تفسير من وحي القرآن - ج ٥

السيد محمد حسين فضل الله

الله مالك الملك

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) إنه نداء لله الذي تحيا عقولنا وقلوبنا معه وتستمد حياتنا امتدادها منه وتعيش حيويتها وحركيتها وإمكاناتها من امتداد رحمته ولطفه. أنت مالك الملك كله ومبدع الوجود الذي يستمد وجوده منك ، فكلّ الملك منك ومرجعه إليك ، سواء كان ملكا حقيقيا في معنى الاحتواء أو ملكا اعتباريا كأنظمة وقوانين تحكم العلاقات بين الناس.

(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) من خلال إرادتك التي أخضعت النظام الكوني للقوانين الطبيعية والسنن الكونية وجعلت السببية أساس حركة الوجود كله في الإنسان والحيوان والنبات والجماد ، فلا تتحقق النتائج إلا من خلال مقدماتها ، ولا تحصل المسببات إلا بأسبابها ، وهذا ما يجعل الأمور تتحرك من خلال طبيعتها الذاتية ، فقد تكون النتائج سلبية في موقع ، كما قد تكون إيجابية في موقع آخر ، ولكنها في الخط العام تمثل الإيجابية النظامية التي تتمثل في انتظام الوجود في خط واحد لا بد له من أن يلتقي ببعض الحدود التي تمثل حاجزا أمام الخير والصلاح في جزئياته ، لأن المحدود لا يمكن أن ينتج المطلق أو يتحرك من خلاله ، وتلك هي حكمتك ـ يا رب ـ التي يلتقي في حركتها الملك الصالح والملك الفاسد ، وينطلق معها الخيّرون والشريرون ، ليكون الصراع هو سنة الحياة التي تتمثل في داخلها مسيرة التجربة الإنسانية التي يكبر فيها الإنسان وينمو ويتطور وينطلق في اتجاه النتائج الإيجابية في نهاية المطاف ، من حيث إن السلب في حركيته الصراعية قد ينتج في عناصر الضغط معنى الإيجاب.

(وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) في إرادتك التي تتصل بالشيء مباشرة أو بواسطة السنن الكونية ، لأن حكمة الله اقتضت أن لا يدوم الملك لأحد ، وأن

٣٠١

لا تستمر الحياة على وتيرة واحدة ، لأن مسألة التغيير هي التي تمنح الحياة حيويتها وتساعدها في نموّها وتطوّرها ، وبذلك يحدث زوال الملك عن شخص ، كما يحدث زوال الحياة عن شخص آخر ، لأن قانون الحياة والموت يحكم الموجودات في وجودها الذاتي وفي عوارض هذا الوجود ومتعلقاته.

(وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بقدرتك الغيبية التي تعطي إنسانا كل العناصر التي تجمع له ظروف العزة في الذات وفي الموقع والموقف ، كما تمنع إنسانا آخر ذلك ، فيعيش الذل من خلال عدم توفر عناصر العز ، أو من خلال الظروف الموضوعية التي تفرض عليه الذل من خلال اختياره الذاتي الذي قد يحسن وقد يسوء تبعا لإرادته ولحركة علاقته بالحياة وبالظروف وبالأشياء ، أو من خلال الأجواء المحيطة به ، وهذا ما يجعل عبادك يتوجهون إليك في ابتهالاتهم الخاشعة ودعواتهم الخاضعة لتفيض عليهم رحمتك ، فتمنحهم الملك الذي يحتاجونه والعز الذي يتطلعون إليه ، وتمنع عنهم سطوة المستكبرين وإذلال الظالمين.

(بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو المهيمن على كل ما يكفل للحياة امتدادها من خيرات ونعم ، فهي بيده لا بيد غيره ، وهو القادر على كل شيء منها في جانب المنع والعطاء.

* * *

سنن الله في الكون والحياة

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ

٣٠٢

الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) إن عملية إدخال الليل في النهار وإدخال النهار في الليل ، تشير إلى نقصان كل منهما لحساب زيادة الآخر ، وبالعكس ، حسب اختلاف الفصول ، فكأنّ أحدهما داخل في الآخر باعتبار أنه أخذ المساحة التي كان يحتلها هذا الآخر ، وهو من دلائل قدرته المطلقة التي تتصرف في خط الزمن من دون اختلال في التوازن ، بل هو التغيير الخاضع لنظام الكون القائم على أساس الحكمة والتدبير. وأمّا إخراج الحي من الميت ، فإنه يتمثل في الوضع الطبيعي في إخراج الأحياء من النبات والحيوان من الأرض الميتة العديمة الشعور. وقد ورد في هذه الآية تفسير آخر ، بأن يكون المراد من الميت الكافر والحي المؤمن ، باعتبار أن الله تعالى سمّى الإيمان حياة ونورا والكفر ظلمة ، كما قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) [الأنعام : ١٢٢] ، ولكن الظاهر أن التفسير وارد مورد الاستيحاء لا مورد بيان المعنى من اللفظ ، فإن سياق الآية وارد في ما هو من مظهر القدرة من خلال ما يشتمل عليه من عجائب الخلق مما يناسب أن يكون متعرضا للظاهرة في حركتها الكونية.

(وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) فالله هو مصدر الرزق للناس وللموجودات كلها ، فهو الذي يعطيها حاجاتها التي يتوقف عليها وجودها وامتدادها ، من خلال ما أودعه في الأرض من أنواع العناصر الساكنة والمتحركة ، التي تهيّئ الفرص لإنتاج الحاجات وتوفير الشروط اللازمة لذلك ، من غير فرق بين الإنسان المؤمن والكافر ، بل إن ذلك يمتد إلى كل الموجودات التي تكفّل الله برزقها ـ في حاجاتها الوجودية ـ منذ خلقها.

وهذه هي سنته الكونية التي أودعها في الكون ليكون منتجا لكل الحاجات الوجودية من موقع المعنى الوجودي التكويني الذي تتحرك

٣٠٣

فيه الأشياء من خلال قوانينها الطبيعية التي فرضتها الإرادة الإلهية الغيبية ، من دون أن يعني ذلك ـ في سلبياته وإيجابياته ـ ثوابا ولا عقابا ، أو تحليلا أو تحريما ، لأن القضية مرتبطة بذاتيات الحركة الوجودية في النظام الكوني.

* * *

الله يملك رزق العباد

وإذا كان الإنسان يحوّل عناصر الرزق المنفتحة على الخير في إمكاناتها الطبيعية إلى شرّ ، أو الحلال إلى حرام ، فإن ذلك لا يعني أن الله يرضى بالشر أو بالحرام في فعل الإنسان ، بل إنه يرفضه من خلال تشريعه الذي يحدد فيه للإنسان ما يفعله أو يتركه تبعا للمصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء ، فنحن لا يمكن أن ننسب إلى الله الرزق الحرام من ناحية تشريعية ، لأن الله لم يخلق الرزق حراما ، بل خلقه في نطاق قابليته للخير وللشر من الناحية التكوينية ، وأعطى الإنسان حريته في إدارة ذلك من موقعه الوجودي ليواجه مسئولياته أمام الله في تحريكه الأمور في الاتجاه المرسوم.

وفي ضوء هذا ، نعرف أن الرزق خير كله ، ولكنه ككل وجود محدود ، يحمل في داخله التنوع الذي يجعله متحركا في أكثر من بعد من أبعاد الواقع في الإرادة الإنسانية.

ولعل من الواضح ـ من خلال ما ألمحنا إليه ـ أن الرزق لا يختص بأي جانب من جوانب الحاجات الإنسانية ، بل يشمل الحاجات المادية والمعنوية معا مما يتصل بحياة الإنسان الجسدية أو الروحية أو الاجتماعية أو الثقافية أو غير ذلك. أما كلمة (بِغَيْرِ حِسابٍ) فقد فسرها الزجاج بأن المعنى «بغير تقتير ، كما يقال : ينفق بغير حساب ، لأن من عادة المقتر أن لا ينفق إلا

٣٠٤

بحساب. وقيل : معناه بغير مخافة نقصان لما عنده ، فإنه لا نهاية لمقدوراته ، فما يؤخذ منها لا ينقصها ولا هو على حساب جزء من كذا كما يعطي الواحد منا العشرة من المائة والمائة من الألف» (١). وقيل ـ كما اختاره صاحب تفسير الميزان ـ إن توصيف الرزق بكونه بغير حساب ، إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض ولا استحقاق ، لكون ما عندهم من استدعاء وطلب أو غير ذلك مملوكا له تعالى محضا ، فلا يقابل عطيته منهم شيء ، فلا حساب لرزقه تعالى. وأما كون نفي الحساب راجعا إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود ولا مقدّر ، فيدفعه آيات القدر كقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩] ، وقوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق : ٢ ـ ٣] ، فالرزق منه تعالى عطية بلا عوض ، لكنه مقدر على ما يريده تعالى» (٢).

ولعل الأقرب إلى جوّ الآية أن تكون الكلمة كناية عن عدم محدودية رزقه من حيث عدم محدودية ملكه ، فإنه يعطي كل موجود حاجاته مهما كثرت واتسعت ، فكلما تطورت حاجاته ازداد رزقه ، فلا حاجة به إلى الحساب ، لأنه شأن المحدود الذي قد تختل موارده باتساع الأمور والحاجات في عطائه ، أمّا الله ـ سبحانه ـ فهو المطلق في ذاته والمطلق في غناه ، فلا ينفد ما عنده بالإنفاق والعطاء ، لأنه لا حدّ له في ملكه.

وفي ضوء ذلك ، قد تكون إيحاءات هذه الفقرة أن على العباد أن يلجأوا إلى الله في حاجاتهم ، فلا يتحرجوا من طلب أيّ شيء مهما ازدادت حاجاتهم ، لأن عطاءه لا حدّ له ولا حساب ، وربما يلتقي هذا المعنى

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٥٥٠.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ٣ ، ص : ١٦٣ ـ ١٦٤.

٣٠٥

بالمعنى الثاني وببعض إيحاءات المعنى الأول. ولا ينافي ذلك تقدير الله للأمور ـ ومنها الرزق ـ ، فإن تقدير كل شيء بحسبه من خلال طبيعة الحاجات في تطوراتها تبعا لتطور الحياة والإنسان ، فهو الذي يقدّر رزقه بحسب الحاجات المتطورة والمتغيرة ، ليلاحق ذلك بحكمته ورحمته. أما ما ذكره العلامة الطباطبائي ، فإننا لا نجد له وجها ، لأن مسألة العوضية ليست مطروحة في الجانب العقيدي ، ولا في المدلول السياقي ، إذ لا معنى للحديث عن أن الله يعطي الإنسان بدون عوض ولا استحقاق ، لأنها من بديهيات الأمور ، من حيث إن الله هو الخالق والرزاق وإن الإنسان لا يملك شيئا ذاتيا أمام الله ، ولكن الحديث هو عن سعة عطاء الله وشمولية كرمه وعدم نفاد رزقه.

وربما نستوحي هذا المعنى من الآية الكريمة (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠] ، حيث إن المقصود منها بلا حصر ، لأن الله يعطيهم ما لا يعطي أحدا من ثوابه في مقابل الطاعات التي جعل الله لها ثوابا معينا ؛ والله العالم.

وهناك نقطة تفسيرية لا بد من إيضاحها ، وهي أن الآية تحدثت عن كل هذه الظواهر بأسلوب يدعو إلى أن يتمثل الإنسان ذلك في دعاء خاشع يتوجه فيه إلى الله ، في توجّه المؤمن الذي يناجي ربّه بالتأكيد على إيمانه بعظمة القدرة من خلال عظمة الحق. فكيف نفهم ذلك؟

* * *

الدعاء في خط التربية الإسلامية الرسالية

إن هذه الآية ـ في عقيدتنا ـ تمثل نموذجا من نماذج الخط الإسلامي

٣٠٦

في الدعاء الذي يستهدف تعميق الفكر العقيدي والرسالي في النفس بتقرير تفاصيل العقيدة والأخلاق والمسؤوليات بأسلوب الدعاء ، فهو يتحدث عن صفات الله وعن البرامج العملية الأخلاقية ليختزنها الإنسان في مشاعره كما يختزنها في فكره ، فإن للدعاء الإسلامي جانبا يتصل بالشعور من جهة وبالفكر من جهة أخرى. وبهذا لا ينعزل الإنسان عن فكره العملي وحياته المتحركة ، بل يدخل في عمقها بأسلوب روحي فريد ...

وهذه الآية هي نموذج حيّ لهذا الأسلوب ، فإن انطلاق هذه الصفات بأسلوب الدعاء ، يوحي للإنسان بالانتفاح على هذه الحقيقة كما لو كانت ماثلة أمامه في جوّ شعوري رائع ينطلق من موقع الاعتراف الإنساني الذي يشعر الإنسان معه بشعورين مختلفين ، ولكنهما يكمّلان بعضهما البعض ، فهناك الشعور بالانسحاق أمام الألوهية المطلقة التي تملك الملك كله وتتصرف فيه بالإعطاء والمنع ، وتملك الكون فتغيّره على حسب الحكمة ، وتملك حاجة الإنسان فترزقه بغير حساب من دون أن تكون لأيّة قوّة هناك ، أيّ دخل في ذلك كله ، وهناك الشعور بالأمن والطمأنينة والقوة عند ما يعيش الإنسان في ظلال هذه الألوهية منسجما مع ينبوع العطاء المتدفق منها بدون حدود في آفاق الرحمة الألوهية المطلقة.

وقد نحتاج إلى استيحاء هذا الأسلوب في التربية والتوجيه ، وذلك بالتأكيد على المؤمنين أن يتمثلوا تفاصيل العقيدة في صفات الله التي ترتبط بها حياتهم باختيار الأدعية المناسبة التي تثير في داخلهم الشعور بالامتلاء الروحي والفكري إلى جانب الإحساس بالأمان في ظل الإيمان بالله من خلال ذلك. وبذلك يمتزج جانب الروح بالفكر والممارسة في حركة العقيدة داخل النفس الإنسانية.

٣٠٧

الاستخدام السيئ للآية من الظالمين

وهناك نقطة أخرى لا بد من التأكيد عليها ، وهي أن هناك فهما خاطئا للآية قد يستخدمه الحكام الظالمون الذين ملكوا السلطة بأساليبهم ووسائلهم المنحرفة ، للإيحاء بأنهم يمثلون القيمة الخيّرة عند الله ، لأن الله آتاهم الملك ، فهو حق شرعي لهم ، باعتبار أن الله هو الذي يمنح الشرعية لمواقع عباده ، وذلك من خلال هذه الآية. وقد روي أن يزيد بن معاوية استشهد بهذه الآية في الردّ على الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في حوارة معه ، فقد جاء في الإرشاد للمفيد نقلا عن كلام يزيد : «وأما قوله ، أي علي بن الحسين ـ إنه خير مني فلعله لم يقرأ هذه الآية (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) الآية (١) وقد جاء في الكافي عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله ـ جعفر الصادق ـ عليه‌السلام قال : قلت له : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) أليس قد آتى الله بني أمية الملك؟ قال : ليس حيث تذهب ، إن الله عزوجل آتانا الملك وأخذته بنو أمية ، بمنزلة الرجل يكون له الثواب فيأخذه الآخر ، فليس هو للذي أخذه ...» (٢).

وقد أشرنا في ما قدمناه من حديث التفسير إلى أن الآية تتجه إلى تأكيد الفكرة التي تربط الواقع الخارجي في حياة الإنسان في الماضي والحاضر ، بالله في الدائرة التكوينية التي تتحرك فيها الأشياء من حيث ارتباطها بأسبابها الطبيعية في وجودها العيني والحركي ، فقد تكون النتيجة خيرا عند ما تكون

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٣ ، ص : ١٦٥.

(٢) م. ن. ، ج : ٣ ، ص : ١٦٤.

٣٠٨

الأسباب الموجودة منتجة للخير ، وقد تكون شرّا عند ما تلتقي بأسباب الشر ، وليست واردة في مجال الحديث عن اعتبار الواقع صورة للإرادة الإلهية التشريعية التي تعبّر عن شرعية الواقع من حيث كونه مظهرا لرضا الله ، فقد أطلق الله للناس أن يأخذوا بالعدل ، وأن يكونوا مع العادلين ، وأن يكونوا مع الساعين نحو إقامة العدل وإسقاط الظلم في الأرض ، وجعل المسألة تابعة لاختيارهم في حركة المسؤولية ، لأن حكمته اقتضت أن يمارس الإنسان القضايا باختياره وإرادته (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨] ، وهذا هو ميزان الشرعية في تقويم الواقع.

ولكن الناس تركوا هذا الخط الإلهي ، واندفعوا نحو الاختيار السيئ الذي يتناسب مع أطماعهم وشهواتهم ، فخذلوا الحق ، ونصروا الباطل ، وأخذوا بالأسباب الواقعية التي جعلها الله بين أيديهم ـ في ساحة الواقع ـ ، فاستعملوها للشر بدلا من الخير ، فكانت النتائج أن الظالمين وصلوا إلى الملك من خلال الوسائل الإلهية التكوينية للنجاح ، بقطع النظر عن المضمون ، فكان أن حصلوا على الملك من إيتاء الله لهم من خلال الأسباب الطبيعية ، لأن الله أجرى الأمور في الكون على أساس حصول المسبب عند إيجاد السبب ، ولكنه لا يمثل إرادة الله في المعنى الشرعي الذي يحبه ويرضاه ، بل هو مناف لها ومنحرف عنها ، ولا يعني هذا عجزا في الخالق وقدرة لدى المخلوق ، ولكنه القانون الطبيعي الذي صنعه الله للوجود ، وجعل للإنسان أن يوجّهه للخير باختياره ، فوجّهه للشر بسوء اختياره عصيانا وانحرافا ، وسيجزيه الله العقاب على ذلك كله.

وقد روى السيد ابن طاوس ، كما في تفسير الميزان ـ أن السيدة زينب بنت علي عليه‌السلام ردّت على يزيد منطقه ، فقالت في خطابها له : أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق

٣٠٩

الأسارى ، أن بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة ، وأن ذلك لعظم خطرك عنده ، فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك جذلان مسرورا حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، والأمور متسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، مهلا مهلا ، أنسيت قول الله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) [آل عمران : ١٧٨](١).

فإن استشهادها بهذه الآية يمثل الفكرة بأن الله لا يترك للكافرين حريتهم في العبث بالقيم الخيّرة ، من خلال الرضا بذلك ، تقويما لهم في ميزان القيمة الإيجابية للذات في أفعالها ، بل إن حكمته اقتضت أن يتركهم لاختياراتهم السيّئة لإقامة الحجة عليهم ، فيزدادوا إثما بإفاضة النعم عليهم مع استمرارهم في هذا الاختيار.

وفي ضوء ذلك ، كان هذا الخط التكويني الذي يربط الأشياء بأسبابها ، يجعلنا نفكر ـ كعاملين في حقل التغيير على أساس الدعوة إلى الإسلام ـ بأن نهيّئ الظروف الموضوعية للانتصار في ساحة الصراع ، لنحقق ـ بذلك ـ النتائج الكبيرة ، حتى تلتقي لدينا الإرادة التكوينية في سنن الله بالإرادة التشريعية في تعاليمه.

إن الله قد فتح لنا النافذة التي نطل بها على النصر ، فعلينا أن نعمل على أن نطل منها على الساحة التي تحقق لنا الوصول إلى أهدافنا الكبرى.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٣ ، ص : ١٦٥.

٣١٠

الآيات

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣٠)

* * *

معاني المفردات

(أَوْلِياءَ) : جمع ولي من الولاية ، وهي في الأصل ملك تدبير أمر

٣١١

الشيء ، ثم استعمل في مورد الحب والنصرة والمعونة.

(مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) : من مكان دون مكان المؤمنين ، فإنهم أعلى مكانا ، كما في قوله : (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) [آل عمران : ١١٨] أي ممن لم تبلغ منزلته منزلتكم في الدين. وفي الآية نهي عن موالاة الكفار ومعاونتهم على المؤمنين.

(تَتَّقُوا) : التقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف ، وحفظها مما يضرّ.

(تُقاةً) : مصدر اتقى تقيّة واتقاء وتقوى ، والتقية الإظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس. وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له (١).

(وَيُحَذِّرُكُمُ) : الحذر : هو الاحتراز من أمر مخيف ، وقد حذّر الله عباده بقوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) [الإسراء : ٥٧] ، وحذّر من المنافقين (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) [المنافقون : ٤] ، كما وحذّرهم من نفسه ، لأنه ـ تعالى ـ هو المخوف الواجب الاحتراز ، فلا عاصم بين الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين وبين عذابه وعقابه ، وهنا يبدو عظم المعصية وكبر الذنب ، لأنه رفض لولاية الله سبحانه.

(أَمَداً) : غاية ، والأمد : مدة لها حدّ مجهول إذا أطلق ، ويقال باعتبار الغاية. أما الزمان فهو عام في المبدأ والغاية ، والأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود.

(تُحِبُّونَ) : المحبة هي الإرادة ، إلا أنها تضاف إلى المراد تارة وإلى متعلق المراد أخرى ، تقول : أحب زيدا وأحب إكرام زيد ، ولا تقول في

__________________

(١) البحار ، م : ٢٦ ، ج : ٧٢ ، ص : ٥٣٣ ، باب : ٨٧ ، رواية : ٩٨.

٣١٢

الإرادة ذلك ، لأنك تقول : أريد إكرام زيد ، ولا تقول : أريد زيدا ، وإنما كان ذلك لقوّة تصرف المحبة في موضع ميل الطباع الذي يجري مجرى الشهوة ، فعوملت تلك المعاملة في الإضافة ، ومحبة الله تعالى للعبد هي إرادة ثوابه ، ومحبة العبد لله هي إرادته لطاعاته.

(أَطِيعُوا) : الطاعة اتباع الداعي في ما دعاه إليه بأمره وإرادته ، ولذلك قد يكون الإنسان مطيعا للشيطان في ما يدعوه إليه وإن لم يقصد أن يطيعه ، لأنه إذا مال مع ما يجده في نفسه من الدعاء إلى المعصية فقد أطاع الداعي إليها.

* * *

الإيمان في حركة العلاقات الإنسانية

في هذه الآيات دعوة الجماعة الإسلامية ، للارتباط العضوي بين أفرادها من موقع الإيمان الواحد ، وللتأكيد على الفواصل التي تفصلهم عن الكافرين ، في ميزان العلاقات الحميمة التي تعبّر عن الإخلاص والولاية ، لأن العقيدة لا تعتبر رباطا فكريا يجمع أتباعها ، بل تمثل ـ إلى جانب ذلك ـ رباطا روحيّا شعوريا يجمع القلوب على المحبة ، ويوجهها إلى الاندماج العاطفي في علاقة روحية حميمة ، ولا بد لها ـ في هذا الجو ـ من أن تتحوّل إلى حاجز يفصل الفكر والشعور عن الآخرين الذين يعيشون الفكر والشعور المضادّ ، لأن اللامبالاة ـ في هذا المجال ـ توحي بأن الإنسان لا يعيش الاهتمامات الإيمانية بالمستوى المطلوب ، ولا يجد للمواقف المضادة لفكره الإيماني ، في كل ما يمثله الفكر من رموز الإيمان وقضاياه وتطلعاته ، أيّ أثر سلبي في داخله.

٣١٣

إن الآيات ـ في ما نفهم ـ تريد أن تقرر للمؤمنين قضية ترتبط بحقيقة الإيمان ، وهي أن الإيمان لا بد من أن يتحوّل إلى موقع يحكم الفكر والعاطفة والسلوك ، لئلا يبقى مجرّد فكرة تعيش في زحام الأفكار الراقدة في ذهن الإنسان من دون أن تمثّل أيّ حضور وجداني في حياته الشعورية والعاطفية.

وفي ضوء ذلك ، نتعلم أن الفكرة التي تتحول إلى إيمان ، تعني انطلاق الشخصية الإنسانية في خطّ الفكر في إيجابياته وسلبيّاته ، في مواقع اللقاء ، وفي مواقع الافتراق ، بحيث تتحرك النظرة إلى الأحداث والأشخاص والعلاقات ، تبعا لحركة الفكرة في مسارها الواقعي ، فلا معنى ـ في هذا الجو ، للشعور العميق الشخصي بالمودة والموالاة للأشخاص الذين يمثّل فكرهم وشعورهم وسلوكهم التحدي المضاد للفكرة ، أو للحالة النفسيّة المعقّدة سلبيا إزاء الأشخاص الذين يعيشون في حياتهم الفكرية والعاطفية والعمليّة ، الخط المستقيم مع الفكرة.

إن المدلول الطبيعي لهذا السلوك ، هو اعتبار الصفات الذاتية التي يملكها هذا الشخص في الجانب الإيجابي أو السلبي ، هي الأساس للتقييم والتفضيل والاندماج بعيدا عن الجوانب الإيمانية التي لا تمثل إلّا شيئا شخصيا يعيش في زاوية ساذجة من زوايا الشخصيّة ، بحيث لا تترك أيّ تأثير على طبيعتها ونوعيتها. وهذا ما يحاوله الكثيرون في هذا العصر ممن يعملون على أن يعزلوا العلاقات الإنسانية عن الجوانب العقيدية للإنسان ، فيقررون المبدأ الذي يقول : إن اختلاف الأفكار والمبادئ لا يمنع من إقامة أيّة علاقة طبيعية حميمة يسودها الودّ والإخلاص. وقد عبر أحد الشعراء عن هذا الاتجاه بقوله : «اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضيّة».

٣١٤

ولكننا نحاول ـ في التعليق على هذا الرأي ـ التفريق بين الخلافات الفكرية التي لا تترجم خلافا في المواقف العملية ، بل تعبّر عن بعض القضايا العامة والخاصّة التي تمثّل نظرة معيّنة في تفسير أو تحليل حقيقة فلسفية أو اجتماعية أو سياسية أو نفسية ، وبين الخلافات الفكريّة التي تتصل بالجانب الروحي والفكري والعملي للإنسان ، حيث تتمثل في الصراع المتحرك في جميع الاتجاهات بحيث يترك تأثيره على الفكر والشعور والممارسة ، وفي التفاعل الشعوري بين الذات والفكرة ، بحيث تتحول الفكرة إلى جزء حيّ من الذات يحمل معنى القداسة في ما توحي به من رموز مقدسة تحمل معنى الرفض الحاسم للرموز الأخرى ، بحيث لا يمكن لها أن تلتقي في الموقع الواحد ، بالإخلاص لكل الرموز ، أو بالإخلاص لرموز معين مع التساهل في طبيعة الموقف من الرمز الآخر ...

وذلك كما هي الحالة في قضية الإيمان والكفر ، أو التوحيد والشرك ، فإن الإيمان يمثل الارتباط بالله في حضور فكري وروحي خاشع عميق ، بينما يمثّل الكفر النفي الحازم للفكرة ، في استهانة بكلّ ما تمثله من معان وقيم ، كما أن التوحيد يعني فكرة الإله الواحد الذي لا شريك له. ولا بد من أن تكون العبادة له وحده ، كنتيجة طبيعيّة لكون الإيمان به وحده. أمّا الشرك ، فهو الذي يمثّل الإخلاص لفكرة الصنميّة في العقيدة ، أو في العبادة ...

وهكذا في الأفكار الأخرى المشابهة في الحقول الأخرى ، كفكرة العدل والظلم ، أو الحريّة والعبودية ، أو الاستقلال والاستعمار ، فإن مثل هذه الخلافات تفرض التزاما يحمل معنى التحدي للفكر أو للواقع الذي يمثّله ، والتحرك الصارخ في هذا الاتجاه ، مما يقتضي أن يعيش أصحابها مستوى كبيرا من التوتر الروحي للفكرة ليتحقق لهم الارتفاع على الضغوط الكبيرة التي يواجهونها.

٣١٥

وفي مثل هذه الحال ، لا يمكن أن تبقى العلاقات الحميمة بين الفرقاء المختلفين مع إخلاص كلّ منهم لموقعه ومواقفه والتزاماته ... أمّا الخلافات الفكريّة المجرّدة التي تعيش في نطاق الحياة العلمية للإنسان ، أو في نطاق الحياة العملية البعيدة عن القضايا الأساسية لديه ، فإنها لا تترك أيّ تأثير على العلاقات ، لأنها لا تعيش في عمقها ، بل تظل بعيدة عنها في حركتها الفكرية أو في مسارها العملي.

* * *

المؤمنون أولياء لبعضهم

وقد جاءت الآية الأولى من هذه الآيات لتعبّر عن هذه الحقيقة بأسلوب حاسم يضع القضية أمام علاقة الإنسان بالله بين أن تكون أو لا تكون ، من دون أن يكون هناك حلّ وسط ، ممّا يعطي القضية أهميتها الكبرى في حساب الإيمان. ثم تصاعد الأسلوب في الإيحاء للإنسان ، بأن عليه أن لا يسترخي فيشعر بالأمن والطمأنينة في إحسان الله إليه وترك عقوبته في الدنيا ، لأنّ ذلك لا يمثل الرضا والتسامح في ما يتمرد فيه الإنسان على الله ، بل يجب أن يحذر ، فإن الله يحذر المنحرفين عن الخط المستقيم من نفسه ، فقد يفاجئهم العذاب من حيث لا يشعرون.

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ) الذين عاشوا الإيمان عقيدة والتزموه عملا ، وانفتحوا عليه روحا وعقلا وحركة حياة ، فكان الله أحب إليهم من أنفسهم ومن كل شيء آخر الكفرين الذين جحدوا الله في وجوده وتوحيده ورسله ورسالاته واتبعوا الشيطان في خططه وحبائله ووساوسه ، فكانت الحياة في وجدانهم الفرصة الأولى والأخيرة للهو وللبعث والتمرّد على الله وعلى رسوله

٣١٦

والانحراف عن القيم الأصيلة في الإنسان الواعي ، وكانت دروبهم دروب المتاهات الصحراوية التي لا تأوي إلى ظل ولا تسكن إلى واحة ، أوليآء يلقون إليهم بالمودة ويمحضونهم الإخلاص ، ويتبعونهم في أوامرهم ونواهيهم ، ويتحركون معهم في خططهم وتعاليمهم ، ويعادون من عادوا ويوالون من والوا ، فيكونون طوع إرادتهم في السرّاء والضرّاء ، حتى يذوبوا فيهم وفي كفرهم وانحرافهم عن الصراط المستقيم ، ويفضلونهم على المؤمنين ، فلا ينفتحوا عليهم (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ، بل لا بد لهم من تفضيل المؤمنين على غيرهم في كل الأمور ، فإن ذلك هو علامة الإيمان الحق الذي يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي يوالي الكافرين من دون المؤمنين (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) فلا علاقة بينه وبين الله في دائرة ولاية الله تعالى ، فإن الله بريء منه ، فلا يعتبره من أوليائه ما دام وليا لأعدائه وعدوّا لأوليائه ، وتلك هي قمة السقوط والشقاء ، لأن ذلك يفصله عن الأساس الذي انطلقت منه حياته ، وامتد به وجوده.

* * *

أسلوب التقية في الخط الإسلامي الحركي

(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) وذلك بإظهار الانسجام معهم في الالتزام بما يريدونه ويفرضونه من أوامر ونواه وتعليمات وأوضاع ، والإيحاء لهم بأنهم معهم في خطهم الفكري والعملي ، وذلك تحت ضغط التهديد الخفيّ أو المعلن ، والتعسف السلطويّ الذي يمارسونه ضدّهم في أساليب الظلم والعدوان التي يوجهها المستكبرون ضد المستضعفين ، فإن الله قد رخص للمستضعفين الذين (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) [النساء : ٩٨] ، أن يدرسوا ظروفهم الموضوعية في عملية مقارنة بين واقعهم الضعيف وموقع الأقوياء الظالمين القوي ، ليتعرفوا المواقف التي تفرض عليهم إظهار الالتزام

٣١٧

بما يريده المستكبرون ، مع الرفض لهم في العمق الخفي من شخصيتهم ، حفاظا على وجودهم وعلى حريتهم في الحركة في الجوانب الأخرى ، وليتعرفوا المواقع التي يملكون فيها التخفف من الضغوط والابتعاد عن مجال التعسف ، واكتشاف الثغرات التي تتيح لهم مجال الهرب ، ليعيشوا التزاماتهم ، ويهربوا من التزامات المستكبرين ، فإن الله لا يريد أن يجعل الناس المستضعفين في حرج من أمرهم ولا يفرض عليهم أن يتحملوا عناء الضغوط التي لا يتحملونها جسديا أو معنويا ، فإنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر.

وفي ضوء هذا ، نعرف أن التقية ليست سقوطا تحت تأثير المستكبرين والتزاما بأوضاعهم وانسجاما مع انحرافاتهم ، بحيث ينتقلون من الهدى إلى الضلال ، بل هي عملية ظاهرية شكلية مرحلية تنطلق من المرونة العملية في مواجهة التحديات الكبرى التي تطبق على الإنسان الضعيف بحيث تتحدى وجوده أو ما يمثل المصادرة لحريته الإنسانية في وجوده ، ويبقى يعيش في نفسه الرفض للظلم وأهله ، وللكفر ودعاته ، وللاستكبار وقادته ، رفضا يثير في نفسه المواجهة النفسية العقلية التي تكبر في عقله لتعود حيّة فاعلة في حركته عند ما تتبدل الظروف وتتغير المواقف والمواقع.

إنها الأسلوب الواقعي العملي في حماية الموقف الكبير على مستوى الهدف على حساب الموقف الصغير في حركة الوسيلة ، وهذا أسلوب إنساني عقلائي يرخص للإنسان الوقوع في المفسدة المهمّة إذا عارضتها المصلحة الأهم ، على قاعدة التزاحم التي تقرر تقديم الأهم في الحسابات العملية وإسقاط المهم وتجميده في مرحلة معينة.

وفي هذا الجو ، نعرف أن التقية تتحرك حيث يشتد الضغط ليصل إلى المستوى الأعلى ، وتكبر المصلحة في موقع الأهمية ، وتتجمد حيث تكون

٣١٨

الأمور في مستوى عاديّ لا يمثل أيّة مشكلة كبيرة أو أيّة أهميّة عظمي ، من دون فرق بين أن تكون التقيّة في العقيدة أو الشريعة أو في الموقف السياسي أو الاجتماعي أو نحو ذلك.

لكن الرخصة في التقية لا تعني فقدان الموقف الواضح الصريح المتحدي المنفتح على التضحية ، للشرعية ، فإن الله قد رخص للناس أن يأخذوا بها ، كما جعل لهم الحرية في الأخذ بموقف القوة والتحدي في مواجهة الأعداء ووعدهم الثواب الكبير على ذلك ، لدلالته على مدى الإخلاص لله ورسوله ولدينه في الالتزام بالقضايا الكبرى.

وقد تمثّل التقيّة الموقف المتنوع ، فقد مارسها عمار بن ياسر حين نطق بكلمة الكفر ، فأنزل الله فيه (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦] ، وفي موقف أبويه ياسر وسمية اللذين استشهدا تحت التعذيب وصبرا فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمر عليهما ويقول : صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة. وهكذا نجد أن الإسلام يستجيب لرغبة الإنسان المسلم بالشهادة كما يستجيب لرغبته بالحياة.

ولا بد للإنسان المستضعف في هذا المجال من أن يدرس ـ دائما ـ في موقفه العملي بين الأخذ بالرخصة أو الاندفاع في التحدي ، مصلحة الأمة أو المجتمع أو الدين ، لأن التحدي قد يؤدي إلى مشاكل كبيرة وسلبيات كثيرة على المصلحة العليا ، وربما كانت التقية سببا في ذلك عند ما توحي بالسقوط الكبير للموقف الرسالي ، وللأمة في مرحلتها الحساسة ، ليراعي ذلك بشكل واع ، لأن التقية تمثل الموضوع المتحرك في ساحة المصالح والمفاسد ، ولا تمثل الموضوع الثابت الذي يخضع لحكم واحد وخط واحد ، بل إنه يتغير بتغير الظروف والأوضاع ومستوى تأثيره على المصلحة العليا في القضايا الكبرى سلبا أو إيجابا ، فإذا كان الإقدام على التحدي يؤدّي إلى إبادة للأمة

٣١٩

أو للمعارضة أو للخط ، فإن التقية هي الخيار الذي يجب على الناس أن يلتزموه ، وإذا لم تكن التقية تؤدّي إلى السقوط الكبير ، فإن المواجهة هي الموقف الذي يجب عليهم أن يقفوه ، وإذا لم تكن المسألة بهذا المستوى ، فإنهم مخيرون بين التقية والتحدي حتى الشهادة ، ولا بد لولي الأمر من أن يتخذ الموقف المناسب في وعيه للواقع وتحريكه الأمة باتجاه الحركة الواعية السليمة.

* * *

التقية في الخط الواقعي المشروع

وقد جاء استثناء التقيّة التي تعبّر عن حالة الاضطرار التي لا يكون الانسجام فيها مع الخط عملا واقعيا ، ليدلّل على أن الموالاة لا تعبّر عما في الداخل من العاطفة الحميمة ، بل تتجسد في الموقف العملي الذي يتمثّل في الالتزام بالمودّة ، ليكون الاستثناء ، متصلا أو منقطعا ، منسجما مع جوّ المستثنى منه.

وفي هذا الاستثناء نعرف شرعيّة التقيّة في ظروفها الموضوعية التي يخضع لها الإنسان من خلال الضغوط الصعبة التي تشل حياته فتعرضها للخطر ، من دون فرق بين أن يكون الجوّ هو جوّ الكفر أو جوّ الانحراف عن الإسلام ضمن الصيغة الإسلامية ، لأن القضية هي قضية إعطاء المجال للإنسان لكي يحافظ على نفسه أو على قضيته بالأسلوب الذي يوحي للآخرين بأنّه معهم ، خلافا لما يعتقد من فكر أو سلوك.

وقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في الحثّ

٣٢٠