تفسير من وحي القرآن - ج ٥

السيد محمد حسين فضل الله

في وعي الخلق كله ، فوجوده هو الوعي كله ، فلا سنة تصيبه ولا نوم يأخذه ، وهو المحيط في علمه بكل شؤون خلقه ، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة ولا يملك أحد منهم أيّ شيء من علمه إلا من خلال مشيئته في إعطاء العلم لمن يشاء ، فكما أن كل وجودهم مستمد من وجوده ، فإن كل علمهم مستمد من علمه ، ولا شفاعة لأحد عنده من خلال ما يملك من قدرة أو تأثير أو دلالة عليه من خلال ذاته ، فمنه الشفاعة ، فهو الذي يأذن بها ، وهو الذي يختار نتائجها من خلال حكمته العميقة الشاملة ، وهو الذي اتسع ملكه وامتدت قدرته ، وانفتح حكمه على السموات والأرض ، فلا يضيق عنه شيء منها أو ممّا فيها ، فهو الذي يحتويها ويحتوي ما زاد عنها ، وهو الذي يملك العلو في أعلى درجاته ، فلا درجة أعلى من موقعه في ذلك ، وهو الذي انطلقت عظمته ، فلا عظيم أمامه ، لأن عظمة الأشياء هبة منه ، وخلق من خلقه.

وهكذا يعيش الإنسان مع ربّه في هذا التصور الفطري البسيط ، ليبقى في دائرة الوضوح الذي لا يحتاج معه إلى أيّة شروح وتفسيرات مما يلجأ إليه الفلاسفة في تعقيداتهم الفكرية على أساس الفلسفات الأخرى المرتكزة على القواعد البعيدة عن أجواء العقيدة الإسلامية ، بحيث يجد الإنسان المسلم نفسه ضائعا بين الجوّ الإسلامي للعقيدة ، والجوّ غير الإسلامي للفلسفة ، الأمر الذي يؤدّي إلى الكثير من الضبابية في عالم التصوّر.

إننا لا ننكر وجود قيمة فكرية في الأسلوب الفلسفي في معالجة قضايا الدين والعقيدة ، مما يمنح الفكرة شيئا من العمق الذي يؤكد قوتها أمام الأفكار الأخرى في مجالات الصراع الفكري بين الإسلام وخصومه ، ولكننا نعتقد أن للقرآن أسلوبه الفطري في إثارة مفردات العقيدة على أساس الإيحاء الدائم بالبساطة الروحية في الوجدان الإسلامي ، فلا بد من ملاحظة هذا الجانب في دراسة الفلسفة الإسلامية.

٤١

إن الحديث عن استحباب قراءتها ، يوحي بالمسألة التربوية في تعميق التصور الإسلامي للعقيدة في المفردات القرآنية ، ليقرأها المسلم في كل يوم أو في كل ليلة ، كمنهج تربويّ إسلامي في تثبيت العقيدة في نفس المسلم ، فإن قراءة القرآن اليومية تنطلق من تحريك الآيات القرآنية في الوجدان الإنساني ، بحيث يكون نموّه في هذا الجوّ الذي يحقّق الصفاء الفكري للتنشئة الفكرية والروحية ، حتى لا تختلط عليه الأمور التي تشوّش عليه الصورة من خلال القراءات المتنوعة ، فلا تبقى لديه صورة واضحة عن إسلامه ، لذلك كانت القراءة اليومية وسيلة من وسائل إعادته إلى الينابيع الإسلامية الصافية للعقيدة وللمفاهيم العامة للحياة ، بالطريقة الذاتية التي يواجه فيها الإنسان قضيته العقيدية من موقعه الإنساني في تجربته الذاتية ، فهو الذي يقرأ الآية التي قد تثير لديه الكثير من التساؤلات ، وذهنية اللامبالاة ، أمام التيارات الأخرى إذا اندفعت إلى ساحته العامة أو وجدانه الخاص.

إن الإنسان ـ في هذه الحال ـ يمارس رياضة تربوية يومية تقوي عضلاته الروحية والفكرية بالطريقة التي يحصل فيها على المناعة القوية ، فلا يزحف الضلال إليه بسهولة ، ولا تقتحم الحيرة طمأنينته النفسية.

* * *

٤٢

الآية

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٥٦)

* * *

معاني المفردات

(إِكْراهَ) الإكراه : الإجبار والحمل على الفعل من غير رضا.

(الرُّشْدُ) : خلاف الغي ، وهو إصابة وجه الأمر ومحجّة الطريق ، ويستعمل استعمال الهداية. يقول صاحب تفسير الميزان : إنّ معنى الرشد والهدى معنيان مختلفان ينطبق أحدهما بعناية خاصة على مصاديق الآخر ... وكذلك القول في الغيّ والضلال (١).

(بِالطَّاغُوتِ) كل متعدّ ، وكل معبود من دون الله ، كالأصنام والشياطين وأئمة الضلال من الناس ، وكل متبوع لا يرضى الله سبحانه باتباعه. والطاغوت مبالغة في الطغيان والتجاوز عن الحد.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

٤٣

(بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) : العصمة الوثيقة ، وهي استعارة تصريحية تمثيلية ، فقد شبّه من يسلك سبيل الله بمن أخذ بحبل وثيق مأمون لا ينقطع.

(انْفِصامَ) : انقطاع ، من الفصم وهو الكسر.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول للواحدي ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، في قوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) قال : كانت المرأة من الأنصار لا يكاد يعيش لها ولد ، فتحلف لئن عاش لها ولد لتهوّدنه ، فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم أناس من الأنصار ، فقالت الأنصار : يا رسول الله أبناؤنا ، فأنزل الله تعالى (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) قال سعيد بن جبير : فمن شاء لحق بهم ، ومن شاء دخل في الإسلام.

وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار كان له غلام أسود يقال له صبيح ، وكان يكرهه على الإسلام. وقال السدي : نزلت في رجل من الأنصار يكنى أبا الحصين ، وكان له ابنان ، فقدم تجار الشام إلى المدينة يحملون الزيت ، فلما أرادوا الرجوع من المدينة ، أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا وخرجا إلى الشام ، فأخبر أبو الحصين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أطلبهما ، فأنزل الله عزوجل (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبعدهما الله هما أول من كفر.

وقال مسروق : كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان ، فتنصرا قبل أن يبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام ، فأتاهما أبو هما فلزمهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما ، فأبيا أن

٤٤

يسلما ، فاختصموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فأنزل الله عزوجل : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) فخلى سبيلهما.

وعن مجاهد ، قال : كان ناس مسترضعين في اليهود ، قريظة والنضير ، فلما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإجلاء بني النضير ، قال أبناؤهم من الأوس الذين كانوا مسترضعين فيهم : لنذهبن معهم ولندينن بدينهم ، فمنعهم أهلهم وأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (١).

فإذا صحت هذه الروايات التي اختلفت في مواردها واتفقت في مضمونها ، فإنها تشير إلى أن مدلول الآية يوحي بالمنع من إكراه الإنسان الذي انتقل إلى دين آخر ، أو كان فيه من خلال البيئة التي عاش فيها ، بالرجوع عنه والعودة إلى الإسلام ، أو الانتقال إليه انطلاقا من إرادة الله للإنسان بالالتزام بالإسلام في مرحلة الحدوث أو البقاء من خلال التأكيد على حريته في الانتماء الديني.

وهذا ما قد يتنافى مع المشهور بين العلماء من حكم المرتد بإكراهه على العودة إلى الإسلام أو منعه من الانتقال عنه ، فلا بد من دراسة هذه المسألة بالمقارنة مع هذه الروايات ، ولكن لم تثبت لنا صحتها.

* * *

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ـ مدلولها ومغزاها

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ما الذي تعنيه هذه الكلمة؟ هل تعني نفي الإكراه

__________________

(١) الواحدي ، أبو الحسن علي بن أحمد ، أسباب النزول ، دار الفكر ، ١٤١٤ ه‍ ـ ١٩٩٤ م ، ص : ٤٥ ـ ٤٦.

٤٥

من خلال إعطاء الإنسان الحرية في أن يؤمن أو لا يؤمن ، على أساس أنها قضيته الشخصية التي لا تستتبع أيّة مسئولية ، تماما كما هي قضية أن يأكل الإنسان أو لا يأكل في ما يباح للإنسان أن يفعله أو يتركه ، أو أنها تعني نفي الإكراه من خلال إعطاء فرصة الاختيار للإنسان على أساس تقديم البراهين على ما في الدين من الحق ، وما في الكفر من الباطل ، مع التأكيد على أنّ الاختيار المضاد يستتبع المسؤولية بالعقاب في الآخرة ، بالنظر إلى وضوح الرؤية في الحق الذي يمثله الدين ، وفي الباطل الذي يمثله الكفر ، فلا شبهة ولا ريب ، لأن كلّ ما يثأر من عناصر الريب والشبهة لا يمثل قيمة كبيرة في حساب الفكر والوجدان ، لضعف الحجج المضادة ، وقوّة الأدلة الموافقة ، ولعلّ هذا ما يظهر من ختام الآية.

ثم يبرز سؤال آخر : هل الفقرة واردة في مورد الإخبار ، أو هي واردة في مورد الإنشاء والتشريع؟

ربما يبدو للبعض الفرض الأول ، باعتبار أنّ قضية الدين تتعلّق بالقناعة الداخلية الفكرية للناس ، وهي من الأمور التي لا تقع تحت طائلة الإكراه ، ويرى هذا البعض في قوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) ، دليلا على هذا الفرض ، لأن معنى هذا ـ في ما يراه ـ هو أن هناك ما يدعم حجة الدين من خلال وضوحه في مقابل الكفر ، فلا معنى للإكراه على أيّ حال ، لأن الدعوة إليه تنسجم مع الطبيعة الذاتية لعلاقة الفكر بالقناعة الدينية.

وهناك من يرى في هذه الفقرة حكما شرعيا يدعو النبي إلى عدم إكراه الآخرين على الدخول في الدين ، بل كل ما هناك أن يدعوهم إليه بالحجة والبرهان والحكمة والموعظة الحسنة ، فيعرض أمامهم الرشد الواضح في مقابل الغيّ الواضح ، ويترك لهم المجال لكي يتحملوا مسئولية مصيرهم في الدنيا والآخرة من موقع الإرادة السلبية أو

٤٦

الإيجابية.

ويذكر أصحاب هذا الرأي ، أنّ مثل هذه الكلمة قد وردت في أكثر من موقع تشريعي ، كما في قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧] أو في الحديث الشريف : «لا ضرر ولا ضرار» (١) ، وغيرهما ، فإن مفادها هو نفي تشريع مثل هذه الأمور ، ويرون في آية (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) أساسا لهذه الفكرة ، باعتبار أن الاعتماد على البلاغ والدعوة من موقع الوضوح في القضية هو الذي يخدم الدين أكثر مما يخدمه الإكراه ، فإذا كان الله قد خلق الإنسان مختارا في ما يأخذ وفي ما يدع من موقع التكوين ، لأنه يريد للحياة الإنسانية أن تتحرك في خط الاختيار على أساس المسؤولية ، فإنه يريد لرسالاته من خلال رسله أن لا تفرض على الناس من موقع التشريع ، وعلى هذا ، فتكون الآية واردة في أسلوب الدعوة من جهة ، وفي خط مهمّة النبي الداعية من جهة أخرى. ففي الخط الأول ، ينطلق الأسلوب في إطار الوضوح الذي هو سمة الدين الحق ، وفي الخط الثاني ، يتحرك النبي الداعية في أجواء الإبلاغ والإقناع وحركة حريّة الفكر ... وفي هذا الخط ، تلتقي الآية ، في ما توحيه ، بقوله تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] ، وقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢٢ ـ ٢١] ، وقوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩].

وربما كان هذا الاتجاه في تفسير الآية أقرب إلى هذه الأجواء القرآنية من الاتجاه الأول ، بل ربما نستطيع أن نؤكّد ذلك على أساس أنه لا معنى لسوق الآية مساق الإخبار ، لأن عدم قابلية الدين للإكراه من حيث هو فكر ،

__________________

(١) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار ، الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ط : ١ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، ج : ٢٢ ، ص : ٣٥٦ ، باب : ٣٧ ، رواية : ١١٧.

٤٧

من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى المزيد من التوضيح والاهتمام.

* * *

موقع القتال من قضية الإكراه في الدين

وهنا قد يطرح السؤال الآتي :

كيف نفهم القتال في الإسلام ، ألم يكن جهادا من أجل الدعوة؟ وكيف نفهم تخيير المشرك بين الإسلام وبين السيف ، أليس هذا إكراها في الدين؟ فإذا لم يكن كذلك ، فما معنى الإكراه؟

ونجيب على ذلك ، أن القتال في الإسلام ، كما ألمحنا إليه ، لم يستهدف إجبار الناس على الدخول في الدين ، بل هو خاضع للأنساب والمبررات الواقعية التي تفرضها طبيعة الساحة من خلال الأهداف الدفاعية أو الوقائية ... أمّا الجهاد من أجل الدعوة ، فليس هدفه إكراه البلاد على الدخول في الإسلام ، بل هدفه إيصال الدعوة إلى كل إنسان من قاعدة «إن الدين لله ...» فلا بد من إيصاله إلى كل عباده ليعبده الناس كما يريد ، وإن الله أرسل رسوله برسالته للناس كافّة ، فلا بد من أن يعرفه كل الناس ... وإذا كان هناك من يقف بين الإسلام وبين حريته في ذلك ، فله الحق في أن يواجه هؤلاء بمختلف الأساليب السلميّة وغير السلميّة ...

فإذا وصلت الدعوة إلى الناس من خلال الدعاة ، وقامت الحجة بهم على الناس بما يقدمونه من أدلة وبراهين ، فهناك فريقان من الناس ؛ فريق أهل الكتاب الذين يطرح عليهم الإسلام التعايش في ضمن شروط الذمّة التي تكفل لهم حرية المعتقد والعبادة والشؤون الشخصية في نطاق مجتمعهم الخاص ، وبذلك يمكنهم أن يعيشوا مع المسلمين وفي حمايتهم مما يحمي به المسلمون دماءهم وأموالهم وأعراضهم ، دون أن يتكلفوا بأية مسئوليات في الحرب والقتال ، لا سيما إذا كان القتال لأشخاص يدينون بدينهم ...

٤٨

فإذا لم يستجيبوا لذلك ولا للإسلام ، فإن معنى ذلك إعلان الحرب والتمرد الذي يبرر للإسلام أن يدافع عن نفسه ضد كل محارب له ومتمرد على سلطته.

أما الفريق الثاني ، فهو فريق المشركين والملحدين الذي يمكن للمسلمين أن يدخلوا معهم في معاهدة ضمن المصلحة الإسلامية العليا ، على رأي فقهي خاص ، أما إذا لم يكن هناك مصلحة في ذلك ، فليس هناك إلا الإسلام لقيام الحجة عليهم ، ولأن الإسلام لا يعتبر الشرك والإلحاد دينا يبعث على الاحترام ، بل هو ضد مصلحة الإنسان والحياة ، بل إن الإسلام قد جاء من أجل أن يزيل كل عوامل الشرك والإلحاد في دعوته التوحيديّة ، فلا معنى لأن يسمح بالتعايش معهما على أساس الاحترام المتبادل ، لأنه يعني إعطاء الحرية لنقيضه ، مع أن هذا يعتبر ـ في نظر بعض المفكرين ـ تأكيدا لسلطة الإسلام على هؤلاء ، لا إكراها لهم على الدين ، لأن السبيل الوحيد لممارسة هذه السلطة عليهم هو ذلك ، لأنه الذي يمنعهم من ممارسة الكفر من ناحية عملية. وهذا ما جعل القرآن يفرق في المصطلح بين الإسلام الذي يعني الخضوع لسلطة الإسلام في الجانب العملي من دون دخل للجانب العقيدي ، وبين الإيمان الذي يعني إسلام القلب والوجه واللسان ، إلى جانب إسلام العمل ... وبذلك جرى اعتبار المنافقين من المسلمين ، مع أن القرآن يعلن أن الله يشهد إنهم لكاذبون.

وهناك ملاحظة جديرة بالاهتمام ، وهي أن هذا الموضوع خاضع في حركيته للمتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي قد تفرض بعض العناوين الثانوية التي يتبدل فيها الموضوع الذي يتبعه الحكم الشرعي ، فيمكن للدولة الإسلامية ، أو للمجتمع الإسلامي ، إبقاء الملحد أو المشرك على عقيدته في نطاق القوانين والأنظمة العامة ، ومنحه الحرية في بعض شؤونه الثقافية ليدخل في حوارات متنوعة مع المراكز الثقافية الإسلامية حول

٤٩

عقيدته الإلحادية أو المنحرفة أو الإشراكية من أجل الوصول معه إلى الوضوح في المسألة الفكرية في هذا الجانب أو ذاك ، خصوصا أنه من الصعب أن تلتقي إنسانا يؤمن بالإلحاد بمعنى اعتقاد النفي ، لأن النفي يحتاج إلى دليل لا يملكه النافي ، كما هو الإثبات بحاجة إلى الدليل ، بل كل ما هناك ، أن الإنسان يشك في الله وفي الرسالة وفي اليوم الآخر ، وفي بعض المفاهيم الإسلامية الثابتة كضرورة في الدين ، وفي هذه الحالة لا يعتبر الشاك كافرا إذا لم يتحوّل الشك إلى جحود لا يملك الدليل عليه ، وفي ضوء هذا ، لا ينطبق عليه حكم الكافر الذي لا يسمح الإسلام له بالحرية من ناحية المبدأ في الظروف الطبيعية.

* * *

الآية ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقد يشكل البعض على الجانب الخاص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمتمثل بفرض التغيير بالقوة لجهة اعتباره نوعا من أنواع الإكراه ، كما حاول البعض أن يهاجم هذا الأسلوب المتّبع في المجال التطبيقي للإسلام في المجتمع بهذه الحجة ، فطرح فكرة (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) التي تتنافى مع كل أساليب العنف والضغط في كل أعمال الإنسان وأقواله. ونجيب على ذلك ، بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدخل في نطاق تطبيق النظام على الفرد والمجتمع ، أو ما يسمى بتنفيذ القانون ، ولا معنى لأن يمنح القانون للناس حرية التمرّد عليه أو تعطيله. ونحسب أن هؤلاء الذين أثاروا هذا الجانب من الاعتراض ، يعتقدون بأن للفرد حرية من نوع خاص ،

٥٠

فهم يرون الإنسان حرا في مأكله ومشربه وألعابه وشهواته التي لا تسيء إلى الآخرين ... كما يرون الإنسان حرا في أن يعبد الله أو لا يعبده ، ولكن الإسلام لا يؤمن بهذه الحرية للفرد ، بل هو يشرّع للفرد في حياته الخاصة كما يشرّع له في حياته العامة ، ويتدخل في شؤونه الذاتية حتى في أشد الأشياء خصوصية له ... وبذلك يتسع القانون حتى يشمل ذلك كله ، ويتّسع ـ تبعا لذلك ـ تنفيذه حتى يسيطر على ذلك كله. وعلى ضوء هذا ، فإن الاختيار لا يمنح في هذه الدائرة ، بل يمنح في دائرة اختيار الطريق في ما يعتقد وفي ما لا يعتقد ، كما أشرنا إلى ذلك آنفا.

(قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) إن الإسلام هو دين الفطرة في تقريره الإيمان بالله ، وفي ما يأمر به وينهى عنه ، ولذلك فإن الإنسان لا يحتاج في إيمانه بالله وبالإسلام إلا أن ينفتح على الفكرة ويرجع إليها ليلتصق بها ... وهذا ما عبرت عنه بعض الآيات كما في قوله تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ١٠] وذلك بأسلوب الاستفهام الإنكاري الذي يوحي بأن الموضوع غير قابل للشك جملة وتفصيلا. أمّا الذين كفروا ، أو عاشوا في أجواء الشك ، فإنهم أغلقوا عيونهم عن النظر ، وآذانهم عن السماع ، وعقولهم عن التفكير (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩] ، إن قضية الإيمان والكفر لدى الإنسان هي قضية استعمال أدوات المعرفة التي تفتح قلبه على الحقيقة وعينه على الحياة أو عدم استعمالها ، وليست قضية فكر معقد يحتاج إلى تحليل وتفسير ، تماما كما هي الشمس عند ما تغمض عينيك ، وتبادر إلى إنكارها ، إن ذلك لا يعني وجود إشكال في وجود الشمس ، بل كل ما يعنيه هو وجود مشكلة في طريقة مواجهتك للحقيقة من خلال أدوات المعرفة التي تستخدمها للكشف عنها.

* * *

٥١

الكفر بالطاغوت وعلاقته بالإيمان

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

إن حبل الإيمان بالله قوي وشديد ومتماسك ، وإن جذور الإيمان عميقة عمق الحياة الممتدة في الكون ، فمن آمن بالله ، فقد استمسك حينئذ بالقوة التي لا مجال فيها لضعف أو انحلال ، ومن يكفر بالطاغوت ، فقد انفصل عن كلّ عوامل الضعف والفساد والخذلان ، لأن الطاغوت يمثل ما يعنيه الطغيان من معاني الانحراف والانهيار المنفصلة عن كل ما تمثله الإنسانية من قوّة وعمق وامتداد.

إنها دعوة موحية للكفر بالطاغوت في جميع مجالاته التي يتحرك فيها في حياة الناس في مجال الفكر والعقيدة والحكم والسياسة والاجتماع ، فالقوى التي تمثل الفكر الباطل أو الحكم الباطل أو السياسة الباطلة أو القوة الغاشمة المعتدية ، هي قوى طاغوتية في مفهوم الإسلام ، لأنها تتنافى مع الفكر الحق والحكم الحق والسياسة الحقة والقوة العادلة المنفتحة على كل حركة الإنسانية في الحياة ، وبذلك فهي ضد الإيمان بالله في ما يعنيه هذا كله.

وربما كان التركيز على الطاغوت الحاكم من الأمور الحيوية في هذا الرفض للطاغوت ، لأن خطورته تتمثل في سيطرته على مقدرات الواقع كله من الناحية الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأمنية ، من خلال أن ذلك يمكّنه من احتواء الساحة كلها في جميع جوانبها ، لأن ذلك

٥٢

هو الذي يؤكد حاكميته في الخط الذي جعله لحكمه وموقعه الطاغوتي بتأكيد المفاهيم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تفتح له آفاق الذهنية العامة للناس في عناصر الفساد المتنوعة الداخلية والخارجية ، بحيث يتحركون تبعا لإيحاءاتها ومعطياتها ونتائجها.

فإن الحاكم الطاغوتي الذي يرتكز حكمه على قاعدة ثقافية ذهنية عامة ، أكثر قوّة من الحاكم الذي ينطلق بالقوة وحدها في فرض سيطرته على الناس.

وبذلك يقف الإنسان المسلم في الحياة أمام خيارين لا ثالث لهما ، الإيمان بالطاغوت الذي يعني الارتباط بخط الكفر والباطل ويؤدي إلى الكفر بالله ، والإيمان بالله الذي يعني الانطلاق في حركة الحياة من موقع الحق في ما يمثله من امتداد ومسئولية وشمول ، ويمثل في مدلوله العميق الكفر بكل ما عدا الله ، ومن عداه من خطوط الباطل وقواه. فلا يمكن أن يجتمع في قلب إنسان مؤمن وحي الله ووحي الطاغوت ، وفي حركة إنسان مؤمن ، خطوات الحق وخطوات الباطل ، لأن آفاق الإنسان لا تتحملهما معا إذا كان الإنسان يتحرك في الحياة من موقع الجديّة والمسؤولية في ما تعنيه كلمة الإنسان المسؤول.

وربما ينطلق التساؤل ، لماذا هذا الحديث عن الكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله في هذه الآية كما هو الأسلوب نفسه في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى) [الزمر : ١٧].

والجواب عن ذلك : أن الإيمان ينطلق من انفتاح القلب أو العقل على الله بحيث لا يكون في داخله أيّ موقع لغيره ، حتى يكون الإيمان صافيا نقيّا خالصا في إيحاءاته وخلفياته ومعطياته ، لئلا يسيء الجو الداخلي في زحف المشاعر الخفية السلبية إليه ، فتختلط الصورة ، ويرتبك الإحساس ، ويمتزج

٥٣

الحق بالباطل ، ويعيش الإنسان الازدواجية بين بقايا الطاغوت في الفكر ، وحركة الإيمان في الذات ، وبذلك تضطرب الخطوات وتنحرف يمينا وشمالا.

ولهذا كانت الخطة الإلهية في تعميق الإيمان وتصفيته أن يطرد الطاغوت من عقيدته كوسيلة من وسائل طرده من حياته ، ليكون القلب فارغا من كل المؤثرات السلبية ، ليدخل الإيمان فيه ، فيستولي على الذات كلها ، ولعلّ هذا ما توحيه كلمة الإيمان التي هي أساس الإسلام وهي شهادة التوحيد : «لا إله إلا الله» التي تتضمن مفهوما سلبيا وهو نفي أي إله غير الله ممن يتخذهم الناس آلهة في الذهن وفي الواقع ، ومفهوما إيجابيا ، وهو إثبات الألوهية الواحدة لأن الوحدانية هي ذلك في العمق ، لأنها تعني سلب العدد الآخر والاقتصار على الواحد.

ولا بد لنا ـ في هذا الاتجاه ـ من تخطيط منهجية تربوية تنطلق في حركتها من تفريغ ذهنية الإنسان الذي ندعوه إلى الله أو نهديه إلى الإسلام وإلى التقوى من الأفكار الضارة والمشاعر السيئة والانطباعات الشريرة ، ونعزل ذاته عن كل شخص طاغ أو منحرف أو ضال ، حتى لا يؤثر على نفسيته أو يشوّش خاطره ، فإذا طهّرنا ذاته من ذلك كله ، أمكننا أن نزرع فيها الإيمان والخير والتقوى في أسلوب صاف بعيد عن التأثر والامتزاج بأي شيء مضاد ، والله العالم.

* * *

٥٤

الآية

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥٧)

* * *

جدل النور والظلمات أو الإيمان والكفر

ما الذي يعنيه الإيمان في حياة الإنسان المؤمن ، وما الذي يمثله الله في حركة حياته؟ هل الإيمان بالله مجرد فكرة تجريدية ترتبط بالجانب الفكري التجريدي من الإنسان ، تماما كما هو الفكر الفلسفي الذي يتحرك في نطاق التصورات المجردة التي تفلسف الواقع في ما هو يتحرك بعيدا عن كل فلسفاتها ... فالواقع يتقدم ، وهي تلهث خلفه لتفهمه وتعطيه صورة من صور الفكر أو الخيال؟ أو أنه يمثل الفكرة التي تدخل في عمق وجدان الإنسان وتتحرك في كيانه من حيث إنها تمثل التحديد لخط المسير في نقطة البداية والنهاية وتنطلق بعيدا في حياته لتغييرها على صورتها ، فيتغيّر مصيره تبعا لتغيير الصورة؟

٥٥

إن الجواب عن ذلك ، هو أن نختار الفرض الثاني. ففي الإيمان تلتقي خطوط الحياة العملية المسؤولة التي تقف بحساب وتتحرك بحساب وتخطط على أساس أن الله موجود من حيث هو خالق ومن حيث هو رازق ومن حيث هو رب الوجود ومالكه ومنه كل شيء وإليه المصير ، وإن وجود الإنسان يمثل الظلّ لوجوده ، فهو مفتقر إليه في كل شيء ، كما أن الله مستغن عنه في كل شيء ... فقضية الإيمان بالله مرتبطة بوجود الإنسان ، بأعمق ما تمثله الرابطة العضوية بين شيء وآخر.

وهذا هو معنى ما يمثله الله في حركة حياته ، فهو الذي يفتح للناس آفاق النور من خلال هدايته ، في ما يوحي إليهم من آياته ، وفي ما يشرّع لهم من شرائعه ، وفي ما يقودهم إليه من مصير ، وفي ما يثيره في أفكارهم من مفاهيم مضيئة ... وبذلك لا يمكن أن يعيش المؤمن معاني القلق والضياع والحيرة ، ولا يشعر بالجو الضبابي يغلّف رؤيته للأشياء التي حوله ، ولا يتخبط في ظلمات الريب والشك والشبهة ، ولا يتعقّد أمام الأزمات التي تختنق في داخله لتخنق له حياته ، لأنه يعرف من خلال إيمانه كيف يخطط لطريقه الذي لا التواء فيه ولا انحراف ، ويشعر بالنور يقتحم عليه وعليه للأشياء من حوله ، ويزيل عنه كل ريب وشبهة ، ويشعر في الوقت نفسه ، أن الكون يتحرك بالقوة الحكمية الرحيمة القادرة التي تسيطر على كل شيء وتضع كل شيء بحساب وتقضي كل شيء بحساب ، وبذلك لن تكون الحياة خشبة في مجرى التيارات ، بل هي سفينة تسير بقيادة مدبّر حكيم .. حتى الموت ـ في وعي المؤمن ـ ليس ظلاما وليس نهاية كل معاني الحياة ، بل هو انفتاح على الله في حياة جديدة يواجه فيها الإنسان نتائج مسئوليته ، كما كان يواجه في الدنيا حركة المسؤولية ، فهو يعيش في وضوح الرؤية في الدنيا ، وينطلق مع وضوح الرؤية في الآخرة ، وفي ضوء ذلك ، نفهم كيف يخرج الله الذين آمنوا من الظلمات إلى النور.

٥٦

أما الذين كفروا بالله ، فهم الذين أغلقوا عيونهم عن النور المتدفق من كل جانب من جوانب الحياة ، وأخلدوا إلى الأرض ، وعاشوا للّحظة الحاضرة ، وغرقوا في ظلام الشك والشبهة ، فهم يتنقلون من ظلمة إلى ظلمة ، ومن مشكلة إلى مشكلة ، ووقفوا أمام قضايا المصير في الطريق المسدود ، فلا فكرة تنير لهم الطريق ... وبذلك عاشوا القلق والضياع والإحساس بعبث الحياة وتفاهتها ، وتحركوا مع أطماعها وشهواتها وسكراتها ، يغرقون فيها آلامهم ، ويغيبون فيها مع أوهامهم ... وإذا كانت الأطماع هي سرّ حياة الإنسان ، فهناك التخبط والقفز على المواقع ، والانتقال من طريق إلى طريق من دون قاعدة ومن دون أساس ... إنهم لم يملكوا القاعدة التي تتفجر بالنور وتفجر النور من حولهم ، وهي الإيمان بالله ، فساروا مع الطاغوت الذي يمثل الظلم والظلام والجحود والنكران ، فوقعوا في الظلمات ، ظلمة الكفر والشرك والعصيان ، فكان جزاؤهم النار خالدين فيها ، بعد أن وضح الطريق أمامهم ، فانحرفوا عنه ، وذلك هو جزاء الكافرين الجاحدين ...

* * *

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) فهو ربهم الذي خلقهم ورزقهم ورعاهم ورباهم ودلّهم على مواقع هدايته وسبل رشده ، وأفاض عليهم من نور علمه وزوّدهم بوسائل معرفته ، وأنزل عليهم وحي رسالاته ، وفتح قلوبهم على نور البصيرة ، فكانوا منه على نور في العقل والروح والشعور والحركة ، بحيث لا تلتقي بهم ظلمة في أيّ طريق يسلكونه ، وفي أيّ فكر يفكرون به أو أيّ أفق يتطلعون إليه ، إلا وأعطاهم ـ من خلال كل ما وهبهم من ألطافه ـ نورا

٥٧

وإشراقا يمنحهم من كل نور نورا جديدا ومن كل إشراقة وعيا جديدا. وهكذا تنطلق ولاية الله للإنسان المؤمن لتحتضن روحه وعقله وحياته وتوجه خطواته إلى الصراط المستقيم الذي يفتح لهم كل نوافذ النور التي تطل بهم على السعادة في الدنيا والآخرة.

ومن خلال ذلك فإنه (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) بما تمثله كلمة الظلمات من ظلمة الكفر والشرك والجهل والتخلف والشرّ والظلم والباطل ، وكل الأخلاق والأعمال التي تؤثر في ظلمة العقل والقلب والروح والحركة والشعور والحياة بشكل عام ، (إِلَى النُّورِ) الذي يتمثل في وحي الله وتعاليم رسله بما يقرب الناس من مصالحهم في الدنيا والآخرة ويبعدهم عما يفسد أفكارهم ومشاعرهم وأوضاعهم الخاصة والعامة في الحياة.

والظاهر من هذا التعبير الذي يلتقي بأكثر من آية مماثلة في القرآن لهذه الآية ، أن هذا الإخراج وارد على سبيل الاستعارة المجازية في استعارة الكلمة الموضوعة للمعنى المادي للنور والظلمة للصورة المعنوية لها ، وهي الهداية للإيمان التوحيدي والنهج التشريعي والمنهج الأخلاقي الذي يتحرك فيه الإنسان في حالة من الصفاء الروحي والنقاء الفكري والاستقامة العملية ، ونحوها مما يشبه حركة الإنسان في النور في صفائه ونقائه واستقامة طريقه ، فيكون السائر معها كالسائر على النور ، في مقابل الكفر والشرك والنهج الشرير في الجانب الأخلاقي والشرعي الذي يعيش الإنسان فيه التخبط الفكري والعملي في أكثر من طريق.

ولكن العلّامة الطباطبائي يرى أن هذا الإخراج وما شاكله من المعاني ، أمور حقيقية غير مجازية ... غير أنها لا تفارق أعمالنا وعقائدنا ، بل هي لوازمها التي في باطنها (١).

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

٥٨

ونلاحظ على ذلك أن هذا الاتجاه في فهم الكلمات وفي توسعة مفاهيمها ، تشمل المعاني الاعتيادية التي يدركها الناس في وعيهم للألفاظ عند سماعها ، وغير الاعتيادية مما لم يألف الناس وسائلها ، أو لم يعرفوها في واقعهم الوجودي الكلامي ، لتكون الكلمة منفتحة على المعنى الممتد في الوسائل المادية وغير المادية.

إننا نلاحظ على هذا الاتجاه أنه لا ينطلق من حالة لغوية بل من حالة عقلية تحليلية ، بينما نجد أن الكلمات ترتبط بالتصورات الذهنية المألوفة لدى الواضع ـ إن كان هناك واضح ـ أو المستعمل ، أو السامع الذي يعيش في أجواء اللغة. إن من الممكن توسعة معاني الكلمات على مستوى المجاز أو الحقيقة الادّعائية ، ولكن ذلك لن يغيّر شيئا من المسألة اللغوية التي لا تجعل الاستعمال حقيقيا في نطاق المعنى الحقيقي الذي وضع اللفظ فيه.

وفي ضوء هذا ، فإننا لا نستطيع موافقة السيد الطباطبائي على هذا الفهم العقلي للكلمة ، بالرغم من دقته وطرافته ، بل إن دراسة الآيات المتعددة التي ورد فيها هذا التعبير ، تشير إلى المقصود بهذه الكلمات ، فنقرأ قوله تعالى في سورة المائدة : (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة : ١٥ ـ ١٦] ، وقوله تعالى : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) [إبراهيم : ١] ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم : ٥] ، وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [الأحزاب : ٤٣] ، وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ

٥٩

الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [الحديد : ٩] ، وقوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [الطلاق : ١٠ ـ ١١] ، فنحن نلاحظ أن النور الذي يدخل المؤمنون إليه ، هو كتاب الله الذي عبر عنه بالنور في الآية الأولى ، من خلال ما يوحي به للإنسان من حقائق العقيدة والشريعة والحياة ، كما في الآية الثانية ، وهذا ما توحي به الآية الثالثة التي جعلت الرسالة التي كلف الله بها موسى أن يحملها ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، باعتبار أنها تتحرك في خط التوراة التي هي النور ، كما جاء في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) وقد جاء التعبير بالنور عن الإنجيل في الحديث عن عيسى عليه‌السلام : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً) [المائدة : ٤٦] ، وهذا ما نستوحيه من الحديث عن الآيات البينات التي تخرج الناس من الظلمات إلى النور.

وخلاصة ذلك كله ، أن النور هو الكتاب المنزل والرسول المرسل ، فكيف يمكن أن يختزن المعنى الذي تدل عليه الكلمة من مدلولها اللغوي؟! وهذا ما تنطلق ولاية الله في حياة الإنسان لترسم له الطريق الواضح والخط المستقيم في كل حياته ، ليعيش في وضوح الرؤية الذي يشمل كل منطلقاته وتطلعاته وأعماله وأقواله وعلاقاته ومواقفه في نفسه ومع الناس والحياة ، تماما كما هو الوضوح الذي يعيشه الإنسان الذي يتحرك في الطريق المنفتح على إشراقة النور في السماء.

* * *

الطاغوت ولي الذين كفروا

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) وابتعدوا عن خط الإيمان وروحه وفكره وحركته

٦٠