تفسير من وحي القرآن - ج ٥

السيد محمد حسين فضل الله

أعين الناس ومحاولة الإضلال بالأساليب التي تساهم في تحقيق الضلال ، بإرادة الإنسان واختياره ، أمّا السيطرة عليه بالمستوى الذي لا يستطيع معه الوقوف أمامه ، ولا يملك إلا الرضوخ لسلطانه ، فهذا ما نفاه القرآن في أكثر من آية (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ) [الحجر : ٤٢].

فإننا نجد في الآية نفيا مطلقا لسلطان الشيطان على الإنسان إلا من خلال الوسائل العادية التي لا تلغي عنصر الاختيار الذي تتحرك في داخله المسؤولية ... فإذا لم يكن للشيطان سلطان تكويني على نقل الإنسان من قناعة إلى قناعة مضادّة في موضوع الكفر والإيمان والخير والشرّ ، فكيف يكون له سلطان على إلغاء عقل الإنسان بالكلية من خلال وسائل غير منظورة لا يملك الإنسان أمامها القدرة على المقاومة. إن القضية ليست قضية عدالة الموضوع وعدم عدالته ، بل هي قضية دور الشيطان في حياة الإنسان من خلال حكمة وجوده في الأرض ، مما يوحي لنا بأنه لا يملك أيّ دور آخر تجاه الإنسان.

وهناك نقطة أخرى لا بد لنا من إثارتها في هذا المجال ، وهي أن ذلك قد يتنافى مع الجوّ الذي أراد الله أن يثيره في صراع الإنسان مع الشيطان ، وهو الإيحاء بكرامة الإنسان من خلال أمره للشيطان بالسجود لآدم ، وجعله خليفة الله في الأرض ، مما يوجب أن لا يجعله تحت رحمته في أقدس شيء وهبه الله له وميزه به على مخلوقاته الأخرى وهو العقل ، لأن ذلك يجعله ألعوبة في يده يعبث به كيف يشاء من خلال الوسائل الخفية التي يملكها ضد الإنسان ... أمّا تسليطه على إضلاله بالوسوسة وأمثالها ، فإنها تؤكد جانب الكرامة فيه ولا تنفيها ، وذلك من خلال ثقة الله بالإنسان ، بما زوّده به من العقل وأرسله إليه من رسل ، وفي ما أنزله عليه من كتب ورسالات ، بأنه يستطيع الانتصار على الشيطان باستعمال هذه الوسائل ، ليبلغ بذلك الدرجات التي تعلو درجات الملائكة في ما وردت به الأحاديث الشريفة ... إن الله

١٤١

سبحانه قد وضع الإنسان في ساحة المعركة التي يملك إرادة الانتصار فيها ، وفي ذلك تأكيد لقدرة الإنسان على الانتصار في معركته مع الشيطان.

ومن خلال هذا العرض ، نستطيع الخروج بنتيجة حاسمة ، وهي أن كلمة الشيطان هنا لا يراد بها إبليس ، كما لم يرد منها ذلك في ما حكاه الله عن أيوب ، فإن الظاهر إرادة الضرّ والمرض منه ، لا على أساس أن الشيطان هو السبب الأعمق في سلسلة الأسباب الطبيعية ، بل على أساس استعمال اللفظ في المرض نفسه ونحوه. أما الدليل على هذا الاستعمال ، فهو ما قررناه من عدم وجود دور للشيطان في هذا المجال ، والله العالم.

* * *

(أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ...) نظرة تفسيرية

(وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا). هل الواو هنا للاستئناف لبيان هذا الحكم الذي شرعه الله من قبل ، أو هي للحال؟ يذهب البعض إلى الأول ، لأن الفعل الماضي الواقع في نطاق الجملة الحالية ينبغي أن يكون مصدّرا بقد ، ولأن الجملة الحالية واقعة في زمان الفعل ، فيلزم أن يكون قولهم وتخبطهم في هذا الزمان ، مع أنه ثابت قبله وبعده ، ولكن سياق الجملة لا يناسب الاستئناف ، لأنها واردة ـ على الظاهر ـ في مقام الرد على ما ذهبوا إليه من المساواة بينهما ، أمّا قضية وحدة الزمان بين الفعل والحال ، فلا مانع منها ، وذلك على أساس بيان أن قولهم ثابت في زمان ثبوت الحكمين ، كتأكيد للإنكار عليهم ، فيكون المعنى أنهم قالوا هذا القول في حال ثبوت هذا

١٤٢

التشريع ، بمعنى أنهم لم يتأملوا فيه ليدركوا طبيعة الفارق بين الأمرين ، ولم ينسجموا معه على أساس الانسجام فيه مع خط الإيمان ، لأن الحديث ـ في الأغلب ـ مع المؤمنين الذين ينحرفون عن الإيمان ، فيأكلون الربا كما يظهر من الآيات اللاحقة ، أما التصدير بقد ، فإنه غير لازم على الظاهر ، لا سيما إذا لاحظنا أن القرآن الكريم هو المرجع الأساسي في اللغة الصحيحة لا كتب اللغة ؛ والله العالم.

(فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). ورد عن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام في تفسير هذه الآية ـ كما في مجمع البيان ـ من أدرك الإسلام وتاب مما كان عمله في الجاهلية ، وضع الله عنه ما سلف (١).

(وَمَنْ عادَ) إلى أكل الربا بعد التحريم وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من أن البيع مثل الربا ، (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لأن ذلك القول لا يصدر إلا من كافر مستحلّ للربا (٢). والظاهر أن المقصود من كلمة (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) أنّها واردة مورد العفو عن الذنب من خلال سياق الآية التي تعني التوبة التي تستتبع قبولها ، ولكن الله قد يغمض الحديث عن العفو ويبهمه ليظل العبد مشدودا إلى الله في طلبه المغفرة منه ، فتكون الآية على هذا الأساس متعرضة للعفو عن المال وعدم مطالبته بإرجاعه إلى أصحابه ، وللعفو عن الذنب بإرجاع أمره إلى الله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويحبّ التوّابين.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٥٠٣.

(٢) م. ن ، ج : ١ ، ص : ٥٠٣.

١٤٣

كيفية محق الله الربا وإربائه الصدقات

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ). المحق هو النقص ، والربا هو الزيادة ، فكيف نفهم هذا النقص هنا ، والزيادة هناك؟ هل هي في ما ينتجه الربا من نتائج سلبية في الدنيا ، بحيث يجعلها الله ضدّ مصلحة المرابي في ما يأمله ويريده من زيادة ماله ، وذلك من خلال النتائج الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يؤدي إليها الربا في نهاية المطاف بما يثيره من أحقاد وأضغان وثوارت تدمر كل ما بناه المرابون وتقضي على كل ما جمعوه ، أمّا الصدقة فإنها تنتهي إلى الزيادة في مال المتصدق على أساس ما تثيره الصدقة ، من محبة وحب وخير وأجواء تهيّئ للنمو والازدهار؟

أو هي في ما يواجه به الله المرابين من العذاب والعقاب في الآخرة الذي يشعرون معه بأن كل ما حصلوا عليه في الدنيا يتحول إلى هباء ، لأنهم لم يجنوا من ذلك إلا الخسران الأبدي في الآخرة ، بينما يحصل المتصدق على النتائج الطيّبة للصدقة من الثواب الذي يتضاعف إلى عشر أمثالها؟

أو هناك وجوه أخر تستوحي الحكم الشرعي الذي لا يعترف بشرعية الربا مما يجعله رجسا محرما ، تماما كما هو الغاصب في تصرفاته ، بينما الصدقة تنمي المال وتزكيه وتثبته على ملك صاحبه؟

إننا نستقرب الوجه الثاني وذلك بشهادة بعض الأحاديث : «إن الرجل يتصدق أو المرأة تتصدق بالتمرة أو بشق تمرة فأربيها له كما يربي الرجل فلوه وفصيله فيلقاني يوم القيامة وهي مثل جبل أحد» (١). وقد لا يكون من البعيد أن تحمل الآية على النتائج في الدنيا والآخرة ، وذلك من خلال

__________________

(١) البحار ، م : ٣٤ ، ج : ٩٣ ، ص : ٨٦ ، باب : ١٤ ، رواية ٦٨.

١٤٤

انطلاق الحكم الشرعي من المفاسد الكامنة في موضوعه إن كان تحريما ، ومن المصالح الموجودة في داخله إن كان وجوبا ، وانتهائه إلى العذاب على مخالفته والثواب على موافقته في الآخرة.

وفي ضوء ذلك ، قد يكون للربا أثره الماحق على حركة المجتمعات والأفراد من خلال النتائج السلبية الأخلاقية في تأثيرها على العلاقات العامة بين الناس ، فإن قيم المحبة والرحمة والخير والعطاء تنتج التقارب والتعاون والتواصل والانفتاح العقلي والروحي والعملي على المصالح المشتركة ، مما يؤدي إلى تنمية الأموال والطاقات والأوضاع للمجتمع الذي يتحرك أفراده بهذه الطريقة ، أو للأفراد الذين يعيشون في هذا الاتجاه ، أما قيم الحقد والقسوة والشر والبخل ، فإنها تنتج التباعد والتقاطع والانغلاق الروحي ، مما يجعل كل شخص بعيدا عن الآخر ، أو يؤدي إلى التعقيد الذاتي والعملي بما يسبّبه من الضرر للأفراد وللمجتمعات على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والأمني والسياسي ، وهذا ما نراه من ثبات الأنظمة والمجتمعات القائمة على قيم العدالة والحق والخير ، واهتزاز الدول والجماعات المرتكزة على قيم الظلم والباطل والشر ، الأمر الذي يجعل الدولة تزول والمجتمع ينهار ، والأفراد ينكمشون.

وهذا ما لاحظناه من الاهتزازات التي تحصل للنظام الربوي في المدى البعيد من خلال التراكمات النفسية والاجتماعية والاقتصادية ، وهذا ما يفسّر لنا محق الربا للإنسان في الدنيا ، لأنه يمحق ثروته وربما يهلك وجوده في نهاية المطاف ، بينما تنطلق الصدقات لتؤسس له القوّة والامتداد والنتائج الإيجابية. هذا في الدنيا ، أما في الآخرة ، فإن الحكم الإلهي العادل الذي يواجه الإنسان العاصي بالعقاب والمطيع بالثواب هو الذي ينتظر المرابين والمتصدقين.

١٤٥

أما قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) فالظاهر أنه جار مجرى كثير من الآيات القرآنية التي تتحدث عن الانحراف عن الخط العملي للإيمان بصفة الكفر ، باعتبار أنه من نتائجه الطبيعية ، لأن قيمة الإيمان هي بالعمل ، فإذا ابتعد عنه صار والكفر سواء من الناحية العملية. والله العالم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). وهذا أسلوب قرآني مميز يثير أمام الحكم الشرعي الذي يدعو الإنسان إلى السير عليه ، أجواء الآخرة في ما ينتظره فيها من عقاب على تقدير المعصية ، وثواب في حالة الطاعة. وقد أراد الله في هذه الآية أن يوحي للإنسان بأن قضية الربا تمثل جزءا من كل في الشخصية المؤمنة المتكاملة التي تعمل الصالحات وتقوم بالصلاة وإيتاء الزكاة ، مما يجعل من الإيمان عنصرا حيّا لا ينفصل عن العمل في نجاة الإنسان من العقاب وحصوله على الثواب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). وفي هذه الآية يتصاعد الجوّ الضاغط على موقف الإنسان المؤمن عند ما يقع تحت تأثير الأوضاع الاقتصادية المحيطة به في المجتمع المنحرف ، فينسى إيمانه ويبدأ في الإلحاح بالمطالبة في ما له على المدينين له من زيادة ربويّة. إن الآية تريد أن توحي للإنسان أن الموقف يتلخص في كلمة واحدة ، هي أن تكون مؤمنا أو لا تكون ، في موضوع المطالبة بالربا في ما بقي له منه.

وقد روي : أنه لما أنزل الله : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) الآية ، قام خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا رسول الله ، ربا أبي في ثقيف وقد أوصاني عند موته بأخذه ، فأنزل الله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

١٤٦

اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) (١) الآية. وروى قريبا منه في مجمع البيان عن الباقر عليه‌السلام.

وجاء في مجمع البيان عن السدّي وعكرمة قالا : نزلت في بقية من الربا كانت للعباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير ناس من ثقيف ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله هذه الآية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : على أن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع ، وأوّل ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب ، وكل دم من دم الجاهلية موضوع ، وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، كان مرضعا في بني ليث فقتله هذيل (٢).

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) لأن الله سبحانه يريد للقضايا المتعلقة بمصلحة الناس العليا وبالتالي بسلامة المجتمع في نطاق المدلول الأخلاقي والعملي لعلاقات أفراده المادية والإنسانية ، أن تكون موضوعا حاسما لا يتهاون الإنسان فيه ولا يتسامح ، لأن الانحراف لا يمس الفرد ، بل يشكل خطرا على السلامة العامة للناس ، ولهذا ، فإن الإنسان الذي يسيء إلى التنظيم الاجتماعي للحياة ، لا بد له من أن يواجه الدخول في حرب شديدة من الله ورسوله ، الأمر الذي ينذره ، وهو الإنسان الذي لا حول له ولا قوة ، بالهول والرعب والشعور بالانسحاق أمام القوة العظيمة الهائلة التي لا حدّ لها ، والتي هي منبع كل قوّة ، إن الآية تثير في الإنسان المنحرف مشاعر الهلع والفرق الكبير ، كما لو أنه واقف تحت جبل عظيم شامخ يكاد يطبق عليه من جميع الجهات ، حيث لا مجال له للهروب أو الاختباء ، لأنه يحيط به من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ... إنه الرعب والهول الذي لا يبلغ مداه التصور ، فكيف

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢ ، ص : ٤٣٠.

(٢) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٥٠٥.

١٤٧

يتماسك الإنسان أمامه؟

(وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ). ويعود الأسلوب الرحيم الذي يثير أمام الإنسان خط التراجع في الحلّ المتوازن ، فهناك المجال الواسع للتوبة التي لا يريد الله فيها للإنسان أن يخسر ماله ويفقده جزاء على ما فعله من المعصية ، بل يريد له أن لا يظلم الناس ، وإذا كانت القضية قد انطلقت من قاعدة رفض الظلم ضد المدين ، فلا يمكن لله أن يقبل وقوع الظلم على الدائن من قبل المدين بأن يسلطه على رأس المال الذي دفعه إليه.

وقد جاء في الدر المنثور : أخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص ، أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع ، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون(١).

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ). أمّا إذا كان المدين معسرا لا يستطيع أن يرجع رأس المال إلى صاحبه في الوقت الحاضر ، فإن الله يريد من الإنسان المؤمن أن ينتظره حتى يتمكن من ذلك ويجعل له الله من أمره يسرا ، لأن ذلك هو خط العدل والرحمة في معناهما الإنساني الواقعي ، فإذا كان العدل يفرض على المدين أن يدفع ما في ذمته إلى دائنه فلا يأكله بالباطل ، فإنه يفرض على الدائن أن يراعي ظروف المدين في حالة العسر ، فلا يضطره إلى أن يبيع ما يحتاجه من ضرورات الحياة الطبيعية أو يرهق نفسه بدين جديد يضطر إلى الخضوع فيه لشروط صعبة في ماله وكرامته وحياته ، لأن حركة العدل في الحقوق والعلاقات تبقى في نطاق القدرة العادية للإنسان ، فلا تتجاوزها إلى ما يخرج عن القدرة ، فإن في ذلك الحرج كل

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٢ ، ص ١٠٩.

١٤٨

الحرج ، والعسر كل العسر ، وقد قال تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: ٧٨] ، (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥].

وقد جاء في الكافي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنبر ذات يوم ، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على أنبيائه (صلى الله عليهم) ثم قال : أيها الناس ليبلّغ الشاهد منكم الغائب ، ألا ومن أنظر معسرا ، كان له على الله عزوجل في كل يوم صدقة بمثل ماله حتى يستوفيه ، ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه معسر فتصدقوا عليه بمالكم فهو خير لكم (١).

(وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). ثم يثير أمام الدائن القادر الموقف الروحي الذي يتسامى معه الإنسان إلى أجواء التضحية والعطاء. فيبدأ بالتفكير في المكاسب التي يحصل عليها عند الله ، بدلا من الحسابات المادية التي تخضع للربح والخسارة في ما يحصل عليه من ماله أو في ما لا يحصل عليه منه ، فإذا كان المدين غير قادر ، وكان من حقه أن ينتظره ، فإن من حق الله عليه في شكره لنعمه ، ومن حق نفسه عليه في أن يرفع درجتها عند الله من خلال أعمال الخير ، أن يتصدق بهذا الدين على صاحبه قربة إلى الله ، فهو خير له عند الله الذي يتقبل صدقات عباده ويعفو عنهم ويجزل لهم العطاء في الدنيا والآخرة ، إن كانوا يعلمون موازين الربح والخسارة في ما يبقى ويخلد ويستمر ، فلا يقتصرون على الموازين العاجلة التي يفكر فيها الغافلون.

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). وتأتي الدعوة إلى التقوى في هذا الفصل الذي تتنوع أغراضه ، في

__________________

(١) الكافي ، ج : ٤ ، ص : ٣٥ ، رواية : ٤.

١٤٩

نطاق ما يحبه الله وما لا يحبه ، لتبعث في روح الإنسان التفكير العميق في ذلك اليوم العظيم الذي يمثل العودة إلى الله من هذه الدنيا الفانية التي يترك فيها الإنسان كل شيء وراءه مما يتنافس عليه الناس ويتقاتلون حوله ، ولا يبقى مع الإنسان إلا العمل ، في ما أعطاه وفي ما منعه من مال الله ومن مال الناس ، وفي ما أطاع الله فيه وفي ما عصاه. ويقف الإنسان في الانتظار ، كلّ ينتظر دوره ، ويحاول أن يعرف رصيده ، وتعرض الأعمال ، فلكل نفس ما كسبت ، تستوفيه وتأخذه لا ينقص منه شيء مهما قلّ ، لأن اليوم هو يوم العدل ويوم الجزاء العادل الذي يحمل الشعار الخالد العظيم «لا ظلم اليوم». وبعد ذلك ماذا ينتظر الإنسان في هذه الدنيا ليسير على خط التقوى في حياته ، ما دام يؤمن بالله وباليوم الآخر ويعرف أنّ عليه أن يوجه نفسه إلى ما يسعدها ويرفع درجاتها في الآخرة ويحقق لها طموحها في السعادة ، كما يفكر في تحقيق ذلك في الدنيا.

* * *

مع بعض الباحثين حول خصائص الربا القرآني وخصائص معاملات المصارف

ذكر بعض الباحثين في الربا القرآني عدة خصائص :

أ ـ الخاصة الأولى : أن المدين محتاج للصدقة عملا بظروف الدين ، ولذلك فهو مظلوم بأخذ الربا منه.

ب ـ الخاصة الثانية : أن الدائن ينفرد وحده بالمنفعة من الربا ، ويستغل

١٥٠

أبشع استغلال لظروف ذلك المحتاج للصدقة ، ولذلك فهو «ظالم» قد استحق الوعيد الكبير إن لم يذر الربا مع مدينه عملا بقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ).

ج ـ الخاصة الثالثة : أنه مجرد تنمية لمال الدائن في أموال المدينين ، واستغلال لحاجاتهم من غير تجارة ينتفع بها الطرفان ، ولذلك شجب الله سبحانه وتعالى هذه التنمية الظالمة ، فقال تعالى أوّلا : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) [الروم : ٣٩] ، ثم أكد ذلك بإعلان حرمتها بشدة ، فقال تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) مشيرا إلى العمل التجاري الذي ينتفع به الطرفان في كلمة «البيع» وإلى فقدان ذلك في الربا الذي لا ينتفع به إلا طرف واحد.

د ـ الخاصة الرابعة : ذلك قوله سبحانه في أكلة الربا : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) وذلك لأن هؤلاء قد استعجلوا الأرباح ، فأتوها من غير طريق التجارة ، وهو طريق استغلال ظروف المحتاجين للصدقة الذين قلّما يستطيعون وفاء ديونهم وما تراكم عليها من ربا المرابين ، ولذلك فإن هذه المقامرة في استغلال حاجة غير القادر على الوفاء ومضاعفة الربا عليه كلما حلّ الأجل وعجز عن الوفاء ، تجعل من هؤلاء المستغلين عند عجز المدين عن الوفاء كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ ، لأنه فقد رأس ماله فوق فقده لأرباحه الاستغلالية ، بعد أن كان ينتظر هذه الأضعاف المضاعفة بفارغ الصبر.

ه ـ الخاصة الخامسة : أنه زيادة طارئة في الدين تفرض على محتاج للصدقة وتشترط عليه بعد حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء ، وتلك هي زيادة بعقد جديد مستقل عن العقد الأول ، ولا يقابلها في هذا العقد

١٥١

الجديد غير تأجيل الاستيفاء من المدين أي «الإنساء» ، وهو ربا النساء القطعي من غير أيّ نفع مادي للمدين ، لأن التأجيل ليس بمال ينتفع به المدين في طعامه أو تجارته ، في حين أن الزيادة في الربا للدائن كانت زيادة إليه وقد اقتصرت فقط عليه من دون مقابل للمدين ، وهذا من أعظم أكل أموال الناس بالباطل من غير تجارة ولا رضا ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) ، ولذلك كان ظلما صريحا ، وقد حرمه القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) [البقرة : ٢٧٩] ، واستحق الدائن عليه الوعيد الكبير من الله سبحانه حيث قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة : ٢٧٨ ـ ٢٧٩].

* * *

أما خصائص معاملات المصارف فهي كما يلي

أ ـ الخاصة الأولى : إن الدائن هو دائما من «صغار المالكين لرأس المال» غير أنه يملك «سيولة صغيرة» أي وفرا قليلا لا يستطيع استثماره ، وأمّا «المدين» ، فهو دائما من «كبار المالكين» لرأس المال ، غير أنه لا يملك أيّة سيولة لتسيير أعماله الكبرى ، وذلك بسبب توظيفه لكل وفر لديه في أعماله ومشاريعه الكبرى ، وهكذا يتضح هنا أن الذي يحتاج للآخرين في المعاملات المصرفية هم دائما «الأغنياء الكبار» الذين يمدون أيديهم لوفر «المالكين الصغار» دون العكس ، وبالنتيجة ، فإن هؤلاء الأغنياء الكبار لا تحلّ لهم صدقة المالكين الصغار في ما لو طلبنا إلى هؤلاء الصغار أن يتوبوا ويتصدقوا برؤوس أموالهم على المدينين الأغنياء كفارة لهم عما سلف ، عملا

١٥٢

بقوله تعالى : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) وهذه أولى الخصائص في المعاملات المصرفية التي تختلف تماما عن «الخاصة الأولى» في الربا القرآني ، حيث إن المدين في الربا القرآني محتاج للصدقة ، وينبغي التصدق عليه برأسمال الدين ، بينما الأمر على العكس في المدين في المعاملات المصرفية.

ب ـ الخاصة الثانية : وعلى ضوء ما تقدم في الخاصة الأولى في هذه المعاملات ، فإنه من الواضح أن الدائن هنا وهو المالك الصغير لا يختص وحده بالمنفعة دون المدين كما هو الحال في الربا القرآني ، ولا يستغلّ مدينا محتاجا للصدقة ، بل يشترك مع الأغنياء من الكبار في المنفعة بموجب عقد رضائي تجاري لا استغلال فيه ، وهذه أيضا ثاني الخصائص في المعاملات المصرفية التي تختلف تماما عن «الخاصة الثانية في الربا القرآني» ، حيث إن المدين في الربا القرآني لا منفعة له ، وإنما المنفعة قاصرة على الدائن وحده ، بينما الأمر مختلف في المدين في المعاملات المصرفية ، لأن المدين وهو المالك الكبير ، مشترك في المنفعة مع «الدائن» وهو المالك الصغير ، وذلك باستثماره أموال الدين بما فيه مصلحة الجميع.

ج ـ الخاصة الثالثة : «في المعاملات المصرفية». وعلى ضوء ما تقدم أيضا في الخاصتين المسابقتين في هذه المعاملات ، فإن المعاملة المصرفية ليست مجرد تنمية لمال الدائن وحده من أموال المدينين كما هو الحال في الربا القرآني ، وإنما هي تجارة من نوع جديد جرى التعارف عليها ، ودعت إليها حاجة الناس أجمعين ، حتى أصبحت مصالحهم في معاشهم لا تتم إلا بها وينتفع بها الطرفان المعطي والآخذ ، ولو لا هذه المعاملة ، لفاتت المنفعة في آن واحد على المعطي والآخذ وتعطلت مصالح الطرفين ، ولذلك قال المرحوم رشيد رضا في فتاواه : «ولا يخفى أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ والمعطي ، والتي لولاها لفاتتهما المنفعة معا ، لا تدخل في تعليل : (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) لأنها ضدّه ، وأن المعاملة التي يقصد بها

١٥٣

الاتجار لا القرض للحاجة ، هي من قسم البيع ، لا من قسم استغلال حاجة المحتاج ، ويشير بذلك إلى قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) ويؤيد هذا المبدأ في شرعية المنفعة التي لا ضرر بها على حد قول الإمام موفق الدين ابن قدامة في المغني ، أن ما فيه مصلحة من غير ضرر بأحد فهو جائز ، وأن الشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا ضرر فيها ، وإنما يرد بمشروعيتها ، وكذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية : «إن كل ما لا يتمّ المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعا».

ويؤخذ من كل ذلك أن «الدائنين» في المعاملات المصرفية إنما هم من صغار المالكين ولم يستغلوا «المدينين» الذين هم كلهم هنا من كبار المالكين ، بل قد يتبادلون المنافع معهم بصورة تجارية وعقد رضائي من غير أن يكون هناك (ظالم) أو (مظلوم). وهذه هي أيضا ثالث الخصائص في المعاملات المصرفية التي تختلف تماما عن الخاصية الثالثة في «الربا القرآني» ، حيث إن الربا القرآني هو مجرد تنمية لمال «الدائن» وحده في أموال المدينين ، بينما الأمر مختلف في «المدين» في المعاملات «المصرفية» ، حيث إن كلّا من «الدائن والمدين» مشترك في المنفعة بعقد رضائي لا إلجاء فيه ولا استغلال.

د ـ الخاصة الرابعة : في «المعاملات المصرفية» ، فإن المتعاملين فيها ـ معطيا وآخذا ـ كلهم مستريح البال ، وذلك لقيام إدارة المصرف نيابة عنهما باتخاذ جميع الإجراءات والضمانات اللازمة لسلامة المعاملة على السواء لمصلحة «الدائن والمدين» ، بينما الأمر على عكس ذلك في «الربا القرآني» القائم في الأصل على توظيف أموال الدائنين لدى العاجزين عن وفاء الدين طبعا بالأضعاف المضاعفة من دون أيّ ضامن لذلك ، ويكفي في ذلك مقامرة تجعل الدائنين لا يقومون في كل ساعة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ ، وذلك لما تأتيهم الأخبار والمعلومات الأكيدة من سوء أحوال

١٥٤

مدينيهم وعجزهم عن الوفاء ، وهذه هي أيضا رابع الخصائص في المعاملات المصرفية التي تختلف فيها تمام الاختلاف عن «الربا القرآني» ، وذلك لاضطراب هؤلاء كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ ، بينما الأمر على عكس ذلك تماما من أمن وراحة بال لدى المتعاملين في المعاملات المصرفية.

ه ـ الخاصة الخامسة : في «المعاملات المصرفية» ، فإن الزيادة فيها إنما تشترط في أصل عقد الدين لأغراض تجارية مع مدينين أغنياء من رجال الأعمال وليست طارئة عند حلول الأجل مع المدين المحتاج للصدقة ، وذلك ما يجعلها في الأصل ذات صفة تجارية في المعاملات المصرفية ، أي في مقابل منافع متبادلة ، وهذا كما ترى هو على خلاف الزيادة في «الربا القرآني» المحرمة التي لا تشترط فيه إلا على رجل محتاج للصدقة وبعد حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء.

ويتابع هذا الباحث القول : وبعد هذه المقارنة الواضحة بين خصائص الربا القرآني المحرّم قطعا ، وبين خصائص المعاملات المصرفية ، اتضح للناظر أن خصائص المعاملات المصرفية ، لا تتفق في حالة ما مع خصائص الربا القرآني ، ولذلك فهي شيء جديد لا يخضع في حكمه للنصوص القطعية في «الربا القرآني» المحرّم ، وهذا ما يوجب علينا النظر فيها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم المشروعة اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إباحته «بيع السلم» رغم ما فيه من بيع غير المحدود ، وبيع ما ليس عند البائع ما قد نهى عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأصل ، وقد أجمع العلماء على أن إباحة «السلم» كانت لحاجة الناس إليه ، وهكذا فقد اعتمد العلماء على السلم وعلى أمثاله من نصوص الشريعة في إباحة الحاجات التي لا تتم مصالح الناس في معاشهم إلّا بها.

١٥٥

ويخلص الباحث ـ من خلال ذلك كله ـ إلى أن المصارف في حالتها الحاضرة ووفقا لقوانينها العالمية ، إنما هي حاجة من حاجات العباد ، ولا تتمّ مصالح معاشهم إلا بها ، فلم يكن من الجائز التسرع والحكم عليها بأنها من الربا المقطوع فيه ، وذلك لأن حظرها يوقع العباد في حرج في معاشهم لا مثيل له ، بل يهدد كيان الدولة والأمة ، ويقضي نهائيا على مصالحهم الاقتصادية المشروعة ، وأن الحرج ـ كما عرفت ـ ممنوع بنص القرآن الكريم (١).

* * *

مناقشة النظرية

ونلاحظ على هذه الدراسة أنها انطلقت مما نقله صاحبها عن الإمام أحمد ، وهو أن القرآن الكريم كلما ذكر الربا بسوء ، أوصى الدائن بالصدقة على مدينه. ولهذا استفاد من الآيات أن المدين محتاج للصدقة عملا بظروف الدين ، ولذلك فهو مظلوم ، كما هي الخاصة الأولى في الربا القرآني ، ولكن المسألة المطروحة في الآيات هي الحديث عن الربا باعتباره مظهرا من مظاهر الحالة النفسية المعقدة التي تختزن في داخل الذات الإحساس بالذاتية في الحصول على المال بأية طريقة ، فلا تنفتح على الآخرين ، وهذا ما يوحي به قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) ، فهو الإنسان المصروع الذي يعيش الاهتزاز النفسي أمام نوازع الذات التي هي عالمه المنغلق على الآخرين ، إلا في نطاق حاجاتها

__________________

(١) فتوى د. معروف الدواليبي في موضوع الربا والمصارف (حول موقف الشريعة من المصارف) والأحكام والقواعد العامة الشرعيّة.

١٥٦

وأطماعها. أما الحديث عن الصدقة ، فإنه يأخذ بعد السلوك الأخلاقي الذي يعبّر عن روحية العطاء في داخل النفس من خلال الإحساس بحاجة الآخر المحروم إليه ، لتكون الصدقة مظهر تفاعل معه وانفتاح عليه في دائرة التكافل الاجتماعي ، كخط عام في البرنامج الأخلاقي العملي الإنساني في نموذج الشخصية المنفتحة على الآخرين ، في كل المجالات العامة والخاصة في الحياة ، فليست القضية مقتصرة على الحالة الخاصة التي يدور الأمر فيها بين التصدق على المدين وأخذ الربا منه.

أما التعبير بالظالم هنا ـ في المرابي ـ والمظلوم ـ في المدين ـ فليس ملحوظا جانب انفراد الدائن وحده بالمنفعة ، بينما يخضع المدين لاستغلاله في حاجته ، بل الملحوظ فيه هو عدم أخذ المدين رأس المال الذي هو ملك الدائن وإرجاع الفائدة إلى المدين لأنها غير مشروعة ، فليس المراد بالظلم هنا ، الحالة العملية التي تنطلق من حاجة المظلوم واستغناء الظالم ، بل المراد به عدم إعطاء صاحب الحق حقه ، سواء أكان غنيا أم فقيرا ، مما يجعله مظلوما من قبل المدين إذا منعه من رأس المال ، فيكون المدين ظالما له في ذلك. ومن خلال ذلك ، نعرف أن الآية ليست واردة في النظرة إلى المسألة الربوية من حيث المبدأ ، بل هي واردة في مرحلة تصفية المعاملة الربوية وإعادتها إلى الخط الشرعي في إرجاع الفائدة إلى المدين ، وإعادة رأس المال إلى الدائن ، باعتبار أن السلب هنا وهناك يمثل لونا من ألوان الظلم.

وعلى ضوء ذلك ، يمكن لنا أن نقرر المبدأ الإسلامي في تشريع العدل للناس كافة من الأغنياء والفقراء ورفض الظلم للجميع من خلال النظرة إلى طبيعة السلوك بعيدا عن شخصية الظالم والمظلوم من ناحية الوضع الاجتماعي السلبي والإيجابي ، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ

١٥٧

يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) [النساء : ١٣٥] ، فقد جعل المسألة منطلقة من طبيعة القضية بعيدا عن أيّ شيء آخر في صفة الناس الذين يرتبطون بها ، فلا يشهد الإنسان لمصلحة الفقير بالباطل ، ضد الغني الذي يملك الحق ، لأن مثل هذه الحالة العاطفية الإنسانية لا تحل مشكلة الفقير ، بل تعقد المشكلة العامة التي قد تطال الفقير في نهاية الأمر ، أما مسألة الغنى والفقر ، فإنها خاضعة للتدبير الإلهي في إدارة شؤون الإنسان في الحياة.

أمّا الخاصة الثالثة من الربا القرآني ، وهي أن الربا مجرد تنمية لمال الدائن في أموال المدينين واستغلال لحاجاتهم من غير تجارة ينتفع بها الطرفان ، فإن ذلك قد لا يمثل مشكلة في ذاته إلّا من خلال ما يعبّر عنه من حالة نفسية خانقة منغلقة ، تتصل بالواقع الإنساني في أبعاده العامة ، وقد يطرح الربويون في مقابل ذلك أن المدين قد ينتفع بالمال الذي يأخذه دينا للاتجار به ، باعتبار أنه يحل له مشكلة عدم وجود رأس مال للعمل والإنتاج لديه ، وإذا كان الباحث يستند إلى الآية الكريمة : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) باعتبار أن الله يرفض للإنسان أن ينمي ماله في أموال الناس ، فإننا نردّ عليه بأن الظاهر من الآية أن الله يريد أن يبين له أنه إذا كان يستهدف الحصول على الزيادة من خلال الربا ، فإنه لن يحقق لنفسه إلا زيادة مادية لا تجديه شيئا عند الله الذي هو الأساس الذي ينبغي للإنسان أن يرتكز عليه ويقصده في كل أعماله ، لأن (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) فلا بد له من أن يطلب الزيادة بالإقبال على دفع الزكاة التي يضاعفها له الله ، وهكذا نرى أنها ليست واردة في مقام رفض الزيادة في أموال الناس لأنها تتحقق بالتجارة ، حتى لو كان الفرق بينها وبين الربا ، انتفاع الطرفين في التجارة واقتصار الانتفاع في الربا على الدائن ـ كما قيل ـ إلا أن ذلك ليس بفارق من حيث اشتراكهما في تنمية المال في أموال الناس.

١٥٨

أمّا تفسيره قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) بأنهم استعجلوا الأرباح فأتوها عن غير طريق التجارة ، وهو طريق استغلال ظروف المحتاجين للصدقة الذين قلّما يستطيعون وفاء ديونهم وما تراكم عليها من ربا المرابين ، فإننا نلاحظ عليها أن الآية بعيدة كل البعد عن هذا المعنى ، بل هي واردة في مقام الحديث عن حالة التخبط الفكري والعملي التي تصيب المرابي ، كما شرحناه في أول الحديث عن الآيات.

وتبقى النقطة الخامسة من خصائص الربا القرآني ، وهي أنه زيادة طارئة في الدين تفرض على محتاج للصدقة وتشترط عليه بعد حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء ، وتلك هي زيادة بعقد جديد مستقل عن العقد الأول ، ولا يقابلها في هذا العقد الجديد غير تأجيل الاستيفاء من المدين ، أي «الإنسان» ، وهو ربا النساء القطعي من غير أي نفع مادي للمدين ... إلى آخر كلامه. فإننا نلاحظ عليه ، أن هذا المنطق قد يرد عليه القائلون بحلّيّة الربا ، من أن للأجل قسطا من الثمن ، ولذلك يزاد في ثمن السلعة التي تباع نسيئة بلحاظ الأجل ، كما أن المدين قد يحتاج إلى إبقاء المال لديه من أجل تطوير تجارته بالاحتفاظ برأس المال مدة أخرى ، فيكون وزان الأجل الجديد وزان الأجل القديم الذي لوحظ في البيع زيادة الثمن في مقابله في ضمن الثمن العام ، فلا تكون الزيادة ـ على هذا ـ أكلا للمال بالباطل.

إننا لا نقصد تبرير كلام المرابين بما ألمحنا إليه ، بل نقصد أن مجرّد هذا التبرير للحرمة في كلام الباحث ، ليس بعيدا عن النقض والمناقشة من الجانب الآخر.

١٥٩

وفي ضوء ذلك كله ، فإن الاستنتاج الذي أكده الباحث من اختلاف الربا المصرفي عن الربا القرآني ، بحيث يكون الموضوع فيه غير الموضوع في القرآن فلا تشمله الحرمة ، لأن الدائنين في المصارف هم المالكون الصغار ، والمدينون هم المالكون الكبار ، فلا يكون موردا للصدقة كما هو في المورد القرآني ، ولأن المنفعة هنا مشتركة بين الدائن بما يأخذه من الفائدة والمدين بما يستثمره من رأس المال ، بينما تختص بالدائن في الربا القرآني ، ولأن المعاملة المصرفية ليست مجرد تنمية للمال في أموال الناس ، بل هي تجارة من نوع جديد مما يتصل بحاجة الناس ، ولأن الدائن مضطرب الحال في الربا القرآني لعجز المدين ، بينما هو مستريح البال لغناه ولكون المصرف مؤسسة منظمة ترعى المال وتضمنه لصاحبه من دون خوف ، ولأن الزيادة في المصارف تشترط لأغراض تجارية بينما الزيادة في القرآن لا تشترط إلا على رجل محتاج للصدقة.

إننا نرفض هذا الاستنتاج من خلال الإشارة إلى الاختلاف المذكور ، لأنه قائم على الاستفادة الضيقة في الربا القرآني بأنه وارد في مورد المحتاج العاجز عن الوفاء ، وهو غير ظاهر كما ذكرنا ، بل هو وارد في مقام الحديث عن النظام الاقتصادي الذي ينطلق فيه الناس في حياتهم العامة في معاملاتهم بعيدا عن شخصية الدائن والمدين ، وهكذا في قضية اشتراك المنفعة هنا في المصارف واختصاصها بالدائن في الربا القرآني ، فإن الملحوظ هو التركيز على الانتفاع بالربا من دون نظر إلى ما يفعله المدين من استثمار المال في حاجاته وفي مشاريع أخرى.

وهكذا تنطلق المناقشة في الإشارة إلى أن ربا المصارف يمثل تجارة ، فإننا لا نفهم معنى ذلك في طبيعة المعاملة الربوية في مدلولها الموضوعي ، لأن مسألة التجارة خارجة عن المعاملة ويمكن أن تحصل في الربا القرآني عند ما يستثمر المدين رأس المال في أعمال تجارية صغيرة تدرّ عليه الربح.

١٦٠