وليد الكعبة

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

وليد الكعبة

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-8163-92-8
الصفحات: ٤٩٥

فلمّا كان اليوم الثالث ـ وكان اليوم العاشر من ذي الحجّ ـ أذّن أبو طالب في الناس أذاناً جامعاً ، وقال : هلمّوا إلى وليمة ابني عليٍّ.

ونحر ثلاثمائة منالإبل ، وألف رأس من البقر والغنم ، واتخذ وليمةً ، وقال : «هلمّوا وطوفوا بالبيت سبعاً ، وادخلوا وسلّموا على عليّ ولدي».

ففعل الناس من ذل ، وجرت به السنّة (١).

ولابن شهر آشوب في (المناقب) رواية اُخرى لهذا الحديث :

عن يزيد بن قَعنب ، وجابر الأنصاري : أنّه كان راهبٌ يقال له : المثرم بن دعيب (٢) ، قد عبد الله مائة وتسعين سنة ، ولم يسأله حاجة ، فسأل ربّه أن يريه وليّاً له ، فبعث الله تعالى بأبي طالب إليه ، فسأله عن مكانه وقبيلته ، فلمّا أجابه وثب إليه وقبّل رأسه ، وقال : الحمد لله الذي لم يُمتني حتى أراني وليّه.

ثم قال : أبشر يا هذا! إنّ الله ألهمني أنّ ولداً يخرج من صلبك هو ولي الله ، اسمه عليّ ، فإنّ أدركته فأقرأه منّي السلام.

فقال : ما برهانه؟

قال : ما تريد ظ

قال : طعام من الجنّة في وقتي هذا.

فدعا الراهب بذلك فما استتمّ دعاءه (٣) حتى اُوتي بطبق عليه من فاكهة الجنّة رطب وعنب ورمّان ، فتناول رمّانة ، فتحوّلت ماءً في صلبه ، فجامع فاطمة ، فحملت بعليّ ، وارتجّت الأرض ، وزلزلت بهم أياماً ، وعلّت قريش الأصنام

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ١٧٤.

(٢) مضى في النص الأوّل عن حديث جابر سَميته «المبرم زغيب».

(٣) في مصدر : كلامه.

٨١

إلى ذروة أبي قبيس (١) فجعل يرتجّ ارتجاجاً ، حتّى تدكدكت بهم صمّ الصخور ، وتناثرت وتساقطت الآلهة على وجوهها.

فصعد أبو طالب الجبل وقال : أيّها الناس ، إنّ الله قد أحدثَ في هذه الليلة حادثة ، وخلق فيها خُلقاً ، إن لم تطيعوه وتقرّوا وتشهدوا بإمامته لم يسكن ما بكم. فأقرّوا به.

فرفع يده ، وقال : إلهي وسيدي أسألك بالمحمديّة المحمودة ، وبالعلويّة العالية ، وبالفاطمية البيضاء ، غلّا تفضّلت على تهامة بالرأفة والرحمة.

فكانت العرب تدعو بها في شدائد ها في الجاهلية وهلي لا تعلمها.

فلمّا قربت ولادته أتت فاطمة إلى بيت الله وقالت :

ربّ إني مؤمنة بك ، وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم ، فبحقّ الذي بني هذا البيت ، وبحقّ المولود الذي في بطني لمّا يسَّرت عليّ ولادتي.

فانفتح البيت ، ودخلت فيه ، فإذا هي بحوّاء ، ومريم ، وآسية ، واُمّ موسى وغيرهنّ ، فصنعنَ مثل ما صنعن برسول الله صلّى الله عليهوآله وقت ولادته.

فلمّا وُلِدَ سَجَدَ على الأرض يقول : «أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله ، وأشهد أنّ علياً وصيّ محمد رسول الله ، بمحمّد يختم الله النبوّة ، وبي تتمّ الوصيّة وأنا أمير المؤمنين».

ثمّ سلّم على النساء ، وسأل عن أحوالهنّ ، واشرقت السماءُ بضيائها.

فخرج أبو طالب يقول : أبشروا ، فقد ظهر وليّ الله ، يختم به الوصيين ، وهو وصيّ نبيّ ربّ العالمين.

__________________

(١) أبو قبيس : هو اسم جبل مشرف على مكّة. معجم البلدان ١ : ٨٠.

٨٢

ثمّ أخذ علياً فسلّم عليٌ عليه ، فسأله عن النسوة ، فذكره له.

ثم قال : «فالحق بالمثرم ، وخبّره بما رأيت ، فإنه في كهف كذا من جبل لُكام» (١).

فخرج ، حتّى أتاه فوجدهُ ميّتاً جسداً ملفوفاً بمدرعة ، مسجّى ، فإذا هناك حيّتان ، فلمّا بصرتا به غابتا (٢) في الكهف.

فدخل أبو طالب ، فقال : السلام عليك يا وليّ الله ورحمة الله وبركاته.

فأحيا الله المثرم ، فقام يمسح وجهه ، ويقول : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أنّ محمداً عبده وروسله ، وأنّ علياً ولي الله والإمام بعد نبيّ الله.

فقال أبو طالب : أبشر ، فإنّ علياً قد طلع إلى الأرض.

فسأل عن ولادته فقصّ عليه القصّة ، فبكى المثرم ثمّ سجد شكراً ، ثمّ تمطّى فقال : غطّني بمدرعتي.

فغطّاه ، فإذا هو ميّت كما كان ، فأقام أبو طالب ثلاثاً ، وخرجت الحيّتان ، وقالتا : السلام عليك يا أبا طالب ، الحق بولي الله ، فإنّك أحقّ بصيانته وحفظه من غيرك.

فقال : مَن أنتما؟

قالتا : نحن عمله ، نذبّ عنه الأذى إلى ان تقوم الساعة ، فحينئذٍ يكون أحدنا سائقة ، والآخر قائدة إلى الجنّة.

فانصرف أبو طالب (٣).

__________________

(١) لكام : الجبل المشرف على أنطاكية وبلاد ابن ليوم والمصّيصة وطرسوس. معجم البلدان ٥ : ٢٢ ، وفي المصدر : إكام ز

(٢) في المدر : غربتا.

(٣) مناقب ابن شهر آشوب ٢ : ١٧٢.

٨٣

وحديث الراهب رواه ابن الفتّال في (روضة الوعظين) على وجهٍ هو أبسط من هذا (١).

ورواه غيره أيضاً (٢).

ولقد وجدت تفصيل هذه الجمل في بعض مؤلّفات أصحابنا رضوان الله عليهم المخصوص بذكر المولد العلويّ الشريف ، اقتطف منه ما يلي ، ففيه بعد ذكر تفاصيل من مقدّمات الولادة :

قالت فاطمة بنت أسد : لمّا تتابعت عليّ الشهور ، وقرب أوان خروج ولدي ، ما كنت أمرُّ بِحَجَرٍ ولا مَدَر ولا شَجَرٍ إلّا ويقول لي : «هنيئاً لك يا فاطمة بما خصّك الله من الفضل والكرامة بحملك بالإمام الكريم».

وكنت أسمع منه ، وهو يقول في بطني : «لا إله إلّا الله ، محمذد رسول الله ، به تختم النبوّة ، وبي تختم الولاية».

قال الرواي : فلمّا مضى منالليل ثلثه أتى فاطمة أمر الله ، وسمعت قائلاً يقول : يا فاطمة ، عليك بالبيت الحرام.

وخرجت فاطمة ، وأتت إلى البيت الحرام ، ووقفت بإزائه وقد أخذها الطلق ، فرمقت ، بطرفها إلى السماء ، وقالت :

يا ربّ ، إنّي مؤمنة بك ، وبكل كتاب أنزلته ، بكلّ رسول أرسلته ، وبكلّ ما جاء به عبدك ورسولك محمّد صلّى الله عليه وآله ، وإنّي مؤمنة بك وبجميع أنبيائك ورسلك ، ومصدّقة بكلامك وكلام جدّي إبراهيم الخليل عليه السّلام ، وقد بنى بيتك العتيق.

وأسألك بحقّ أنبيائك المرسلين وملائكتك المقرّبين ، وبحقّ هذا الجنين الذي في أحشائي ، الذي يؤنسني تسبيحه وتقديسه وتهليله وتكبيره ، وإنّي موقنة أنّه أحد أوليائك ، إلّا ما يسّرت عليّ ولادتي.

__________________

(١) روضة الواعظين : ٧٧ ـ ٨١.

(٢) الفضائل (لشاذان بن جبرئيل) : ٥٤ ، وجامع الأخبار : ١٥.

٨٤

فلمّا انتهى كلامها انشقّ البيت وتساقطت الأنوار ، وزجّها جبرئيل داخل الكعبة ، وغايت عن الأبصار ، وعادت الفتحة كما كانت أوّلاً بإذن الله تعالى.

قال أبو طالب : فأشفقنا عليها من ذلك ، وأردنا أن نفتح الباب لتصل إليها بعض نسائنا ، فلم نستطع أن نفتح الباب ، فعلمنا أنّ هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى.

قالت فاطمة : وجلستُ على الرّخامة الحمراء ساعة ، وإذا أنا قد وضعت ولدي عليّ بن أبي طالب ، ولم أجد وجعاً ، ولا ألماً.

فلمّا وضعته خرّ ساجداً لله ، ورفع يديه إلى السماء يتضرّع إلى ربّه ، فبينما أنا أنظر إليه إلى ابتهاله إلى ربّه وأنا متعجبة منه ، إذا أنا بخمس نساء كأنّهن الأقمار ، قد دخلنَ عليَّ ، وعليهنّ ثيابٌ من الحرير والإستبرق ، ويفوح طيبهنّ كالمسك الأذفر (١) ، فقلنّ لي : «السلام عليك يا بنت أسد» ثمّ جلسنَ بين يديَّ ومع إحداهنّ جُونة (٢) من فضّةٍ.

ثمّ التفت إليهنّ ولدي وسلّم عليهنّ وحيّاههنّ بأحسن التحيّات ، وقال : أشهد ألا إله إلّا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله ، به تُختم النبوّة ، وبي تختم الولاية.

فتعجّبت النسوة منه ، ثمّ أخذنه واحدةٌ واحدةٌ وقبّلنه ، ودار بينه وبينهنّ من السلام والتحيّة والكلام ما لا يعدو أن يكون كرامة أو شبه إرهاص.

وهنّ : حواء ومريم ، وهي صاحبة الجُونة ، فطيّبته بها من طيب الجنّة ، وآسية إمرأة فرعون بنت مزاحم ، وسارة زوجة إبراهيم صلّى الله عليه ، واُمّ موسى عليه السّلام.

__________________

(١) المسك الأذفر : أي طيب الريح. لسان العرب ـ ذفر ـ ٤ : ٣٠٦.

(٢) الجونة : بالضم ، ظرف للطيب. مجمع البحرين ـ جون ـ ٦ : ٢٣٠.

٨٥

وكشفنَ عن سرّته فإذا هي مقطوعة.

قالت فاطمة : ثمّ خرجت النسوة عنّي ، ثمّ دخل عليّ مشايخ خمسة ، فجعل ولدي يهشّ (١) ويضحك ، كأنّه ابن سنة ، ثمّ قالوا : السلام عليك يا وليّ الله وخليفة رسول الله.

فقال : «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته» ثمّ سلّم على واحدٍ واحدٍ منهم. وهم أنبياء الله : آدم ، ونوح ، وإبراهيم الخليل ، وموسى ، وعيسى.

فأخذوه وقبّلوه ، وأطروه واحداً ، ثمّ خرجوا ، ولم أعلم من أين خرجوا. قالت فاطمة : فبينما أنا كذلك إذ أنا بخفقان أجنحة الملائكة ، وإذا بسحابة بيضاء قد نزلت على ولدي وطارت به.

وسمعت قائلاً يقول : طُوفوا بعليّ بن أبي طالب بمشارق الأرض ومغاربها وبرّها وبحرها ، وجبالها وسمائها ، وأعطوه أحكام النبيّين ، وعلوم الوصيّين ، وجميع أخلاق النبيّين والمرسلين ، والأوصياء والصدّيقين ، وافعلوا به مثل ما فعلوا بأخيه سيّد الأوّلين والآخرين ، واعرضوه على جميع الأنبياء والمرسلين ، وعلى الملائكة المقرّبين ، وأهل السماوات والأرضين (٢) فإنّه ولي ربّ العالمين.

__________________

(١) هشَّ لهذا الأمر هشاشة : إذا فرح به واستبشر. النهاية ٥ : ٢٦٤.

(٢) إذا كانت المعلومات بأسرها حاضرة عند علّتها الفاعلية ، وإن كانت بعنوان ما به الوجود ، ولو بمرتبة هي أدنى من حضورها عندها بعنوان ما منه الوجود ، فهي كلّ حين مشاهدة لها ، ومن الأوّليات ثبوت ذلك بالمعنى الأوّل من العليّة لأمير المؤمنين عليه السّلام ، لوجوه من العقل والسمع لا يسع المقام سردها ، فالمراد عرض ولائه عليهم ، أو شخصيته البارزة بذلك الجثمان المقدس الذي عرفوه بالعلّية ووجوب الولاء منذ الأزل ، ومن الممكن أن يكون عرضه على أرواح أهل الأرضين لتقوم الفطرة الإلهية وتتميم الاستعداد التام ليحيى من حيّ عن بينّو ويهلك من هلك عن بينة.

أو على الأولياء والصديقين منهم ممّن لهم الأهميّة في تنظيم المجتمع الديني من الأبدال والأوتاد. (هامش مطبوع).

٨٦

قالت فاطمة : وكان بين غيبته ورجوعه أقلّ من نصف ساعة ، فجعلت أنظر إليه ، وإذا بسحابة أُخرى قد نزلت عليه ، وطارت به كالمرّة الأُولى.

وسمعت قائلاً يقول : طوفوا بعليّ بن أبي طالب على جميع ما خلق الله وأعطوه أحكام العلم والحلم ، والورع والزهد ، والتقى والسخاه ، وإلبهاء والضياء ، والتواضع والخشوع ، والرقّة والهيبة ، والمروة والكرم ، والمودّة والشفاعة ، والشجاعة والصيانة ، والديانة والقناعة ، والفصاحة والعفاف ، والإنصاف والعرف ، وجميع أخلاق النبييّن.

قالت فاطمة : فبينما أنا حائرةٌ وإذا بولدي بين يديّ.

ثمّ أنّهم لفوّة في حريرة بيضاء من حرير الجنّة ، وقالوا : احفظيه عن أعين الناظرين ، فإنّه ولي ربّ العالمين ، واعلمي أنّه لا يدخل الجنّة إلّا من تولّاه وصدّق بإمامته وولايته ، فطوبى لمن تبعه ، وويلٌ لمن حاد عنه ، فمَثلُه كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق وهوى.

ثمّ تكلموا في أُذنه بكلام لم أفهمه ، ثمّ قبّلوه وخرجوا ، ولم أعلم من أين خرجوا؟

قالت فاطمة : ثمّ بقيتُ في الكعبة ثلاثة أيام بلياليها ، آكل من ثمار الجنّة ، ثمّ إنّ الجدار انشقّ كأوّل مرّة ، وخرجتُ من البيت الحرام وولدي في حضني ، ووجهه كالقمر الزاهر ، وهو يهشّ ويضحك.

ثمّ إنّها أخبرت أبا طالب ورسول الله صلّى الله عليه وآله بما جرى عليها ، وما اختصّت به ، هي وولدها من الفضيلة الباهرة ، فتعجّب الناس.

فقالت فاطمة :

معاشِر الناس ، إنّ الله قد اختارني على المختارات ، وفضّلني على من مضى. وقد اختار آسية بنت مزاحم لأنّها عبدت الله في مكان لا يحبّ فيه العبادة إلّا اضطراراً.

٨٧

واختار مريم ابنة عمران ويسّر عليها ولادتها بعيسى ، ثمّ هزّت جذع النخلة في فلاة من الأرض ، فتساقط عليها رطباً جنيّاً.

واختارني الله وفضّلني على كلّ من مضى من نساء العالمين ، لأنّي وَلَدْتُ في بيت الله الحرام ، وبقيتُ فيه ثلاثة أيام بلياليها ، آكل من ثمار الجنّة ، فلمّا أردت الخروج من الكعبة هتف بي هاتف أسمع صوته ولا أدرى شخصه :

يا فاطمة سمّي ولدك عليّاً (١) فإنّ العليّ الأعلى أمرني أن أقول لك ذلك ؛ والله يقول : أنا المحمود وحبيبي محمّد ، وأنا العلي ووليّي عليّ ، وقد شققتُ اسمهما من اسمي ، وأدّبتهما بأدبي ، ووقفتهما على علمي ، وهما الصفوة من الأخيار ، وقد خلقتُ نورهما من نوري ، وعزّتي وجلالي ، إنّي شققتُ اسم وليّي من اسمي ، وولد في بيتي ، وهو أوّل من يؤمن بي يصدّق برسولي ، ويقدّسني ويهلّلني ويكبّرني ، وهو خليفة نبيّي ووزيره ووصيّه ، والقائم بالقسط من بعده ، وزوج ابنته وأبو سبطيه ، فجنّتي لمن يحبّه ، وناري لمن يبغضه يخافه ويجحد ولايته.

قال أبو طالب : فلمّا رأيته ورآني ، قال لي : «السلام عليك يا أبه ، ورحمة الله وبركاته».

فقلت : وعليك السلام يا بنيّ ورحمة الله وبركاته.

ثمّ إنّ أبا طالب قبّل ولده وضمّه إليه وناوله أُمّه ، فدخل عليها رسول الله صلّى الله عليه وآله وفرح فرحاً شديداً بالمولود ، وفرح المولود بمقدمه وقال : «السلام عليك يا رسول الله ، ورحمة الله وبركاته».

__________________

(١) لا منافاة بين هذه الرواية والاُخرى الدالّة على أنّ أبا طالب طلب اسمه عليه السّلام من الله سبحانه بقوله : يا ربّ الغسق الدجى ... وجوابه من قبله تعالى : خصصتما بالولد الزكي.

وسيأتي تفصيلها ـ إن شاء الله ـ لجواز اجتماع الأمرين : الهتاف بفاطمة ، وتحرّي أبي طالب لحق اليقين في أمر مولوده الذي علم أنّه من آيات ربّه الكبرى (من هامش المطبوع).

٨٨

وطَفِقَ يهشّ ويضحك كأنّه ابن سنة ، وقال : «خذني إليك».

فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وآله وقبّله ، وحمد الله به ، فناوله اُمّه.

ثمّ إنّه عليه السّلام تنحنحَ وأذّن ، وقرأ صحف آدم وشيث ونوح وإبراهيم والتوراة والإنجيل ، ثمّ قال :

«أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، (بسم الله الرحمن الرحيم * قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذٍينَ هٌمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُمِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِاَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (١)».

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : «قد أفلحوا بك يا عليّ ، أنت ـ والله ـ أميرهم ، ومن علمك يمتارون ، وأنت ـ والله ـ وليّهم وبك يهتدون ، وأنت ـ والله ـ وصيّي ، ووزيري ، وصنوي (٢) ، وناصر ديني ، وقاضي دَيْني ، وزوج ابنتي ، وأبو سبطيّ ، وخليفتي على أُمّتي ، فطوبى لمن اتّبعك ووالاك ، والويل لمن عصاك وعاداك ، فو الله ما يتولّاك إلّا السعيد ، ولا يبغضك إلّا الشقي العنيد».

وقال أبو طالب : يا فاطمة ، امضي إلى أعمامه وبشّريهم به.

قالت : فَمن يروّيه من بعدي؟

فأخذه النبيّ صلّى الله عليه وآله وقال : «أنا أُروّيه».

فوضع لسانه في فيه ، ولك يزل عليٌّ يمصّه حتّى انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً من العلم.

__________________

(١) سورة المؤمنون : ١ ـ ١١.

(٢) الصنو : المثل. مجمع البحرين ـ صنا ـ ١ : ٢٦٩.

٨٩

وجاء عمّه حمزة والعباس ، فأخذاه وأثنيا عليه.

ثمّ أرادت فاطمة أن تقمّطه بقماط من صوف ، فلمّا شدّته بَتَره فقمّطته بقماطين آخرين ، فبترهما.

ثمّ أخذت قماطين من ديابج واستبرق وأديم ، فَبترهما جميعاً.

فقال : «يا اُمّ ، لا تشدّي يدي اليمنى ، فإني أحتاج إلى مصافحة الملائكة ، واستحي أن تكون يدي مشدودة في القماط ، فإذا جاء الملائكة يصافحونني أقطعه وأصافحهم».

فسرَّ أبو طالب بذلك سروراً عظيماً ، وحمد الله تعالى عليه.

ومن غدٍ أقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى بيت عمّه أبي طالب ، فلمّا رآه أمير المؤمنين عليه السّلام هَشّ إليه وضحك سروراً به ، وأشار غلبه أن : خذني إليك واسقني مثل ما سقيتني بالأمس.

فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وآله وقبّله ، وأثنى عليه ، ثمّ وضع لسانه في فيه قمصّه حتّى اكتفى.

وعمل أبو طالب وليمةً عظيمةً نحر فيها ثلاثمائة من الإبل ، وألفاً من البقر ، وألفين من الغنم ، وأمر مناديه أن يُنادي في الناس عامة ، حتّى لم يبق منهم أحدٌ إلّا وحضرها ,

فقال أبو طالب : مَن أراد أن يأكل من وليمة ولدي فليطُف بالبيت سبعاً ، ثمّ امضوا إلى ما رزقكم الله وكلوا واشربوا حيث شئتم (١).

والحديث طويل انتخبنا منه بقدر الحاجة.

__________________

(١) علل الشرائع : ١٣٥ / ٣ ، ومعاني الأخبار : ٦٢ / ١٠ ، وأمالي الصدوق : ١١٤ / ٩ ، وأمالي الطوسي ٢ : ٣١٧. انظر مناقب ابن شهر آشوب ٢ : ١٧٢ ، وروضة الواعظين : ٧٧.

٩٠

ومجمل هذا الحديث نظمه العلّامة المتبحّر الشيخ محمد بن الحسن ، الحرُّ العاملي ، صاحب (الواسائل) وغيرها ، المتوفّى سنة (١١٠٤ ه) في اُرجوزةٍ له في تواريخ المعصومين عليهم السّلام ، قال :

مولدُهُ بمكّة قد عُرفا

في داخل الكعبة زيدتْ شرفا

وذاك في ثالث عشر من رجبْ

فقدرُه علا وحقّه وَجَب

وقيل : في السابع من شعبانا

مطلعَ ذاك البدر حينَ بانا

على رُخامةٍ هناك حمرا

معروفةٍ زادت بذاك قدرا

فيا لها مزيّةٌ عليّهْ

تخفضُ كلَّ رُتبةٍ عليّهْ

ما نالها قطُّ نبيُّ مرسلُ

ولا وصيُّ آخِرٌ وأوّلُ

أما سمعتَ قصّة ابن قَعْنَبِ

ينطقُ عن مقصودنا بالعجبِ

وإنّه محقّقٌ مشهورُ

يُثبته المدقّقُ النحريرُ

قال : جلستُ مع اُناسٍ شتّى

في المسجد الحرام يوماً حتّى

مرّت بنا فاطمةٌ بنتُ أسد

حاملةً بالمرتضى ذاك الأسد

فجاءها الطلقُ فطافت سبعا

ثمّ دَ‘َت أكرم ربّ يدعى

قالت : إلهي ، إنّني آمنتُ بك

حقّاً وصدّقتُ جيمع كتبك

وا على الخليل جدّي اُنزلا

وما به كلُّ رسولٍ أُرسلا

ثمّ دَعَـت خالقَها بما سنح

فسهّلَ اللهُ العسيرَ وانفتح

بابٌ لها تجاهَ باب الكعبهْ

وذاك مستجارُ أهل الرَهبهْ

ودخلت فيه فعادَ مثل ما

كانَ وما ذاك مشيد محكما

هذا وقُفلُ الباب لم يفتح لنا

من بعد جُهدٍ وعلاجٍ وعنا

فقلتُ : إنّ ذاك أمرُ اللهِ

فلم أكن بذكرهِ باللاهي

فمكثت ثلاثةً أيّاما

وخرجت وأعلنت كلاما

٩١

إنّيَ فُضلتُ على النساء

دخلتُ بيتَ رافعِ السماءِ

ثم أكلتُ من ثمار الجنّهْ

ورزقُها فهو عليّ جنّه

وعندما وضعتُه ورُمْتُ أنّ

أخرجَ نادى هاتفٌ لي بالعن

سمّي الذي وضعته عليّا

فلن يزالَ قدرُه عليّا

لد شققتُ اسماً له من اسمي

أطلعتُه على خفيِّ علمي

أدّبْتُهُ بأدبي إكراماً

وهو الذي يكسّر الأصناماً

في بيتي الشريف إذ يؤذّنُ

من فوقه وبالأذان يُعلنُ

طوبىٰ لمن أحبّه ووالى

ومن أطاعه يجاوى فضلا

ويلٌ لنم أبغضهُ مَن عصى

وذاك بعضُ ما به قد خُصّصا (١)

وحديث البلاطة الحمراء قد سب الإيعاز إليه في مبحث تواتر الحديث.

وذكر العالم الضليع ميرزا جبّار ابن المولى زين العابدين الشكوئي ، المتوفّى قبل سنة (١٣٣٠ ه) في كابه (مصباح الحرمين) في الفصل الثاني والثلاثين ، في وداع الكعبة أموراً.

منها : «الصلاة بين الاسطوانتين على الرّخامة الحمراء ، وهي على رواية بعض العلماء محلّ ولادة أمير المؤمنين عليه السّلام كما مرّ في فصل المستجار ...» (٢).

والفصل المشار إليه هو الفصل الثامن عشر (٣) ، وذكر فيه حديث يزيد بن قَعنَب ، فالإحالة في أصل ولادة البيت ، لا خُصوص حديث الرّخامة الذي أسند حديثه إلى بعض العلماء.

__________________

(١) منظومة في تواريخ المعصومين عليهم السّلام ، مخطوطة.

(٢) مصباح الحرمين : ١٩٤.

(٣) مصباح الحرمين : ١١٤ ـ ١١٥.

٩٢

وكان هذا الرجل من ثقات عصره المتورّعين ، والوالد (١) العلّامة قدس سرّه كان يمدحه ويثق به ، ويخبت بقوله وفعله ، ولم يزل موصوفاً بحسن السيرة وأداء حقّ وظيفته الروحية حتّى قضى نحبه سعيداً طيباً.

وقال الشيخ أحمد بن الحسن الحرّ ، نزيل مشهد الرضا عليه السّلام ، أخو صاحب الوسائل في (الدر المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء والملوك) في الفصل الرابع ، في ذكر أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام ، ما لفظه :

«أمّا اسمه فعليٌّ

كنيته : أبو الحسن.

لقبه : المرتضى.

ولادته : الكعبة في البيت ، على الحجر.

يوم ولادته : الجمعة.

شهر ولادته : ثلاث عشر برجب ، وقيل نصف شهر رمضان.

سنة ولادته : ثلاثون من عام الفيل.

ملك وقت ولادته : شهريار (٢).

اسم اُمّه : فاطمة بنت أسد» (٣).

__________________

(١) والد المؤلّف هو : الشيخ الميرزا أبو القاسم بن محمد تقي الأُردوبادي التبريزي الغرويّ (١٢٧٤ ـ ١٣٣٣ ه) هاجر إلى كربلاء ، والنجف والكاظمية ، وأخذ من أعلامها ، وأُجيز بالاجتهاد منهم ، كان عالماً فقيهاً ، تقياً ورعاً ، من مراجع التقليد ، وله مؤلّفات ، ترجمه صاحب الذريعة والأعيان. لاحظ : السبيل الجدد إلى حلقات السند لولده ، المطبوع في مجلة علوم الحديث ، العدد ٢ ، ص ١٩٤.

(٢) شهريار بن كسرى ابرويز بن هرمز ، وكان لكسرى ابرويز ثمانية عشر ولداً ، وكان أكبرهم شهريار ، وكانت شيرين قد تبنّته ، وكان هلاك ملك كسرى على يد يزدجرد ابن شهريار. الكامل في التاريخ ١ : ٤٩٣ و ٣ : ٢٨ و ١٢٣.

(٣) الدر المسلوك ، مخطوط.

٩٣

نبأ الولادة والمحدّثون :

لا نريد من المحدّثين السّذّج ، الذين لم يعرفوا إلّا أساطير في خلال الكتب ، أو قول بسيط مثل (حدّثني فلان) وهو لا يرى سعة العلم إلّا بالتوسّع في النقل ، فيحشد من ذلك صفوفاً ، ويسرد من وَرَطات القالة أُلوفاً ، من غير ما تفقّه في مغزي الحديث ، ولا تبصّرٍ في مؤدّاه ، ثمّ إذا طوى الدهر أيّامه تناقلت الرجل ، ومحاباة نظرائه من أرباب المعاجم ، بأنّه (حافظ ، روى مائة ألف أو تزيد) إلى غيرها من ألفاظ الثناء الباطل.

إنّما نقصدُ هاهنا أئمّة الحديث ، ومهرة فنّه النياقد ، الذين لا يروقهم رمي القول على عواهنه ، فلا يؤمنون بالمنقول إلّا بعد التفرّغ من أمر إسناده ، والتثبيت فيه ، والتروّي في متنه ، حذار مخالفته لمعقولٍ ، أو مصادمته لشيء من الاُصول.

فنريد من المدّث ذلك الحَبر الناقد الضليع في العلم ، الذي ضرب فراغاً ن أويقاته للتبصّر في هذا الفن ، والإحاطة به من أطرافه بما هو من أشرف العلوم وأهمّ الفرائض على العلماء الباحثين.

فهو محدّثٌ حينَ يقف على هذا الثغر ، كما أنّه فقيهٌ متى طَفِقَ يردّ الفرع على الأصل ، ومفسّرٌ حين يتحرّى مغازي آي الكتاب الكريم واكتشاف مخبّآتها ، وهو فنّي إذا عطف النظر على أيّ من العلوم.

إذا عرفتَ القصد من هذا العنوان ، فإنّك جدّ عليم بدخول كثيرٍ ممن ذكرناهم من رواة الحديث أو الناصّين بمفاده ، كعلم الهدى السيّد المرتضى ، وأخيه السيّد الرضيّ ، وشيخ الطائفة الطوسيّ ، وقبلهم رئيس المحدّثين الصدوق ، وبعدهم رشيد الدين ابن شهر آشوب ، وابن الفتّال الشهيد ، وآية الله العلّامة الحلّي ،

٩٤

وابن البطريق ، إلى غير هؤلاء من الكثيرين الأول ، ممن سلفت الإشارة إليهم ، وإلى اُناس آخرين من علماء أهل السنة كالحاكم وغيره ، كما سلف ذكرهم.

لكننا نذكر هنا أفذاذاً لم نذكرهم هنالك ، أو لخصوصية فيهم لم تذكر فيما مرّ ، وبهذا الفصل وغيره من فصول هذه الرسالة تعرف مقيل ما هَوِسَ به ابنُ أبي الحديد في «شرح النهج» في الحقيقة من أنّ حديث الولادة مزعمة كثيرٍ من الشيعة «والمحدّثون لا يعترفون بذلك ، ويزعمون أنّ المولود في البيت حكيم بن حزام» (١).

وقد مرّت بك كلمة الحاكم النيسابوري في الولادتين ، وهو أحد أئمّة المحدّثين ، وغيره من محدّثي أهل السنّة والشيعة ، وإلى الملتقى هاهنا.

ففي (المجموع الرائق) تأليف السيّد الأجل ، في اُخرياته ، عند ذكر (المائة منقبة) المخصوصة بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ، وذلك مما رواه الشيخ السعيد أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه ـ قدّس الله ارواحهم ـ ، يوم الغدير من سنة إحدى وستّين وثلاثمائة ، يرفعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ممّا خصّ الله به أمير المؤمنين علياً عليه السّلام :

[المنقبة الاُولى] : «أنّ الله تعالى خلقه من نور عظمته». إلى قوله :

[الثامنة] : «أنّه ولد في الكعبة».

[التاسعة] : «أنّه لمّا في الكعبة ظهر نوره من عِنان السماء إلى ظهر الكعبة ، وسقطت الأصنام التي كانت على الكعبة على وجوهها ، وصاح إبليس ، وقال : ويلٌ للأصنام وعبدتها مِن هذا المولود» (٢).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ : ١٤.

(٢) المجموع الرائق : ١٥٤ ، مخطوط.

٩٥

وقال العلّامة أبو الفتح محمّد بن عليّ بن عثمان الكراچكي الفقيه المحدّث المتكلّم الثقة ، المتوفّى سنة (٤٤٩ ه) من تلمذة شيخنا المفيد في (كنز الفوائد) بعد أن ذكر أحاديث في مقدّمة الولادة من خبر الكاهن ، ورؤيا فاطمة بنت أسد ، وتعبير الكاهن لها ما لفظه :

«وفي الحديث أنّها ـ يعني فاطمة بنت أسد ـ دخلت الكعبة على ما جرت به عادتها ، فصادفَ دخولها وقت ولادتها ، فولدت أمير المؤمنين عليه السّلام داخلها» (١)

والمتّبع من هذا الحديث ما هو الجامع بينه وبين أحاديث الباب وأقواله من أصل الولادة في البيت ، وأمّا كيفية الدخول فيها فالمعتمد عليه ما أسلفنا لك نبأه من أنّها كانت أمراً من أمر الله ، وعنايةً من عنده خاصّة بأمير المؤمنين عليه السّلام ، خارجةً عن مجاري الطبيعة ومقتضيات الصدف.

ولذلك انشقّ البيت لفاطمة ، ثمّ لمّا دخلته ارتابت الصدعةُ ولم ينفتح قُفل الباب بالرغم من جهدهم الأكيد في فتحه.

وأكلت هي من ثمار الجنّة في جوف البيت ، وكان أمر الولادة ما عرفت.

فخرجت من البيت متبجّحةً بما منحها الله سبحانه.

وهذا هو المناسب لما عرفته من إطباق كلمات العلماء والأئمة ، من أنّ ذلك فضيلةٌ اختصّ اللهُ بها أمير المؤمنين عليه السّلام.

وأيّ فضيلةٍ فر الوقوع صدفة ولا عن قصدٍ كما يقع كثيراً لأفراد من الناس والحيوان من الولادة في محالٍّ شريفةٍ على مجاري العادة ، ولا يعدّ شرفاً وفضيلة لهم ، كما لم تعدّ الولادة في البيت فضيلةٍ لحكيم بن حزام على تقدير صحّة الرواية.

__________________

كنز الفوائد ١ : ٢٥٥.

٩٦

فإنّ مَن أخبتَ بها لم يذكر فيها ما ذكره في ولادة أمير المؤمنين عليه السّلام من أنّها فضيلةٌ اختصّه الله بها ، ولا قال كقولهم فيه من أنّه لم يسبقه إلى مثلها أحدٌ ، ولا يلحقه فيها أحدٌ ، وما هو إلّا لما ذكرناه.

وفي كتاب (الأربعين) للشيخ أبي الفوارس ، أو أبي عبد الله محمد بن مسلم بن أبي الفوارس الرازيّ ، عن السيّد الأجلّ الأوحد جمال الدين عزّ الإسلام فخر العشيرة شرف الدين أبي محمد ، إبراهيم عليّ بن محمد العلوي الحسني (١) الموسوي بكازرون في التاسع عشر من شهر رجب ، عن الشيخ العارف ، شهريار بن تاج الدين الفارسيّ ، عن القاضي أبي القاسم ، أحمد بن ظاهر النوري (٢) ، عن أبي التحف (٣) عليّ بن إبراهيم المصريّ ، عن الأشعث بن محمد بن مرّة ، عن المثنّى بن سعيد بن الأصيل البغداديّ العطّار ، عن عبد المنعم بن الطيّب القدوري ، عن العلاء بن وَهب ، عن الوزير محمّد بن ساليق ، عن أبي جرير ، عن أبي الفتح المغازليّ ، عن أبي جعفر ميثم التمّار رضيّ الله عنه (٤) ، قال :

كنت بين يدي مولاي أمير المؤمنين عليه السّلام بالكوفة وجماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله حافّون به ، كأنّهم الكواكب اللامعة في السماء الصاحية ، إذ دخل

__________________

(١) في اليقين : الحسيني.

(٢) في اليقين : أبو القاسم أحمد بن طاهر السوري.

(٣) في اليقين : أبو النجيب ، والظاهر صحّة ما في الأصل ، كما في رياض العلماء ٢ : ١٢٣ ـ ١٢٩ ، حيث قال في ترجمة الحسن بن عبد الوهاب أنّه يروي عن أبي التحف عليّ بن محمّد بن إبراهيم بن الحسن الطيب المصري الذي هو من مشايخ المرتضى والرضي ، وهو يروي عن جماعة كالأشعث بن مرّة وغيره.

(٤) السند لا يخلو من اضطراب ولكن تركناه على علّاته مع الإشارة إليه ، لعدم تعرض الكتب الرجالية المتوفرة لدينا إليه.

٩٧

علينا من الباب رجلٌ طويلٌ ، عليه قَباءُ خزّ أدكن ، معتمٌ بعمامة أنجمية صفراء ، متلقّد بسيفين ، فنزلَ من غير سلام ، ولم ينطق بكلام ، فتطاول إليه الناسُ بالأعناق ، ونظروا إليه بالآماق ، ووقف عليه الناس من جميع الآفاق ، وأمير المؤمنين عليه السّلام لا يرفعُ رأسه ، فلمّا هدأ من الناس الحواسّ ، فسح عن لسانه كأنّه حُسامٌ صقيلٌ جُذِبَ من غِمده ، وقال :

«أيّكم المجتبى في الشّجاعة ، والمعمّم بالبراعة ، والمدرّع بالقناعة؟

أيّكم المولود في الحرم ، والعالي في الشِيم ، والموصول بالكرم؟» (١).

ورواه الشيخ أسعد بن إبراهيم بن الحسن بن عليّ بن عليّ الحلّي ، أو الجبلي ، في (أربعينه) الذي يروي أحاديثه عن مشايخه من العامّة في مجلس واحد سنة (٦١٠ ه) ، وذكر شيخنا العلّامة بحّاثة العصر الحاضر في الذريعة (٢) : أنّه من علماء الحلّة من الإمامية.

فذكر فيه الحديث الأوّل بإسناده إلى أبي جعفر ميثم التمارّ مثله ، غير أنّ بينهما اختلافاً في بعض الحروف ، وفيه أنّه قال :

«أيّكم الإمام الأروع الأورع ، البطين الأنزع ، المولود في الحرم ، العالي الهمم ، الكريم الشيم؟

أيّكم حيدر أبو تراب ، قالع الباب ، وهازم الأحزاب ، الذي فتح له ـ حين سدّت الأبواب ـ باب ، والذي نصب للعبّاس الميزاب؟» (٣).

__________________

(١) الأربعون حديثاً ، مخطوط ، ورواه في نوادر المعجزات : ١٠ ، واليقين : ٧٣ ، وفضائل ابن شاذان ، الحديث الأول.

(٢) الذريعة إلى تصانيف الشيعة ١ : ٤١١.

(٣) الأربعون حديثاً : ٩ ، مخطوط.

٩٨

ورواه مؤلّف كتاب (الروضة في الفضائل) المطبوع مع (علل الشرائع) و (معاني الأخبار) للشيخ الصدوق بالإسناد يرفعه إلى أبي جعفر ميثم التمّار ، لكن روايته توافق الرواية الأُولى لأبي الفوارس في حروفها.

ففيهما أنّه لمّا فرغ من وصفه الكثير ، قال أمير المؤمنين عليه السّلام :

«أنا ، يا أبا سعد بن الفضل بن الربيع بن مدركة بن نجبة بن الصلت بن الحارث بن الأشعث بن السمعمع! سل عمّا بدالك» (١).

وفي رواية أسعد : أنّه أشار بعض الحاضرين إلى أمير المؤمنين عليه السّلام ، وقال : «هذا مرادك».

وذكر الجميع القصّة التي جاء الرجل لأجلها من القتل الواقع عندهم ، وذكروا المعجزة الباهرة للإمام صلوات الله عليه بإحيائه الشابّ المقتول ، بإذن الله تعالى ، وإخباره بقاتله وغير ذلك.

وفي الأربعين لأسعد أنّ هذا حديث رواه عامّة محدّثي الكوفة (٢).

وفي كتاب (عيون المعجزات) للشيخ حسين بن عبد الوهاب المعاصر لسيّدنا المرتضى علم الهدى ، عن أبي التّحف عليّ بن محمد بن إبراهيم المصري رحمه اللهُ عن الأشعث بن مرّة ، عن المثنّى بن سعيد ، عن هلال بن كيسان الكوفي الجزار ، عن الطلب الفواجريّ ، عن عبد الله بن سلمة الصحي (٣) ، عن شقادة بن الأصيد العطّار البغدادي ، عن عبد المنعم بن الطيّب القدوري ، عن العلاء بن وهَب بن (٤) قيس ، عن الوزير أبي محمد بن سايلويه رَضِيَ اللهُ عَنْه ، فإنّه كان

__________________

(١) الرووضة : ١٤٣.

(٢) الأربعون حديثاً : ١٧ ، مخطوط.

(٣) في المصدر : القبحي ، كذا.

(٤) في المصدر : عن.

٩٩

من أصحاب أمير المؤمنين العارفين ، وروى جماعتهم (١) عن أبي جرير ، عن أبي الفتح المغازلي ـ رحمهما الله ـ ، عن أبي جعفر ميثم التمّار (٢) ، آنس الله به قلوب العارفين ، قال :

«كنتُ بين يدي مولاي أمير النحل ـ جلّت معالمه ، وثبتت كلمته ـ بالكوفة ، وجماعة من وجوه العرب حافّون به كأنّهم الكواكب اللامعة في السماء الصاحية» (٣).

وأنت ترى أنّ الرجل يعدّ مناقب أمير المؤمنين عليه السّلام الخاصّة به ، الشهيرة بين القاصي والداني ، ومنها كونه مولوداً في الحرم ، المراد به البيت خصوصاً ، وإلّا لما كانت خاصّة له ، لأنّ المولودين في حدود الحرم وبين شعاب مكّة وهضابها كثيرون ولا فخر لأحد فيه ، فإنّ الولد لابدّ وأن يولد في مساكن الأبوين ، شريفاً كان المحل أو غير شريف ، نعم إذا جاوزت الولادة في المحال الشريفة حدود العادة عدّت فضيلةً ، كولادة مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في البيت الذي هو محلّ العبادة لا الولادة ، مع ما اكتنفته من الخوارق للعادة المشروحة في هذه الرسالة.

كانت هذه المصارحة من الرجل بمشهدٍ ممّن لاث (٤) بالإمام عليه السّلام من الصحابة وغيرهم ، وكانوا قريبي العهد من الواقعة ، ولعلّ فيهم من شهدها أو شهد من أدركها ، وكلّهم يسمعون كلامه ويعترفون به حتّى تكلم متكلّمهم ـ كما في رواية أسعد ـ مشيراً إليه عليه السّلام : أنّ من تصفه هو هذا.

__________________

(١) يعني أنّ كان شيعته صلوات الله عليه ، لا أنّه من أصحابه المعاصرين له ، من هامش المطبوع.

(٢) إنّما أعدنا الإسناد مرة ثانية للختلاف بين النسختين ، والتصحيف في إحداهما. من هامش المطبوع.

(٣) عيون المعجزات : ٢٥.

(٤) الالتياث : الاختلاط والالتفاف. الصحاح ـ لوث ـ ١ : ٢٩١.

١٠٠