية والخدمة حتى تنمو وترتفع أغصانها في الهواء ، بحيث توحي للناظر بالامتداد والثبات والبقاء ، ثم يهطل المطر الغزير ... ويهطل ، فيجرف التربة التي تحمل الزرع ، فلا يبقى لزارعها شيء مهما بذل من جهد ، لأن الزرع لا يملك عمقا له في التربة التي لم تمتد في أعماق الأرض ، فإنها تقف على الصخر الأملس الذي لا عمق له مما ينفذ فيه الزرع والماء.

إن ذلك هو مثل الكافرين الذين يسيرون في خط الضلال ، فلا يفسحون المجال لأعمالهم أن تنبت في الأعماق البعيدة من نفوسهم ليضمنوا لها البقاء والامتداد ، بل يظلون في دوافعهم على السطح الذي لا يحتضن إلا الدوافع الساذجة التي تعيش في نطاق الشهوات بعيدا عن عمق الإيمان.

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) إن الصورة هنا تختلف تماما ، فهؤلاء هم الذين ينفقون أموالهم طلبا لرضا الله عنهم ، لأنهم يحسون بالحاجة إلى ذلك في ما تفرضه عليهم مشاعر الإيمان في حركتها العملية نحو الوصول إلى خط التكامل في الحياة ، وهؤلاء هم الذين ينفقون انطلاقا من قيمة عميقة داخل النفس ثابتة في طبيعة تكوينها ، وليس مجرد خطرات سريعة تأتي وتزول لدى أوّل رجفة أو هزّة. أما الصورة التي تعطي الفكرة الحسيّة بوضوح ، فهي أن تتمثل بستانا في ربوة مرتفعة ، والربوة تختلف عن المكان المنخفض في ما يتعلق بطبيعة السلامة للزرع ، لأن المنخفضات قد تشتمل على أشياء وخيمة تضر بالزرع من خلال المستنقعات التي تتجمع فيها وتحمل الكثير من ذلك ، بينما لا يصل ذلك إلى المرتفعات.

٩٤

إننا نتمثل هذا البستان الذي تحتضنه هذه الربوة وتحمل جذوره إلى الأعماق البعيدة في الأرض ، فتكفل لها القوة والامتداد والثبات ، فإذا جاء المطر الغزير ، أعطاها ازدهارا ونموا ونتاجا مضاعفا ، أمّا إذا نزل المطر رذاذا يندّي الأرض فيعطيها الاهتزاز والنضرة والنموّ الهادىء. وفي كلا الحالين ، تخضرّ الأرض وتنتج وتعطي البركة والحياة. وكذلك حالة الإنسان الذي ينفق ماله في سبيل الله ، فإن العطاء يمتد في حياته عند الله كما يمتد في حياة الناس بالخير والبركة وفي داخل ذاته بالجذور العميقة من الروح والإيمان. إن القرآن يعرض أمام الإنسان هاتين الصورتين المختلفتين ، ليواجه عمله من خلالهما ، فيختار أقربهما إلى البقاء والربح والثبات من خلال العقل الذي وهبه الله إيّاه ليختار به أكثرهما ربحا في الدنيا والآخرة ، وهو الإنفاق في سبيل الله من خلال النفس الواثقة بربها وبخطها المستقيم في الحياة. والله بصير بما يعمل الإنسان ، في ما يسرّه وفي ما يعلنه ، لأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

* * *

القرآن يوضح الصورة بالمثل

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).

إن الله يقدّم لنا صورة أخرى تربطنا بالجانب الإيجابي الخيّر من الإنفاق وتبعدنا عن الجانب السلبي الشرّير ، وذلك من خلال الإيحاء بالحاجة الملحّة

٩٥

الشديدة للارتباط بالجانب الإيجابي على أساس ارتباطه بقضية المصير الذي يفرض علينا الوقوف مع العمل النابع من وعي الإنسان لموقفه من الله ومن شريعته المثلى في خطّه العملي في الحياة ، وتلك هي الصورة الحيّة تتمثل أمامنا بوضوح ، إنها صورة شيخ كبير بلغ من العمر عتيّا وضعفت قواه حتى لم يستطع أن يعمل أو يكسب لقمة عيشه بيده ، وله ذرية ضعفاء لا يقدرون على العمل ، إما لصغر السن ، أو للمرض ، أو لشيء آخر.

وإلى جانب هذه الصورة ، تقف صورة أخرى تدخل في أمنيات هذا الشيخ الكبير ، وهي أن تكون له (جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ، بحيث تستطيع أن تكفل له عيشه وتؤمن له حياته وحياة ذريته الضعفاء الذين لا يستطيعون أن يقوموا بمسؤولية أنفسهم ولا بمسؤوليته ، كما لا يستطيع ـ هو ـ أن يقوم بمسؤوليتهم ومسئولية نفسه. كيف نتصور قيمة هذه الأمنية في حياته إذا تحققت وكيف يكون موقفه منها وشعوره تجاهها؟

إنها تمثل في حياته الأمل حيث لا أمل ، وتبدع له الشروق حيث لا مجال إلا للظلام ، فيستريح لها ويسترخي ويغلق عينيه من خلالها على أطياف الرخاء تتفجر من ينابيعها وتتساقط من ثمارها ، ويأخذ من ضعفه قوة للمستقبل وللحياة. فقد أصبح لا يحمل هما للحياة في كل مسئولياتها ومشاكلها ، لأن هذه الجنة تخفف عنه كل المسؤوليات وتحل له كل المشاكل المادية في ما يحفل به العيش من مشاكل.

وتتبدل الصورة فجأة ، فإذا بالنيران التي يحملها الإعصار تلتهم كل هذه الثمرات ، وتحرق كل النخيل والأعناب ، ويقف هذا الشيخ الكبير ومعه ذريته الضعفاء أمام هذا المشهد بمشاعر لا يستطيع أن يصورها قلم أو تحددها كلمة. إنه اليأس القاتل الذي لا يترك للحياة أي معنى في أعماق الإنسان ،

٩٦

لما يحمله في داخله من معاني الضياع الهائل في بيداء الرمال المتحركة أمام الرياح العاصفة في الليل البهيم.

وتقفز لنا من خلال هذه الصورة صورة المرائي الذي ينفق ماله رئاء الناس وصورة الإنسان الذي يتبع ما أنفق منّا وأذى ، إنه يحلم بالنتائج الكبيرة التي تكسبه النجاح والقرب من الله ، لكثرة ما أنفق ، وقيمة ما أعطى ، مما يؤمن له مصيره. إنه سيواجه في نهاية المطاف الصورة المرعبة التي تتمثل له ـ من خلالها ـ أعماله كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف في الوقت الذي لا يملك فيه القيام بأي عمل جديد يقوي فيه موقفه وينقذ به مصيره المحتوم.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) إنها ليست للرّوعة الفنية يقف الإنسان أمامها خاشعا لروعة الإبداع ، وليست للحفظ ليحصل منها الإنسان على مزيد من البركة ، بل هي للعبرة وللعظة وللتفكير ، من أجل أن يحدد الإنسان على هداها حياته ليسير بها على الخط المستقيم الذي يحبه الله ويرضاه ، فيختار أقرب الوسائل التي توصله إلى النجاح في الدنيا والآخرة ، وذلك هو سبيل المؤمنين في ما يفعلون وفي ما يتركون.

* * *

الإنفاق كحلّ في التخطيط الاقتصادي العام

ربما يطرح سؤال في أجواء الحث القرآني والنبوي على الإنفاق في سبيل الله ، والتشجيع الأخلاقي على الصدقات ، هل هذا هو الحل الإسلامي للمشكلة الاقتصادية بحيث تكون حركة في المسألة الاجتماعية في خط التعاليم الدينية ، أو أن للمسألة وجها آخر؟ والجواب : إن الاقتصاد في حياة

٩٧

الناس ليس عنوانا بسيطا يمكن تحريكه في المبادرات الفردية أو الاجتماعية في تقديم العطاءات المادية الخيرية للفئات المحرومة في المجتمع على أساس مسئولية الناس عن بعضهم البعض في مسألة التكافل الاجتماعي ، لأن ذلك لن يساهم في أيّ حلّ متوازن للمشكلة الاقتصادية التي تتمثل في تعقيدات عملية الإنتاج والتوزيع والتنظيم الدقيق لحركة تداول الثروة وتحريكها في الداخل والخارج وما يتفرع عنها من النظرة الواقعية العادلة في دراسة المسألة الطبقية على مستوى التقارب بين الطبقات أو إلغاء الفوارق بينها ، وغير ذلك من العناوين الكلية والجزئية في الساحة الاقتصادية.

وفي ضوء ذلك ، فإن المشروع الإسلامي الاجتماعي في استحباب الإنفاق على أساس نظام الصدقات الفردية أو المبادرات التطوعية في هذا النشاط الاجتماعي أو ذاك ، لا يمثل الخطة الاقتصادية التي لا بد فيها من شمولية النظرة إلى الواقع لتحديد نوع المشكلة وحجمها وامتداداتها فيه ، ومن التخطيط العملي للحلول العملية من خلال القوانين التفصيلية الموضوعة لتحقيق الهدف الكبير ، بل يمثل نوعا من أنواع الحركة الاجتماعية التي يتداخل المجتمع فيها في علاقات أفراده ببعضهم البعض من أجل إيجاد البنية الاجتماعية القومية الصلبة التي تمثل القاعدة الإنسانية الواسعة في تكوين الهيكلية الشعبية في حلّ المشاكل الطارئة السريعة ، وفي مواجهة الحالات المعقدة التي لا تملك الدولة معالجتها في نطاق مرحلي ، أو في المستوى الخاص الذي قد لا يحقق للفرد حاجاته الخاصة والعامة ، بحيث لا تقف الدولة حائرة أمام ذلك ، كما لا يواجه الناس المشكلة من دون الحصول على حلّ ، وبهذا يتميز التنظيم الإسلامي للمجتمع عن ألوان التنظيم الأخرى التي تعطي الدولة المركزية المطلقة في المسألة الاقتصادية ، لتكون للدولة دائرتها القانونية في التخطيط العام للمشكلة من خلال الحلول العملية التي تقدمها في التقنين التشريعي ، وليكون للمجتمع دوره في مسئوليته الأخلاقية الدينية

٩٨

عن الحالات الكثيرة التي يتداولها الواقع الاجتماعي للناس ، ولتنطلق الخطة العامة في عملية تنسيق متحرك بين الدولة والمجتمع الأهلي ، لا يتجمد في الصيغ القانونية ، ولا يضيع في متاهات الأوضاع العامة الباحثة عن الحدود المتوازنة للأشياء.

وفي ضوء هذا ، يمكن للواقع الإسلامي أن يعيش من خلال المبادرة الفردية ، ذهنية الدولة في المسؤوليات المحدودة في الدوائر الصغيرة حتى في غياب الدولة ، ليكون التكافل الاجتماعي عنوانا من عناوين وجوده الحركي ، كما تشعر الدولة بأنها لا يمكن أن تترك القاعدة الشعبية غارقة في مشاكلها المعقدة عند ما تتعقد الحلول ، بل تعمل على التكامل معها في المسألة الاجتماعية والاقتصادية كما في المسألة السياسية والأمنية.

وهكذا يتحول المجتمع إلى قوّة تعيش روحية الدولة في مسئولياتها ، كما تنطلق الدولة لتكون عنوان المجتمع في تطلعاته وخططه وأهدافه. وهذا ما يبتعد بالمسؤولية عن حالة الجمود القانوني ، ويدفع الإنسان ـ الفرد والإنسان ـ المجتمع إلى أن يكون عنصرا حيّا في التفاعل مع الآخرين ، من أهله وأبناء أمته ، من موقع الحالة الإيمانية التي تتحرك في الجانب الشعوري كي تتمثل في الجانب العملي ، ليلتقي الجميع على صعيد توفير الخير للإنسان كله في الساحة كلها.

* * *

٩٩

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ

١٠٠