تفسير من وحي القرآن - ج ٥

السيد محمد حسين فضل الله

الحسن حديث أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول الله عزوجل» (١)

. وهؤلاء هم الصفوة العليا من الراسخين في العلم وممن أخذوا من العلم بقدر واسع (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) أي بالقرآن محكمه ومتشابهه (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) فقد أنزل الله هذا القرآن ليكون هدى للناس في عقائدهم وأعمالهم ومواقفهم ، فإذا كان هناك بعض المغموض والتردد بين المعاني ، فإن المحكم في كتاب الله يرده إليه ويوضح معناه حتى لا يبقى فيه أي التباس لتتوحد الآيات كلها في المعنى القرآني الذي يجسّد في مضمونه الحقيقة الإسلامية الأصيلة ، (وَما يَذَّكَّرُ) في حركة الفكر التي تفتح آفاق الإنسان على الله في مواقع ربوبيته ، وتوحي له بحقيقة عبوديته ، له وتذكره بما ينتظره في الآخرة من ثواب وعقاب في خط المسؤولية التي يتمثل الإنسان نتائجها الإيجابية والسلبية في الموقف بين يدي الله ، (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول الذين يعيشون مسئولية العقل في التفكير بكل ما يتصل بالإنسان في مصيره في الدنيا والآخرة ومسئولياته تجاه الحياة والإنسان ، فيتحركون من خلال منطقه الذي يواجه الأمر من موقع الحسابات الدقيقة التي تقارن بين الأشياء ، وتربط النتائج بمقدماتها ، والمسببات بأسبابها ، وينفتح بالإنسان على ما يحقق له الربح والسعادة ويبعده عن الخسارة والشقاء ، ولهذا فإنهم لا يسقطون تحت تأثير الغفلة ، لأنها الحالة التي تبتعد عن واقع الوعي ويعيش الإنسان معها حالة عمى في القلب وغيبوبة في الإحساس ، بحيث ينسى كل الأمور الحيوية المتصلة بمصيره ، بينما يؤكد العقل لهؤلاء العقلاء القوة التي تزيل كل غشاوة عن الوعي وتبعد كل ضباب عن الرؤية ، فينطلقون في وضوح الرؤية التي تجعلهم يذكرون الله قياما وقعودا ويخافون عقابه ويرجون ثوابه ،

__________________

(١) البحار ، ج : ٢ ، باب : ٢٣ ، ص : ١٧٨ ، رواية : ٢٨.

٢٤١

ويتطلعون إلى هداه ، وينتظرون رحمته ، فيقولون (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) أي عقولنا (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) وعرفتنا الإيمان بك وبرسلك ، لا تدخلنا في التجربة الصعبة التي تهتز فيها أفكارنا ، وتضطرب منها مشاعرنا ، وتنحرف بها خطواتنا في داخل أنفسنا ، وفي خارجها ، مما قد يدخل فيه الغرور إلى ذواتنا ، فلا نتوازن في النظر إلى الواقع بمنطق الوضوح في الرؤية الذي يعرف فيه الإنسان حجم فكره ، وطبيعة موقعه ، وخصوصية ذاته ، فإن الغرور الفكري والعلمي والذاتي ، قد يدخل الإنسان إلى متاهات الأفكار والوسائل والأهداف مما لا يلتقي بالحق ولا يقف عند قاعدة الصواب ، لأن الإنسان المغرور في علمه لا يتطلع غالبا إلى وجهة نظر الآخرين في الموضوع الذي يعالجه ولا يصر على نفسه ليدقق في الاحتمالات التي تخطر على ذهنه ، فيميل عن الحق من دون أن يشعر ، ويبتعد عن الاستقامة من دون أن يلتفت إلى ذلك.

* * *

الزيغ يؤدي إلى الضلال

وقد يخضع الإنسان لتأثيرات الضلال في نفسه من خلال عناصر الإغراء والإغواء أو التخويف والترهيب ، التي تضغط على نفسه وفكره وروحه ، فتؤثر على موقفه وقراره ، فيبتعد عن الحق ، ويضلّ عن طريق الهدى.

وقد تضغط عليه الظروف الموضوعية المرتبطة بالواقع من حوله لتغير له نظرته إلى الأمور بما قد تثيره في نفسه من المبرّرات المتنوعة التي قد

٢٤٢

تفتح له بابا على الانحراف بحجة أن التغيير في الموقف يخضع للتغيير في المعطيات والمصالح والمفاسد الطارئة بفعل المتغيرات الاجتماعية والسياسية.

وهكذا تتنوع أسباب الزيغ التي تدفع الإنسان إلى الضلال. وفي ضوء ذلك ، فإن الطلب إلى الله في أن لا يزيغ قلوبنا عن خط الهداية بعد التزامنا به ، لا يعني أن الله يفعل ذلك بعباده بشكل مباشر فيجعل المهتدي ضالا ، بل يعني أن يبعد عنا الظروف التي قد تقودنا إلى ذلك ، ولا يكلفنا التكاليف التي تضعف إرادتنا عن الحركة ، وذلك من خلال لطفه بعباده ورحمته لهم ، فإن الله ـ بحكمته ولطفه ورحمته ـ لا يبتلي عباده بالبلاء الذي لا يتحملونه ليسقطوا أمامه ، فهو الذي يشجعهم على السير في خط الهدى ، لأنه مع المحسنين الذين أحسنوا الإيمان والعمل الصالح ، فيهيّئ لهم سبل الثبات على الهدى ، حتى أن البلاء قد يكون حركة في التجربة الهادية التي تقوى بها إرادتهم ، وتنفتح بها قراراتهم على الآفاق الواسعة للحق ، ولذلك فإنهم يبتهلون إليه ويدعونه : أعطنا يا رب من لطفك ما يسهل لنا سبيل الوصول إلى سعادتنا في القرب منك ، (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) تكفل لنا بها خير الدنيا والآخرة ، (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) الذي تتوالى فيوضاته وهباته على عباده في أمورهم الخاصة والعامة في الدنيا والآخرة ، فيثبّتهم على إيمانهم الذي يقودهم إلى العمل الصالح لينتهي بهم إلى جنة الرضوان. (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) حيث يقفون فيه بين يديك ليواجهوا حسابات أعمالهم في الدنيا ، ليحصلوا على نتائجها السلبية أو الإيجابية في الآخرة ، لتجادل كل نفس عن نفسها ، فلا تظلم نفس شيئا من أعمالها (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨].

وهذا هو الذي لا بد للإنسان المؤمن من أن يعيشه في وعيه ووجدانه ـ دائما ـ ليتذكر المستقبل الأخروي من أجل أن يتوازن لديه الحاضر

٢٤٣

الدنيوي ، فلا تؤثر عليه وسائل الزيع ، ولا تضغط عليه عناصر الانحراف ، ولا تستلبه نوازع الهوى في حركة النفس الأمارة بالسوء ، فذلك هو الذي يمثل القوة التي تثبته عند مزالّ الأقدام. (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) فأنت ـ يا الله ـ الصادق في وعدك ، تباركت وتعاليت يا رب العالمين.

* * *

٢٤٤

الآيات

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (١٣)

* * *

معاني المفردات

(تُغْنِيَ) : النفع ، والصرّف والكف.

(وَقُودُ) : الحطب : والوقود إيقاد النار.

(كَدَأْبِ) : الدأب : العادة ، يقال : دأب يدأب دأبا : إذا اعتاد الشيء وتمرّن عليه ، والدأب الاجتهاد ، يقال : دأب في كذا دأبا ودؤوبا إذا

٢٤٥

اجتهد فيه وبالغ ، ونقل من هذا إلى العادة لأنه بالغ فيه حتى صار عادة له.

(بِذُنُوبِهِمْ) : جرائمهم ، والذنب والجرم واحد.

(وَتُحْشَرُونَ) : الحشر الجمع مع سوق ، ومنه يقال للنبي : الحاشر ، لأنه يحشر الناس على قدميه كأنه يقدمهم وهم خلفه لأنه آخر الأنبياء ، فيحشر الناس في زمانه وملّته.

(جَهَنَّمَ) : اسم من أسماء النار.

(الْمِهادُ) : القرار ، وهي الموضع الذي يتمهّد فيه أي ينام فيه مثل الفراش.

(الْتَقَتا) : الالتقاء والتلاقي والاجتماع واحد.

(يُؤَيِّدُ) : يقوّي ، والأيد القوة ومنه قوله تعالى : (داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) [ص : ١٧] ، يقال ، أدته أئيده أيدا أي قويته ، وأيدته أؤيّده تأييدا بمعناه.

(لَعِبْرَةً) : العبرة : الآية ، يقال : اعتبرت بالشيء اعتبارا وعبرة ، والعبور النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر ، وسميت الآية عبرة لأنه يعبر عنها من منزل العلم إلى منزل الجهل ، والمعتبر بالشيء تارك جهله وواصل إلى علمه بما رأى ، والعبارة الكلام يعبر بالمعنى إلى المخاطب.

* * *

مناسبة النزول :

جاء في تفسير الدر المنثور ، أخرج ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أصاب ما أصاب من بدر ورجع إلى المدينة ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال : يا معشر يهود

٢٤٦

أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشا ، فقالوا : يا محمد لا يغرّنّك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا ولا يعرفون القتال ، إنك والله لو ما قاتلتنا لعرفت أنّا نحن الناس ، وأنك لم تلق مثلنا ، فأنزل الله (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) إلى قوله : (لِأُولِي الْأَبْصارِ) (١).

وقد لاحظ صاحب تفسير الميزان على هذه الرواية ، أن سياق الآيات لا يلائم نزولها في حق اليهود كل الملاءمة ، وأن الأنسب بسياقها أن تكون نازلة بعد غزوة أحد (٢).

وقد نلاحظ ، على هذه الرواية ، أن المألوف في خطاب الله لليهود هو النداء لهم بصفة أنهم (أهل الكتاب) لا بصفة «الذين كفروا» ، مع نقطة أخرى ، وهي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستعمل مثل هذا الأسلوب في حديثه معهم ، لا سيّما أن المرحلة كانت مرحلة العهد والميثاق مع اليهود في المدينة ، مما يجعل مثل هذا الحديث نقضا للعهد أو إيحاء بمثل ذلك ، في الوقت الذي لا مصلحة للمسلمين أن يدخلوا في حرب جديدة يبتدءونها بهذا الشكل من الإثارة ، كما أن اليهود آنذاك لا يتحدثون مع النبي بهذه الطريقة الفجّة وجها لوجه ، لا سيما بعد أن عاد منتصرا من معركته في بدر.

ولا مانع من أن تكون الآية وما بعدها واردة في سياق الجدال مع المشركين بعد غزوة أحد التي انتصروا فيها بعض الشيء ، أو في مناسبة أخرى مماثلة بحيث كانت مثارا للشماتة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالمسلمين ، استضعافا لهم ، فكانت هذه الآيات منطلقا لتذكيرهم بأن القوة المادية قد تضغط بعض الشيء على الموقف في بعض المراحل ، ولكنها لا تمثل القاعدة في مسألة النصر ، لأن موقف المسلمين في بدر التي لم يكن لهم فيها أية قوة مادية ،

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٣ ، ص : ١٥٨.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ٣ ، ص : ١٣٦.

٢٤٧

وانتصارهم على المشركين الذين كانوا يملكون السلاح الأقوى والجماعة الأكثر والاستعداد الأكبر ، يدل على أن الإيمان مع بعض القوة المادية قد يؤدي إلى الانتصار للمؤمنين في المستقبل ، كما في الماضي.

وهكذا ظهر صدق النبوءة القرآنية في هزيمة المشركين وغيرهم بعد ذلك حتى فتح الله على نبيه مكة ، بعد أن هزم المشركين واليهود في معركة الأحزاب وبني قريظة والنضير وقينقاع ، وجاء نصر الله والفتح.

* * *

القرآن والأسلوب الحاسم

ربما كانت هذه الآيات واردة في نطاق الخطة التربوية للمسلمين الذين كانوا واقعين تحت ضغط الحالة النفسية الصعبة في ما يرونه من مظاهر القوّة المادية لدى الكافرين ، الأمر الذي قد يوحي لهم بمشاعر الضعف ، كما يوحي للكافرين بمشاعر القوّة والكبرياء والاستعلاء ... فأراد الله أن يكشف الواقع الذي يختفي خلف مظاهر القوّة ، وهو واقع الضعف في طاقاتهم ، فهم لا يملكون قوّة تدفع عنهم العذاب ، كما أن هذه المظاهر لا تستطيع لهم شيئا ، فهي خاوية لا تحوي قيمة نافعة ، ليعرف المؤمنون من خلال ذلك أن القوّة لهم بإيمانهم الذي يملأ حياتهم بالقوّة من خلال الله ، فيواجهوا الكافرين بهذه الروح من خلال هذا الموقع.

وهكذا يريد الله لهم أن يفكروا ويتعمقوا ليرتبطوا بالأشياء من خلال نتائجها وعواقبها ، لا من خلال ظواهرها وأشكالها ، ليحفظوا نظرتهم للواقع من السطحية ، ويصونوا خطواتهم وأفكارهم من الاهتزاز.

* * *

٢٤٨

قوة الكافرين عرض زائل

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) فما هي قيمة هذه القوّة التي يحاولون أن يستندوا إليها ، إنها مجرد عرض زائل قد يتفاخرون به أمام أمثالهم من الناس ، وقد يرتكزون عليه في مجالات الصراع الإنساني ، حيث يستعين كل إنسان بماله وولده في مواجهة خصومه ، ولكن ماذا يمثّل كل هذا أمام الله الذي خلقهم وخلق أولادهم وأموالهم؟ إنه لا شيء ، فكيف يكفرون ويستكبرون ويسخرون من عباد الله المؤمنين؟!

(وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) إنها صورة مليئة بالسخرية بهؤلاء الذين يتظاهرون بالعظمة والكبرياء. إن كل هذه المظاهر ستتحول إلى حطب ، كأيّة خشبة ، كأيّ شيء توقد به النار. فما قيمة هذا الحطب؟ إنه سيتحول إلى رماد تذروه الريح في يوم عاصف ، فينتهي إلى لا شيء.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) وهذه صورة حيّة من صور التاريخ التي يحفظها هؤلاء الكافرون ، في ما يحفظونه من تاريخ عظماء الكفر والكبرياء والضلال ، ليكون ذلك لهم مصدر زهو وخيلاء ، ولكن الله يريد أن يربط تصورهم لبدايات الأشياء بنهاياتها ، فيحدثهم عن مسيرة آل فرعون ومن سبقهم من الطغاة الكافرين بالله المكذبين بآياته ، كيف كانوا ، وكيف أخذهم الله بذنوبهم فلم يغن عنهم ملكهم شيئا وذاقوا أشد العقاب ، فهل يتعظ اللاحقون بالسابقين؟

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) إن الدائرة ستدور عليهم ، فالمستقبل ينتظر عباد الله المؤمنين ليكون الحكم لله في دينه وشريعته ، وستكون الغلبة لهم على الكافرين ، فليراجع الكافرون

٢٤٩

حساباتهم على هذا الأساس ، وليعلموا أن سنن الله في الحياة لا تتبدل ولا تتحوّل مهما كاد الكائدون وتمرّد المتمرّدون ، وليرجعوا إلى صوابهم فيؤمنوا بالله وبكتبه ورسله ، قبل أن يحشروا إلى جهنم ، وبئس المهاد.

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) ، إن على الإنسان الذي يسمع ويبصر ويعقل أن يأخذ العبرة من الواقع ، فإن فيه دروسا كثيرة تستطيع أن تكشف له خطوات المستقبل من خلال الماضي والحاضر ، والله يشير إلى معركة سابقة من معارك الإسلام التي انتصر فيها الإسلام على الشرك ، قد تكون معركة «بدر» وقد تكون غيرها ، فقد وقف المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله من أجل إعلاء كلمته والدفاع عن شريعته ، ووقف الكافرون الذين يقاتلون في سبيل الشيطان ويرون المسلمين الذين هم قلة ، ضعف عددهم ... وانتصر المسلمون بإيمانهم بالله وبما هيّأه الله لهم من أسباب النصر من دون تكافؤ في العدد أو في العدّة ، مما يجعل القضية بعيدة عن المنطق العادي للمعارك ويوحي للمعتبرين بالعبرة التي يعلمون ـ من خلالها ـ كيف ينصر الله عباده المؤمنين عند ما يأخذون بأسباب النصر ويتوكلون عليه في ما يريدونه من قوّة وانتصار.

* * *

٢٥٠

الآيات

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) (١٧)

* * *

معاني المفردات

(الشَّهَواتِ) : جمع شهوة ، وهي توقان النفس إلى المشتهى ، ويقول صاحب مجمع البيان : الشهوة من فعل الله ولا يقدر عليها أحد من البشر

٢٥١

وهي ضرورية فينا ، فإنه لا يمكننا دفعها عن نفوسنا (١). والظاهر أنها التعبير عن الغرائز المودعة في الإنسان التي هي العنصر الحيّ لحركة الحياة في جسده من أجل إثارة الإحساس الطبيعي لتحصيل شروط حياته الضرورية والكمالية من حيث هي مركز الإحساس في الجسد ، فلولاها لما انطلق هذا التوق في وجوده.

(وَالْقَناطِيرِ) : جمع قنطار ، وهو المال الكثير العظيم ، وأصله من الإحكام ، يقال : قنطرت الشيء أحكمته ، وقيل : أصله من القنطرة ، وهو البناء المعقود للعبور ، والمقنطرة : المحصلة من قناطير كقولهم : دراهم مدرهمة ، أي مجعولة كذلك ودنانير مدثّرة ، وقيل : إنما ذكر المقنطرة للتأكيد ، وقد يؤتى بالمفعول والفاعل تأكيدا ، فالمفعول مثل قوله : حجرا محجورا ونسيا منسيّا ، والفاعل كقولهم : شعر شاعر وموت مائت ، والمراد بالجميع المبالغة والتأكيد.

(الْمُسَوَّمَةِ) : المعلّمة بعلامات معينة ، أي ذات العلامة ، أو مدرّبة ومعدّة للركوب في ميادين القتال ، كما يقال : الإبل المسوّمة ، أي التي رعيت ، أي تغذت بالرعي وأعدّت له.

(وَالْأَنْعامِ) : جمع النعم ، وهي الإبل والبقر والغنم من الضأن.

(الْمَآبِ) : المرجع من الأوب وهو الرجوع.

(فَاغْفِرْ لَنا) : المغفرة هي الستر للذنب برفع التبعة.

(ذُنُوبَنا) : الذنب والجرم بمعنى واحد ، وأصله القطع ، فهو القبيح الذي ينقطع به عن الواجب.

(الصَّابِرِينَ) : الحابسين أنفسهم عن جميع معاصي الله والمقيمين على

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٥٣٦.

٢٥٢

ما أوجب الله عليهم من العبادات وغيرها.

(وَالصَّادِقِينَ) : المخبرين عن الأشياء على ما هي عليه في الواقع.

(وَالْقانِتِينَ) : المطيعين.

(بِالْأَسْحارِ) : جمع سحر ، وهو الوقت قبل طلوع الفجر ، أصله الخفاء ، لخفاء الشخص في ذلك الوقت ، والسحر منه أيضا لخفاء سببه.

* * *

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ)

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) التي تجتذب الإنسان وتثيره وتأخذ بحسّه وتتحرك في طبيعته ، من هذه الأشياء التي تتصل بحياته في امتدادها وشغفها ولذتها وشعورها بالامتلاء ، فهي قريبة إلى حاجاته الجسدية والاجتماعية والروحية والغذائية ، في أجواء الجاه الذاتي والعنفوان الإنساني (مِنَ النِّساءِ) التي تمثل حاجة الرجل إلى الشريك الآخر في إنتاج اللذة الجنسية المتفاعلة المندمجة ، فذلك هو الذي يحقق له عمق الإحساس الروحي بالإضافة إلى الإحساس المادي في حركيّة الجنس الزوجي ، باعتبار أن الجنس الذاتي ـ في العادة السرية مثلا ـ قد يحقق له الإحساس بالشهوة من خلال تفريغ الطاقة بطريقة ذاتية ، ولكنه لا يحقق له الغيبوبة الجنسية في اللذة المضاعفة التي تلتقي فيها المشاعر الإنسانية المتفاعلة في اللهفة المشتركة ، بالإحساس الجسدي المادي المتحرك في موسيقى حركة اللذة في الجسد.

وقد يثور سؤال : إن الحديث ـ هنا ـ هو عن الناس الذين زين لهم حب الشهوات ، والكلمة تشمل الرجال والنساء ، فلما ذا كان الحديث عن حب الرجل للمرأة ، باعتبار أنها مستودع شهوته ، ولم ينطلق الحديث عن

٢٥٣

حب المرأة للرجل ، باعتبار أنه مستودع شهوتها ، فإن الطبيعة الإنسانية واحدة في ذلك ، لا سيما أن السياق جار على الحديث عن سلبية الاستغراق في هذه الشهوات الذي يؤدي إلى الانحراف في مواجهة إيجابية التوازن فيها للانطلاق بها نحو الله والدار الآخرة مما يلتقي فيه الناس جميعا بكل أصنافهم.

وقد يجاب عن ذلك ، بأن الرجال هم الذين يتسلمون زمام المبادرة في تحريك هذه الشهوات في الاتجاه المنحرف في وجوده الفساد ومعاصي الله سبحانه ، كاتخاذ المعازف والأغاني وشرب المسكرات وأمور غير ذلك ، وهذا مما يختص بالرجال عادة ، ولا يوجد في النساء إلا في غاية الشذوذ ـ على حد تعبير صاحب الميزان ـ (١).

ولكننا نلاحظ أن المسألة لم تنطلق من خلال ملاحظة الغلبة الواقعية في حركة الشهوات بالنسبة إلى الرجال مقارنا بالنساء ، بل انطلقت ـ في ظاهر السياق ـ من ملاحظة الوضع العام للناس الذين ينفتحون على الجانب المادي أو الحسيّ في الحياة ، مما يجعلهم مستغرقين في الدنيا بعيدا عن الآخرة. فإذا كان الرجال يمارسون إنتاج الفساد في الواقع ـ غالبا ـ أكثر من النساء ، فإن ذلك لا يبرر تخصيص الحديث بهم ـ بهذه الملاحظة ـ لأن هذا خارج عن الموضوع.

أما ملاحظتنا ـ في الجواب عن السؤال ـ فهو أن الخطاب القرآني في أغلب موارده خطاب مذكّر ، باعتبار أن المجتمعات التي خاطبها الأنبياء وعاشوا معها وجادلوها وخاضوا معها الصراع في ساحة الدعوة والجهاد ، هي مجتمعات الرجال ، فقد كانوا هم الذين يتحركون في الساحة ، فهم العنصر الفاعل في حركة الواقع ، بحيث يكون الدور الطبيعي للنساء هو دور المنفعل ، فالمرأة هي الإنسان المنفعل في الواقع الاجتماعي كما هي كذلك

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٣ ، ص : ١٢١.

٢٥٤

في واقع العلاقة الجسدية ، الأمر الذي يجعلها إنسانا تابعا للرجل من ناحية واقعية ، بعيدا عن مسألة الصواب والخطأ في ذلك. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن مجتمع الدعوة الذي نزل عليه القرآن وتحدث معه ، كان لا ينسجم مع الحديث عن حب المرأة للرجل في عالم الشهوة ، فقد كان ذلك مستنكرا عند الرجال والنساء معا على أساس الحياء الاجتماعي ، إلا إذا كان ذلك بشكل غير مباشر في خط المسؤولية كما في قوله تعالى : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) [النور : ٣١] ، أو قوله تعالى : (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) [الأحزاب : ٣٥].

فربما كان ذلك كله هو الأساس في الحديث عن الرجال الذين هم الفئة التي تقود المجتمع في حركته في نطاق الشهوات الذاتية للإنسان وفي نطاق الرغبات والطموحات العامة ، بحيث يفهم وضع المرأة بطريقة غير مباشرة ، الأمر الذي يجعل توجيه الخطاب إليهم منسجما مع الواقع الإنساني في مجتمع الدعوة.

وربما ذهب بعض المفسرين إلى أن السبب في الحديث عن حب الرجال للنساء دون حب النساء للرجال ، هو أن الفتنة بهن أعظم ـ كما جاء في مجمع البيان ـ مستشهدا بقول النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء» (١).

ولكننا نلاحظ على ذلك ، أن فتنة النساء للرجال قد تكون في المستوى الكبير من ألوان الفتنة للرجال ، ولكن ليس من الضروري أن تكون فتنة النساء بالرجال أقلّ تأثيرا في حياة المرأة في الجانب الغريزي ، لا سيما إذا لاحظنا في بعض الروايات أن شهوة المرأة تزيد على شهوة الرجل بتسعة للمرأة مقابل واحدة للرجل ، إلا أن درجة الحياء عندها أكبر ، ولعلّ

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٥٣٦.

٢٥٥

محاولات النساء إغواء الرجال ناشئ من فتنتهن بهم وانجذابهن إليهم ليحصلن ـ من خلال ذلك ـ على محبتهم وانجذابهم إليهن. وربما كان مقصود صاحب المجمع بكلامه ، أن فتنتهن أعظم من الفتن الأخرى للرجال.

(وَالْبَنِينَ) : ربما يراد بالكلمة الذكور من الأولاد ، لأن الغالب في الرجال الآباء حب الذكور دون الإناث للاعتبارات الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية ، وربما يتعقّد بعضهم من البنات للسلبيات الاجتماعية المترتبة على ذلك ، وربما يراد بها الأعم من الذكور والإناث على نحو التغليب.

(وَالْقَناطِيرِ) وهو ـ كما قيل ـ بالاضافة الى ما تقدم في بيان المفردات ، «ملء مسك ـ أي جلد ـ ذهبا» أو هو «المسك المملوء» وقيل : إنه يساوي «سبعين ألف دينار ذهبا» ، وقال البعض : إنه مائة ألف دينار ، وقال آخرون إنه يساوي «اثني عشر ألف درهم». أما كلمة (الْمُقَنْطَرَةِ) فهي اسم مفعول دال على الكثرة والمضاعفة ، كما يقال : (آلاف مؤلفة) ويقصد به الكثرة الكاثرة.

(وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) المرسلة للرعي أو المعلّمة الموسومة بالأشكال والألوان التي تزيد في جمالها ورشاقتها ، أو المدربة على فنون القتال.

(وَالْأَنْعامِ) وهي الإبل والبقر والغنم (وَالْحَرْثِ) هو الزرع.

وهكذا تتحدث الآية عن متع الحياة المادية للناس ، وهي النساء والبنون والأموال والخيل والأنعام والزرع ، وهذه هي التي تستقطب اهتمامات الإنسان في الحياة الخاصة والعامة.

(ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الذي يستمتع الإنسان به في بعض الوقت ثم يفارقه ، فلا استمرار له في حياته ، ولا جذور له في ذاته ، بل هو من حاجات هذه الحياة الدنيا التي يعيش الإنسان فيها تحت تأثير ضروراته المادية ، فليس فيها أيّ سموّ أو ارتفاع في درجاتها الفردية والاجتماعية ، فلا

٢٥٦

ينبغي للإنسان أن يستغرق فيها ليعتبرها القيمة كلها القيمة ، ولكنه يملك أن يحركها في اتجاه الله من خلال القيم الروحية والأخلاقية المنطلقة من الجذور الحقيقة للإنسان ، ليرتفع بذلك عند الله في خط طاعته ليحصل على محبته ورضوانه ، فيحصل بذلك على الدرجات العليا في مواقع القرب منه ، لأن كل حاجات الحياة تموت وتتلاشى تماما كما يموت الجسد ، ويبقى للروح في انفتاحها الفكري والعملي على الحياة من خلال الله ، خلودها الروحي عنده ـ تعالى ـ (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) فهو المرجع الذي يرجع الناس إليه جميعا ، فيجدون عنده ـ إذا آمنوا واتقوا وأحسنوا ـ كل الخير والسعادة والموقع الطيب الذي يعيشون فيه حسن المآب في علوّ في المنزلة والارتفاع في الدرجة ، والسموّ في سبحات الروح.

* * *

حدود الشهوة واللذة

إن الله يحدثنا عن الحياة وما تشتمل عليه مما تشتهيه النفوس في ما تلحّ عليه الغرائز وتتحفز له الأطماع ، وما تحتاجه من حاجات الحياة الدنيا ، فقد زيّن للإنسان ذلك كله ، وتحوّل في كيانه إلى حبّ يأخذ عليه مشاعره وأحاسيسه ويدفعه إلى العمل الجاد في سبيل الحصول عليه ، وربما يدخل حلبة الصراع في المعارك من أجل الوصول إلى شيء منه ، فإذا تطلع الإنسان إلى الناس ، فإنه سيجدهم يتسابقون في حبّ النساء ، ليحصلوا على لذة الجنس ، وفي حبّ البنين ، ليشعروا بالقوة والامتداد لحياتهم ، وفي الرغبة بالقناطير المقنطرة التي هي كناية عن الكثرة من الذهب والفضة ، والخيل المسوّمة التي تتغذى بالرعي ، أو التي تزيّن وتعرض بأجمل صورة ، والأنعام من الإبل والغنم والبقر والزرع ، وغير ذلك من متع الدنيا وشهواتها

٢٥٧

التي قد تتبدل وتتغير حسب تغير الأوضاع والأزمان ، ولكن الحالة تبقى على ما هي عليه ، فالإنسان الآن هو الإنسان قبل آلاف السنين في حبّه لشهوات الدنيا ، وإن اختلفت أنواع الشهوات وأشكالها ووسائلها وطريقة ممارستها ، فلا يزال الناس يعيشون الحاجة إلى أمثال هذه الأمور ، من موقع الحاجة عند بعض ، ومن موقع القيمة الكبيرة عند بعض آخر.

أما النظرة الإسلامية إلى ذلك ، فهي التي تعبر عنها هذه الآية وما بعدها ، فإن هذه الأمور لا تمثل القيمة الكبيرة التي يجعل منها الإنسان هدفا عظيما لحياته ، بحيث تتحول إلى ما يشبه الرسالة التي يكافح من أجلها ويموت في سبيلها ، بل هي مجرد متاع للحياة الدنيا لا يعني للإنسان إلا كما تعني الحاجة الطبيعية التي يمارسها ممارسة طبيعية لا تزيد عن المقدار العادي الذي يحتاجه من أجل استمرار حياته ، فيجاهد في سبيلها على أساس علاقتها بامتداد الحياة واستقرارها ونموّها الطبيعي ، بعيدا عن كل ما يجعلها هدفا مطلوبا لذاته ، لأن الإنسان سيفارق ذلك كله إن عاجلا أو آجلا ، كما يفارق الحياة نفسها ... فإذا كانت الحياة الدنيا لا تمثل الهدف الأسمى في ذاتها ، فكيف بهذه المتع السريعة التي لا يمثل الإحساس بها إلّا شعور اللحظة العابرة التي تلامس الغرائز ثم تذوب وتغيب وتتحول إلى مجرد ذكرى طيّبة ... أمّا القيمة التي تمثل الرسالة الخالدة الممتدة التي تملأ الحياة الداخلية للإنسان بالفكر والطمأنينة ، والحياة الخارجية له بالعمل والمعاناة والجهاد ، فهي الإيمان بالله وطلب ما عنده ، فإن عنده حسن المآب ، فهناك يجد الإنسان الرضا كل الرضا ، واللذّة كل اللذة ، في ما تشتهيه الأنفس وتلذ به الأعين ، حيث المشاعر تتصل بالانفعالات الخالدة الرائعة التي لا تتجمد عند نداء اللحظة ، بل تستمر وتمتد ليفيض الإنسان بالسعادة الخالدة التي قد تلتقي مع بعض أشكال الشهوات في الدنيا ولكنها من نوع آخر مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من

٢٥٨

المتع الروحية والمادية للإنسان.

إن الله لا يريد للإنسان أن يترك شهوات الحياة الدنيا فيحرم نفسه منها تماما ، أو يرى في حرمان نفسه منها قيمة روحية ذاتية ، بل يريد له أن يعاملها كما يعامل المتاع الذي يقضي فيه حاجته من دون أن يعطيه حجما أكبر وقيمة أعلى ، أمّا القيمة فهي التطلع لما عند الله الذي يتحول إلى عمل دائب من أجل أن يجعل الحياة كلها سائرة على درب الله في ما يريده لها من نظام وشريعة ، وعلى هدى العقيدة الصحيحة التي تبني الحياة على قاعدة ثابتة من الإيمان بالله. وتلك هي السعادة ، كل السعادة ، أن يعيش الإنسان همّ الرسالة من أجل الإنسان والحياة لتحقيق رضا الله في ذلك كله ، وتلك هي النفس المطمئنة الراضية المرضية التي يناديها الله للدخول في عباده وجنته ...

* * *

جدال المفسّرين حول فاعل «زيّن»

وقد أثير بين المفسرين جدل كثير حول فاعل «زيّن» ، فإنها جاءت مبنية للمجهول. فهل هو الله ، أو هو الشيطان؟ واعترض بعض على أن يكون هو الله ، بأنّ ذلك يستتبع خلق الله الشرّ في نفس الإنسان ، وهو مناف لفكرة الحريّة التي تتناسب مع عدل الله. واعترض بعض على أن يكون الشيطان هو ذلك الفاعل ، لأن الكلام في طبيعة البشر والحب الناشئ فيها ، ومثله لا يسند إلى الشيطان بحال ، وإنما يسند إليه ما هو من قبيل الوسوسة التي تزين للإنسان عملا قبيحا. ولكننا لا نرى مجالا لهذا النزاع ، فإن الظاهر من الآية أنها واردة في ما جبلت عليه طبائع الإنسان من حيث حاجته إلى مثل هذه الأمور التي تدعوه إلى الإقبال عليها في مجال الزيادة ، تماما كبقية الأشياء

٢٥٩

التي تحدث عنها الله في ما زيّنه للإنسان ، كما في قوله تعالى : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) [الأنعام : ١٠٨] فإن الناس مجبولون على أن يرى أيّ واحد منهم العمل الصادر منه عن قناعة حسنا ، لأن ذلك هو لازم قناعته به. ولعل هذا الذي ذكر في الآية من طبيعة الجانب المادي في الإنسان الذي يستدعي الحركة نحو هذه الأمور ، وليس في ذلك أيّ سوء يتنافى مقتضاه مع العدالة ، لأن حبّ هذه الأمور لا يفرض المعصية في ممارستها ، بل يمكن للإنسان أن يمارسها في موقع الطاعة ، كما يمكن أن يمارسها من موقع المعصية ، ولهذا كانت الفكرة المقابلة لها منطلقة من قاعدة إثارة الاهتمام باللذات التي تنتظر الإنسان في الحياة الآخرة ، لئلا يستسلم للذّات الحياة الدنيا استسلاما كليّا ، بحيث يندفع إلى الانحراف عن خط الله في سبيل الحصول عليه ، فالآية ليست واردة في مورد الرفض المطلق لهذه الشهوات ، بل هي واردة في مورد الموازنة بينها وبين شهوات الآخرة الدينية والروحية ، في مجال الحاجة إلى إقامة التفاضل فيما بينها ، والله العالم بحقائق آياته.

وقد أثار صاحب تفسير الميزان عدة ملاحظات للاستدلال على رأيه في أن فاعل «زين» هو «الشيطان» لا «الله» ، فقال : «أما أولا فلأن المقام مقام ذم الكفار بركونهم إلى هذه المشتهيات من المال والأولاد واستغنائهم بتزينها لهم عن الله سبحانه ، والأليق بمثل هذه الزينة الصارفة عن الله الشاغلة عن ذكره أن لا ينسب إليه تعالى» (١).

ونلاحظ على هذا الكلام ، أنه لا ظهور للآية في هذا المعني ، بل هي ـ على الظاهر ـ واردة في مقام المقارنة بين نعيم الحياة الدنيا مما يتصل بالحاجات الحسية للناس ، ونعيم الحياة الأخرى والتأكيد على ما تتميز به لذّات الآخرة عن لذّات الدنيا والحث على التقوى وطلب ما عند الله

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٣ ، ص : ١١٨.

٢٦٠