تفسير من وحي القرآن - ج ٥

السيد محمد حسين فضل الله

(أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) الذين يقدمون لهم فكرا بعيدا عن وحي الله ومنهجا لا يلتقي بالمنهج الحق الصادر عن رسل الله ، وأخلاقا لا تتصل بالخط الأخلاقي الذي شرّعه الله ، ومواقف ومواقع وأوضاعا لا تخضع لأحكام الله وشريعته ، فأفسدوا عليهم وجدانهم وأفكارهم ومشاعرهم وحياتهم وحياة الآخرين ، فهم (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) ، لأنهم ينتقلون بهم من دائرة الإيمان بالله والحق والخير والمحبة والسلام والطهارة والصفاء والنقاء ، إلى دائرة الكفر به والباطل والشر والحقد والعداوة والحرب والقذارة والرجاسة ، فهم يتخبطون في الظلمات في كل يوم يبتعدون فيه عن نور الحق ، وبذلك استحقوا غضب الله وسخطه (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ، لأنهم تمردوا على الله بعد أن قامت عليهم الحجة من قبله ، وليس لهم حجة يقدمونها بين أيديهم ، فكان جزاؤهم النار وبئس القرار.

* * *

٦١

الآية

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨)

* * *

معاني المفردات

(أَلَمْ تَرَ إِلَى) : الهمزة للاستفهام التعجبي ، ألم ينته علمك ورؤيتك. قال صاحب المجمع: دخلت (إلى) من بين حروف الجرّ ، لأنها لما كانت بمعنى الغاية والنهاية ، صار الكلام بمنزلة : هل انتهت رؤيتك إلى من هذه صفته ، ليدل على بعد وقوع مثله على التعجيب منه (١).

__________________

(١) مجمع البيان ، م : ١ ، ص : ٤٧٣.

٦٢

(حَاجَ) : غالب خصمه بالحجة ، والمحاجّة ، أن يطلب كل واحد أن يردّ الآخر عن حجته ومحجّته. ويسمّى ما يحتجّون به حجّة وإن كانت داحضة (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ ، حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الشورى : ١٦] ، (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) [الأنعام : ١٤٩].

(أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) لأن آتاه ، فهي واردة مورد التعليل ، لأن إيتاء الملك أبطره.

(فَبُهِتَ) : دهش وتحيّر وانقطع ، فالبهت الحيرة عند استيلاء الحجة.

* * *

تربية القرآن للإنسان

ثلاث آيات تتلاحق الواحدة تلو الأخرى نلتقي فيها بالحديث عن فكرة إحياء الله للأشياء التي تدبّ فيها الحياة ، ولكن بطريقة لا تعتمد الاستدلال بالبراهين العقليّة ، بل بطريقة إيحائية ، توحي بالفكرة من خلال القصة الخاطفة ، من خلال حوار يدور بين إبراهيم عليه‌السلام وبين طاغية زمانه ، فيصور لنا الفكرة كحقيقة لا تحتمل الريب ، في تمثلها في العقيدة بالله الواحد ، فلا يملك الطاغية مجالا للهروب منها إلا بالتلاعب بالألفاظ والضحك على قول السذّج من البسطاء ...

ونتمثلها في قصة الإنسان الذي وقف مدهوشا أمام القرية التي يغمرها الموت بكل أفكارها ، فيتساءل ... فيموت ... ثم يبعث في الدنيا ... وتتمثل الفكرة أمامه في كيانه الذي دبّت الحياة فيه من جديد ، وفي حماره الذي

٦٣

شاهده تتجمع أعضاؤه أمامه في عملية الحياة.

ثم يعود إبراهيم من جديد ليتساءل كيف يحيي الله الموتى ، وتعيش التجربة في نطاق عمليّة خارقة للعادة يستجيب الله فيها لرغبته ...

إن كل هذه القصص الثلاث التي تتصل بالجانب الغيبي من التفكير الديني ، توحي لنا بالفكرة في أسلوب تقريري يجعل الفكرة والشعور يحملانها في جوّ من التفكير ، تضج فيه غرابة لا تبتعد عن جانب الإيمان في الإنسان الذي يخشع إيمانه أمام الحق الذي ينزله الوحي في القرآن ، وأمام القدرة التي لا يعجزها شيء في الإيمان بالله ، وأمام الإيمان بالغيب الذي هو من أركان العقيدة في ما تقرره من الانطلاق مع حقائق الوجود الذي يهيمن عليه الله خالقه في عالم الشهود وفي عالم الغيب ، وذلك هو أحد إثارات القرآن أمام الإنسان بغية إرشاده وتربيته روحيا وفكريا.

* * *

إبراهيم يتحدى الطاغوت

لقد واجه إبراهيم ـ النبي في حياته طاغية من أكثر الطغاة تمرّدا ، حيث بلغ به الطغيان حدّا خيّل إليه معه أنه الإله الذي يجب على الناس أن يعبدوه من دون الله ، ولم يحدثنا القرآن عن اسمه ، ولكن تاريخ القصص الديني للأنبياء يعطيه اسم النمرود ، ولا يهمنا ذلك في قليل أو كثير ، لأن القيمة تتمثل بالمناذج الحيّة في ما تمثّل من مواقف حاسمة وتجارب رائدة.

وقد وقف إبراهيم معه ، في قصة الحوار ، موقفا حاسما قويا ، حاول أن يثير فيه قضية الألوهة وارتباطها بالقدرة المطلقة التي لا يملكها هذا الطاغية ، فطرح فكرة الحياة والموت ، وأن الله ـ رب إبراهيم ـ هو الذي

٦٤

يحيي ويميت ، ووجد هذا الطاغية الفرصة لاستغلال سذاجة أتباعه البسطاء في أسلوب التمويه الذي يعتمد التلاعب بالألفاظ ، فأجاب إبراهيم ، بأنه يحيي ويميت ، لأنه يستطيع أن يبقي المحكوم عليه بالموت ، فيهبه الحياة ، وأن يعدمه فيقضي عليه بالموت ، فيكون مالكا لأمر الحياة والموت ... وإذا ، فهو يملك صفة الإله الذي يحيي ويميت ، فيحق له أن يكون إلها.

ولم يترك إبراهيم له الفرصة الذهبية التي يأخذ بها زهو طغيانه وتمرده ، فتحداه بالظواهر الكونية الثابتة التي خلقها الله في الكون ، وطلب منه تغييرها إذا كان إلها حقا ، وقدّم له عرضا بالشمس التي خلقها الله لتشرق من جهة المشرق ، وطلب منه أن يحوّل طلوعها إلى جهة المغرب ، (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) ولم يملك جوابا لهذه الحجة المفاجئة ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأن طبيعة الانحراف عن خط الله الذي هو خط العدل والسير مع خط الظلم الذي هو خط الكفر ، يبعد الإنسان عن الرؤية الواضحة الصحيحة للأشياء ، فيتخبط في الضلال على غير هدى ، ويتركه الله لضلاله ، بعد أن كان قد أقام عليه الحجة فلم يهتد بها ولم يخضع لها في ما يريد الله له من هداية وخضوع.

ويلاحظ في قوله تعالى : (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) الواردة في موارد التعليل لما قاله هذا الطاغية لإبراهيم ، أن السبب في هذه الدعوى وفي هذا الطغيان هو رؤيته لنفسه في موقع الملك الذي أعطاه الله إياه في ما يعطيه الله لعباده من الفرص التي يختبرهم ويبتليهم بها في الحياة ، وذلك من خلال الأسباب الطبيعية المودعة في الكون لحدوث الأشياء وفنائها ... وقد تعاظم هذا الشعور في نفسه من خلال مظاهر القوّة التي يحدثها الملك وينميها ، فتملأ نفس الإنسان بالزهو والإحساس بالعظمة ، لا سيما فيما إذا رأى الآخرين يتصاغرون أمامه من موقع إحساسهم بالضعف والانسحاق

٦٥

بالمستوى الذي يتحول خضوعهم له إلى عبادة ، تماما كما هي عبادة العبيد للربّ ، فيخيّل لنفسه أنه في هذا المستوى ، وتبدأ التصورات الذاتية تتجمع في كيانه ، فتغشي عينيه وتسد نوافذ الوعي المنفتح عن قلبه ، فيتحول إلى نصف إله في بعض الأحيان ، ويتحول إلى ما يشبه الإله في أكثر الحالات لدى ذاته ونفسه ، ثم يتطور الأمر به إلى أن يدعو الآخرين إلى الاعتراف بذلك من مواقع الإقرار والإيمان ، بعد أن كان الأمر لديهم مجرد ممارسة لا ترتقي إلى درجة الاعتراف.

وربما كان في هذا الإيحاء بعض التوجيه للإنسان بخطورة المواقع المتقدمة التي يحصل عليها في الدنيا ، من ملك أو جاه أو مال ، على نظرته إلى نفسه وموقفه منها ، فقد تنحرف به هذه النظرة إلى أن يخرج بها عن حدود التوازن ، فتصل به إلى حدود الطغيان ، مما يدفعه إلى مراقبة نفسه دائما لتقف عند حدودها في ما يريد الله منها أن تقف عنده.

* * *

ما نستوحيه من الحوار

أما فائدتنا من هذا الحوار ، فهي مواجهة الكثيرين ممّن يحاولون أن يموّهوا على البسطاء من الناس ، باللجوء إلى الأساليب الساذجة التي يخدعونهم بها ، سواء في ذلك ما يتعلق بشؤون العقيدة وما يتصل بأمور الحياة ، فنعمل على أن نستلهم أسلوب إبراهيم ـ النبي ـ في الانتقال إلى التحديات الواضحة التي لا تخفى ولا تنطلي ـ بالنتيجة ـ على أحد ، مما يعطّل خطة التمويه والتضليل.

٦٦

ولا بدّلنا ـ في سبيل الوصول إلى ذلك ـ أولا : من النفاذ إلى واقع الأساليب المضلّلة التي يخضع لها البسطاء من الناس ، والأساليب الصارخة التي تملك قوّة التحدي ، من دون أن يستطيع الآخرون ردّها أو مقاومتها ـ على الأقل ـ ، وهذا ما يفرض على العاملين أن يقوموا به من أجل أن يلاحقوا الواقع وأساليبه التي تحكمه وتوجّه خطواته ، بكل وعي ودقّة وشمول وانفتاح.

ثانيا : القيام بالتوعية الثقافية للناس البسطاء من جهة التأكيد على الواقع الموضوعي للأشخاص الذين يملكون بعض مواقع القوة كالسلطة والمال والجاه ونحوها ، ليواجه الناس نقاط ضعفه إلى جانب نقاط قوته ، وليتوازنوا في تقدير الجوانب الإيجابية في شخصيته من خلال المقارنة بالجوانب السلبية فيها ، حتى لا تتضخم ذاته في وجدانهم ، بحيث يرتفعون بها إلى الدرجة التي لا تستحقها ، كما لا ينتفخ ـ هو ـ عند نفسه في نظرته إلى موقعه إذا اندفع الناس نحوه من خلال هالة التقديس والتعظيم ، لأن السبب في الكثير مما ينطلق به الواقع البشري من ظواهر الشخصيات التي تؤله نفسها أو يؤلهها الناس هو فقدان التوازن في نظرة الناس إلى هؤلاء الأشخاص ، وفي نظرتهم إلى أنفسهم. وفي ضوء ذلك ، لا بد من الابتعاد عن أساليب التزلف والمبالغة والاندفاع العشوائي في قضايا المدح والتعظيم في الواقع الاجتماعي والسياسي العام.

إننا نريد التنبيه على هذه النقطة من خلال ظاهرة النمرود الذي حاجّ إبراهيم في ربه في نظرته إلى نفسه من موقع الربوبية للناس ، فإن ذلك لم يكن إلا من جهة الإخلال بتوازنه في نفسه وتوازن الناس معه ، فلو لا ذلك

٦٧

لما كان هناك مجال للمسألة ، لأنه سوف يتحول ـ في نظر الناس وفي نظر نفسه ، إلى شخص عاديّ ، كسائر الناس الذين يملكون بعض الصفات الإنسانية الإيجابية والسلبية.

* * *

٦٨

الآية

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٥٩)

* * *

معاني المفردات

(خاوِيَةٌ) ساقطة. أصل الخواء الخلاء. قال الراجز : يبدو خواء الأرض من خوائه ، والخواء : الفرجة بين الشيئين ، وخوت الدار تخوي خواء فهي خاوية ، إذا باد أهلها لخلوها منهم ، والخوي الجوع ، خوى يخوي خوى لخلوّ البطن من الغذاء (١).

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٤٧٦.

٦٩

(عَلى عُرُوشِها) : سقوفها و (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) ساقطة على أبنيتها وسقوفها ، كأن سقوفها سقطت ثم وقع البناء عليها.

(لَمْ يَتَسَنَّهْ) : أي لم يتغير بمرور السنين عليه ، ولم تذهب طراوته.

(نُنْشِزُها) : نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب من النشز ، وهو المرتفع من الأرض ، ويعبّر عن الإحياء بالنشز والإنشاز ، لكونه ارتفاعا بعد اتضاع ، ونشوز المرأة بغضها لزوجها ورفع نفسها وتكبّرها.

* * *

قدرة الله في إحياء الموتى

وهذه قصة من قصص القرآن التي تدخل في نطاق الغيب ، باعتبار أنها تتحدث عن حوادث خارقة للعادة ، وذلك في ما تحدثنا به عن إنسان ، يجمل القرآن اسمه ويهمل الحديث عن طبيعته الذاتية ، من حيث هو نبيّ أو إنسان عاديّ مؤمن أو مرتاب ، لأن ذلك كله لا يدخل في القيمة الإيحائية للقصة ، وهي التأكيد على قدرة الله على إحياء الموتى من خلال تجربة عاشها هذا الإنسان بشكل خارق للعادة ، فقد مرّ على قرية متهدمة خالية من أهلها ، ليس فيها شيء يوحي بالحياة. لا شيء هناك إلا الموت والصمت ، ومرّت في ذهنه خاطرة ، وقفز إلى فكره تساؤل ، تماما ، كما يخطر للإنسان السؤال الحائر من دون اختيار ، أو مع الاختيار ، انطلاقا من صراع الإنسان الدائم بين ما يوحي به العقل من إمكان كل شيء لم تثبت استحالته ، حتى لو لم يكن مألوفا ، وبين ما تفرضه الألفة من استبعاد كل شيء لم يمرّ على حواس الإنسان في ما يراه أو يلمسه أو يسمعه ، فتساءل : كيف يحيي هذه الله بعد موتها ، فهل هذا التساؤل مظهر إيمان يبحث عن المزيد من طمأنينة الحسّ ،

٧٠

أو مظهر ريبة وتشكيك يبحث عما يؤكد شكّه ، أو ما يزيله؟! والذي نفهمه هو أنّ الآية لا تحدّد شيئا من هذا أو ذاك ، لأن القصة في ما توحيه ، لا تتأثر بشيء منهما ، ولهذا ، فلا مجال لإطالة الحديث في ذلك.

هذا من ناحية طبيعة الآية في مدلولها اللفظي ، ولكن هناك نقاطا توحي بأن هذا الرجل كان نبيا أو عبدا صالحا مقرّبا إلى الله ، فقد روي عن الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق عليه‌السلام أنه (عزير) وروي عن علي عليه‌السلام ـ كما في مجمع البيان ـ أن عزيرا خرج من أهله وامرأته حامل وله خمسون سنة ، فأماته الله مائة سنة ، ثم بعثه ، فرجع إلى أهله ابن خمسين سنة له ابن له مائة سنة فكان ابنه أكبر منه ، فذلك من آيات الله ، وقيل : إنه رجع وقد أحرق بختنصر التوراة ، فأملاها من ظهر قلبه (١). وقيل : هو (إرميا) عن وهب ، وهو المروي عن أبي جعفر محمد الباقر عليه‌السلام وقيل : هو الخضر ، عن ابن إسحاق (٢).

وذكر البعض وجوها في تأكيد نبوّته أو إيمانه بالدرجة العليا منه ، أوّلا ، لأنه كان ممن يوحى إليه بقرينة تكليم الله له في قوله : (كَمْ لَبِثْتَ) وثانيا : قوله : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) مما يوحي بأنه من آيات الله للناس ، وهذه هي صفة الأنبياء الذين يقدمون أمام نبوتهم آية للناس ليؤمنوا بها. وثالثا : قوله : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مما يوحي بأنه رجوع إلى علمه السابق.

ولكن هذه الوجوه الاستيحائية لا تدل على ذلك :

أما الأول ، فلأنه لم يعلم أن هذا القول من الله ، فقد ذكر صاحب مجمع البيان أنه سمع نداء من السماء : كم لبثت ، يعني في مبيتك

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤٧٨.

(٢) م. ن ، ج : ١ ، ص : ٤٧٧.

٧١

ومنامك ، ولم يعلم أن الله هو المنادي. وقيل : إن القائل له نبي ، وقيل ملك ، وقيل : بعض المعمرين ممن شاهده عند موته وإحيائه (١).

وأما الثاني ، فيحتمل أن المراد بكونه آية للناس ، أي عبرة لهم ودليلا عن أن الله قادر على إحياء الإنسان بعد الموت من دون أن يكون هناك أي شيء يتعلق بذاته. وأما الثالث ، فالظاهر منه هو الحديث عن علمه الآن بعد هذه التجربة الحية التي عاشها ونظر إليها ، لا أنه رجوع منه إلى العلم.

وأما الروايات ، فلم يثبت صحتها من ناحية السند ، فلا تكون حجة على المدعى. وعلى هذا ، فإن ما ذكره صاحب الميزان (٢) من تأكيد نبوته ليس واضحا من حيث الظهور اللفظي ومن حيث الدليل الحاسم ، والله العالم.

وهكذا انطلق هذا الرجل في تساؤله من خلال الخاطرة الطارئة التي خطرت له.

وكان الجواب يحتاج إلى أن يحسّ هذا الإنسان بطعم الموت ، فيستمرّ معه الموت مائة عام ، ثم يبعثه الله من جديد ، فلا يتذكر من أمره شيئا ، ويشعر بأنه نام لبعض الوقت فقط ، يوما أو بعض يوم ، وهذا ما يجيب به السؤال الموجه إليه : كم لبثت؟ وتعقل لسانه المفاجأة ، كما يبدو ، عند ما يعرف أنه لبث في رقدته هذه مائة عام ، ليجد الجواب الحيّ متجسدا في هذه الحياة المتجددة بعد موت طويل ... وتشتد الدهشة في عينيه عند ما ينظر إلى طعامه وشرابه لم يتغيرا ـ كما هو معنى لم يتسنه ـ ليكون مظهرا من مظاهر القدرة المعجزة في بقاء الطعام طيلة هذه المدة ، مع أنّه معرّض للفساد في ساعات أو أيام ...

ثم تبرز الحقيقة أمام عينيه ، فهذا هو حماره الذي كان يركبه قبل مائة

__________________

(١) م. س. ، ص : ٤٧٧.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ٣٦٧.

٧٢

عام ، وقد تحوّل إلى عظام ، وهذه هي عظامه تتلاحق وترتفع فترتبط ببعضها البعض ثم تدبّ فيه الحياة عند ما تكتسي هذه العظام باللحم بقدرة الله. ووضحت القضية لديه كأعظم ما يكون الوضوح ، وعاش الشعور بالإيمان في موقع اليقين ، فقال ـ معبّرا عن ذلك ـ (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وقد أثار بعض المفسرين أمام هذه القضية بعض التأويلات لأنه درج على استبعاد الأشياء الغيبية في قصص القرآن ، أو في بعض رموزه كالملائكة ونحوها. وقد تحدثنا في بعض أبحاث هذا التفسير عن هذا الاتجاه ، وقلنا إن الإقرار بمبدإ الغيب في العقيدة يفرض علينا القبول بالأمور المرتبطة به وعدم استبعاد خضوعها لهذا المبدأ ، فلا يجوز حملها على خلاف ظاهرها إلّا إذا كان هناك دليل يدل على ذلك ، ومن المعلوم أن الاستبعاد لا يصلح دليلا على ذلك.

* * *

قصة الذي مات ثم عاد إلى الحياة

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) وهي بيت المقدس لما خرّبه بختنصر ـ كما قيل ـ أو الأرض المقدّسة ، في قول آخر ، أو هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت في احتمال ثالث ، وهي خاوية على عروشها ، فلا أثر فيها للحركة والحياة والعمران ، فقد مات أهلها وسقطت سقوفها وأبنيتها ، فهي قرية ميتة في جميع مظاهرها وأوضاعها ، فانطلقت أفكاره في قضية الحياة والموت كأيّة ظاهرة للموت في هذا الحجم يلتقي بها الإنسان ، فيطرح السؤال الكبير الذي قد ينطلق من فضول المعرفة ، أو من خاطرة الشك الطارئ السريع الذي لا يبتعد عن أجواء الإيمان ، لأن المؤمن قد يطوف به طائف من الشيطان في حالة الاستغراق الفكري ليتذكر بعدها. (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ) القرية بأهلها وبنيانها (اللهُ بَعْدَ مَوْتِها). كيف يحدث ذلك؟ وهل

٧٣

يمكن للحياة أن تتجدد بعد الموت؟ ومن أين يحدث ذلك؟ وفي أىّ زمان؟ وكيف يكون ذلك من دون أن يعرف طعم الموت. فلم يكن قد دخل تجربة الموت ليعرف تجربة الحياة بعدها ، وكأنه أراد أن يعرف سرّ الظاهرة في إمكانات التغيير (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) تماما كما تموت الحياة بالكلّية في إشباع عميق بالموت ، بحيث يزول الإنسان من حركية الحياة كما يزول من خاطر الوجود من خلال هذا التقادم في السنين ، كما هي هذه القرية التي ربما كانت عاشت تجربة الموت في الزمن السحيق ، مما جعل تجربة الموت في جسده ، مماثلة لتجربة الذين ماتوا فيها. (ثُمَّ بَعَثَهُ) حيّا كما كان.

وبدأت الحياة تضجّ في جسده كما لو كانت حالة طبيعية مستمرة في حياته اليومية ، لأن الإنسان لا يشعر بثقل الموت عليه في داخل تجربته ، فإذا عادت إليه الحياة ، فلا مجال للإحساس بشيء جديد في طبيعة ذاته ، إلا كما يحس الإنسان الذي يستيقظ بعد الموت ، ولذلك فلم يشعر بمرور الزمن عليه (قالَ كَمْ لَبِثْتَ) هل هذا القول حقيقي ـ كما هو ظاهر الكلمة ـ أو هو شيء يخاطبه من داخل نفسه ، أو هو شخص مرّ عليه في حالته هذه ممن سمع عن هذا الإنسان منذ زمن بعيد ، وهل هو حديث مع الله أو مع النفس أو مع الناس ، وهل تكون نسبة البعث إلى الله دليلا على أن القائل هو الباعث؟ كلّ ذلك محتمل (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). وما هو سرّ الغرابة في هذه التجربة العادية في حياة الإنسان اليومية ليطرح هذا السؤال بهذه الطريقة؟ فليست المسألة إلا ظاهرة نوم طبيعي قد يستغرق الإنسان فيه فيشمل اليوم كله أو يقتصر على بعضه. (قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) وهنا كانت المفاجأة الصاعقة ، فليست القضية قضية سبات طبيعي ، بل قضية موت محقق في مدى القرن من الزمان وبعث جديد ، إذا فهذه هي التجربة التي كان السؤال يدور حولها ، فقد انطلقت في داخل ذاته ، لقد مات كل هذا الزمن الطويل وأحياه الله من جديد ، وكان ـ هو ـ الجواب الحاسم عن سؤاله الكبير ، فلم

٧٤

تعد القضية قضية الظاهرة في خارج ذاته ، بل في عمقها وامتدادها. ويمتد الوضوح به ليجسد له معنى المعجزة الإلهية في المسألة التي تؤكد فعلية الحياة بعد الموت من خلال ذلك.

(فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ) الذي كان معك (لَمْ يَتَسَنَّهْ) لم تغيره السنون ، فبقي في حيوية خصائصه وعناصره من دون أن يستهلكه أو يبدله مرور الزمن ، فإن الذي أبقاه هو الذي منحك البقاء في الحياة من جديد ، (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) الذي كان معك كيف تفرقت أجزاؤه ، وتقطعت أوصاله ، وتبددت عظامه ، وكيف نعيدها من جديد. (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) يعتبرون بها في إيمانهم بالله وبقدرته على إعادة الحياة كقدرته على إيجادها ، ويؤمنون ـ من خلالها ـ بالبعث في اليوم الآخر ، فيرتفع عن أفكارهم استبعاد ذلك (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) ونرفعها على الأرض لتنضم إلى بعضها البعض ، في عملية إعادة الحياة إلى الجسد ؛ جسدك أو جسد حمارك ، لترى التجربة الحيّة أمامك ، فتعيش المسألة التي كانت مجرد فكرة تبعث على التساؤل في وضوح من الرؤية الباعثة على اليقين (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) الموضوع الجديد الغريب بكل تفاصيله (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهذه هي الحقيقة التي انضم فيها الحس في تجربتي هذه ، إلى العقل في قضية الإيمان ، فلا مجال لسؤال جديد ، إذ لا غموض ولا شبهة في أيّ شيء ، بل هو الوضوح كله.

* * *

٧٥

الآية

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٦٠)

* * *

معاني المفردات

(لِيَطْمَئِنَ) : ليحصل الاطمئنان المطلق الذي لا مجال فيه للشك ، والطمأنينة والاطمئنان سكون النفس بعد انزعاجها واضطرابها ، وأصلها من الأرض المطمئنة إذا كان فيها انخفاض بحيث يستقر فيها الماء إذا سال إليها.

(فَصُرْهُنَ) : فأملهن واضممهنّ إليك فقطعهنّ ، من صار يصور إذا أمال أو قطع.

(يَأْتِينَكَ سَعْياً) : أي يأتينك مشيا على أرجلهن. وذكر عن النضر بن

٧٦

شميل ، قال : سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى : يأتينك سعيا ، هل يقال للطائر إذا طار سعى ، فقال : لا ، قلت : فما معناه؟ قال : معناه يأتينك وأنت تسعى سعيا (١).

* * *

إبراهيم عليه‌السلام باحث عن الحقيقة

وهذه قصة من قصص الحوار القرآني في حياة إبراهيم عليه‌السلام ، الذي أبرز لنا القرآن في شخصيته الإنسانية النبويّة ، شخصية الباحث عن الحقيقة بأسلوب الحوار ، سواء منه الذي كان يثيره مع نفسه ، في تصوير العقيدة الصحيحة حول ذات الخالق ، أو الذي كان يثيره مع الناس في تحطيم عقيدة الأصنام في نفوسهم ، أو الذي كان يثيره مع ربّه في مناجاته له ... وقد تمثل هذا اللون الأخير في هذه الآية ، فقد سأل إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ، فقد كان يريد أن يشاهد عملية الإحياء على الطبيعة ، وكان الجواب سؤالا تقريريّا : أو لم تؤمن؟ فإن مثل هذا السؤال قد يصدر ، في صورته هذه ، من غير المؤمن ، فكيف يصدر من إبراهيم الذي جاء من أجل أن يقود الناس إلى الإيمان؟! وكان جواب إبراهيم عليه‌السلام بتأكيد إيمانه ، فلم يكن السؤال منطلقا من ذلك ، بل من أجل الحصول على حالة الاطمئنان القلبي الذي يتحرك من مواقع الحس في الحياة ، بما لا يحصل من خلال القناعة الفكرية التي تعتمد على المعادلات العقلية التي تصنع للإنسان إيمانه ، ولكنها لا تمنع الهواجس الذاتية من أن تتحرك في النّفس في نطاق الأوهام الطارئة. ولهذا كانت الرغبة في المشاهدة من أجل تذويب كل ما يخطر في البال من أوهام. وأخيرا ، نفّذ الله له رغبته ، فطلب منه أن يواجه التجربة بنفسه ، وذلك بأن

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤٨١.

٧٧

يأخذ أربعة من الطير ، فيضمّهن إليه ، ثم يجزّئهنّ ويفرّق أجزاءهنّ على الجبال ، ثم يدعوهن فيأتين ساعيات مسرعات في طيرانهن ، أو في مشيهن على أرجلهن. ويقول صاحب الكشاف متسائلا ؛ فإن قلت : ما معنى أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها؟ قلت : ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئاتها وحالاتها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك ، ولذلك قال : (يَأْتِينَكَ سَعْياً) (١).

(وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فلا ينقص من عزّته شيء إزاء زوال أي شيء من مخلوقاته ، حكيم يضع كل شيء في موضعه في قصة الحياة والإحياء.

* * *

الفرق بين الإيمان والاطمئنان القلبي

وقد أثار المفسرون حديثا طويلا حول ما يمثله سؤال إبراهيم عليه‌السلام للحصول على الاطمئنان القلبي من حيث إن ذلك لا يتناسب مع مقامه النبوي الذي ينطلق من أجل تحصيل الطمأنينة للآخرين لا لنفسه. فقال بعضهم إن السؤال هو عن كيفية حصول الإحياء دون مشاهدة كيفية الإحياء وإن الجواب لا يدل على أزيد من ذلك ، وإن القضية لم تعرض على هذا الأساس ، بل عرضت على أساس توضيح الفكرة ، تماما كما يقول قائل : كيف يصنع الحبر؟ فتقول : خذ كذا وكذا تصير حبرا ... وأفاض الحديث في تقريب ذلك. ولكن هذا يتنافى مع ظاهر الآية الذي يدل على أن إبراهيم طلب المشاهدة الحسية ، كما توحي به كلمة : أرني ، وقوله : كيف تحيي الموتى ، مما يدل على أن السؤال هو عن كيفية الإحياء.

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ١ ص : ٣٩٢.

٧٨

ولعلّ الدافع لأمثال هؤلاء هو الانطلاق من فكرة إبعاد الغيب عن ساحة الأنبياء في معاجزهم واستبعاد تحقق الحياة من خلال كلماتهم التي لا تحمل أي شيء من القوة في هذا الجانب ، ولكن القضية كما ألمحنا إليه ، أن هذا الاتجاه يدفعنا إلى التحفظ في الغيب كمبدإ ، لأن المبدأ إذا كان واردا في العقيدة ، فلا قيمة للتفاصيل بعد ذلك ، لأن بإمكاننا أن نتساءل : ما هو المانع من أن يبعث الله الحياة في هذه الطيور بقدرته بمجرد دعوة إبراهيم عليه‌السلام؟ ولا يملك هؤلاء دليلا على تعزيز مثل هذا الاتجاه في حمل اللفظ على خلاف ظاهره ، ولسنا هنا في معرض استعراض ما قاله المفسرون من وجوه عديدة في تفسير السؤال ، بل كل ما نريد إثارته ، هو أن السؤال لا يمثل أيّة مشكلة فكرية ، لأن قضية الإيمان تتصل بالقناعة الفكرية المنطلقة من مصادره العقلية وغير العقلية. أمّا الاطمئنان ، فإنه يمثل سكون القلب وهدوءه ، بحيث لا يعيش أيّ خاطر مضادّ ولو في جولة الأوهام ، مما يفرض أن تكون مصادره واضحة للحس أو ما يقرب الحس ، وهذا لا يعتبر منافيا للإيمان. وربما كان أيّ واحد منا يعيش الكثير من الخطورات الذهنية المضادة لما يؤمن به في الأمور التي تدخل في نطاق الحس ، بينما لا يحس بمثل ذلك في ما يكون الحس مصدره الأساس ، فلا مانع من أن يكون سؤال إبراهيم واردا في هذا النطاق.

* * *

ماذا نستوحي من الآية؟

أما ما نستوحيه من هذه الآية ، فهو ما ألمحنا إليه في كتابنا «الحوار في القرآن» :

٧٩

«وقد نجد في حوار إبراهيم مع ربّه تجربة رسالية رائعة في أسلوب العمل ، فقد طلب من ربّه أن يريه المعجزة التي يطمئن بها قلبه ، في مشاهدته عملية إحياء الموتى على الطبيعة ، فقد نستوحي منها أسلوبا عمليا جديدا في مواجهة ردود فعل الآخرين على ما نقدمه إليهم من أفكار ، وذلك بأن نضع في حسابنا الحقيقة التالية وهي : أن الأفكار التي نقدمها للآخرين في إثبات قضايا العقيدة ، قد تقنعهم فكريا ، ولكنها لا توصلهم إلى مرحلة الإيمان الروحي العميق الذي يلتقي فيه العقل والقلب ، في عملية يمتزج فيها الفكر بالشعور فيتحول إلى طمأنينة روحية يشعر فيها الإنسان بالسكون والاطمئنان الذي يغمر فكره وروحه ، في سلام روحي عظيم.

ولهذا ، فإن علينا أن لا نستنكر عليهم هذا الطلب ، تماما ، كما لم نجد هناك أي إنكار من الله على نبيّه عند ما قدم هذا العرض له من أجل الحصول على الطمأنينة القلبيّة بعد حصول الإيمان الفكري. ومن البديهي ، أننا لا نستطيع تقديم المعجزة للآخرين ، كما قدمها لنبيّه ، ولكننا نستطيع تقديم الأفكار الواضحة القريبة من حياتهم ، حتى يحسوا أن قضية الإيمان تتحرك معهم في كلّ ما يعملونه أو يمارسونه ، من علاقات» (١).

* * *

__________________

(١) فضل الله ، محمد حسين ، الحوار في القرآن ، ص : ٢٤٧.

٨٠