مسند الإمام الشهيد أبي عبدالله الحسين بن علي عليهما السلام - ج ١

الشيخ عزيز الله العطاردي

مسند الإمام الشهيد أبي عبدالله الحسين بن علي عليهما السلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ عزيز الله العطاردي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: انتشارات عطارد
المطبعة: افست
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣١

فخرج مسلم بن عمرو حتّى قدم على عبيد الله بالبصرة فأوصل إليه العهد ، والكتاب ، فأمر عبيد الله بالجهاز من وقته والمسير الى الكوفة ، من الغد ثمّ خرج من البصرة فاستخلف اخاه عثمان وأقبل الى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلى وشريك الأعور الحارثى وحشمه وأهل بيته حتّى دخل الكوفة ، وعليه عمامة سوداء وهو متلثم والناس قد بلغهم إقبال الحسين عليه‌السلام إليهم فهم ينتظرون قدومه فظنّوا حين رأوا عبيد الله أنّه الحسين.

فأخذ لا يمرّ على جماعة من الناس الّا سلموا عليه وقالوا مرحبا بابن رسول الله ، قدمت خير مقدم فرأى من تباشيرهم بالحسين ما ساءه ، فقال مسلم بن عمرو لما أكثروا : تأخّروا هذا الامير عبيد الله بن زياد ، وسار حتّى وافى القصر فى اللّيل ومعه جماعة قد التقوا به فدعا ابن زياد مولى له يقال له معقل فقال له خذ ثلث آلاف درهم ، ثمّ اطلب مسلم بن عقيل والتمس أصحابه ، فاذا ظفرت بواحد منهم أو جماعة فأعطهم هذه الثلاثة آلاف درهم وقل لهم استعينوا بها على حرب عدوّكم وأعلمهم انّك منهم.

فانّك لو أعطيتهم إيّاها اطمأنّوا إليك ووثقوا بك ولم يكتموا شيئا من أخبارهم ، ثمّ أغد عليهم ورح حتّى تعلم مستقرّ مسلم بن عقيل ، وتدخل عليه ، ففعل ذلك وجاء فطلب الاذن ، فاذن له فاخذ مسلم بيعته وأمر أبا ثمامة الصائدى بقبض المال منه وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم ، فهو أوّل داخل وآخر ، خارج ، حتّى فهم ما احتاج إليه ابن زياد من أمرهم وكان يحبره بهم (١) فاجتمع لابن عقيل أربعة ألف رجل وما زالوا يتوثبون حتّى المساء فضاق بعبيد الله أمره وكان أكثر عمله أن يمسك باب القصر وليس معه فى القصر إلّا ثلثون رجلا من الشرط وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته وخاصته ، حتّى كادت الشمس أن يجب فكانت المرأة تأتى ابنتها وأخاها فتقول انصرف ، الناس يكفونك ويجىء

__________________

(١) كذا فى الاصل.

٣٤١

الرجل الى ابنه وأخيه فيقول غدا يأتيك أهل الشام ، فما تصنع بالحرب والشر انصرف فيذهب به فيصرفه.

فما زالوا يتفرّقون عن ابن عقيل حتّى أمسى وصلّى المغرب وما معه إلّا ثلثون نفسا فى المسجد ، فلمّا رأى انّه قد أمسى وليس معه إلّا اولئك النفر خرج متوجّها نحو ابواب كندة فما بلغ الابواب ، ومعه عشرة ثمّ خرج من الباب فاذا ليس معه انسان ، فالتفت فاذا هو لا يحسّ أحدا يدلّه على الطريق ، ولا يدلّه على منزله ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدوّ فمضى على وجهه مترددا فى أزقة الكوفة لا يدرى أين يذهب.

فمشى حتّى انتهى الى باب امرأة يقال لها طوعة أمّ ولد كانت للاشعث بن قيس ، فأعتقها فتزوّجها أسيد الحضرمى فولدت له بلالا وكان بلال قد خرج مع الناس فانّها قائمة تنتظره فسلم عليها ابن عقيل فردّت عليه ، فقال لها يا امة الله اسقنى ماء فسقته وجلس ، وأدخلت الاناء ثمّ خرجت فقالت : يا عبد الله ألم تشرب ، قال بلى قالت فاذهب الى أهلك فسكت ثمّ أعادت مثل ذلك فسكت.

ثمّ قالت له فى الثالثة سبحان الله قم عافاك الله الى أهلك فانّه لا يصلح لك الجلوس على بابى ولا أحلّه لك ، فقام وقال يا أمة الله ما لي فى هذا المصر منزل ، ولا عشيرة فهل لك فى أجر ومعروف ولعلّى مكافيك ، قالت يا عبد الله وما ذاك قال : أنا مسلم بن عقيل كذبنى هؤلاء القوم وغرّونى وأخرجونى ، قالت أنت مسلم قال نعم قالت : أدخل فدخل بيتا فى دارها غير البيت الذي تكون فيه ففرشت له وعرضت له العشا فلم يتعشّ ولم يكن باسرع ان جاء ابنها فرآها تكثر الدخول فى البيت والخروج منه.

فقال لها والله انّه ليريبنى كثرة دخولك هذا البيت منذ اللّيلة وخروجك منه انّ لك لشأنا قالت : يا بنىّ اعرض عن هذا قال والله لتخبرينى قالت : أقبل على

٣٤٢

شأنك ، ولا تسألنى عن شيء ، فألحّ عليها قالت يا بنىّ لا تخبرنّ أحدا من النّاس شيئا ممّا أخبرتك به ، قال : نعم فأخذت عليه الايمان فحلف لها ، فأخبرته فاضطجع وسكت ، فلمّا أصبح فغدا الى عبد الرحمن بن محمّد بن الاشعث ، فأخبره بمكان مسلم ابن عقيل ، عند أمّه.

فأقبل عبد الرحمن حتّى أتاه أباه فأخبره ، وهو عند ابن زياد فساره ، فعرف ابن زياد إسراره ، فقال له ابن زياد بالقضيب فى جنبه ، قم فاتنى به السّاعة ، فقام ، وبعث معه قومه لأنّه قد علم أن كلّ قوم يكرهون أن يصاب فيهم مثل ابن عقيل ، فبعث عبيد الله بن العباس السّلمى ، فى سبعين رجلا من قيس حتّى أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل رضى الله عنه ، فلمّا وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال علم أنّه قد أتى فخرج إليهم يضربهم بسيفه ، حتّى أخرجهم من الدار.

ثمّ عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمرى ، فضرب فم مسلم ، فقطع شفته العليا وأسرع فى السفلى ونصلت ثناياه فضربه مسلم فى رأسه ضربة منكرة ، وثناه بأخرى على حبل العاتق ، كادت تطلع على جوفه ، فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت ، فأخذوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار فى أطنان القصب ثمّ يلقونها عليه من فوق البيت ، فلمّا رأى ذلك خرج عليهم مصلتا بسيفه فى السكّة وقال له محمّد بن الأشعث لك الامان لا تقتل نفسك وهو يقاتلهم ويقول عند ذلك.

أقسمت لا أقتل إلّا حرّا

انى رأيت الموت شيئا نكرا

وأخلط البارد سخنا مرّا

ردّ شعاع الشمس فاستقرّا

كلّ امرئ يوما ملاق شرّا

أخاف إن كذب اواغرا

فقال محمّد بن الاشعث انّك لا تكذب ولا تغرّ ولا تخدع انّ القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك وقد اثخن بالحجارة ، وقد عجز عن القتال ، فانبهر

٣٤٣

واسند ظهره إلى جنب تلك الدّار ، فأعاد ابن الأشعث عليه القول لك الامان ، فقال آمن أنا ، فقال نعم فقال للقوم الذين معه لى الأمان ، فقال القوم له ، نعم الّا عبيد الله ابن العبّاس السلمى ، فانّه قال لا ناقة لى فى هذا ولا جمل وتنحى ، فقال مسلم : أما لو لم تؤمنونى ما وضعت يدى فى أيديكم وأتى ببغلة فحمل عليها واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه ، فكأنّه عند ذلك آيس من نفسه فدمعت عيناه.

ثمّ قال هذا أول الغدر ، فقال له محمّد بن الأشعث أرجوا أن لا يكون عليك باس ، فقال ما هو الّا الرجاء أين أمانكم إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، وبكى ، فقال له عبيد الله بن العبّاس السلمى : إنّ الذي يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الّذي نزل بك لم يبك ، فقال والله إنّى ما لنفسى بكيت ولا لها من القتل ارثى ، وإن كنت لم أخبّ لها طرفة عين ، ولكنّى أبكى لأهلى المقبلين الىّ أبكى للحسين وآل الحسين صلوات الله عليهم.

ثمّ أقبل بابن عقيل الى باب القصر ، فاستأذن ، فاذن له فدخل على عبيد الله فاخبره خبر ابن عقيل وذكر ما كان من أمانه له ، فقال له عبيد الله وما أنت والأمان كانّنا أرسلناك لتؤمنه إنّما أرسلناك لتأتينا به ، فسكت ابن الاشعث ، وانتهى ابن عقيل إلى باب القصر وقد اشتدّ به العطش ، فقال : اسقونى من هذا الماء وتساند الى حائط وبعث عمرو بن حريث غلاما له فجاءه بقلّة عليها منديل وقدح فصبّ فيه ماء ، فقال له اشرب فأخذ كلّما شرب امتلاء القدح دما من فمه فلا يقدر أن يشرب ففعل ذلك مرّة أو مرّتين فلمّا ذهب فى الثالثة ليشربه سقطت ثنيتاه فى القدح.

فقال : الحمد لله لو كان لى من الرزق المقسوم ، شربته ، وخرج رسول ابن زياد وأمر بادخاله ، فلمّا دخل لم يسلّم عليه بالامرة ، فقال له الحرس ألّا تسلم على الأمير فقال : إن كان يريد قتلى فما سلامى عليه وان كان لا يريد قتلى ليكثر سلامى عليه ، فقال له ابن زياد : لعمرى لتقتلنّ قال : كذلك ، قال نعم قال : دعنى أوصى الى

٣٤٤

بعض قومى ، قال افعل ، فنظر الى جلساء ابن زياد فيهم عمر بن سعد بن أبى وقّاص فقال يا عمر بينى وبينك قرابة ولى إليك حاجة ، وقد يجب عليك انجح حاجتى وهو سرّ فامتنع عمر أن يسمع منه.

فقال له عبيد الله لم تمنع أن تنظر فى حاجة ابن عمّك ، قال فجلس حتّى ينظر إليهما ابن زياد ، فقال : انّ علىّ دينا استدنته مذ وقت قدمت الكوفة سبعمائة درهم ، فاقضها عنّى وإذا قتلت فاستوهب جثمى من ابن زياد فوارها وابعث الى الحسين من يردّه فانّى قد كنت أعلمته أنّ الناس ليسوا الّا معه ولا أراه الّا مقبلا فقال عمر لابن زياد : أتدري أيّها الامير ما قال انّه ذكر كذا وكذا فقال ابن زياد لا يخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن.

أمّا مالك فهو لك ، ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت وأمّا جثّته فانا لا نبالى اذا قتلناه ما صنع بها وأمّا الحسين فهو ان لم يردنا لم نرده ، اصعدوا به فوق القصر : واضربوا عنقه ، ثمّ اتبعوا جسده اين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف فدعى بكر بن حمران ، فقال له اصعد فلتكن أنت الذي تضرب عنقه ، فصعد به وهو يكبّر ويستغفر الله ويصلّى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويقول : اللهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وخذلونا فاشرفوا به على موضع الخراس اليوم فضربت عنقه واتبع جسده رأسه (١)

٤ ـ قال ابن شهرآشوب : فكتب يزيد على يدى مسلم بن عمرو الباهلى إلى عبيد الله بن زياد ، وهو والى البصرة ، وولّاه الكوفة مع البصرة وأن يطلب مسلم ابن عقيل ، فيقتله أو ينفيه فالعجل العجل ، فلمّا وصل المنشور الى ابن زياد قصد إلى الكوفة ودخلها بغتة فى اللّيل وهو متلثم فزعم من رآه أنّه الحسين فكانوا يقولون

__________________

(١) روضة الواعظين : ١٤٨ ـ ١٥٢.

٣٤٥

مرحبا بابن رسول الله قدمت خير مقدم ، حتّى نزل دار الامارة فانتقل مسلم من دار سالم الى دار هانى بن عروة فى الليل ودخل أمانه وكان يبايعه الناس حتّى بايعه خمسة وعشرون ألف رجل فعزم على الخروج.

فقال هانى لا تعجل ثمّ انّ عبيد الله أعطى مولاه ، معقل ثلاث آلاف درهم ، وقال له : اذهب حتّى تسأل عن الرجل الّذي يبايعه أهل الكوفة ، فأعلمه أنّك رجل من أهل حمص ، جئت لهذا الامر وهذا مال تدفعه لتتقوى به ، فلم يزل يتلطّف ويسترشد حتّى دلّ على مسلم بن عوسجة الأسدي ، وكان الّذي يأخذ البيعة ، فادخله على مسلم ، وقبض منه المال ، وبايعه ، ورجع معقل الى عبيد الله فأخبره وكان شريك بن الأعور الهمدانيّ جاء من البصرة مع عبيد الله بن زياد فمرض فنزل دار هانى بن عروة أيّاما.

ثمّ قال لمسلم : انّ عبيد الله يعودنى وانّى مطاولة الحديث فاخرج إليه بسيفك فاقتله وعلامتك أقول اسقونى ماء ونهاه هانى عن ذلك ، فلمّا دخل عبيد الله على شريك وسأله عن وجعه وطال سؤاله ورأى أنّ أحدا لا يخرج فخشى أن يفوته فاخذ يقول :

ما الانتظار لسلمى أن يحييها

كاس المنيّة بالتعجيل اسقوها

فتوهم ابن زياد وخرج فلمّا دخل القصر أتاه مالك بن يربوع التميمى بكتاب أخذه من يدى عبد الله بن يقطر فاذا فيه للحسين بن على أمّا بعد فانّى أخبرك انّه قد بايعك من أهل الكوفة كذا فاذا أتاك كتابى هذا فالعجل العجل فان النّاس معك وليس لهم فى يزيد رأى ولا هوى فأمر ابن زياد بقتله ، وقال لمحمّد بن الأشعث الكندى وعمرو بن الحجّاج الزبيدى ، وأسماء بن خارجة الفزارى احضروا هانى بن عروة ، فاحضروه باللّطف فالتقت ابن زياد الى شريح القاضى وتمثّل :

٣٤٦

اريد حياته ويريد قتلى

عذيرك من خليلك من مراد

فقال هانى ما هذا أيّها الأمير قال جئت بمسلم بن عقيل وادخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال فى دور حولك وظننت أنّ ذلك يخفى علىّ فأنكرهانى ابن عروة ذلك ، فقال : علىّ بمعقل فلمّا جيء به قال أتعرفه قال هانى ما دعوت مسلما وإنمّا جاءني بالجوار ، فاذ قد عرفت أخرجه من جوارى ، قال لا والله لا مناص لك منّى إلّا بعد أن تسلمه الىّ قال لا يكون ذلك أبدا.

فكلّمه مسلم بن عمرو الباهلى فى ذلك ، قال ليس عليك فى دفعه عار إنمّا تدفعه الى السلطان فقال هانى : بلى والله علىّ أعظم العار أن أسلم جارى وضيفى ورسول ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا حىّ صحيح الساعدين ، كثير الأعوان ، والله لو لم أكن الّا واحدا لما سلّمته أبدا ، حتّى أموت من دونه ، فقال ابن زياد إن لم تحضره لأضربنّ عنقك ، وضرب قضيبا على أنفه وجبهته ، حتّى هشمه وأمر بحبسه وبلغ ذلك مذحجا ، فاقبلت الى القصر.

فأمر ابن زياد شريحا القاضى أن يخرج إليهم ويعلمهم أنّه حىّ سالم فخرج إليهم وصرفهم ، ووصل الخبر مسلم بن عقيل فى أربعة آلاف كانوا حواليه ، فاجتمع إليه ثمانية آلاف ممّن بايعوه فتحرز عبيد إله وغلق الأبواب وسار مسلم حتّى أحاط بالقصر ، فبعث عبيد الله كثير بن شهاب الحارثى ، ومحمّد بن الاشعث الكندى من باب الروميّين براية الامان لمن جاءها من الناس ، فرجع الرؤساء إليها فدخلوا القصر ، فقال لهم عبيد إله اشرفوا على الناس فمنوا أهل الطاعة وخوّفوا أهل المعصية.

فما زال الناس يتفرّقون أمسى مسلم وما معه الّا ثلاثون نفسا ، فلمّا صلّى المغرب ما رأى أحدا فبقى فى أزقّة كندة متحيّرا فمشى حتّى أتى الى باب امرأة يقال لها طوعة كانت أمّ ولد محمّد بن الاشعث ، فزوّجها أسيد الحضرمى ، فولدت له بلالا

٣٤٧

وكان بلال خرج مع النّاس وأمة قائمة تنتظره ، فقال لها مسلم يا أمة الله اسقينى فسقته ، وجلس ، فقالت له يا عبد الله اذهب الى أهلك فسكت ثمّ عادت فسكت فقالت : سبحان الله قم الى أهلك.

فقال ما لي فى المصر منزل ، ولا عشيرة قالت فلعلّك مسلم بن عقيل ، فآوته فلمّا دخل بلال على امّه ، وقف على الحال ، ونام فلمّا أصبح اذا مناد من دلّ على مسلم فله ديته ، وبرئت الذمّة من رجل وجدناه فى داره ، فجاء بلال الى عبد الرحمن ابن محمّد بن الاشعث ، فأخبره بمكان مسلم بن عقيل ، عنده ، فأقبل عبد الرحمن ودنا من أبيه وسارّه ، فقال ابن زياد ما يقول ابنك فقال يقول ابن عقيل فى دار من دورنا ، فانفذ عبيد الله عمرو بن الحريث المخزومى ومحمّد بن الأشعث فى سبعين رجلا أطافوا بالدار فحمل مسلم عليهم وهو يقول :

هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع

فانت بكأس الموت لا شك طارع

فصبر لأمر الله جل جلاله

فحكم قضا والله فى الخلق ذايع

فقتل منهم أحدا وأربعين رجلا ، فانفذ ابن زياد اللّائمة الى ابن الاشعث فقال : أيّها الأمير انّك بعثتنى الى أسد ضرغام ، وسيف حسّام ، فى كف بطل همام من آل خير الأنام ، قال ويحك ابن عقيل لك الامان وهو يقول لا حاجة لى فى أمان الفجرة وهو يرتجز :

أقسمت لا أقتل إلّا حرّا

ولو وجدت الموت كاسا مرّا

أكره أن أخدع أو أغرّا

كلّ أمر يوما يلاقى شرّا

أضربكم ولا أخاف ضرّا

ضرب غلام قطّ لم يفرّا

فضربوه بالسهام والأحجار حتّى عيى واستند حائطا فقال ما لكم ترمونى بالأحجار كما ترمى الكفّار وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار ألا ترعون حقّ رسول الله فى ذرّيّته ، فقال ابن الأشعث لا تقتل نفسك ، وأنت فى ذمّتى قال :

٣٤٨

أؤسر وبي طاقة ، لا والله لا يكون ذلك أبدا وحمل عليه فهرب منه فقال مسلم : اللهمّ انّ العطش قد بلغ منّى فحملوا عليه من كلّ جانب فضربه بكر بن حمران الأحمرى على شفته العليا ، وضربه مسلم فى جوفه فقتله ، وطعن من خلفه فسقط من فرسه فأسر.

فقال مسلم اسقونى شربة من ماء فأتاه غلام عمرو بن حريث بشربة زجاج وكانت تملىء دما وسقط ثنيته ، فأتى به الى ابن زياد فتجاوبا وكان ابن زياد يسبّ حسينا وعليا عليهما‌السلام ، فقال مسلم فاقض ما أنت قاض يا عدوّ الله فقال ابن زياد اصعدوا به فوق القصر واضربوا عنقه وكان مسلم يدعو الله ويقول :

اللهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا فقتله وهو على موضع الحذائين ، ثمّ أمر بقتل هانى بن عروة فى محلّة يباع فيها الغنم ثمّ أمر بصلبهما منكوسا وأنشد أسدى :

فان كنت ما تدرين ما الموت فانظرى

الى هانى بالسوق وابن عقيل

وانفذ رأسهما الى يزيد فى صحبة هانى بن حيوة الوادعى فنصب الرأسين فى درب من دمشق (١).

٥ ـ قال ابن طاوس : فكتب يزيد إلى عبيد الله بن زياد ، وكان واليا على البصرة بأنّه قد ولّاه الكوفة وضمّها إليه وعرفه أمر مسلم بن عقيل ، وأمر الحسين عليه‌السلام ويشدد عليه فى تحصيل مسلم وقتله رضوان الله عليه فتأهّب عبيد الله للمسير الى الكوفة.

فلمّا أصبح استناب عليهم أخاه عثمان بن زياد ، وأسرع هو الى قصر الكوفة ، فلمّا قار بها نزل حتّى أمسى ثمّ دخلها ليلا فظنّ أهلها أنّه الحسين عليه‌السلام فباشروا

__________________

(١) المناقب : ٢ / ٢١٠ ـ ٢١٢.

٣٤٩

بقدومه ودنوا منه ، فلمّا عرفوا أنّه ابن زياد تفرقوا عنه ، قد دخل قصر الأمارة وبات فيه الى الغداة ، ثمّ خرج وصعد المنبر ، وخطبهم وتوعّدهم على معصية السلطان ووعدهم مع الطاعة بالاحسان ، فلمّا سمع مسلم بن عقيل بذلك خاف على نفسه من الاشتهار فخرج من دار المختار ، وقصد دار هانى بن عروة ، فآواه وكثر اختلاف الشيعة إليه وكان عبيد الله قد وضع المراصد عليه.

فلمّا علم أنّه فى دار هانى دعا محمّد بن الاشعث وأسماء بن خارجة ، وعمرو ابن الحجّاج ، وقال ما يمنع هانى بن عروة من اتياننا ، فقالوا ما ندرى وقد قيل إنّه يشتكى ، فقال قد بلغنى ذلك وبلغنى أنّه قد برأ وأنّه يجلس على باب داره ولو أعلم أنّه شاك لعدّته ، فالقوه ومروه أن لا يدع ما يجب عليه من حقّنا فانّى لا أحبّ أن يفسد عندى مثله ، من أشراف العرب ، فاتوه ووقفوا عليه عشية على بابه ، فقالوا ما يمنعك من لقاء الأمير فانّه قد ذكرك ، وقال لو أعلم انّه شاك لعدته.

فقال لهم الشكوى تمنعنى ، فقالوا له قد بلغه أنّك تجلس كلّ عشية على باب دارك ، وقد استبطاك ، والابطاء والجفاء لا يتحمله السلطان من مثلك لأنّك سيد فى قومك ، ونحن نقسم عليك ، إلّا ما ركبت معنا فدعا بثيابه فلبسها ، ثمّ دعا ببغلة فركبها حتى اذا دنا من القصر ، كأنّ نفسه أحست ببعض الذي كان ، فقال لحسان بن أسماء بن خارجة يا ابن أخى انّى والله لهذا الرجل الأمير لخائف فما ترى.

قال : والله يا عمّ ما أتخوّف عليك شيئا ولا تجعل على نفسك سبيلا ، ولم يكن حسان يعلم فى أىّ شيء بعث إليه عبيد الله فجاء هانى والقوم معه حتّى دخلوا جميعا على عبيد الله ، فلمّا رأى هانيا قال أتتك بخائن لك رجلاه ، ثمّ التفت الى شريح القاضى وكان جالسا عنده ، وأشار الى هانى وانشد بيت عمرو بن معدى كرب الزبيدى.

أريد حياته ويريد قتلى

عذيرك من خليلك من مراد

٣٥٠

فقال له هانى وما ذاك أيّها الأمير ، فقال ايه يا هانى ما هذه الامور التي تربص فى دورك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين ، جئت بمسلم بن عقيل ، وأدخلته فى دارك وجمعت له السلاح والرجال فى الدور حولك وظننت ان ذلك يخفى على ، فقال ما فعلت ، فقال ابن زياد بلى قد فعلت فقال ما فعلت أصلح الله الامير ، فقال ابن زياد : على بمعقل مولاى ، وكان معقل عينه على أخبارهم وقد عرف كثيرا من اسرارهم فجاء معقل حتّى وقف بين يديه.

فلمّا رآه هانى عرف أنّه كان عينا عليه فقال : أصلح الله الامير والله ما بعثت الى مسلم بن عقيل ولا دعوته ، ولكن جاءني مستجيرا فأجرته ، فاستحييت من ردّه ودخلنى من ذلك ذمام فضيفته ، فأمّا اذ قد علمت فخلّ سبيلى حتّى ارجع إليه وآمره بالخروج من دارى ، الى حيث شاء ، من الأرض لأخرج بذلك من ذمامه وجواره ، فقال له ابن زياد لا تفارقنى أبدا حتى تأتينى به ، فقال لا والله لا أجيئك بضيفى حتّى تقتله قال والله لتأتينّي به.

قال لا والله لا آتيك به ، فلمّا كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلى ، فقال أصلح الله الأمير خلنى وإيّاه حتّى اكلمه ، فقام فخلى به ناحية وهما بحيث يراهما ابن زياد ويسمع كلامهما اذا رفعا أصواتهما فقال له مسلم يا هانى أنشدك الله أن لا تقتل نفسك ، ولا تدخل البلاء على عشيرتك ، فو الله إنّى لأنفس بك عن القتل إنّ هذا الرجل ابن عمّ القوم وليسوا قاتليه ولا ضارئيه ، فادفعه إليه ، فانّه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة وإنمّا تدفعه الى السلطان.

فقال هانى : والله إنّ علىّ بذلك الخزى والعار أنا أدفع جارى وضيفى ورسول ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا صحيح الساعدين كثير الأعوان والله لو لم أكن الا واحد أليس لى ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه ، فأخذ يناشده وهو يقول والله لا ادفعه أبدا إليه ، فسمع ابن زياد ذلك ، فقال ابن زياد أدنوه منى فأدنى منه فقال

٣٥١

والله ليأتينى به أولا ضربن عنقك ، فقال هانى اذن والله تكثر البارقة حول دارك.

فقال ابن زياد وا لهفاه عليك أبا البارقة تخوفنى وهانى يظنّ أن عشيرته يسمعونه ثمّ قال أدنوه منّى فأدنى منه فاستعرض وجهه بالقضيب ، فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخدّه حتّى انكسر أنفه وسيل الدماء على ثيابه ، ونثر لحم خدّه وجبينه على لحيته ، فانكسر القضيب فضرب هانى بيده الى قائم سيف شرطى ، فجاذبه ذلك الرجل فصاح ابن زياد خذوه فجرّدوه حتّى القوه فى بيت من بيوت الدار واغلقوا عليه بابه.

فقال اجعلوا عليه حرسا ففعل ذلك به فقام اسماء بنت خارجة الى عبيد الله ابن زياد وقيل انّ القائم حسان بن اسماء ، فقال أرسل غدر ، سائر القوم أيّها الامير أمرتنا أن نجيئك بالرجل ، حتّى اذا جئناك به هشمت وجهه وسيلت دمائه على لحيته وزعمت انّك تقتله فغضب ابن زياد وقال وأنت هاهنا ، ثمّ أمر به فضرب حتّى ترك وقيد وحبس فى ناحية من القصر ، فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون الى نفسى أنعاك يا هانى.

قال الراوى بلغ ، عمرو بن الحجّاج أن هانيا قد قتل ، وكانت رويحة بنت عمر وهذا تحت هانى بن عروة ، فاقبل عمرو فى مذحج ، كافة حتّى أحاط بالقصر ، ونادى عمرو بن الحجّاج وهذه فرسان مذحج ووجوهها ، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة ، وقد بلغنا ان صاحبنا هانيا قد قتل فعلم عبيد الله باجتماعهم ، وكلامهم فأمر شريحا القاضى أن يدخل على هانى فيشاهده ويخبر قومه بسلامته من القتل ففعل ذلك وأخبرهم فرضوا بقوله وانصرفوا ، قال وبلغ الخبر الى مسلم بن عقيل فخرج بمن بايعه الى حرب عبيد الله بن زياد.

فتحصن منه بقصر دار الامارة واقتتل أصحابه وأصحاب مسلم وجعل عبيد الله والذين معه فى القصر يتشرّفون منه ويحذّرون ، أصحاب مسلم و

٣٥٢

يتوعّدونهم باجناد الشام ، فلم يزالوا كذلك حتّى جاء الليل فجعل أصحاب مسلم يتفرّقون عنه ، ويقول بعضهم لبعض ما نصنع بتعجيل الفتنة وينبغى أن نقعد فى منازلنا وندع هؤلاء القوم حتّى يصلح الله ذات بينهم فلم يبق معه سوى عشرة أنفس ، فدخل مسلم المسجد ليصلى المغرب فتفرق العشرة عنه.

فلمّا رأى ذلك خرج وحيدا فى دروب الكوفة حتّى وقف على باب امرأة يقال لها طوعة ، فطلب منها ماء فسقته ثمّ استجارها فأجارته فعلم به ولدها ، فوشى الخبر بطريقه إلى ابن زياد ، فاحضر محمّد بن الأشعث وضمّ إليه جماعة وأنفذه لاحضار مسلم ، فلمّا بلغوا دار المرأة وسمع مسلم وقع حوافر الخيل لبس درعه وركب فرسه وجعل يحارب أصحاب عبيد الله ، حتّى قتل منهم جماعة ، فنادى إليه محمّد ابن الأشعث وقال يا مسلم لك الأمان فقال مسلم : وأى أمان للغدرة الفجرة ، ثمّ أقبل يقاتلهم ويرتجز بأبيات حمران بن مالك الخثعمى يوم القرن :

أقسمت لا أقتل إلّا حرّا

وان شربت الموت شيئا نكرا

اكره أن أخدع أو أغرا

أو اخلط البارد سخنا مرّا

كلّ امرئ يوما يلاقى شرا

أضربكم ولا أخاف ضرّا

فنادوا إليه لا يكذب ولا يغرّ فلم يلتفت الى ذلك ، وتكاثروا عليه بعد أن اثخن بالجراح فطعنه رجل من خلفه فخرّ الى الارض ، فأخذ أسير فلمّا ادخل على عبيد الله لم يسلّم عليه ، فقال الحرس سلّم على الامير ، فقال له اسكت ويحك والله ما هو لى بامير ، فقال ابن زياد لا عليك سلمت أم لم تسلم فانك مقتول ، فقال له مسلم ان قتلتنى فلقد قتل من هو شر منك من هو خير منّى ، وبعد فانّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة ، وخبث السريرة ، ولوم الغلبة ، لاحد أولى بها منك.

فقال ابن زياد يا عاقّ يا شاقّ خرجت على امامك وشققت عصا المسلمين والقحت الفتنة ، فقال مسلم كذبت يا ابن زياد إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه

٣٥٣

يزيد ، وأمّا الفتنة ، فانّما ألحقها أنت وأبوك زياد بن عبيد ، عبد بنى علاج من ثقيف ، وأنا أرجو أن يرزقنى الله الشهادة على يدى شر بريته ، فقال له ابن زياد منّتك نفسك امر احال الله دونه ، وجعله لأهله فقال له مسلم ومن يا ابن مرجانة ، فقال أهله يزيد بن معاوية فقال مسلم الحمد لله رضينا بالله حكما بيننا وبينكم فقال له ابن زياد أتظنّ أنّ لك فى الأمر شيئا.

فقال له مسلم والله ما هو الظنّ ولكنّه اليقين ، فقال ابن زياد فأخبرنى يا مسلم بما ذا أتيت هذا البلد وأمرهم ملتئم فشتت أمرهم بينهم وفرقت كلمتهم ، فقال مسلم ما لهذا أتيت ولكنّكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف ، وتأمرتم على الناس بغير رضى منهم وحملتموهم على غير ما أمركم الله به وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهى عن المنكر ، وندعوهم الى حكم الكتاب والسنة ، وكنّا أهل ذلك فجعل ابن زياد يشتمه ويشتم عليا والحسن والحسين عليهم‌السلام.

فقال له مسلم : أنت وأبوك أحقّ بالشتيمة ، فاقض ما أنت قاض يا عدوّ الله فأمر ابن زياد بكير بن حمران أن يصعد به الى أعلى القصر فيقتله ، فصعد به وهو يسبّح لله تعالى ويستغفره ويصلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فضرب عنقه ونزل مذعورا ، فقال له ابن زياد ما شأنك فقال : أيّها الأمير رأيت ساعة قتله رجلا أسود سيئ الوجه حذائى عاضّا على إصبعه أو قال على شفته ففزعت منه فزعا لم أفزعه قطّ.

فقال ابن زياد لعنه الله لعلّك دهشت ، ثمّ أمر بهانى بن عروة ، فأخرج ليقتل فجعل يقول وا مذحجاه ، وأين منى مذحج ، وا عشيرتاه واين منى عشيرتى ، فقيل له مدّ عنقك فقال لهم : والله ما أنا بها سخىّ وما كنت لا عينكم على نفسى فضربه غلام لعبيد الله بن زياد ، يقال له رشيد ، فقتله وفى قتل مسلم وهانى يقول عبد الله بن زبير الأسدي ويقال انّها للفرزدق وقال بعضهم انها لسليمان الحنفى :

٣٥٤

فان كنت لا تدرين ما الموت فانظرى

الى هانى فى السوق وابن عقيل

إلى بطل قد هشّم السيف وجهه

وآخر يهوى من طمار قتيل

أصابهما فرخ البغى فأصبها

أحاديث من يسرى بكلّ سبيل

ترى جسدا قد غير الموت لونه

ونضح دم قد سال كلّ مسيل

فتى كان أحيى من فتاة حيية

وأقطع من ذى شفرتين صقيل

أيركب أسماء الهماليج آمنا

وقد طلبته مذحج بذحول

تطوف حفا فيه مراد وكلّهم

على رقبة من سائل ومسول

فان أنتم لم تثأروا بأخيكم

تكونوا بغايا أرغمت ببعول

قال الراوى وكتب عبيد الله بن زياد بخبر مسلم وهانى الى يزيد بن معاوية ، فاعاد الجواب إليه يشكره فيه على فعاله ، وسطوته ويعرفه أن قد بلغه توجه الحسين عليه‌السلام الى جهته ويأمره عند ذلك بالمؤاخذة والانتقام والحبس على الظنون والأوهام (١).

٦ ـ قال أبو حنيفة الدينورى : وقد كان الناس بالكوفة يتوقّعون الحسين بن على عليهما‌السلام ، وقدومه ، فكان لا يمرّ ابن زياد بجماعة إلّا ظنّوا أنّه الحسين فيقومون له ويدعون ويقولون : مرحبا بابن رسول الله قدمت خير مقدم ، فنظر ابن زياد من تباشير الحسين الى ماسائه ، وأقبل حتّى دخل المسجد الاعظم ونودى فى الناس ، فاجتمعوا وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

أنا لمطيعكم كالوالد الشّفيق ، ولمخالفكم كالسمّ النقيع ، فلا يبقين أحد منكم إلّا على نفسه ، ثمّ نزل ، فأتى القصر ، فنزله ، وارتحل النعمان بن بشير نحو وطنه بالشام ، وبلغ مسلم بن عقيل قدوم عبيد الله بن زياد وانصراف النعمان ، وما كان من خطبة

__________________

(١) اللهوف : ١٩ ـ ٢٦.

٣٥٥

ابن زياد ووعيده ، فخاف على نفسه.

فخرج من الدار الّتي كان فيها بعد عتمة حتّى أتى دار هانى بن ورقة المذحجى ، وكان من أشراف أهل الكوفة ، فدخل داره الخارجة ، فأرسل إليه وكان فى دار نسائه ، يسأله الخروج إليه ، فخرج إليه. وقام مسلم ، فسلّم عليه ، وقال : انّى أتيتك لتجيرنى وتضيفنى. فقال له هانئ : لقد كلّفتنى شططا بهذا الامر ، ولو لا دخولك منزلى لا حببت أن تنصرف عنّى ، غير أنّه قد لزمنى ذمام لذلك. فادخله دار نسائه ، وأفرد له ناحية منها. وجعلت الشيعة تختلف إليه فى دار هانى.

كان هانى بن عروة مواصلا لشريك بن الاعور البصرى الذي قام مع ابن زياد ، وكان ذا شرف بالبصرة وخطر ، فانطلق هانى ، إليه حتّى أتى به منزله ، وأنزله مع مسلم بن عقيل فى الحجرة الّتي كان فيها ، وكان شريك من كبار الشيعة بالبصرة ، فكان يحثّ هانئا على القيام بأمر مسلم ، وجعل مسلم يبايع من أتاه من أهل الكوفة ، ويأخذ عليهم العهود والمواثيق المؤكّدة بالوفاء ، ومرض شريك بن الاعور فى منزل هانى بن عروة مرضا شديدا

بلغ ذلك عبيد الله بن زياد ، فأرسل إليه يعلمه أنّه يأتيه عائدا ، فقال شريك لمسلم بن عقيل : إنّما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغية ، وقد أمكنك الله منه ، هو صار الىّ ليعودنى ، فقم ، فادخل الخزانة حتّى اذا اطمأنّ عندى ، فاخرج إليه ، فقاتله ، ثم صر الى قصر الامارة ، فاجلس فيه ، فانّه لا ينازعك فيه أحد من الناس ، وإن رزقنى الله العافية صرت الى البصرة ، فكفيتك أمرها ، وبايع لك أهلها.

فقال هانى بن عروة : ما أحبّ أن يقتل فى دارى ابن زياد. فقال له شريك : ولم؟ فو الله إنّ قتله لقربان الى الله ، ثمّ قال شريك لمسلم : لا تقصر فى ذلك فبينما هم على ذلك إذ قيل لهم : الأمير بالباب ، فدخل مسلم بن عقيل الخزانة ، ودخل عبيد

٣٥٦

الله بن زياد على شريك ، فسلّم عليه ، وقال : ما الّذي تجد وتشكو؟ فلمّا طال سؤاله إيّاه استبطأ شريك خروج مسلم ، وجعل يقول ، ويسمع مسلما :

ما تنظرون بسلمى عند فرصتها

فقد وفى ودّها ، واستوسق الصّرم

جعل يردّد ذلك : فقال ابن زياد لهانى : أيهجر؟ ـ يعنى يهذى ـ قال هانى : نعم ، أصلح الله الأمير ، لم يزل هكذا منذ أصبح ، ثمّ قام عبيد الله وخرج ، فخرج مسلم بن عقيل من الخزانة ، فقال شريك : ما الذي منعك منه الا الجبن والفشل؟ قال مسلم : منعنى منه خلّتان : إحداهما كراهية هانئ لقتله فى منزله ، والاخرى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الايمان قيد الفتك ، لا يفتك مؤمن فقال شريك : أما والله لو قتلته لاستقام لك أمرك ، واستوسق لك سلطانك.

لم يعش شريك بعد ذلك الّا أيّاما ، حتّى توفّى ، وشيّع ابن زياد جنازته ، وتقدّم فصلّى عليه ، ولم ينزل مسلم بن عقيل يأخذ البيعة من أهل الكوفة حتّى بايعه منهم ثمانية عشر ألف رجل فى ستر ورفق ، وخفى على عبيد الله بن زياد موضع مسلم بن عقيل ، فقال لمولى له من أهل الشام يسمى معقلا ، وناوله ثلاثة آلاف درهم فى كيس ، وقال : خذ هذا المال ، وانطلق ، فالتمس مسلم بن عقيل ، وتأتّ له بغاية التأتّى.

فانطلق الرجل حتّى دخل المسجد الأعظم ، وجعل لا يدرى كيف يتأتّى الأمر ، ثمّ انّه نظر إلى رجل يكثر الصلاة الى سارية من سوارى المسجد ، فقال فى نفسه : ان هؤلاء الشيعة يكثرون الصلاة ، وأحسب هذه منهم ، فجلس الرجل حتّى إذا انتقل من صلاته قام ، فدنا منه ، وجلس ، فقال ، جعلت فداك ، إنّى رجل من أهل الشام مولى لذى الكلاع ، وقد أنعم الله على بحبّ أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحبّ من أحبّهم ، ومعى هذه الثلاثة آلاف درهم.

أحبّ ايصالها الى رجل منهم ، بلغنى أنّه قدم هذا المصر داعية للحسين بن

٣٥٧

على عليهما‌السلام ، فهل تدلّنى عليه لأوصل هذا المال إليه؟ ليستعين به على بعض أموره ، ويضعه حيث أحبّ من شيعته. قال له الرجل : وكيف قصدتنى بالسؤال عن ذلك دون غيرى ممّن هو فى المسجد؟

قال : لانّى رأيت عليك سيما الخير ، فرجوت أن تكون ممّن يتولّى أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

قال له الرجل : ويحك ، قد وقعت علىّ بعينك ، أنا رجل من اخوانك ، واسمى مسلم بن عوسجة ، وقد سررت بك ، وساءنى ما كان من حسّى قبلك ، فانّى رجل من شيعة أهل هذا البيت ، خوفا من هذا الطاغية ابن زياد ، فأعطنى ذمّة الله وعهده أن تكتم هذا عن جميع الناس. فأعطاه من ذلك ما أراد ، فقال له مسلم بن عوسجة : انصرف يومك هذا ، فان كان غد فائتنى فى منزلى حتّى انطلق معك الى صاحبنا ـ يعنى مسلم بن عقيل ـ فأوصلك إليه.

فمضى الشامىّ ، فبات ليلة ، فلمّا أصبح غدا الى مسلم بن عوسجة فى منزله ، فانطلق به حتّى أدخله الى مسلم بن عقيل فأخبره بأمره ، ودفع إليه الشامىّ ذلك المال ، وبايعه. فكان الشامىّ يغدوا الى مسلم بن عقيل ، فلا يحجب عنه ، فيكون نهاره كلّه عنده ، فيتعرّف جميع أخبارهم ، فاذا أمسى وأظلم عليه اللّيل ، دخل على عبيد الله بن زياد ، فأخبره بجميع قصصهم ، وما قالوا وفعلوا فى ذلك ، وأعلمه نزول مسلم فى دار هانى بن عروة.

ثمّ إنّ محمّد بن الاشعث وأسماء ، بن خارجة دخلا على ابن زياد مسلّمين ، فقال لهما : ما فعل هانى بن عروة؟ فقالا أيّها الامير ، إنّه عليل منذ أيّام ، فقال ابن زياد وكيف؟ وقد بلغنى أنّه يجلس على باب داره عامّة نهاره ، فما يمنعه من اتياننا ، وما يجب عليه من حق التسليم؟ قالا سنعلمه ذلك ، ونخبره باستطاعك فخرجا من عنده ، وأقبلا حتّى دخلا على هانى بن عروة.

٣٥٨

فأخبراه بما قال لهما ابن زياد ، وما قالا له ، ثمّ قالا له : أقسمنا عليك الا قمت معنا إليه الساعة لتسلّ سخيمة قلبه. فدعا ببغلته ، فركبها ، ومضى معهما ، حتّى اذا دنا من قصر الامارة خبثت نفسه ، فقال لهما : انّ قلبى قد أوجس من هذا الرجل خيفة قالا : ولم تحدّث نفسك بالخوف وأنت برىء الساحة فمضى معهما حتّى دخلوا على ابن زياد ، فأنشأ ابن زياد يقول متمثّلا :

أريد حياتى ويريد قتلى

عذيرك من خليلك من مراد

قال هانى : وما ذاك أيّها الامير؟ قال ابن زياد : وما يكون أعظم من مجيئك بمسلم بن عقيل ، وإدخالك إيّاه منزلك ، وجمعك له الرجال ليبايعوه؟ فقال هانى : ما فعلت وما أعرف من هذا شيئا فدعا ابن زياد بالشامى وقال : يا غلام ادع لى معقلا فدخل عليهم.

فقال ابن زياد لهانى بن عروة : أتعرف هذا؟ فلمّا رآه علم أنّه إنمّا كان عينا عليهم ، فقال هانى : أصدّقك والله أيّها الامير انّى والله ما دعوت مسلم بن عقيل ، وما شعرت به ، ثمّ قصّ عليه قصّته على وجهها ، ثمّ قال : فأمّا الآن فأنا مخرجه من دارى ، لينطلق حيث يشاء ، وأعطيك عهدا وثيقا أن أرجع إليك ، قال ابن زياد : لا والله لا تفارقنى حتّى تأتينى به ، فقال هانى : أو يجمل بى أن أسلّم ضيفى وجارى للقتل؟ والله لا أفعل ذلك أبدا.

فاعترضه ابن زياد بالخيزرانة فضرب وجهه وهشم أنفه وكسر حاجبه ، وأمر به فأدخل بيتا. وبلغ مذحجا أن ابن زياد قد قتل هانئا فاجتمعوا بباب القصر ، وصاحوا ، فقال ابن زياد لشريح القاضى ـ وكان عنده ـ ادخل الى صاحبهم ، فانظر إليه ثمّ اخرج إليهم ، فأعلمهم أنّه حىّ. ففعل ، فقال لهم سيّدهم عمرو بن الحجاج : أما اذا كان صاحبكم حيّا فما يعجلكم الفتنة؟ انصرفوا. فانصرفوا.

فلمّا علم ابن زياد أنّهم قد انصرفوا أمر بهانىء فأتى به السوق فضربت عنقه

٣٥٩

هناك. ولمّا بلغ مسلم بن عقيل قتل هانى بن عروة نادى فيمن كان بايعه فاجتمعوا فعقد لعبد الرحمن بن كريز الكندى ، على كندة وربيعة وعقد لمسلم بن عوسجة على مذحج وأسد ، وعقد لأبى ثمامة الصيداوى على تميم ، وهمدان ، وعقد للعبّاس بن جعدة بن هبيرة على قريش ، والانصار فتقدّموا جميعا حتّى أحاطوا بالقصر واتّبعهم هو فى بقيّة الناس.

تحصن عبيد الله بن زياد فى القصر مع من حضر مجلسه فى ذلك اليوم من أشراف أهل الكوفة؟ والاعوان والشرط ، وكانوا مقدار مائتى رجل ، فقاموا على سور القصر يرمون القوم بالمدر ، والنشاب ويمنعونهم من الدنوّ من القصر فلم يزالوا بذلك حتّى أمسوا.

قال عبيد الله بن زياد لمن كان عنده من أشراف أهل الكوفة : ليشرف كلّ رجل منكم فى ناحية من السور فخوفوا القوم. فأشرف كثير بن شهاب ومحمّد بن الاشعث والقعقاع بن شور وشبث ابن ربعى وحجّار بن أبجر وشمر بن ذى الجوشن فتنادوا : يا أهل الكوفة اتّقوا الله ولا تستعجلوا الفتنة ولا تشقوا عصا هذه الامة ولا توردوا على أنفسكم خيول الشام فقد ذقتموهم وجرّبتم شوكتهم فلمّا سمع أصحاب مسلم مقالتهم فتروا ببعض الفتور.

كان الرجل من أهل الكوفة يأتى ابنه وأخاه ، وابن عمّه ، فيقول : انصرف فانّ الناس يكفونك وتجيء المرأة الى ابنها وزوجها وأخيها فتتعلّق به حتّى يرجع فصلى مسلم العشاء فى المسجد وما معه الازهاء ثلاثين رجلا.

فلمّا رأى ذلك مضى منصرفا ماشيا ومشوا معه فأخذ نحو كندة ، فلمّا مضى قليلا التفت فلم ير منهم أحدا ولم يصب انسانا يدلّه على الطريق ، فمضى هائما على وجهه فى ظلمة اللّيل حتّى دخل على كندة فاذا امرأة قائمة على باب دارها تنتظر ابنها ـ وكانت ممّن خفّ مع مسلم ـ فآوته وأدخلته بيتها وجاء ابنها فقال : من هذا

٣٦٠