تفسير من وحي القرآن - ج ٥

السيد محمد حسين فضل الله

الآيتان

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣٤)

* * *

معاني المفردات

(اصْطَفى) : اختار واجتبى ، والاصطفاء تناول صفو الشيء ، كما أن الاختيار تناول خيره ، والاجتباء تناول جبايته ، والاصطفاء أخذ صفوة الشيء وتخليصه مما يكدره ، فهو قريب من معنى الاختيار. والاصطفاء على العالمين ، نوع اختيار وتقديم لهم عليهم في أمر أو أمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم.

* * *

الله يصطفي أولياءه

في بداية هذا الفصل من السورة ، ينتقل بنا القرآن الكريم إلى الحديث عن بعض جوانب التاريخ الديني ، في أجواء قصصية من قصص أنبياء الله

٣٤١

وأوليائه ، فنلتقي معها بهذه الشخصيات العظيمة ، وهي تعيش مع الله في روحية صافية خاشعة ، فتبتهل إليه تعالى عند ما تتعقد أمامها الأمور ، وترجع إليه عند ما تطبق عليها المشاكل ، وتنفتح عليه في ما تحمل من هموم وأسرار ، في عمق العبودية وصفاء الإخلاص ، ونشعر ـ في هذا الجو ـ بأن الله سبحانه يعامل هؤلاء معاملة مميّزة تنطلق من رضاه عنهم وتقديره لروحيتهم بالمستوى الذي يظهر لنا منه ما يوحي بالقرب الكبير. ولهذا ، فإننا عند ما نحاول متابعة هذه القضايا ، لا نريد أن تشغلنا أجواء القصة وتفاصيلها عن فهم الجوانب العميقة التي تتمثل في حركات القصص وشخصياتها التي تحمل من المعاني الروحية الشيء الكبير ، لنستفيد منها في علاقتنا بالله ، وفي استثمار هذه العلاقة في مواجهة كثير من مشاكلنا المعقدة ، بالرضا والاطمئنان الروحي.

* * *

اصطفاء الله لبعض أنبيائه

(* إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) الاصطفاء يعني الاختيار الذي يوحي بالتفضيل ، انطلاقا من الملكات والصفات الذاتية التي أودعها الله فيهم ، فقد اختار الله آدم لدور الخلافة الأولى في الأرض ، من أجل أن يبدأ الرحلة الإنسانية التي تبني الأرض وتعمرها على أساس التخطيط الإلهي ، واختار نوحا ليكون أوّل الأنبياء أولي العزم الذي يعطي المثل في الصبر أمام التحديات والدأب في مواجهة الكفر والضلال ، حتى لا يبقى هناك مجال للتجربة ، لأنه استنفد كل التجارب ، مما يعطي الدلالة على مدى الروحية الواسعة العميقة الممتدة في رحاب الله ، واختاره الله بعد الطوفان من جديد ، ليبدأ التاريخ الجديد للبشرية من خلال النماذج التي سارت معه ، واختار إبراهيم الذي أسلم وجهه لله وعاش التجربة الصعبة

٣٤٢

بالقلب المطمئن الراضي الذي احتضن في داخله كل التطلعات الإنسانية الروحية نحو الله ، وانطلق الإسلام ـ من خلاله ـ كخطّ عريض للحياة في الفكر والأعمال والمشاريع والأهداف ، فقد أوصى بنيه به وعاش بنوه الطيبون ، الرسل الكرام الذين اختصهم الله بنعمته ، فاصطفاهم لرسالاته ، من لدن إسحاق وإسماعيل إلى نبينا الأعظم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... ولم تكن القضية قضية نسب يعطي الامتياز ، بل هي قضية رسالة واتباع يشير إلى الخط ، كما قال الله سبحانه : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران : ٦٨] ، ولهذا ، فلا مجال لتعميم الحكم على جميع من انتسب إلى إبراهيم عليه‌السلام.

أمّا آل عمران ، فقد نلتقي بالنسب الذي ينتمي إليه موسى ، وقد نلتقي بالنسب الذي تنتمي إليه مريم ، وبذلك يلتقي به نسب عيسى عليه‌السلام ، لأن النسب ليس واحدا فيهما ، لوجود فترة زمنية كبيرة بين موسى ومريم. ويرى بعض المفسرين أن المراد منهم هنا مريم وعيسى عليه‌السلام ، لأن موسى لم يذكر في القرآن بنسبه ، بل ذكره باسمه مجردا عن ذلك ، مما يوحي بأن القرآن يتحدث عنه بصفته الشخصية ، ولأن هذه السورة قد تعرضت لقصة مريم وعيسى بشكل تفصيلي ، بينما لم تتعرض لقصة موسى إلا بطريقة مجملة ، ولا يخلو هذا الرأي من قرب ؛ والله العالم بحقائق الأمور.

وكان الاصطفاء لحمل هذه الرسالة من أجل أن يكونوا رسلا ودعاة وهداة للعالمين ، ولا بد في سبيل ذلك من أن يكونوا في تفكيرهم وشعورهم وسلوكهم نماذج متفوّقة في هذا المجال ، ليكونوا القدوة المثلى في القول والعمل وليستطيعوا أن يعطوا الناس من روحيتهم الفيّاضة بالإيمان المنطلقة في خط المسؤولية روحا جديدة عالية ترفع من مستواهم الفكري والروحي والعملي.

٣٤٣

فإن قضية الرسالة ليست مجرد فكر يقدّم للناس من أجل هدايتهم ، وليست مشاعر تنبض في القلب لتعطي الناس رصيدا كبيرا من العواطف ، ولكنها القوّة التي تتحرك من أعماق الروح لتغير الواقع وفق التخطيط الإلهي للحياة في كل ما يعنيه من تغيير للإنسان في الداخل والخارج. ومن هنا ، نستطيع أن نقرر أن الرسول لا بد من أن يكون شخصا غير عادي في ملكاته الروحيّة ليستطيع القيام بهذه المهمّة الكبيرة ، ولن يعرف ذلك إلا خالق الإنسان ، في ما أودعه في داخله من قدرات روحيّة وفكرية. إنه البشر النموذج والرسول الإنسان بكل ما يوحي به مدلول الرسالة في عمق مدلول الإنسان.

(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) تتتابع في حمل الرسالة كما تتلاحق في ارتباط النسب (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع ما يقوله هؤلاء ويطلع على ما يسرونه ويعلنونه ، وبذلك كانت الرقابة على ما في القلب واللسان ، تفتح قلب النبي وكيانه على آفاق المسؤولية في عملية تدقيق ومتابعة وإبداع ، ليعلم أنه قد أبلغ رسالات ربه كما يريده الله وكما يحبه ويرضاه.

* * *

٣٤٤

الآيات

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٧)

* * *

معاني المفردات

(مُحَرَّراً) : مطلقا ، بحيث لا يكون خاضعا لأية سلطة بشرية ، سواء في ذلك سلطة والديه أو الآخرين ، وخادما أمينا لله.

(مَرْيَمَ) : في لغتهم ـ العابدة والخادمة ـ على ما قيل ـ ولهذا بادرت إلى تسميتها بذلك عند الوضع ، فكأنها أعدّتها بالتسمية للعبادة.

٣٤٥

(وَأَنْبَتَها) : أنشأها ونمّاها كما تنبت البذرة الطيبة في الأرض الطيبة الخصبة.

(الْمِحْرابَ) : محراب المسجد ، قيل سمّي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى ، ويقال لكل محل من محال العبادة محراب.

(أَنَّى) : اسم استفهام عن الحال والمكان بمعنى أين وكيف لتضمنه معناهما.

* * *

التطلعات الروحية لامرأة عمران

إن القصة هنا تختصر الحوادث ، فليست هناك ملامح شخصية لهذه الإنسانة «امرأة عمران» ؛ من هي؟ وما هو اسمها ، وما هي صفاتها الذاتية؟ لأن ذلك كله لا يمثل شيئا في ما تهدف إليه القصّة من الحديث عن الروحيّة التي كان يعيشها آل عمران وعن إخلاصهم العظيم لله ، وعن النمط المميز من التفكير الذي كان يطبع وعيهم ، فقد فقدت هذه المرأة زوجها بعد أن حملت منه ، وربما كان إنسانا صالحا يعيش في خدمة بيت الله ، وبدأت تفكر في مستقبل هذا الولد ، ولم تفكر تفكير ذاتيّا أنانيّا كما يفكر الكثيرون في الانتفاع بأولادهم من ناحية مادّية أو معنويّة في ما يكسبه من مال وفي ما يحصل عليه من جاه ، بل فكرت في أن يكون خادما لله ، وهذا ما تعنيه كلمة (مُحَرَّراً) بحيث لا يكون خاضعا لأية سلطة بشرية ، سواء في ذلك سلطة والديه أو سلطة الآخرين. فهو لا يعمل لأحد ولا يدخل في خدمة أحد ، بل يعمل لله ويخدم بيته ، فيكون حرا أمام الآخرين في ما يملكه من سلطان نفسه تجاههم وعبدا أمام الله باعتباره خادما أمينا له ، فنذرته لله ،

٣٤٦

وكان هذا النذر مشروعا في شريعتهم ، وأرادت من خلاله أن تتقرب إلى الله ، لأنها لا تملك شيئا تقدّمه إليه غير ذلك. إنه نوع من القربان الحيّ المتحرّك الذي تقدمه الأمّ إلى خالقها ليظل في طاعته وخدمته ... وابتهلت إليه أن يتقبله منها ، فإنه السميع الذي يسمع دعوات عباده المخلصين له ، العليم الذي يعلم إخلاصهم الروحي في عبادته.

وبقيت هذه المرأة الصالحة في أجواء هذه الروحيّة طيلة أيام الحمل ... وجاء اليوم الموعود الذي انتظرته ليتحقق حلمها ، وكانت المفاجأة غير المنتظرة ، فالمولود أنثى ، والأنثى لا تصلح للخدمة في بيت المقدس ، لأنها من شؤون الذكور ، فهتفت هتاف اليائس المعتذر الخائب ، لتعلن أن الحلم لم يتحقق ، ولم تكن بحاجة إلى هذا الإعلان ، فإن الله أعلم بما وضعت ، لأنه هو الذي خلقه وصوّره ، وليس الذكر كالأنثى ، فلو كان المولود ذكرا لكان شأنه أن ينتهي إلى خادم بسيط في بيت المقدس ، ولكن هذه الأنثى التي وضعتها ستكون مؤهلة لكرامة الله حيث تظهر ـ من خلالها ـ قدرته في ولادة عيسى منها من دون أب.

وبدأت المرأة تفكر من جديد ـ في ما توحي به الآية ـ فهي لا تريد أن تبتعد عن الله في أحلامها الروحيّة ، فإذا لم يقدّر لها أن تلد ذكرا خادما لبيت المقدس ، وولدت ـ بدلا منه ـ أنثى ، فإنها تعود لتناجي الله في أمنياتها الجديدة ، فقد أسمتها «مريم» ـ التي تعني العابدة في لغتهم ، كما يقال ـ لتكون إنسانة عابدة لله مطيعة له في ما يأمر به وينهى عنه ، ثم طلبت من الله أن يعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم ، فيجيرهم من وسوسته وتثبيطه ومكره وخدعه ومكائده ، ليستطيعوا السير في خط الطاعة من دون أيّ انحراف أو زلل.

إننا نكتشف في هذه المرأة إنسانة تعيش العلاقة بالله كأروع ما تكون

٣٤٧

العلاقات وكأصفى ما تكون المشاعر ، وكأعظم ما تتحرك الأفكار ، فهي تفكر في مستقبل ذريتها من خلال الله ، لتقرّبهم إليه وتبعدهم عن الشيطان.

واستجاب الله دعاءها الصادق (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) يمثل كل معاني الرعاية لها في الحاضر والمستقبل ، (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) فهيّأ لها البيئة الصالحة التي تكفل لها النمو الطبيعي ، تماما كما تنبت البذرة الطيّبة في الأرض الطيّبة الخصبة ، فتحاول أن تعزل عنها كل الجراثيم التي تؤخر نموّها أو تعطّله. (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) هذا العبد الصالح الذي وقف مع بقية المؤمنين وألقوا أقلامهم أيّهم يكفل مريم ، لأن أباها كان ميّتا ، وخرجت القرعة باسم زكريا ، الذي كان شيخا جليلا صالحا مؤمنا ، فهيّأ لها الجو التربوي الصالح الذي جعلها تؤمن بالله وتحبه وتعبده حتى بلغت المستوى العظيم الذي جعلها في المركز الذي يوحي بالمعجزة ، فكانت تتعبد الله في المحراب ويأتي وقت الطعام ، ويغلبها إحساسها بالجوع ، وتأبى أن تفارق محرابها لتأكل ، لأنها لا تريد أن تفارق مناجاتها الحبيبة لله ، فيرسل الله إليها برزقه المتمثل بالطعام الذي تفوح منه الرائحة الطيبة كما تقول بعض الأحاديث ، وقد يدخل عليها زكريا في بعض هذه الحالات فيفاجأ بذلك ويتساءل في ما حدثنا الله عنه (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) من أين لك هذا؟ من الذي صنعه لك ، مع أننا لم نقدم لك شيئا من هذا القبيل؟ وكانت لا ترى في هذا شيئا عجيبا؟ فهي تؤمن أن الرزق من الله ، سواء جاء من خلال الأسباب العادية المألوفة أو من خلال الأسباب غير العادية ، فلما ذا التعجب والاستغراب (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ). وهكذا تكاملت أمامنا الصورة المشرقة لهذه الأنثى التي لم تعش الحياة في جانبها الأنثوي الذي يتهالك أمام الملذات والشهوات ، بل عاشت الحياة في جانبها الإنساني الإيماني الذي يوحي لها بالإخلاص لله في نفسها وفي علاقتها

٣٤٨

بالآخرين في ما يوحيه معنى عبادة الله ، وبذلك حققت أمنيات تلك الأم الطاهرة التي أرادت من الله أن يجعل منها ابنة عابدة بعيدة عن رجس الشيطان.

* * *

ماذا نستوحي من الآيات؟

وقد نستوحي من هذه الآيات في تطلعات امرأة عمران وفي حركة القصة في ألطاف الله بالسيدة مريم :

١ ـ إن قوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) ليس واردا في مقام تفضيل الذكر على الأنثى في القيمة الإنسانية الدينية ، لتكون دليلا على الفكرة التي تؤكد ذلك ، بل الظاهر أنها واردة في المورد الخاص وهو مسألة خدمة بيت المقدس التي كانت مخصصة للذكور دون الإناث من خلال التوزيع الطبيعي للمهمات بين الذكور والإناث ، مما يعني توزيع الأدوار باعتبار أن كل واحد ميسر لما خلق له.

٢ ـ إن هذه الأم الصالحة كانت واعية للدور الذي تقوم به المرأة في الحياة في حاجتها إلى أن تكون الإنسانة المؤمنة المتحررة من كل وساوس الشيطان الرجيم وحبائله ، المنفتحة على طاعة الله وعبادته ، لتشارك في المهمّات الموكولة إليها من موقع الأمانة الفكرية والروحية والعملية التي تجعلها أمينة على بيتها وزوجها وأولادها ومجتمعها ، تماما كما هو الرجل في المهمّات الموكولة إليه ، وهذا ما جعلها تتوجه إلى الله أن يعيذها من الشيطان الرجيم ، ولم تقتصر في تمنياتها عليها بالذات ، بل تطلعت إلى أن يعيذ ذريتها ـ في امتداد الأجيال في الزمن ـ من الشيطان ، لتعيش في أحلامها الكبيرة هذا الاستشراف الإيماني للمستقبل ، لتكون ذريتها ذرية صالحة ، لأنها

٣٤٩

لا تريد لنفسها أن تشارك ، ولو بشكل غير مباشر ، في إنتاج الجيل الفاسد الذي يكفر بالله وبرسله ويتبع غير سبيل المؤمنين من التقوى والاستقامة في الخط الصحيح.

وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه في تطلعاتنا المستقبلية بما يتصل بأولادنا الذين نأمل أن يكونوا المؤمنين الصالحين ، بحيث يرتبط ذلك بهمومنا واهتماماتنا العملية ، مما يجعلنا نبتهل إلى الله في ذلك ونتحرك في اتجاه تحقيقه من الناحية العملية ، فإن هذا الاهتمام الفكري والروحي بصلاح الأبناء في المستقبل يؤدّي إلى تحويل ذلك إلى واقع حيّ في حركة التربية ، والتماس الأساليب الصحيحة ، ومتابعة الموقف بالحذر الدقيق الواعي الذي يراقب المؤثرات السلبية أو الإيجابية التي تترك تأثيراتها عليهم في البيئة التي ينتمون إليها والمدارس التي يتعلمون فيها ، والرفاق الذين يصاحبونهم ، والدروس التي يتعلمونها ، وغير ذلك ، بينما يؤدي عدم الاهتمام بذلك إلى واقع اللامبالاة التي تترك الأمور بعيدة عن التخطيط الدقيق.

٣ ـ إن الله تقبلها بقبول حسن ، واستجاب دعاء أمها الصالحة ، وأعاذها من الشيطان الرجيم بطريقة واقعية عملية ، وذلك من خلال تهيئة الجو الطيب الطاهر الذي يجعل نموّها نموّا طبيعيا من دون تأثيرات سلبية منحرفة ، وذلك من خلال كفالة زكريا الذي كان من الأنبياء الصالحين ، وقد حضنها وتعهدها بالتربية والتوجيه والإعداد الروحي والعملي لتكون الإنسانة غير العادية في المستقبل من خلال الطاقات الروحية غير العادية التي تحركت فيها للحصول على محبة الله ورضاه في ممارساتها العبادية التي جعلتها موضع رعاية الله وعنايته بشكل غير عادي.

إن هذه الألطاف الإلهية التي أحاطت بمريم استجابة لدعاء أمها

٣٥٠

الصالحة وابتهالها الصادق ، قد تحدث لأيّ إنسان يفتح قلبه لله في الدعاء الصادق بأن يرعى أولاده ويعيذهم من الشيطان الرجيم ويهيّئ لهم من غامض علمه الفرص الجيّدة للحصول على الدرجات العالية في الإيمان والتقوى ، فإن الله قد تكفّل لعباده المؤمنين باستجابة دعائهم بما فيه المصلحة لهم ، الأمر الذي يدفعنا إلى أن نلجأ إليه في مهماتنا الحاضرة واهتماماتنا المستقبلية في ما يتعلق بحياتنا وحياة أولادنا ، ليبقى الأمل حيّا في نفوسنا من خلال الثقة بالله ، ويزول الخوف من قلوبنا مما ينتظرنا في المستقبل من التهاويل ، اعتمادا على أمنه ، فهو الذي يستجيب دعاء الراجي ويؤمن الخائفين.

* * *

٣٥١

الآيات

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٤١)

* * *

معاني المفردات

(هُنالِكَ) : اسم إشارة للمكان البعيد ، وقد يستعمل للزمان ، ومعناه في الآية : عند ذلك.

(وَسَيِّداً) : الذي يتولى أمر سواد الناس وجماعتهم ، ولهذا قيل لكل من كان فاضلا في نفسه إنه سيّد ، وغلب استعماله في شريف القوم.

(وَحَصُوراً) : الذي يحصر نفسه عن الشهوات ، فلا يدعها تتحرك في

٣٥٢

مجال الإشباع والارتواء ، ولهذا قيل في تفسيره : الذي لا يأتي النساء والذي يجتهد في إزالة الشهوة ، والذي لا يدخل في اللعب واللهو والأباطيل ، والممتنع عن مشتهيات النفس زهدا.

(بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) : أصابني الشيب ونالني الهرم ، فإن الكبر بمنزلة الطالب. ويروى عن ابن عباس أن زكريا يوم بشّر بالولد كان ابن عشرين ومائة سنة ، وامرأته بنت ثمان وتسعين سنة.

(آيَةً) : علامة دالة على شيء ، وهو هنا ، أنه لا يقدر على تكليم أحد ثلاثة أيام ويعتقل لسانه إلا بذكر الله وتسبيحه.

(عاقِرٌ) : التي لا تلد ، ويقال للرجل الذي لا يولد له ، مشتق من العقر وهو القطع لقطعه النسل.

(بِالْعَشِيِ) : آخر النهار ، وقال صاحب الكشاف : من حين نزول الشمس إلى أن تغيب (١).

(وَالْإِبْكارِ) : أوّل النهار. وقال صاحب الكشاف : من طلوع الفجر إلى وقت الضحى (٢).

* * *

زكريا يدعو ... والله يستجيب

وكانت هذه الكرامة العجائبية التي حدثت لمريم في بيت زكريا دليلا واضحا على أن الله يرعاها بعنايته وبرحمته ، فهذه أجواء الرحمة تطوف في

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٤٢٩.

(٢) م. ن. ، ج : ١ ، ص : ٤٢٩.

٣٥٣

البيت ، والفرصة سانحة أمام الحاجة الملحّة التي كان يعانيها زكريا ، ويريد أن يدعو الله فيها ، ولكنه ـ في ما يبدو ـ لا يجد الأمل الكبير باستجابة الدعاء ، وهي الذريّة الطيّبة. (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) وهو يشعر أن الإجابة قريبة منه لتحقق له حلمه الكبير الذي يكفل له الامتداد الذاتي والرسالي في خط الحياة الطويل ، فإن الولد يمثل امتداد الظل لأبيه. وكان يفكر ـ كما فكرت امرأة عمران ـ بالذرية الطيبة التي تملأ الحياة خيرا وبركة وهدى ونورا ومحبة وسلاما ولم يفكر كما يفكر كثير من الناس بالذريّة التي تمثل حاجة ذاتية تملأ فراغ الإنسان العاطفي وتحقق له زهو الامتداد والكثرة من دون هدف كبير على مستوى الحياة. (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) ... واستجاب الله له دعاءه كأفضل ما تكون الاستجابة ، وأراد أن يبشّره بذلك في جوّ من الإعزاز والتكريم ، فأرسل إليه الملائكة لتزفّ إليه البشارة بالوليد المنتظر الذي أراد الله له أن يكون في المستوى العظيم في الطهارة والنقاوة الرساليّة والروحيّة المتحركة في خط النبوة ...

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) إنّ البشارة تتحدث عن الحلم المنتظر كما تتحدث عن الواقع الحيّ. إنها تعيّن له اسمه وصفته المميزة ، التي جعلها الله «سمة» للأنبياء ، فقد جاء مصدّقا لما أنزل الله من رسالات ، ولما أرسل من رسل ، وتلك صفة لا يوصف بها إلّا الذين يريد الله لهم أن يكملوا الطريق التي بدأها الآخرون من قبله ، من الأنبياء الذين شقّوا للناس طريق الحق المستقيم ...

وسيّدا لنفسه كما هو شأن عباد الله الذين يحكمون أنفسهم من خلال إيمانهم ويسيطرون على شهواتهم من خلال عقولهم ويسودون الناس في نطاق مبادئهم الحقّة ، ولا يخضعون لأية سلطة غير سلطة الله في ما يريد وفي ما لا يريد ، فهم أحرار أمام أنفسهم وأمام الآخرين ، يملكون كلمة الرفض

٣٥٤

من موقع القناعة ويملكون كلمة القبول من موقع الاختيار ، وعبيد أمام الله الواحد لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

(وَحَصُوراً) حصر شهواته ، فلا يدعها تتحرك في نطاق الإشباع والارتواء. وكان ذلك من القيم الكبيرة في ذلك الوقت لما يدلّ عليه من الطاقة الروحية العظيمة التي تدفع الإرادة إلى الصلابة والتضحية (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين أراد الله لهم أن يتقبلوا وحيه بأرواحهم ويحملوها للناس رسالة وهدى وإيمانا.

وقد أكد الله له في هذه البشارة ، أن ذلك قد كان بكلمة منه ، والكلمة تعني القدرة التي لا تحتاج في تعلقها بالأشياء إلى أسباب مألوفة مما تعارف عند الناس من أسباب.

ووقف زكريّا مدهوشا مما يسمعه ، وأخذته الحيرة من ذلك كله ، هل هو في حلم أم يقظة؟ هل هي كلمات الرحمن أم هي شيء من التخييل؟ إنه يفكر في الحواجز الطبيعية التي تحول بينه وبين ذلك ، لقد مضى عليه مدة طويلة حتى بلغ مبلغ الشيخوخة وامرأته عاقر لا تحمل ، ولم يرزق بولد ، فكيف تحدث تلك المفاجأة بمثل هذا التفصيل. تحدث في ما يشبه الاستغاثة التي تريد أن تخرجه من الحيرة ...

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) وجاء الجواب ، إنك تتحدث مع الله الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون ، فهو الذي خلق الأشياء وخلق معها القوانين والأسباب الطبيعية ، وهو القادر على أن يغيّرها في أيّ وقت يريد في ظل قوانين جديدة ، فما قيمة الحواجز الطبيعية أمام قدرة الله المطلقة حتى يفكر فيها الإنسان المؤمن؟ (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) ، (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة : ١١٧] ، وكأن زكريّا

٣٥٥

قد اقتنع بذلك ورجع إلى ما يوحيه إيمانه من التسليم لله في كل شيء ، ولكنه يريد آية.

واختلف المفسرون في معنى هذه الآية ، فقال بعضهم إنها العلامة التي يعرف من خلالها أن ما سمعه هو من وحي الله ، وذلك بأن يجعل الله له ما يشبه المعجزة ، وأوحى الله إليه بأن الآية هي أن يعتقل لسانه ، فلا يستطيع أن يتكلم ، ولا يملك أن يخاطب الناس إلا رمزا مدة ثلاثة أيام ، وقال بعضهم : إنها علامة الشكر على هذه النعمة غير المترقبة ، فأوحى الله إليه كما أوحى إلى مريم بصوم الصمت الذي كان مشروعا آنذاك ، ولعلّ هذا هو الأقرب ، لأنه لا معنى للارتياب بعد أن جاءه الجواب بالتذكير بقدرة الله ، ولأن الظاهر أن الوحي كان بالامتناع الاختياري عن الكلام مع الناس وبذكر الله كثيرا وبالتسبيح الدائم بالعشي والإبكار.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) ولكن هذا الذي ذكرناه ، مما فهمناه من الآية على وجه الترجيح ، لا يلتقي بما رواه العياشي في تفسيره عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : «إن زكريّا لما دعا ربّه أن يهب له ولدا فنادته الملائكة بما نادته به ، أحبّ أن يعلم أن ذلك الصوت من الله ، فأوحى إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام ، فلما أمسك ولم يتكلم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله» (١). فإذا صح هذا الحديث ، فإن الآية تقتضي اعتقال لسانه إلّا عن ذكر الله والتسبيح ، مما يكون وجه جمع معقول بين الأمرين ، والله العالم بحقائق آياته.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٣ ، ص : ٢١٣.

٣٥٦

أمور لا بدّ من التوقف أمامها

وهنا أمور تستدعينا لأن نتوقف عندها :

الأمر الأول : إن العلّامة الطباطبائي يستوحي من طلب زكريا الذرية الطيبة بعد ما رآه من أمر مريم وكرامتها على الله وامتلاء قلبه من شأنها ، أنه أراد ولدا له من الكرامة عند الله ما لمريم ، وكانت استجابة الله له مطابقة لما سأله ، فوهب له يحيى وهو أشبه الأنبياء بعيسى وبأمه مريم عليهما‌السلام ، فقد روعي فيه ما روعي فيهما من عند الله سبحانه ، وقد روعي في عيسى كمال ما روعي في مريم ، فالمرعيّ في يحيى هو الشبه التام والمحاذاة الكاملة مع عيسى فيما يمكن ذلك ، ولعيسى في ذلك كله التقدم التام ، لأن وجوده كان مقدّرا قبل استجابة دعوة زكريا في حق يحيى ، ولذلك سبقه عيسى في كونه من أولي العزم صاحب شريعة وكتاب وغير ذلك لكنهما تشابها وتشابه أمرهما فيما يمكن.

ثم استعرض الآيات المتعلقة بيحيى وعيسى وحاول اكتشاف بعض الخصائص المشتركة بينهما من خلال أن الله آتاه كما آتى عيسى الحكم صبيا ، وعدّه حنانا من لدنه وزكاة وبرا بوالديه غير جبار كما كان عيسى كذلك ، وسلّم عليه في المواطن الثلاث كعيسى ، وعدّه سيّدا كما جعل عيسى وجيها عنده ، وجعله حصورا ونبيّا ومن الصالحين مثل عيسى ، كل ذلك استجابة لمسألة زكريا ودعوته حيث سأله ذرية طيبة ووليا رضيا عند ما امتلأ قلبه بما شاهد من أمر مريم وعجيب شأنها وكرامتها على الله.

وفي قوله : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) دلالة على كونه من دعاة عيسى ،

٣٥٧

فالكلمة هو عيسى المسيح ، كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم (١).

ونلاحظ على ما ذكره أن الحديث عن التشابه بين يحيى وعيسى في الصفات حديث لا يخلو من طرافة وصواب ، ولكن ليس من الضروري أن تكون المسألة منطلقة من الحالة النفسية التي عاشها زكريا في ابتهاله لله في طلب الولد في أن يكون مشابها لمريم وابنها في الأجواء الغيبية المتصلة بالمولود ، فإن ذلك ليس ظاهرا من الآية في هذه السورة ، فقد تكون المناسبة هي إحساسه بالحاجة إلى أن تكون له ذرية يمتد بها نسبه ويتحرك فيها تراثه العائلي من آل يعقوب في خط الرسالة ، لأنه رأى في مريم عليها‌السلام مثال الولد الصالح الذي يتمناه كل إنسان صالح ، بحيث أحسّ بالوحشة من حالة العقم عنده الذي ينقطع فيها امتداده في الزمن بما تمثله الذرية من امتداد الإنسان في الحياة ، فكانت كلمة (هُنالِكَ) تمثل اللحظة الزمنية التي تعاظم فيها شعوره بالحلم الكبير في أن يكون له ولد من دون دخول في التفاصيل الغيبية ، فقد استغرق في المسألة في ذاتياتها ، ولذلك كانت الاستجابة له الصدمة التي أعادته إلى واقعه في إحساس بشريته ، فتساءل (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) مما يوحي بأن المسألة كانت نداء حاجة لا انفتاحا على أجواء تلك الحاجة في خصوصيات الجانب الغيبي فيها.

ثم ما علاقة عيسى بالموضوع في وجدان زكريا ، ولم يكن عيسى قد ولد في ذلك الوقت ، ولم تكن هناك أية أمارات توحي به حتى لدى أمه الصديقة الطاهرة؟ فكيف أقحم العلامة الطباطبائي اسمه في الجوّ التفسيري للآية في تطلعات زكريا ليدخل في موضوع التشابه بين عيسى ويحيى في سياق الموضوع في الآية. هذا من جهة.

__________________

(١) م. س. ، ج : ٣ ، ص : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

٣٥٨

ومن جهة أخرى ، فإن الحديث عن قصة زكريا في سورة مريم يوحي بأن القضية التي كانت تشغل ذهن زكريا هي الامتداد الذاتي في ولده ، وهذا حقّ طبيعيّ له ، والامتداد الرسالي في تراث آل يعقوب في الولد ، النبي الذي يملك الولاية الشرعية ، وهذا هو قوله تعالى : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [مريم : ٤ ـ ٦]. فإنه ظاهر في أن الدعاء كان يستنزل الغيب في أن يرزقه الله ولدا لا في خصوصياته.

وبكلمة واحدة ، لقد كانت مريم ـ وحدها ـ في وجدانه ، عند ما دعا ربه ، وكانت الحاجة ـ انطلاقا من إحساسه بالفراغ عند رؤيته لمريم ـ لولد يرثه ويرث من آل يعقوب ، ليكون وليّا يلي من أبيه ما يليه الأبناء من شؤون آبائهم ، وهذا ما يجعل البحث التفسيري في استيحاء الآية في غير محله بالرغم من طرافته.

الأمر الثاني : لقد تحدثت الآية عن يحيى أنه «حصور» كميزة أخلاقية ليحيي ، كما تحدثت آية أخرى بالصفة نفسها في الحديث عن عيسى عليه‌السلام ، وقد فسرت الكلمة بأن الحصور «هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على إتيانهن تعففا وزهدا. فهل الامتناع عن العلاقة الجنسية مع النساء في دائرة الزواج ، يمثل قيمة أخلاقية كبري أو لا؟

الظاهر أن الكلمة لا تختزن في ذاتها معنى الامتناع عن الزواج ، فهو سنة الله في الحياة التي أقام عليها امتداد الإنسان في حركة وجوده كما جعله عنوانا للحياة الطبيعية في حاجاتها المتوازنة التي تطمئن إليها نفسه وتسكن فيها روحه ، ولكن المقصود منها ، هو القوّة الروحية التي تنطلق من صلابة الإرادة التي تتمرد على الشهوات ، فتبلغ درجة المناعة الأخلاقية التي يملك

٣٥٩

فيها الإنسان نفسه بحيث يحكم عليها ولا تحكم عليه ويقودها ولا تقوده ، فلا ينجذب إلى الاندفاع في حاجاتها انجذاب من لا يملك القدرة على التماسك أمامها.

ولعل التفسير الأقرب لها أنه الذي يحصر نفسه عن الشهوات ، فلا يدعها تتحرك على هواها ، وربما كانت كلمة الحصر موحية بذلك ، لأنها تحمل معنى المقاومة الإرادية التي تحصر الحركة الجسدية في دائرة معينة ولا تدعها تتفلت بعيدا عن الخط العملي ، فهي مسألة تتصل بحركة الإرادة في الذات ولا ترتبط بحركة الفعل السلبي في معناه. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى ، فقد يكون الامتناع عن النساء في ذلك الوقت قيمة أخلاقية لمن يحمل المسؤولية الرسالية ، باعتبار أن ذلك يجعله متفرغا لله ولأداء الرسالة ، فلا يشغله عنها شاغل الزوجة والأولاد ، فكأنه يجعل حياته كلها لله بعيدا عن ضغط حاجاته الجسدية والعائلية ، وليست القضية خطا عاما لكل الناس ، وهذا ما جعل عيسى حصورا ، لأن مهمته غير عادية ، كما جعل يحيى حصورا للمعنى نفسه ، فربما كانت هناك خصوصية للزمن وللشخص أو للدور ، لأن النبوة لا تفرض ذلك ، فقد رأينا أنبياء الله يأخذون بالزواج في حياتهم وقد يعددون الزوجة ، كما في إبراهيم عليه‌السلام ، والله العالم.

ثم إن الآيات توحي بأن الأنبياء يعيشون الحاجات الذاتية في مسألة الأولاد ، كما يعيشها الآخرون ، ويتطلعون إلى الولد الذكر كما يتطلع الآخرون ، لا من جهة أن الذكورة تمثل القيمة الإنسانية الإيجابية بينما الأنوثة تمثل القيمة الإنسانية السلبية ، بل لأن الذكر يتحمل المسؤوليات المتصلة بالدور الفاعل في عملية امتداد النسب وحركة الرسالة بما لا تتحمله الأنثى ، بلحاظ طبيعة الواقع الاجتماعي أو التكوين النوعي للإنسان ، وهذا ما يؤكد بشريتهم في الإحساس بما لا يبتعد عن القيمة.

٣٦٠